لعماد الكاتب

قد أضاء الزمان بالمستضيئ ... وارث البُرْد وابن عم النّبيء
جاءَ بالحقّ والشريعة والعد ... لِ فيا مرحباً بهذا المجيء
رَتَع العالمون من عدله الشا ... مل في المرتع الهنيء المريء
ورعوا منه في مَرادٍ خصيبٍ ... لا وخيم ولا وبيل وبيء
رقدوا بعد طول خوف مقضّ ... في ذَرا الأمن والمهاد الوطيء
فهنيئاً لأهل بغدادَ فازوا ... بعد بؤسٍ بكلّ عيش هنيء
سأوافي فِناءَهُ عن قريب ... مسرعاً كي أفوز غيرَ بطيء
وأحلّي عيشي بجدّ جديد ... وأهنّي فضلي بحظّ طريء
وتُريني الأيام نقداً من الآ ... مال ما كان قبله في النسيء
وأمانيّ سوف يظهر منها ... عند قصدي ذَراه كلُّ خبيء
عاد حظّي من النحوس بريئاً ... وغدا السعد منه غير بريء
ولقيتُ الدّهرَ العبوسَ وقد عا ... دَ بوجهٍ طَلْقٍ إليِّ وَضيء
ومُضيء إن كان في الزمن المُظلم فالعَود في الزمان المُضيء
ثم مدحته بعد ذلك بقصائد.
ولما خُطِب له بمصرَ سنة سبع وستين في أيام الوزير عضد الدين، كتبت إليه قصيدة، أولها:
قد خطبنا للمستضيئ بمصرٍ ... وارثِ المصطفى إمام العَصْرِ
وخذَلنا لنصره العَضُدَ العا ... ضِدَ والقاصر الذي بالقَصْر
قصدت بالعضد العاضد المجانسة، ونصرة وزير الخليفة كنصرته.
وأشعنا بها شِعار بني الع ... باس فاستبشرتْ وجوهُ النصر
ووضَعْنا للمستضيئ بأمر ال ... له عن أوليائه كُلَّ إصْرِ
ومنها:
وجرى من نَداه دِجْلَةُ بغدا ... دَ بشطر ونيلُ مصر بشطرِ
وقد اهتز للهدى كلُّ عِطفٍ ... مثلما افترَّ بالمنى كلّ ثَغْرِ
فبَجدْواهُ زائلٌ كلّ فَقرٍ ... وبنُعماه آهِلٌ كلِّ قَفْرِ
ونداهُ الهدى أزال من الأس ... ماع في كلّ خطّةٍ كلّ وَقْرِ

نشكرُ اللهَ إذْ أتمّ لنا النص ... رَ ونرجو مَزيدَ أهلِ الشكر
ونشرنا أعلاَمنا السودَ فهراً ... للعدى الزرق بالمنايا الحمر
خلفاء الهدى سَراة بني الع ... باس والطيّبونَ أهل الطهرِ
كشموس الضحى كمثل بدور ال ... تمِّ كالسحب كالنجوم الزهر
وتمام الحبور ما تمّ من خط ... بة خير الخلائف ابن الحَبْرِ
مَهْبطُ الوحي بيته منزل الذكْ ... ر بشَفْعٍ من المثاني ووِتْر
ومنها:
ليس مُثري الرجال مَنْ ملكَ الما ... ل ولكنّما أخو اللبّ مُثْر
ولهذا لم ينتفع صاحب القص ... ر وقد شارف الدُّثُورَ بدَثرِ
ومنها في مدح
لسوي نظم مدحه أهجر النظْ ... مِّ فما مَدحُ غيره غير هُجْر
وأرتنا له قلائدَ من مس ... نٍ وبِرّ ليست بجِيدٍ ونَحْر
وبإِنعامه تَزايد شكري ... وبتشريفه تَضاعف فخري
كم ثَراءٍ وقوةٍ وانشراحٍ ... منه في راحتي وقلبي وصدري
وعليِّ النُذُورُ في مثل ذا اليو ... مِ وهذا يوم الوفاء بنَذْري
واستهلّت بوارق الأنعم الغرِّ ... به في حَيا الأيادي الغُزْر
نَعشَ الحقَّ بعدَ طول عثارٍ ... جَبرَ الحقّ بعدَ وَهْنٍ وكسر
دام نصرُ الهدى بملك بني الع ... بَّاس حتى يكونَ يوم الحشر
وهذه قصيدة طويلة جداً، ولكنني اقتصرت منها على هذا القدر.
ومن قصائدي في مدحه:
هل عائدٌ زمنُ الوصالِ المنْقَضِي ... أم عائدٌ لي في الصبابة ممرضي
لا أشتكي إلاّ الغرام فإِنّهُ ... بَلوى عليِّ من السماء بها قُضي
يا لاح حالي في الهَوى مشهورةٌ ... حاوَلتَ تسليَتي وأنت مُحرّضي
خَفِّضْ عَليكَ فما الملامُ بناجعٍ ... فيمن يقولُ لكلِّ لاحٍ خَفّض
كان التعرُّضُ لي بِنصحك نافعي ... لو كان يمكن للسُّلوّ تَعرُّضي
عَرَّضت وجدي للسلوّ ومُتْعِبٌ ... كتمانُ سرٍّ للوُشاةِ مُعرِّض
أَنفقتُ ذُخر الصبر من كلفي فهل ... من واهبٍ للصبر أو مِن مُقرِض
أيبلُّ مُضنىً قلبُه مُتَهدِّفٌ ... لسهام رامٍ للّواحظِ مُنْبِضِ
شَغَفي بأغيَدَ مُقْبلٍ بوداده ... لمحبّه ويَصدّ صَدِّ المعرِض
شكوايَ من دَلٍّ يزيدُ مُحبّبٍ ... وضَنايَ من صدٍّ يدوم مُبغِّض
يا حبّذا ماءُ العُذَيْبِ وحبّذا ... بنِطافه الغُزرِ العِذاب تمضمضي
لَهفي على زمن الشباب فإنِّني ... بسوي التأسّف عنه لم أتعوض
نُقِضَتْ عُهودُ الغانياتِ وإنها ... لولا انقضاءُ شبيبتي لم تَنقض
كان الصِبا أضفى الثياب وإنما ... ذهبت نضارة عيشتي لمّا نُضي
يا حسنَ أَيام الصِّبا وكأنها ... أيامُ مولانا الإِمام المستَضِي

بقصيدة أستعطفته بها في شعبان سنة ستين، منها:
أُعيذُكمُ أن تغفلوا عن أموره ... وأن تتركوه نُهبةً لمُغيرهٍ
عفا الله عنكم قد عفا رَسمُ وُدِّكم ... خلعتم على عهدي دِثار دُثورهِ
بما بيننا يا صاحبي من مودّة ... وفاءَك إني قانعٌ بيسيرهِ
وهذا أوان النصح إن كنت ناصحاً ... أخاً فقبيح تركهُ بغرورهِ
وإني أرى الأرْيَ المَشور مَشورةً ... حَلَتْ موقعاً عند امرئٍ من مُشيرهِ
تحملتُ عِبءَ الوَجد غير مُطيقهِ ... وعَلّمتُ صبر القلب غيرَ صَبورهِ
صِلوا مَن قضى من وحشة البَينِ نحبه ... ونَشرُ مطاوي أُنسه في نُشوره
رعى الله نجداً إذ شكرنا بقربكم ... قِصارَ ليالي العيش بين قصورهِ
وإذْ راقت الأبصار حُسنى حسانه ... وأطْرَبتِ الأسماع نجوى سَميرهِ
وإذ بُكرات الروض ألسنةُ الصَّبا ... تعبِّر في أنفاسها عن عبيرهِ
وإذ تكتب الأنداء في شجراته ... وأوراقها إملاءَ وُرقِ طيورهِ
ومنها:
أيا نجد حيّاك الحيا بأحبّتي ... بهم كنت كالفردوس زين نُحوره
وما طاب عَرف الريح إلا لأنّه ... أصاب عَبيراً منك عند عبورهِ
ومنها:
ومُطْلَقَةٍ لمّا رأَتنيَ موثقاً ... أعِنَّة دمعٍ أُترِعَتْ من غديرهِ
تناشدني بالله مَن لي ومَن ترى ... يقوم لبيتٍ شِدْتَه بأمورهِ
فقلتُ لها بالله عودي فإنمّا ... هو الكافل الكافي بجبر كسيرهِ
ومنها:

هو الفلك الدوّار لكنْ على الورى ... مقد؟ّرةٌ أَحداثه من مُديرهِ
عذيريَ أضحى عاذلي في خُطوبه ... فيا مَن عذيرُ المُبتلى من عَذيرهِ
يُجرّعني من كأُسه صِرْفَ صَرْفِه ... فعيشٌ مَريرٌ ذوقه في مُرورهِ
ولستُ أرى عاماً من العمر ينقضي ... حميداً ولم أفرح بمرّ شهورهِ
لحى الله دهراً ضاق بي إذ وَسِعتُه ... بفضلي كما ضاقت صدور صدوره
فلم أرَ فيها واحداً غيرَ واعدٍ ... يخيِّل لي زَوْرَ الخيال بزُوره
وما كنت أدري أنَّ فضليَ ناقصي ... وأن ظلام الحظّ من فيض نوره
كذلك طول الليل من ذي صبابةٍ ... يُخبّره عن عَيشه بقصوره
وما كنت أدري أنَّ عقليَ عاقِلي ... وأنّ سراري حادثٌ من سفوره
وكان كتاب الفضل باسمي مُعنونَا ... فحاول حظّي مَحوَهُ من سطورهِ
فيا ليت فضلي الآسري قد عَدِمتُه ... فأضحى فداءً في فكاك أسيره
أرى الفضلَ معتادٌ له خَسف أهلهِ ... كما الأفق معتادٌ خسوف بدوره
أقول لعزمي إنّ للمجد منهجاً ... سهول الأماني في سلوك وعوره
فهوّنّ عليك الصعب فيه فإِنمّا ... بأخطاره تَحظَى بوصل خطيره
وما لي يا فكري سواك مُظاهِرٌ ... وقد يستعين المبتلي بظهيره
فخلِّ معنّىً خاض في غمراته ... وحسبك معنى خضت لي في بحوره
وكن لي سفير الخير تسفرْ مطالبي ... فحظُّ الفتى إسفاره بسفيره
وقل للذي في الجدب أطلق جَدُّه ... سبيل الحيا حتى همى بدروره
لماذا حبستم مخلصاً في ولائكم ... وما الله ملقي مؤمنٍ في سعيره
ومنها:
وكم فَدْفَدٍ جاوزت أجوازه سُرىً ... كأَنّي وِشاحٌ جائلٌ في خصوره
بمهريّة تحكي بكفّي زمامها ... وأحكي لكدِّ السير بعض سيوره
وخاطب أبكار الفدافد جاعلٌ ... بكار المهارى في السرى من مهوره
وإن رجاءً بالإِمام أنوطه ... حقيقٌ بآمالي ابتسام ثغوره
تمرُّ بعلياه الخلافة عينها ... فناظرها لم يكتحل بنظيره
ومنها:
أرى الله أعطى يوسفاً حسن يوسفٍ ... ومكّنه في العالمين لخِيره
برتني صروف الحادثات فآوني ... تضعْ منّيَ الإِنعام عند شكوره
كذا القلم المبريُّ آوته أنملٌ ... فقام يؤدّي شكرها بصريره
ومنها:
وما زَهرٌ هامي الرَّباب يحوكه ... تعمّم هامات الرُّبى بحريره
كانّ سَقِيطَ الطَّلّ في صفحاته ... سحيراً نظيم الدُّرّ بين نثيره
يقابل منه النرجسُ الوردَ مثلما ... رأت بوجنة المعشوق عين غيوره
وللورد خدّ بالبنفسج معذرٌ ... ونرجسه طرفٌ رنا بفتوره
بأبهج من شعرٍ مدحتكُمُ به ... ومعناكُمُ مستودَعٌ في ضميره
وما حقُّ هذا الشعر لا لجريره ... وقد سار في الآفاق جيش جريره
وكتبت إليه، وأنا على تلك الحالة قصيدةً في طلب الإدالة، منها:
مقصوده أعصي الهوى وأُطيعه ... هذا لعمر هواك لا أسطيعه
سمعي أصَمُّ عن العذول وعذلِهِ ... فعلامَ يقرع مسمعي تقريعه
غلب النزاع إلى الحسان تجلُّدي ... والقلب مغلوب العزا منزوعه
لا تنزِعَنّ إلى ملامِ متيِّمٍ ... لا يستتبّ عن النزاع نزوعه
ومَلاحة الرشأِ المليح تروقه ... وملامة اللاحي الملحّ تروعه
يا عزه لو لم يعزّ عزاؤه ... يا ذلّه إنْ لم تعنه دموعه
وبمهجتي حلو الشمائل عذبها ... لكنّه مُرُّ الصدود شنيعه

نشوان من خمر الصبا قلبي به ... أفديه مخمورُ الغرام صريعه
غصنٌ على حِقفٍ يميل ويستوي ... فكأَنّما يعصيه حين يطيعه
رثمٌ وفي قلب المحبِّ كِناسه ... قمرٌ وفي ليل العذار طلوعه
وكانّ قلبَ محبّه إقطاعه ... وكأنّ خطّ عِذاره توقيعه
مسلوب سهم اللحظ منه محبّه ... ملسوب عقرب صدغِه ملسوعه
للهِ عيشٌ بالحمى أَسلفته ... والشمل غير مفرّقٍ مجموعه
أيامَ دارت للشباب كؤوسه ... فينا ودرّت بالسرور ضروعه
رويت بأنواء العِهاد عهوده ... وزَهَت بأنوار الربيع ربوعه
أفراجعٌ ما مر من أيامه ... هيهات لا يرجى إليّ رجوعه
وجدي مقيمٌ ما يزال بظاعنٍ ... توديع قلبي أنه توديعه
مُلاّك مهجته عليكم حفظها ... فالملك ليس لمالكٍ تضييعه
لا تنسبوا قلبي إليّ فإِنّه ... لكُمُ وفيكمْ جرحه وصدوعه
قلبي المتيَّم للأحبَّة كلّه ... وندى الإمام لمُعتفيه جميعه
وبيوسف المستنجد بن المقتفي ... دين الهدى سامي العماد رفيعه
ضافي رداء الفخر صافٍ روحه ... نامي ضياء البشر زاكٍ رُوعه
حالي الضمائر بالعَفاف وبالتُّقى ... للهِ ما تحنو عليه ضلوعه
محمرُّ نصل النصر في يوم الوغى الْ ... مغبرِّ مبيضَّ العطاء نصوعه
في الأمن إلا ما له وعدّوه ... فكلاهما في الحالتين مروعه
ومنها:
للهِ أصلٌ هاشميّ طاهرٌ ... طابت وطالت في العلاء فروعه
لكَ نائلٌ محيٍ وبأسٌ مهلكٌ ... فلأنت ضرّار الزمان نفوعه
ومنها:
يا أفضل الخلفاء دعوةَ قانعٍ ... برضاك ما كشف القناع قنوعه
أيكون مثلي في زمانك ضائعاً ... هيهات يا مولاي لست تضيعه
أودع جميلاً لي أُذعه فخير من ... أودَعتَه منك الجميلَ مذيعه
حسب المؤِّمل منجحاً في قصده ... أنّ الرجاء إلى نداك شفيعه
ونظمت حينئذٍ قصيدة في عماد الدين بن عضد الدين ابن رئيس الرؤساء، وكان حينئذ أستاذ الدار، ومنها:
قلْ للإِمام علامَ حبس وليكم ... أولوا جميلكُمُ جميلَ ولائه
أوَليس إذْ حبس الغمامُ وليّه ... خلّى أبوك سبيله بدعائه

وكتبت إليه، وأنا على تلك الحالة قصيدةً في طلب الإدالة، منها:
مقصوده أعصي الهوى وأُطيعه ... هذا لعمر هواك لا أسطيعه
سمعي أصَمُّ عن العذول وعذلِهِ ... فعلامَ يقرع مسمعي تقريعه
غلب النزاع إلى الحسان تجلُّدي ... والقلب مغلوب العزا منزوعه
لا تنزِعَنّ إلى ملامِ متيِّمٍ ... لا يستتبّ عن النزاع نزوعه
ومَلاحة الرشأِ المليح تروقه ... وملامة اللاحي الملحّ تروعه
يا عزه لو لم يعزّ عزاؤه ... يا ذلّه إنْ لم تعنه دموعه
وبمهجتي حلو الشمائل عذبها ... لكنّه مُرُّ الصدود شنيعه

نشوان من خمر الصبا قلبي به ... أفديه مخمورُ الغرام صريعه
غصنٌ على حِقفٍ يميل ويستوي ... فكأَنّما يعصيه حين يطيعه
رثمٌ وفي قلب المحبِّ كِناسه ... قمرٌ وفي ليل العذار طلوعه
وكانّ قلبَ محبّه إقطاعه ... وكأنّ خطّ عِذاره توقيعه
مسلوب سهم اللحظ منه محبّه ... ملسوب عقرب صدغِه ملسوعه
للهِ عيشٌ بالحمى أَسلفته ... والشمل غير مفرّقٍ مجموعه
أيامَ دارت للشباب كؤوسه ... فينا ودرّت بالسرور ضروعه
رويت بأنواء العِهاد عهوده ... وزَهَت بأنوار الربيع ربوعه
أفراجعٌ ما مر من أيامه ... هيهات لا يرجى إليّ رجوعه
وجدي مقيمٌ ما يزال بظاعنٍ ... توديع قلبي أنه توديعه
مُلاّك مهجته عليكم حفظها ... فالملك ليس لمالكٍ تضييعه
لا تنسبوا قلبي إليّ فإِنّه ... لكُمُ وفيكمْ جرحه وصدوعه
قلبي المتيَّم للأحبَّة كلّه ... وندى الإمام لمُعتفيه جميعه
وبيوسف المستنجد بن المقتفي ... دين الهدى سامي العماد رفيعه
ضافي رداء الفخر صافٍ روحه ... نامي ضياء البشر زاكٍ رُوعه
حالي الضمائر بالعَفاف وبالتُّقى ... للهِ ما تحنو عليه ضلوعه
محمرُّ نصل النصر في يوم الوغى الْ ... مغبرِّ مبيضَّ العطاء نصوعه
في الأمن إلا ما له وعدّوه ... فكلاهما في الحالتين مروعه
ومنها:
للهِ أصلٌ هاشميّ طاهرٌ ... طابت وطالت في العلاء فروعه
لكَ نائلٌ محيٍ وبأسٌ مهلكٌ ... فلأنت ضرّار الزمان نفوعه
ومنها:
يا أفضل الخلفاء دعوةَ قانعٍ ... برضاك ما كشف القناع قنوعه
أيكون مثلي في زمانك ضائعاً ... هيهات يا مولاي لست تضيعه
أودع جميلاً لي أُذعه فخير من ... أودَعتَه منك الجميلَ مذيعه
حسب المؤِّمل منجحاً في قصده ... أنّ الرجاء إلى نداك شفيعه
ونظمت حينئذٍ قصيدة في عماد الدين بن عضد الدين ابن رئيس الرؤساء، وكان حينئذ أستاذ الدار، ومنها:
قلْ للإِمام علامَ حبس وليكم ... أولوا جميلكُمُ جميلَ ولائه
أوَليس إذْ حبس الغمامُ وليّه ... خلّى أبوك سبيله بدعائه

فمن ذلك قصيدةٌ نظمتها حين فارقتها أتشوقها، وما تمت حتى عدت إليها فوصلتها بمدح الملك الناصر، وهي طويلة جداً أولها:
أجِيرانَ جَيْرُونَ مالي مُجيرُ ... سِوى عَطفُكم فاعِدلوا أو فَجُورُوا
وَمالي سِوى طيفكم زائرٌ ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا
يَعِزّ عليَّ بأنَّ الفؤاد ... لديْكُم أسيرٌ وَعنكم أَسيرُ
وَما كنتُ أَعلُم أَني أَعي ... ش بَعْد التفَرّق، إني صَبورُ
ومنها:
إلى ناسَ باناس لي صَبْوَةٌ ... لها الوجدُ داعٍ وَذِكْرى مُثيرُ
يَزيدُ اشتياقي وينمو كما ... يَزيدُ يزَيدُ وَثَوْرَا يَثُورُ
وَمِن بَرَدى بَرْدُ قلبي المَشُوق ... فها أنا مِن حَرِّه مُسْتَجيرُ
وَبالمْرَجْ مَرْجُوُّ عَيْشي الذي ... على ذكره العذب عَيْشي مَريرُ
نأَى بيَ عنكم عَدُوٌّ لَدودٌ ... وَدَهْرٌ خَؤون وَحظٌّ عَثورُ
فَقَدْتكُم ففقدتُ الحياة ... وَيَوْم اللقاء يكون النُّشُورُ
أيا راكبَ النِّضْو يُنْضي الرِّكابَ ... تَسيُر وَخطب سُراهُ يَسيرُ
يَؤُمُّ دمشقَ وَمِنْ دونِها ... تُجاب سُهولُ الفَلا وَالوُعُورُ
وَجِلَّقُ مَقْصِدُه المُسْتَجارُ ... لقد سَعِد القاصِد المُسْتجيرُ
إذا ما بَلَغْتَ فبلِّغْهُمُ ... سلاماً تأَرَّجَ منه العبيرُ

تطاوَلْ بِسُؤْليَ عند الْقُصَيْر ... فَمِنْ نَيْله اليومَ باعي قَصيرُ
وَكنْ لي بريداً بباب البْريد ... فأَنتَ بأخبارِ شوقي خَبيرُ
أَعَنْوِنُ كُتبي بشكوى العناءِ ... وَفيهنّ من بثّ شَجْوي سُطُورُ
ومنها أذكر المنازل من طريق الرقة إلى دمشق:
مَتَى تَجِدُ الرِيَّ ّبالقَرْيَتَيْن ... خَوامِسُ أثَّر فيها الهَجْيرُ
وَنحو الجُلْيَجْل أُزْجي المْطِيَّ ... لقد جَلَّ هذا المَرامُ الخَطيرُ
تُراني أُنيخ بأَدْنى ضُمَيْرٍ ... مَطايا بَراها الوْجَاَ وَالضمُورُ
وَعند القُطَيِّفَةِ المُشْتَهاةِ ... قُطوفٌ بها لِلأمَاني سُفورُ
وَمنها بُكُورِيَ نَحْوَ القْصُيَرْ ... وَمُنْيَتُه عُمْرَي ذاكَ البُكُورُ
ويا طِيبَ بُشْرايَ من جِلَّقٍ ... إذا جاءَني بالنَّجاحِ البَشيرُ
وَيستبشرُ الأصدقاءُ الكرامُ ... هُنالك بي وَتُوَفَّي النُّذُورُ
تُرَى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة مني عُبُورُ
وَأَنَّ جَوازِي بباب الصَّغير ... لَعَمْري من العُمْر حَظٌّّ كَبيرُ
وما جَنَّةُ الخُلْدْ إلاّ دمشقُ ... وَفي القلب شوقاً إليها سَعيرُ
مَيادِينُها الْخُضْرُ فِيحُ الرِّحاب ... وَسَلْساها العَذْب صافٍ نَميرُ
وَجامعها الرَّحْبُ وَالقُبَّة الْمُني ... فَة وَالفلك المُستديرُ
وَفي قُبَّةِ النَّسر لي سادةٌ ... بهم للمَكارم أُفقٌ مُنيرُ
وَالارْزَةُ فالسَّهْمُ فالنَّيْرَبان ... فجنّاتُ مِزَّتِها فالكُفوُر
وَبابُ الفْراديس فِرْدَوْسُها ... وَسُكانُّها أحْسَنُ الخَلْق حُورُ
كأنّ الجْوَاسقَ مأْهولةً ... بروجٌ تَطَلَّعُ منها البدورُ
بِنَيْرَبِها تَتَبّرا الهموم ... بِربُوْتَها يتربّى السُّرورُ
وَما غَرَّ في الرَّبْوَة العاشقي ... نَ بالحُسْن إلا الرَّبيبُ الْغَريرُ
وعند المُغَارة يَوْمَ الخميس ... أغارَ عَلَى القَلْب منّي مُغيرُ
وعند المُنَيْبعِ عَيْنُ الحيَاة ... مَدَى الدَّهْر نابعةٌ ما تَغُورُ
بجِسْر ابن شَواشٍ تَمَّ السُّكون ... لنفسي بنفسيَ تلك الْجُسورُ
وما أَنسَ لا أَنسَ أُنسَ العُبور ... عَلى جِسر جِسْرين إني جَسورُ
وكم بِتُّ أَلْهو بقرب الحبيب ... في بيت لِهْيا وَنام الغَيُورُ
فَأَين اغتباطِيَ بالغُوطَتْيِن ... وتلك الليالي وتلك القُصورُ
لِمُقْرِي مَقْرى، كقُمْرِيِّها ... غِناءٌ فَصيحٌ وَشْدوٌ جَهيرُ
وأَشجارُ سَطْري بَدَتْ كالسُّطو ... ر نمَّقَهُنَّ البَليغُ البَصيرُ
وأَينَ تأَمَّلْتَ فلكٌ يَدورُ ... وعَيْنٌ تفورُ وبحرٌ يَمورُ
وأَيْنَ نظرْتَ نَسيمٌ يَرِقُّ ... وزْهرٌ يَرُوقُ ورَوضٌ نَضيرُ
كأَنَّ كمائمَ نُوَّارِها ... شُنوفٌ تركَّبُ فيها شُذورُ
ومثلُ الّلآلي سَقِيطُ النَّدى ... عَلَى كلَّ مَنْثُور نَوْرٍ نَثيرُ
مَدارُ الحياةِ حَياها المُدِرُّ ... مَطارُ الثّراءِ ثراها المَطيرُ
وَمُوعِدُها رَعْدُها المستطيلُ ... وواعِدُها بَرْقُها المستطيرُ
إلامَ القْسَاوَة يا قاسِيُون ... وبين السَّنَا يتجلّى سَنِيرُ
لَديك حبيبي ومنك الحُبا ... وعندك حبّي وفيك الحبورُ

فَيَا حَسْرَتا غِبْتُ عن بلدةٍ ... بها حَظِيتْ بالحُظوظِ الحْضورُ
وُمْنذ ثَوى نورُ دينِ الإلا ... هِ لم يبق للشّامِ والدّين نورُ
وَإِني لأَرجو من الله أَنْ ... يُقَدِّر بعد الأمور الأمورُ
وللنّاسِ بالملك النّاصر الصّ ... لاحِ صلاحٌ ونصرٌ وخِيرُ
لأجل تَلافيهِ لم يتلَفُوا ... لأجل حيا بِرِّه لم يَبُوروا
بفَيْض أَياديه غيثُ النَّجاح ... لأَهلِ الرَّجاءِ سَحوحٌ دَرُورُ
مَليكٌ بَجْدواه يَقْوَى الضَّعيفُ ... وَيَثْرَى المُقِلُّ وَيَغْنى الفَقْيرُ
أَرَى الصِّدْق في ملكهِ المُسْتقيم ... ومَلُك سِواه ازْوِرارٌ وزُروٌ
لِعِزِّ الْوَليّ وَذُلِّ العَدُوّ ... نَوالٌ مُبِرٌّ وبأْسٌ مُبيرُ
بِنِعمتِه للعُفاةِ الحُبورُ ... بسَطوته للعُداةِ الثُّبُورُ
إذا ما سَطا أَو حَبا واحْتَبى ... فما الْلَّيْثُ ؟ مَنْ حاتمٌ ؟ ما ثَبيرُ؟
هُو الشمسُ أَفلاكه في البلادِ ... ومَطْلَعُه سَرْجُه والسَّريرُ
إيابُ ابْنِ أَيّوبَ نحو الشآمِ ... عَلَى كلِّ ما نرتجيه ظُهورُ
بيوُسُفِ مصَرٍ وأَيامِهِ ... تَقَرُّ العُيونُ وَتَشفى الصُّدوُر
مَليكٌ يُنادي رجائي نَداهُ ... ومَوْلًى جَدَاه بحمدي جَديرُ
ومنها:
وكم قد فَلَلْتَ جُموعَ الفرنجِ ... بِحَدِّ اعتزامٍ شَباهُ طَريرُ
بضربٍ تَحذَّفُ منهُ الرُّؤوس ... وطَعنٍ تَخسَّفُ منهُ النُّحورُ
وغادرتَ غادرهم بالْعَراءِ ... ومن دمِه كُلُّ قَطرٍ غَديرُ
بِجُرْدٍ عليْها رجالُ الهِيْاج ... كأنّ صُقوراً عليها صُقُورُ
مِن التُّرِك عند دَبابيسها ... صِحاحُ الطُّلى والهْوَادِي كُسورُ
سهامُ كَنائها الطّائِرات ... لَهُنَّ قُلوبُ الأعادي وُكورُ
وِعنَدهُم مثلُ صَيْد الصِوَّارِ ... إذا حاوَلوا الفْتَحَ صَيْدا وُصورُ
بجيشك أَزْعجت جأْشَ العَدُوِّ ... فما نَفَرٌ منهُ إلاّ نَفورُ
تركَتْ مَصَارع للمُشركين ... بُطونُ القْشَاعمِ فيها قُبورُ
تُزاحِمُ فُرسانَها الضّارِبات ... فتصِدمُ فيها النُّسورَ النُّسُورُ
وإِنَّ تَولُّدَ بِكْرِ الفْتُوحِ ... إذا ضُربَتْ بالذُّكورِ الذُّكورُ
ومنها:
إلَيَّ شَكا الفَضلُ نَقصَ الزَّمانِ ... وهل فاضِلٌ في زماني شَكورُ
حَذارك مِنْ سطوة الجْاهلين ... وذُو العلم من كلِّ جهلٍ حَذورُ
وهلْ يلِدُ الخْيَر أوْ يسْتَقيمُ ... زَمانٌ عَقيمٌ وَفَضلٌ عَقيرُ
شكَتْ بِكْرُ فضْلَي تَعْنيسَها ... فما يجِلُبُ الودَّ كفؤٌ كُفورُ
فقلتُ لفضلي أَفاقَ الزَّمانُ ... وَدَرَّ المُرادُ وَدارَ الأَثيرُ
وَعاش الرَّجاءُ وماتَ الإِياسُ ... وسُرّ الحِجَا وأَنار الضَّميرُ
ووافى المَليكُ الذَّي عَدْلُه ... لِذي الفَضلِ من كلِّ ضَيْمٍ يُجيرُ
فلستُ أُباليِ بِعَيْث الذّئاب ... إذا ما انتحى ليَ لَيْثٌ هَصُورُ
واقترح علي بعض الأكابر في الدولة النورية أن أعمل قصيدة في دمشق على وزن قصيدة أبي الحسين ابن منير التي أولها:
حَيّ الديار على عَلْياء جَيْرونِ
فعملت كلمة طويلة، منها:
أَهْدَي النَّسيمُ لنا رَيّا الرَّياحينِ ... أمْ طِيبَ أخلاقِ جِيراني بجَيْرُونِ
هَبَّتْ لنا نفَحةٌ من جِلَّقٍ سَحَراً ... باحَتْ بسرٍّ من الفردَوْسِ مَكنونِ

وَفاحَ بالعَرْفِ من أَرجائِها أرَجٌ ... نال المسرَّةَ منهُ كلُّ مَحْزونِ
هبَّتْ تُنبّهُ أطرافي وَتبعثها ... مني وتوجبُ للتوهيم تهويني
وَما دَرَيْنا أدارَيّا لنا أَرَجَتْ ... أم دارَ في دارِنا عَطّارُ دارِينِ
نَسْري وَنْرتاحِ لاسْتنشاءِ رائحةٍ ... هَبَّضتْ سُحيراً عَلَى وَرْدٍ وَنْسرينِ
وَرُبَّ هَمٍّ فقَدْناهُ برَبْوَتها ... وَرُبَّ قَلبٍ أصَبْناه بقُلْبينِ
لولا جَسارَةُ قلبي ما ثبتُّ عَلَى الْعُ ... بور من طربٍ في جِسْر جِسرينِ
دِمشقُ عنديّ لا تُحْصى فضائلُها ... عَدّاً وَحَصْراً وَيُحْصى رَمْلُ يَبْرِينِ
وَما أَرى بلدةً أُخرَى تُماثلُها ... في الحسن من مصرَ حتَّى مُنتَهَى الصِّينِ
في كلّ قُطرٍ بها وَكْرٌ لِمُنكَسِرٍ ... وَمَسْكَنٌ غيرُ مَمْلولٍ لِمِسكينِ
وإنّ مَن باع كلَّ العمر مقتنعاً ... بساعةٍ في ذَراها غيرُ مَغْبونِ
لما عَلَتْ همتي صَيَّرْتُها وطني ... وَليس يقنعُ غَيْرُ الدُّونِ بِالدُّونِ
يُصْيبكَ مَيطْوُرهُا طَوْراً وََنيْرَبُها ... طوراً وتُوليك إحساناً بتَحْسينِ
ترى جَواسِقَها في الجوّ شاهقةً ... كأَنهنَّ قُصُورٌ للسّلاطينِ
دارُ النعيم وَمِنْ أَدنى محاسِنها ... ثمارُ تَمُّوزَ في أيامِ كانونِ
نعيمُها غيرُ مَمْنُوعٍ لساكنها ... كالْخُلْدِ، وَالْمَنُّ فيها غَيْرُ ممنونِ
كأنما هي للأبرار قدْ فتحتْ ... من الفراديس أبواب البساتينِ
أزهارُها أبداً في الرَّوْض مُونِقَةً ... فحُسْنُ نَيْسان مَوْصولٌ بِتِشرينِ
وَأَيُّ عَيْنٍ إِليها غَيْرُ ناظرةٍ ... وَأَيُّ قلبٍ عليها غَيْرُ مَفْتونِ
أَهْوَى مقرِّي بمقَرْيَ والرياضُ بها ... للزَّهْرِ ما بين تَفْويف وتزيينِ
هاجتْ بَلابلَ قلبي المُستهامِ بها ... بلابلُ الأَيْك غَنَّتْنا بتَلْحينِ
تَتْلو بَسَطْرى أَساطير الغرام على ... صوامِعِ الدَّوْح وُرْقٌ كالرّهابينِ
قُمْرِيُّها مُقريءٌ يشدو بنغمته ... آياً تَعَلَّمها من غَيْرِ تَلقينِ
وَللحمائم في الأسحار أَدْعِيَةٌ ... مرفوعةٌ شُفِعَتْ منّا بتأْمينِ
خافَتْ عَلى الرَّوْض من عَيْنٍ مُطَوَّقَةٍ ... أَضْحَتْ تُعوِّذُه منها بِياسينِ
من كلّ مُطْرب صَوْتٍ غير مُضْطربٍ ... وَكُلّ مُعرب لفظٍ غير مَلْحونِ
وَللبساتين أَنهارٌ جَداولُها ... تَسْتَنُّ في الْجَرْي أمثالَ الثَّعابينِ
وَقد تراءَتْ بها الأَشجار تحسِبُها ... صُفوفَ خَيْلٍ صُفونٍ في الميادينِ
كأَنما شَجر الرُّمّانِ ذو نَشَبٍ ... مُثْرٍ دنانيرُه مِلْءُ الهَماييِن
وللِخْلاف لإِظهار الخْلاِف على ... أَتْرابه وَرَقٌ شِبْهُ السَّكاكينِ
وكلُّ غُصْنٍ بِعَصْف الرِّيحِ مُمْتَحَنٌ ... كأنه عاقلٌ مُبْلىً بِمَجنونِ
لِلأُقْحُوانِ ثُغورُ الغانياتِ كما ... للنَّرْجِسِ الغَضِّ ألحاظ المْهَا الْعِينِ
وللبَنَفْسَج خالٌ للعِذار إذا ... ما الخْطَ بالخالِ حاكى عَطْفَةَ النُّونِ
والْوَرْدُ خَدُّ من التَّوْريد في خَجَلٍ ... والغُصْنُ قَدٌّ تَثَنِّيِه من اللّينِ
وللنسيمِ وَلوعٌ بالغَدير فما ... يَزالُ ما بين تَفْريكٍ وَتَغْضينِ
والماءُ من نَكْبَةِ النكباءِ في زَرَدٍ ... مُضاعَفِ السَّرْدِ ضافي النَّسْجَ مَوْضُونِ

لكلّ جاريةٍ في كلّ ساقِيةٍ ... عَلَى الْتِواءِ بها إسْراعُ تِنِّينِ
إنّ القلوبَ وَأَلحاظُ الحسِان بها ... لَكالْعصافير في أَيدي الشَّواهينِ
من كل خاطِفةٍ للقلْب مُخْطَفَةٍ ... بالخْصَرْ تَمْطُلُني دَيْني وَتَلْوِيني
من شادِنٍ مُتَثَنّي العِطْفِ مُعتدِل القَ ... وامُ مُستعذَب الأخلاق مَوْزونِ
يا صاحِبَيَّ أَفيقا فالزَّمانُ صَحَا ... وَلانَ من بعد تَشْديدٍ وَتَخْشينِ
حَرَسْتُما في حَرَسْتا العَيْشَ من شَظَفٍ ... دُوما بدُوما عَلَى حِفْظِ القَوانينِ
دارُ المقامة قد أَضْحتْ مَحَّلكُما ... ونِلْتُما العِزَّ في أَمْنٍ من الْهُونِ
وبالْمُنَيْبِع رَبْعٌ لِلْوَليِّ غَدا ... تأْسيسُ بُنيانِه العالي عَلَى الدِّينِ
ولما وصلت إلى دمشق في مبدأ قصدي البلاد الشامية صادفت صلاح الدين وقد عاد مع عمه من الديار المصرية وهو إذ ذاك أميرٌ، وورد فضله نميرٌ فنظمت فيه مدحةٌ طويلة أولها:
كيف قُلْتُمْ بمُقْلَتَيْهِ فُتُورُ ... واْرها بِلا فُتورٍ تَجُورُ
لَو بَصُرْتُمْ بلحْظِهِ كَيفَ يَسْبى ... قُلتُمُ ذاكَ كاسِرٌ لا كَسيرُ
مُوتِرٌ قَوْشَ حاجَبْيِه لِإصْما ... ءِ فُؤادي كأَنَّه مَوْتورُ
لا تَسَلْني عن اللِّحاظِ فعَقَلْي ... طافحٌ منْ عقُارِهنَّ عَقيرُ
كَيف يَصْحو من سُكْره مُستهامٌ ... مَزجَتْ كأْسَهُ العُيونُ الحْوُرُ
أَوْرَثَتْهُ سَقامَها الْحَدَقُ النَّجْ ... لُ وَأهَدْتَ لَهُ النَّحولَ الخْصُورُ
ما تَصيدُ الأُسْدَ الْخَوادِرَ إلَّا ... ظَبَياتٌ كِناسُهنَّ الخْدُورُ
كُلُّ غُصْنِيَّةِ المُوَشَّحِ هَيْفا ... ءَ عَلَى البَدرِ جَيْبُها مَزْرُورُ
وبِنَفسي مُعَنْبَرُ الصُّدْغِ والعا ... رِض فوْقَ العَبيرِ منهُ العَبيرُ
مِقْطَعٌ لِلقُلوبِ يَقطَعُ فيها ... بِاقْتدارٍ وخَطُّهُ المَنشورُ
مُنْثَني العِطْفِ مُنْتَشي الطَّرْفِ فِي في ... هِ الحْمُيَاَّ وطرْفُهُ المَخْمُورُ
ومنها:
أَلأَمْرِ المَلامِ يَنْقادُ قَلْبي ... وعَليه من الغَرامِ أَميرُ
قُلْ لِحُلْوٍ حالٍ منَ الحُسْنِ في هج ... رِكَ حالي حَزْنٌ وَعَيْشي مَريرُ
بِفؤادي حَلَلْتَ والنّارُ فيهِ ... فَبِهِ مِنْكَ جَنَّةٌ وَسَعيرُ
نارُ قَلْبِي لِضَيْفِ طَيْفِكَ تَبدُو ... كُلَّ لَيلٍ فَيَهْتَدِي وَيَزُورُ
وَأرَى الطَّيْفَ ليسَ يَشفي غَليلي ... كَيفَ يَشْفى الغَليلَ زَوْرٌ زُوْرُ
ومنها:
ما مُدامٌ يدُيرُها ثَمِلُ العْطِ ... فِ بِنَفْسي كُؤوسُها والْمُديرُ
بِنْتُ كَرْمٍ تُجْلى عَلَى ابنِ كَريمٍ ... وَجْهُه مِنْ شُعاعها مُسْتَنيرُ
مِنْ سَنا كأْسها الْمَعاصيمُ والأَنْ ... فُسُ فيها أَساوِرٌ وسُرورُ
ولها في الكؤوس في حالة الز ... ج حباب وفي النفوس حبور
وكأَنّ الحْبَابَ في الكأْس منها ... شَرَرٌ فوقَ نارِه مُسْتطيرُ
طابَ للشّاربين منها الهوا ... ءانَِ فَلَذَّ المْمَدودُ والْمَقْصورُ
مِنْ يَدَيْ ساحِر اللّواحظ قلبي ... بِهواهُ مُسْتَهْتَرٌ مَسْحُورُ
لِلْحُمَيّا في فِيه طَعْمٌ وفي عَيْ ... نَيْه سُكْرٌ وَفوْقَ خَدَّيْه نُورُ
من سجايا الصَّلاحِ أبْهى وهذا ... مَثَلٌ دون قَدْرِه مَذْكورُ
ومنها:
ما رِياضٌ بِنَوْرِها زاهِراتٌ ... غَرَّدتْ في غُصُونهنَّ الطَّيورُ

كلُّ غُصنٍ عليهِ مِنْ خِلَعِ النَّوْ ... رِ رِداءٌ ضافٍ ووَشْيٌ حَبيرُ
ورُقْهُا في منابر الأَيْك منها ... واعِظاتٌ من شأْنها التَّذْكيرُ
وكأَنّ الرَّوْضَ الأنيقَ كتابٌ ... وكأَنّ الأشجارَ فيه سُطورُ
أَشبَهَ الشِّرْبُ فيه شارِبَ ألْمَى ... أَخْضر النَّبْت والرًّضابُ نَميرُ
وكأَنّ الهْزَارَ راهبُ دَيْرٍ ... وبأَلحانه تَحَلَّى الزَّبورُ
وكأَنّ الْقُمْرِيَّ مُقْرِيٌ آيٍ ... قد صَفا منه صَوْتُه والضَّميرُ
كمعاني مَدْحِيكَ حُسْناً ومِنْ أَيْ ... نَ يُبارِي الْبحرَ الخْضِمَّ الغَديرُ
ومنها في المدح:
أَنتَ مَنْ لم يَزَلْ يَحِنُّ إليْهِ ... وَهو في الْمَهِد سَرْجُه والسَّريرُ
فَضُله في يَدِ الزمان سِوارٌ ... مِثْلما رَايُه عَلَى المُلْك سُورُ
كرَمٌ سابِغٌ وجُودٌ عَميمٌ ... ونَدّى سائِغٌ وفضلٌ غَزيُر
راحةٌ أَمْ سَحابةٌ، وَبَنانٌ ... أمْ غَمامٌ وأنملٌ أمْ بُحورُ
كلَّ يومٍ إلى عِداكَ من الدَّهْ ... ر عَداكَ المَخْوف والْمَحْذُورُ
وتَولَّى وَلِيَّكَ الطّالِعُ السَّعْ ... دُ وعادَى عَدوَّك التَّقديرُ
سار بالمكرُمات ذِكُرُك في الدُّنْي ... يا وإنّ الْيَسيرَ منها يَسيرُ
لِلْحَيا والحْياء ماءان في كفِّ ... كَ والْوجِه سائِلٌ وعَصيرُ
لَقدِ اسْتُعْذِبَتْ لدَيْكَ الْمَرارا ... تُ كما اسْتُسْهِلتْ إليْكَ الْوُعورُ
وأَرى خاطِري لِمَدْحك إلفاً ... وإنّما يأْلَفُ الخْطيرَ الخطيرُ
بِعقُودٍ مِنْ دُرِّ نَظْمِيَ في الْمَ ... دْح تحَلَّى بها الْعُلى لا النُّحورُ
وَلَكَ المأْثُراتُ في الشَّرْق والْمَغْ ... رب يُرْوى حديثُها المأْثورُ
ومنها أهنيه بالعود من مصر إلى والده نجم الدين أيوب رحمه الله:
عادَ مِنْ مصرَ يُوسُفٌ وَإلى يَعْقو ... بَ بالتهنِئات جاء الْبشيرُ
عادَ منها بالْحمدِ والحْمدُ لِلَّ ... هِ تعَالَى فإنه المْشْكورُ
فِلأَيّوبَ من إيابِ صلاح الدّ ... ين يومٌ به تُوَفَّى النُّذورُ
وكذا إذْ قَمْيصُ يُوسفَ لاقى ... وَجْهَ يَعْقوبَ عادَ وهْوَ بَصير
ومنها:
وَلَكَمْ أَرْجَفَ الأعادي فقُلْنا ... ما لما تَذْكُرونه تَأْثيرُ
وَلَجَأْنا إلى الإلِه دُعاءً ... فَلِوَجْهِ الدُّعاءِ منهُ سُفُورُ
وَعلِمنا أنّ البعيدَ قريبُ ... عنده والعسيرَ سَهْلٌ يَسيرُ
وَرقَبْنا كالْعِيدِ عَوْدَكَ فالْيَوْ ... مَ بِه لِلأَنام عِيدٌ كبيرُ
مثلَما يَرْقُب الشَّفاء سَقيمٌ ... أَو كما يَرْتَجى الثَّراءَ فَقيرُ
ومنها أذكر أن القصد كان له من بغداد، وأنني جعلته الملاذ، وأشكو دمشق ولصوصها، وأصف سريرتي في ولائه وخلوصها:
أَنا سَيَّرْتُ طالِعَ العَزْم مني ... وَإلى قَصِدكَ انتهى التَّسْييرُ
وَببغدادَ قيلَ إن دِمَشْقاً ... ما بِها للرَّجا سِواك مُجيرُ
ما يَرى ناظِرٌ نَظيرَكَ فيها ... فَهْيَ رَوْضٌ بما تَجودُ نَضيرُ
لِمَطاوي الإقبال عندَكَ نَشْرٌ ... وَلِمَيْتِ الآمال منك نُشُورُ
وَمن النّائباتِ أنّي مُقيمٌ ... بدِمشقٍ ولِلْمَقُام شُهورُ
لا خَليلٌ يقولُ هذا نَزيلٌُ ... لا أَميرٌ يقول هذا سَميرُ
لَسْتُ أَلقَى سوَى وُجوهٍ وَأَيْدٍ ... وَقُلوبٍ كأنَّهنَّ صُخورُ
سُرِقَتْ كِسُوْتَي وَبان من الكلِّ ... تَوانٍ في رَدِّها وقُصورُ
وَاعتِذارُ الجْميِع أنّ الذي تَمَّ ... قضاءٌ في لَوْحِه مَسْطورُ

ومما قلته في نور الدين رحمه الله أنني في مبدإ وصولي إلى جنابه، تعذر لقائي له لشدة حجابه، فكتبت إليه:
ما أَعْلَمُ والحظُّ عَزيزُ الدَّرَكِ ... لِمْ أُحْرَمُ تَقبيلَ يَمينِ المَلِكِ
يا مَنْ بمُرادِه مَدارُ الفَلَكِ ... أَبْشِرْ بوقوع شاكرٍ في الشَّرَك
وسألني قدس الله روحه إن أعمل على لسانه دوبيتيات في الغزو والجهاد، فقلت:
أَقْسَمْتُ سِوى الجْهادِ مالي أَرَبُ ... والرّاحةُ في سِواهُ عِندي تَعَبُ
إلاّ بالجْدّّ لا يُنالُ الطَّلَبُ ... والعيشُ بلا جِدّ جهادٍ لَعِبُ
وقلت في المعنى:
لا راحةَ في الْعَيْش سِوى أَن أَغْزُو ... سَيْفي طَرَباً إلى الطُّلى يَهْتَزُ
في ذُلِّ ذوي الكُفْر يكونُ الْعِزُّ ... والقُدرةُ في غيرِ جهادٍ عَجْزُ
وقلت في المعنى على لسانه:
أَذْلَلْتُ ذَوِي الشِّرْكِ يِعزِّ الْعَزْمِ ... والكُفْر بهزِّ صارمي في عَزْمِ
شَيّدْتُ بِنُيَ المْلُك بأَمِري الجْزَمْ ... والنَّصْر رَأَيْتُهُ قرينَ الحزمِ
وقلت أيضاً:
لِلْغَزْوِ نَشاطي وَإليه طَرَبي ... مالي في العيشِ غَيْرَه من أَرَبِ
بالْجِدِّ وَبالجْهادِ نُجْحُ الطَّلَبِ ... والرَّاحَةُ مُسْتَوْدَعةٌ في التَّعب
وقلت فيه بعد التباسي بديوانه، واستئناسي بإحسانه، من كلمةٍ:
بالْمَلِكِ العادلِ مَحْمودِ ... أَنْجَزتِ الأيّامُ مَوْعودي
أَسْكَنني الإِقبالُ في ظِلِّه ... وَعاد حَظِّي مُورِقَ الْعودِ
مَنْ لم يَكنْ في ظِلِّهِ ساكناً ... فإِنه ليس بِمَسْعودِ
وَكيف لا يَسْعَدُ عَبدٌ له ... أَقامَ بينَ الْعَدْل والجْودِ
سَفائنُ الآمالِ من جُودِه ... قد اسْتَوَتْ مِنّا عَلَى الْجُودي
آلاؤُه الْبِيضُ بِلأَلائها ... تُشْرِقُ في لَيْلاتِنا السُّودِ
عَزْمَتُهُ مَشهورةٌ في الْوَرى ... وَسَيْفُه ليس بِمَغْمُودِ
وَثَلْمُ ثَغْرِ الكفرِ عاداتُهُ ... لا لَثْمُ ثَغْرِ الغادَةِ الرُّودِ
تَثْني مَثاني الذِّكر عِطْفَيْهِ لا ... لحنُ الْمَثاني والأغاريد
وَفي مَطا الْجُرْدِ له راحةٌ ... تُنْسي وِصالَ الخْرُدَّ الْغِيدِ
غَدَوْتَ لِلْإسلام رُكْناً وكم ... رُكْنِ ضلالٍ بِكَ مَهدودِ
وَذُلّ لأَواءِ بَنِي الشِّرْك في ... لواءِ نَصرٍ لك مَعْقودِ

شَيَّدتَ بالشّام بِناءَ الهْدُى ... عَزْماً وَحَزْماً أيَّ تَشْييدِ
لَوْلاك لم تَعْلُ بأَطرافِه ... راياتُ إِيمانٍ وتوحيدِ
فلم تَدَعْ في أَرضه كافراً ... أَوْ مُلْحداً ليس بمَلحودِ
وَلم تُغادِرْ منهمُ سَيِّداً ... يَغِدُرُ إلا طُعْمَةَ السِّيدِ
وَلم تَزَلْ تُرْدي صنادِيدَهم ... بجُندِكَ الغُرِّ الصَّناديدِ
ومنها:
يا مُغْزِياً شَمْلَ العِدى واللُّهى ... في جَمعِه الحْمدَ بِتَبْديدِ
أَجَدْتُ لما جُدْتَ لي فاغْتَدَى ... بِمُقْتضَى جُودِك تَجْويدي
هُنِّي بكَ العْيِدُ وَقَوْلُ الْورَى ... هُنِّيتَ نورَ الدين بالْعيدِ
ومما قلته بالرها، هائيةٌ موسومةٌ بها، في مدحه أولها:
أَدْرَكتَ من كلِّ المعالي المُشْتَهى ... وَبَلَغْتَ مِنْ نَيْل الأماني المُنْتَهى

فمدحته بكلمةٍ أولها:
هَلْ لعاني الهْوى مِنَ الأسْرِ فادِ ... أوْ لِساري لَيْلِ الصَّبابِة هادِ
قَوِيَ الشَّوْقُ فاسْتقادَ دُمُوعي ... وَوَهى الصِّبْرُ فاسْتقال فؤادي
جَنِّبُوني خَطْبَ الْبِعاد فسَهْلٌ ... كلُّ خَطْب سِوَى النَّوَى والبعادِ
كنتُ في غَفلةٍ من البَيْنِ حتى ... صاح يومَ الأَثيلِ بالبَيْن حادِ
نابَ عنهمْ غَداةَ بانوا بقلبي ... رائحٌ من لواعج الوَجْد غادِ
أيُّها الصّادِرون ريّاً عن الْوِرْ ... دِ أما تَنْقَعون غُلَّةَ صادِ
لم يكن طَيْفُكُمْ يَضِنُّ بِوَصْلي ... لو سَمحتُمْ لنِاظري بالرُّقاد
قد حَلَلْتُمِ مِنْ مُهْجَتي في السُّوَيْدا ... ءِ وَمِنْ مُقْلَتي مَحَلَّ السَّوادِ
وَبَخِلْتُمْ من الْوِصالِ بإِسعا ... في أما كنتُمُ مِنَ الأجْوادِ
وبَعَثْتُمْ نَسيمَكُمْ يتلَقّا ... ني فعادَ النَّسيمُ مِنْ عُوّادي
أَبقاءً بعدَ الأحبَّة يا قَلْ ... بي ما هِذِه شُرُوطُ الْوِدادِ
ذابَ قَلْبي وسال في الدَّمعِ لمّا ... دامَ مِنْ نارِ وَجْدِه في اتِّقادِ
ما الدّموعُ التي تُحَدِّرُها الأَشْ ... واقُ إلاَّ فَتائتُ الأَكبادِ
أَيْنَ أَحبابيَ الكرامُ سَقى اللَّهُ عُهودَ ... الأحباب صَوْبَ الْعِهادِ
حَبَّذا ساكنوا فؤادي وعَهْدي ... بِهِمْ يَسْكُنون سَفْحَ الْوادي
أَتمنَّى في الشّامِ أهْلي ببغَدْا ... دَ وأَيْنَ الشّآمُ مِنْ بَغْدادِ
ما اعْتِياضي عن حُبِّهمْ يَعْلَمُ اللَّهُ ... تَعالى إلاّ بحُبِّ الْجهادِ
واشْتغالي بِخدْمَةِ المَلِكِ العادِ ... لِ محمودٍ الكَريمِ الجْوَادِ
أنا منهُ عَلَى سَريرٍ سُرُوري ... راتع العَيْش في مَرادِ مُرادي
قَيَّدتنْي منه بالشّآمِ منه الأيادي ... والأيادي للحُرِّ كالأَقْيادِ
قد وَرَدْتُ البَحرَ الخِضَمَّ وَخَلَّفْ ... تُ مُلوكَ الدّنْيا به كالثِّمادِ
هُو نِعْمَ الْمَلاذُ من نائب الدَّهْ ... رِ وَنِعْمَ المَعاذُ عِنْدَ المَعادِ

الَغْزير الإِفضالِ وَالفَضْلِ والنا ... ئلِ والْعِلمِ والتُّقى والسَّدادِ
باذلٌ في مَصالح الدّينِ طَوْعاً ... ما حَواهُ مِنْ طارفٍ وَتِلادِ
وَتَراهُ صَعْبَ الْمَقالَة في الشرّ ... وَلكنْ في الخير سَهْل القِيادِ
جَلَّ رُزْءُ الفِرْنْج فاسْتَبدلوا مْن ... ه بِلُبْس الحْديدِ لُبْسَ الحْدِادِ
فَرَّقَ الرُّعبَ منهُ في أَنْفُس الكُفّ ... ارِ بَيْنَ الأرواحِ والأجسادِ
سَطوةٌ زَلْزلتْ بسُكّانها الأرْ ... ضَ وَهَدَّتْ قواعد الأطوادِ
أَخَذَتْهُمْ بالحقِّ رَجْفةُ بأْسٍ ... تَركتْهُمْ صَرْعى صُروفِ العَوادي
آيةٌ آثَرَتْ ذَوي الشِّرْك بالهُلْ ... كِ وَأَِهلِ الإيمانِ بالإرشادِ
ومنها:
أَنْتَ قُطْبُ الدُّنيا وَأَصحابُك الغُرُّ ... مَقام الأَبدالِ والأوتادِ
لم يَجِدْ عندَك النِّفاقُ نَفاقاً ... فَلِسُوق الفَساد سُوءُ الْكَسادِ
والْعَنُودُ الكَنُود ذو الغِشِّ غَشّا ... هُ رِداءَ الرَّدى عَناءُ الْعِنادِ
ومنها معنى ابتدعته في الزلزلة غريب:
وَبِحَقٍّ أُصيبتِ الأَرْضُ لمّا ... مَكَّنَتْ من مَقامِ أهْل الفسادِ
عَلِمتْ أنّها جَنَتْ فَعَراها ... حَذَراً من سُطاك شِبْهُ ارْتِعادِ

خامس عشر رجب، سنة ستٍ وستين:
الْحَمدُ لِلِه فُزْنا ... وَللمَطالبِ حُزْنا
حُزْنا السُّرورَ وَمات الحَ ... سُود غَماً وَحُزْنا
وَعاد سَهلاً من الأمْ ... رِ كلُّ ما كانَ حَزْنا
وَأَذْعَنَتْ وَاستقادتْ ... مُنًى لنا قد نَشَزْنا
مَواعِدُ الله في كلّ ... سُؤْلِ نَفْسٍ يَجَزْنا
إنّ الأعاديَ ذَلّوا ... بنَصْرِنا وَعزَزْنا
كم ظَهْرِ شِرْكٍ قَصَمْنا ... وَعْطْفِ عِزٍّ هَزَزْنا
وَجيشِ باغٍ هَزمْنا ... وَرأْسِ عاتٍ هَمَزْنا
وَفُرْصَةٍ للأَماني ... مع النَّجاحِ انْتَهَزْنا
وَكم مراكزِ ملكٍ ... فيها الرِّماحَ رَكَزْنا
وَكم عَدّوٍ سَلبنا ... هُ ملكَه وَابْتَزَزْنا
نِلْنا الذي قد رَجَوْنا ... بِالْحَوْطِ ممّا احترَزْنا
وَلم يُجزْ من أُمورِ الدُّ ... نْيا سِوى ما أَجَزْنا
ببأْسِ محمودٍ المَلْ ... ك لِلْخطوب بَرَزْنا
وَبَيْنَ صَرْفِ الْعَوادي ... وَبيْننا قد حَجَزْنا
لِلّه جَمُّ أَيادٍ ... عن شُكرها قد عَجزنا
بكلِّ كنْزٍ سَمَحْنا ... والحمدُ مما كَنَزْنا
إنّا لَأَصْفى وَأجَدْى ... في الخير وِرْداً وَمُزْنا
ما ساجَلَ الناسُ إلاّ ... فُتْنا مَداهُمْ وَجُزْنا
لنا خلائِقُ غُرٌّ ... عَلَى الوفاءِ غُرزْنا
نُزِّهْن عن كلِّ سوءٍ ... وَبالْخَنا ما غُمْزنا
نَضيقُ بالحال ذَرْعاً ... وَنُوسِعُ الْعِرْضَ خَزْنا
وَلم نَدعْ للأَعادي ... في مَوْقِفِ الفَخْرِ وَزْنا

وأولها:
عُقِدَتْ بِنَصِركَ رايَةُ الإْيمانِ ... وَبَدَتْ لِعَصرِكَ آيَةُ الإحْسانِ
يا غالِبَ الغُلْبِش المُلوكِ وَصائِدَ الصِّ ... يدِ اللُّيوثِ، وَفارِسَ الفُرْسانِ
يا سالِبَ التِّيجانِ من أَرْبابِها ... حُزْتَ الْفَخارَ على ذَوِي التّيجانِ
مَحْمودٌ المْحَمْودُ ما بَيْنَ الْوَرى ... في كُلِّ إقْليمٍ بِكُلِّ لِسانِ
يا واحِداً في الْفَضْلِ غَيْرَ مُشارَكٍ ... أَقْسَمْتُ مالَكَ في البْسَيطَةِ ثانِ
أَحْلَى أَمانِيكَ الجْهادُ وإنَّهُ ... لَكَ مُؤْذِنٌ أَبَداً بِكُلِّ أمانِ
كَمْ بِكْرِ فَتْحٍ وَلَّدَتْه ظُبَاكَ مِنْ ... حَرْبٍ لِقَمْعِ المُشْرِكينَ عَوانِ
كَمْ وَقْعَةٍ لَكَ في الْفِرَنْج حَديثُها ... قَدْ سارَ في الآفاقِ، والْبُلْدانِ
كَمْ مُصْعَبٍ عَسِرِ الْمَقَادةِ قُدْتَهُ ... نَحْوَ الرَّدى بِخَزائم الخْذُلانِ
قَمَّصْتَ قَوْمَصَهُمْ رِداءً من رَدىً ... وَقَرَنْتَ رَأسَ بِرَنْسِهمْ بِسِنانِ
وَمَلَكْتَ رِقَّ مُلوكِهمْ وَتَرَكْتَهُمْ ... بالْذُُّلِّ في الأقَيْاد والأسْجان
وَجَعَلْتَ في أَعْناقِهمْ أَغْلالَهُمْ ... وَسَحْبَتهْم هوْناً على الأَذْقانِ
إذْ في السَّوابِغِ تُحْطَمُ السُّمْرُ القْنَا ... والْبيضُ تُخْضَبُ بالنَّجيعِ الْقاني
وعَلى غِناءِ الْمَشْرَفِيَةِ في الطُّلَى ... والْهامِ رَقْصُ عَوامِلِ المُرَّانِ
وَكأَنَّ بَيْنَ النَّقْعِ لَمْعَ حَديدها ... نارٌ تَأَلَّقُ مِنْ خِلالِ دُخانِ
غَطَّى العَجاجُ بِهِ نُجومَ سَمائِهِ ... لِتَنُوبَ عَنها أنْجُمُ الخْرِصانِ
ومنها:
يا خَيْبَةَ الإفْرَنْجِ حينَ تَجَمَّعوا ... في حَيْرَةٍ وأَتَوا إلى حَوْرانِ
جاؤوا وَظَنُّهُمُ يُعَجِّلُ رِبْحَهم ... فأَعَدْتَهُمْ بالِخْزَي والْخُسْرانِ
وَظُنونُهُمْ وَقُلوبُهُمْ قد أَيْقَنَتْ ... لِلرُّعْبِ بالإِخْفاقِ والْخَفَقانِ
وَجَلَوْتَ نورَ الدِّينِ ظُلْمَةَ كُفْرهم ... لمّا صَدَعْتَ بِواضِحِ الْبُرهِانِ
وَهَزمَتْهَمُ بالْرَّأْي قبلَ لقائِهمْ ... والرّأْيُ قَبْلَ شَجاعَةِ الشُّجْعانِ
راحوا فباتوا تَحْتَ كل مَذَلَّةٍ ... وَضَرَبْتَ مِنهْم فَوْقَ كلِّ بَنانِ
ما في النَّصارى الْغُتْمِ إلاّ مَنْ لَهُ ... في الصُّلْبِ، بانَ الكَسْرُ وَالصُّلْبانِ
وَلَّوْا وَقَلْبُ شُجاعِهِمْ في صَدْرهِ ... كالسَّيْفِ يُرْعِدُ في يَمينِ جَبانِ
فَارُوا مِنَ الفَوَّارِ عِنْدَ فِرارِهِمْ ... بِالْفَوْرِ وَامْتَدّوا إلَى المْدّانِ
وَأَزارها الشَّلاّلَةَ الشَّلُّ الّذي ... أَهْدى لَهُمْ شَلَلاً إلَى الأَيْمانِ
وَلّى وُجُوهَهُمُ سَوادُ وُجُوهِهْم ... نَحْوَ السَّوادِ، وَآذَنُوا بِهَوانِ
ومنها:
حَمَلَتْ عَلَيهِمْ مِنْ جُنودِكَ فِتْيَةٌ ... لمْ تَدْرِ غَيْرَ حَمِيَّةِ الفِتْيانِ
زَخَرَتْ بهمْ أمْواجُ آجكَ في الوَغى ... غُزُراً وَطَمَّ بِهمْ عُبابُ طُمانِ

وَتَذَمَّموا مِنْ حَرِّ بَأْسِ مُحَمَّدٍ ... وَتَهَيَّبوا الْحَمَلاتِ مِنْ عُثمانِ
وَبِسَيْفِ جُرْديكَ الْمُجَرَّدِ غُودِرُوا ... بِدِماء أَهْلِ الْنَدْرِ في غُدْرانِ
وَبِعَيْنِ دَوْلَتِكَ الّذي قَدَّمْتَهُ ... فُقِئَتْ عُيونُ الْكُفْرِ وَالْكُفْرانِ
وَاليارُقِيَّةُ أَرَّقَتْهُمْ في الدُّجى ... بِسِهامِ كُلِّ حَنِيَّةٍ مِرْنانِ
أَجْفانُهُمْ نَفَتِ الغِرارَ كما انتْفَى ... ماضي الْغِرارِ بِهِمْ مِنَ الأجْفانِ
بَعَلُوا مُعْسكَرَ بَعْلَبَكَّ وأَبْصَروا ... مِنْ جُنْدِ بُصْرى بَرْكَ كُلِّ جِرانِ
وَكأَنَّما الأَكْرادُ فَوْقَ جِيادِها ... عِقْبانُ مُلْحَمَةٍ عَلَى عِقْبانِ
وَلَطاَلما مَهَرَتْ عَلَى نَصْرِ الهُدى ... أَنْصارُكَ الأَبْطالُ مِنْ مهْرانِ
لم يَتْرُكِ الأَتْراكُ فيهِمْ غايَةً ... بِالْفَتْكِ وَالْإْرهاقِ وَالإثْخانِ
مِنْ كُلِّ رامٍ سَهْمُهُ مِنْ وَهْمِهِ ... أَهْدى إلى إنْسانِ عَيْنِ الرّاني
وَلَكَ المْمَاليكُ الّذينَ بهِمْ عَنَتْ ... أَمْلاكُ مِصْرَ لِمالِكي بَغْدانِ
هُمْ كَالصَّحابَةِ يَوْمَ بَدْرٍ حاوَلوا ... نَصْرَ النَّبِيِّ وَنُبْتُ عَنْ حُسّانِ
الحائِزُونَ مِنَ السِّباقِ خِصالَهُ ... في مُلْتَقى حَرْبٍ وفي مَيْدانِ
مِنْ كُلِّ مَبْسوطِ الْيَدَيْنِ يَمينُهُ ... ما تَمْتَلي إلاَّ بِقَبْضِ يَمانِ
ومنها في تسمية من حضر من الفرنج الملاعين خذلهم الله تعالى:
لَمّا رَأَى الدّاويُّ رَاوُنْداءَهُ ... وَلّى بِطاعونٍ بِغَيْرِ طِعانِ
طَلَبَ الفَريرِيُّ الْفِرارَ بِطلْبِهِ ... مُتَباعِداً مِنْ هُلْكِهِ المُتَداني
وَالهَنْفَري مُذْ هانَ فَرَّ مُؤَمِّلاً ... لِسَلامَةٍ، وَالهْوُن شَأْنُ الشّاني
بارُوا فَبارُونِيُّهُمْ بِفِنائِهِ ... مُودٍ، وَسِيرُهُمُ أَسيرٌ عانِ
ومنها وصف ما اعتمده نور الدين في ذلك اليوم، حيث أنفذ سريةً إلى بلاد القوم، فأحرقت ونهبت، وكبست أهلها وكسبت؛ وذلك من طريق مخاضة الأحزان:
أَخْلَوْا بِلادَهُمُ فَحَلَّ بِأَهْلِها ... مِنْكَ الغَداةَ طَوارِقُ الْحِدثانِ
أَنْهَضْتَ حينَ خَلَتْ إليها عَسْكَراً ... أَخْلى قَواعِدَها منَ البْنُيْانِ
وَشَغَلْتَ جَأْشَهُمُ بِجَيْشٍ هَدَّهُمْ ... فَجَنى ثِمارَ النُّصْرَةِ الجَيْشانِ
وَمَلَأتَ بالنّيرانِ أَرْبُعَ أَهْلِها ... فَتَعَجَّلوا الإحْراقَ بالنّيرانِ
عادُوا حينَ رَأَوْا خَرابَ بُيوتِهِمْ ... يَئِسُوا مِنَ الأوْطارِ وَالأوْطانِ
باؤوا بِأَحْزانٍ وخاضوا هَوْلهَا ... مِمَّا لَقُوا بِمَخاضَةِ الأحْزانِ
وَقَدِ اسْتَفادَ المُشْرِكونَ تَعازيِاً ... وَالْمُسِلُمونَ تَهادِياً بِتَهانِ
لمَ تَلْقَهُمْ ثِقَةً بِقُوَّةٍ شَوْكَةٍ ... لكِنْ وَثِقْتَ بِنُصْرَةِ الرَّحْمانِ
ومنها:
دانَتْ لَكَ الدُّنْيا فَقاصيها إذا ... حَقَّقْتَهُ لِنَفاذِ أَمْرِكَ دانِ
فَمِنَ العِراقِ إلى الشَّامِ إلى ذرى ... مِصْرٍ إلى قُوصٍ إلى أُسْوانِ
لَم تَلْهُ عَنْ باقي الْبِلادِ وَإَّنما ... أَلْهاكَ فَرْضُ الغَزْوِ عَنْ هَمَذانِ
إعْزازُكَ الدّينَ الحْنَيفَ وَحِزْبَهُ ... قَدْ خَصَّ أَهْلَ الشِّركْ بالْإهْوانِ
أَذْعَنْتَ لِلهِ المْهُيَمْنِ إذْ عَنَتْ ... لَكَ أَوْجُهُ الأَمْلاكِ بِالإْذعانِ
أَنْتَ الّذي دُونَ المُلوكِ وَجَدْتُهُ ... مَلْآنَ مِنْ عُرْفٍ ومِنْ عِرْفانِ

عُمْرانُ عَدْلِكَ لِلْبِلادِ كأَنَّما ... قَدْ عاشَ في أيَّاِمَك العُمَرانِ
خَلَّدْتَ في الآفاقِ ذِكْراً باقِياً ... أَبَدَ الزَّمانِ بِبِذْلِ مالٍ فانِ
وسار إلى مرعش، وفارق دمشق في أطيب فصولها أيام المشمش فكتبت إلى بعض أصدقائي بها:
كِتابي فَدَيْتُكَ منْ مَرْعَشِ ... وخَوْفُ نَوائِبِها مُرْعِشي
وما مَرَّ في طُرْقِها مُبْصِرٌ ... صَحيح النَّواظِرِ إلاّ عَشِي
وَما حَلَّض في أَرْضِها آمِنٌ ... مِنَ الضَّيْمِ وَالضُّرِّ إلاّ خَشِي
تُرَنِّحُني نَشَواتُ الْغَرامِ ... كأَنَّيَ مِنْ كَأْسِهِ مُنْتَشِ
أَبِيتُ وَنارُ الأَسى مَضْجَعي ... وَأُمْسي وَجَمْرُ الغَضا مَفْرَشي
وَأُصْبِحُ وَلْهانَ وَجْداً بِكُمْ ... كَأَنَّي مُصابٌ عَلَيْهِ غُشِي
أُسِرُّ وَأُعْلِنُ بَرْحَ الْجَوى ... فَقَلْبي يُسِرُّ وَدَمْعي يَشِي
وَلَيْلِيَ مِنْ طُولِ من أُشْتَكي ... كَلَيْلِ اللَّديغِ منَ الْحِرْبِشِ
وَلْيسَ سِوى ذِكْرِكُمْ مُؤْنِسي ... وَلكِنَّ بُعْدَكُمُ مُوحِشي
بَذَلْتُ لَكُمْ مُهْجَتي رشْوَةً ... فحاكِمُ حُبِّكُمُ مُرْتَشِ
وكَيْفَ إلى وَصْلِكُمْ أَهْتَدي ... وَخَطْبُ فِرِاقِكُمُ مُدْهِشي
وَكَيْفَ يَلَذُّ الْكَرى مُغْرَمٌ ... بِنارِ الْغَرامِ حَشاهُ حُشِي
بِمَرْعَشَ أَبْغي وَبَلُّوطِها ... مُضاهاةَ جِلِّقَ والْمِشْمِشِ

قصيدةٍ أولها:
عِيدانِ: فِطْرٌ وَطُهْرُ ... فَتْحٌ قَريبٌ، وَنَصْرُ
ذا مَوْسِمٌ لِلأَماني ... بِالنُّجْحِ مُوفٍ مُبرُّ
وَذاكَ مَوْسِمٌ نُعْمى ... أَخْلافُها تسْتدرُّ
هذا مِنَ الصَّوْمِ فِطْرٌ ... وَذاكَ لِلصَّوْمِ تَدْرُ
نَجْلٌ عَلى الطُّهْرِ نامٍ ... زَكا لَهُ مِنْكَ نَجْرُ
وَكيْفَ يُعْمَلُ لِلطّا ... هِرِ المُطَهَّرِ طُهْرُ؟
ونطقت فيه بما كان في سر القدر حيث قلت:
هذا الْخِتانُ خِتامٌ ... بِمِسْكِهِ طابَ نَشرُ
وَذا الطّهورُ ظُهورٌ ... عَلَى الزَّمانِ وَأَمْرُ

وكتبت عقيب وفاته إلى أصدقائي ببغداد قصيدةً أتشوقهم فيها، وأرثي نور الدين، أولها:
تُرى يَجْتَمِعُ الشَّمْلُ ؟ ... تُرى يَتَّفِقُ الوَصْلُ ؟
تُرى الْعَيْش الّذي مَرَّ ... مَريراً بَعْدَهُمْ يَحْلو ؟
تُرى مِنْ شاغِلِ الهَمِّ ... فُؤادي الْمُبْتَلي يَخْلو؟
بَغْيري شُغِلوا عَنّي ... وَعِنْدي بِهِمْ شُغْلُ
وَكانوا لا يَمَلُّونَ ... فما باُلُهمُ مَلُّوا ؟
وَراموا سَلْوَةَ الْمُغْرَ ... مِ والْمُغْرَمُ لا يَسْلُو
إذا ما كُنْتُ لا أَسْلُوا ... فماذا يَنْفَعُ الْعَذْلُ ؟
أَلاَ يا قَلْبُ إنَّ الْعِزَّ ... في شَرْعِ الهَوى ذُلُّ
وَما دَلَّ عَلَى ذلكَ ... إلاّ ذلِكَ الدَّلُّ

أَلاَ يا حَبَّذا بِالِجْزْ ... عِ ذاكَ الْبانُ وَالأَثْلُ
ومنها:
إذِ الأَبْكارُ لِلآْصا ... لِ في بَهْجَتِها تَتْلُو
وَأَنْفاسُ صَبا الأَسْح ... ارِ بِالصِّحَّةِ تَعْتَلُّ
هَديلُ الوُرْقِ في مُورِ ... قَةٍ أَفْنانُها هُدْلُ
وَأَكْنافُ الصِّبا خُضْرٌ ... وَأفْناءُ الْحِمى خُضْلُ
وَلِلَّذّاتِ أَبْوابٌ ... وَما مِنْ دُونِها قُفْلُ
تُرى يَرْجِعُ مِنْ طِيبِ ... زَماني ذلِكَ الفَصْلُ
تَغَرَّبْتُ فَلا دارٌ ... ولا جارٌ ولا أَهْلُ
أَخِلّايَ بِبَغدادَ ... وَهَلْ لي غَيْركمْ خِلُّ ؟
سَقى مَغْناكُمُ دَمْعي ... إذا ما احْتَبَسَ الْوَبْلُ
عَذابي فيكُمُ عَذْبٌ ... وقَتْلي لَكُمُ حِلُّ
وَهذا الدَّمْعُ قَدْ أَعْرَ ... بَ عَنْ شَوْقَيِ فَاسْتَمَلُوا
وَهذا الدَّيْنُ قَدْ حَلَّ ... فَلِمْ ذا الوَعْدُ وَالمَطْلُ
أَعِيذُوني مِنَ الهَجْرِ ... فَهِجْرانُكُمُ قَتْلُ
هَبُوا لي لِقُيْةَ مِنْكُمْ ... فَبِالْأَرْواحِ ما تَغْلو
وإنْ شِئْتُمْ عَلى قَلْبي ... وَسُلْوانِكُمُ دُلُّوا
ومنها في مرثية نور الدين:
لِفَقْدِ الْمَلِكِ الْعادِ ... لِ يَبْكي الْمُلْكُ وَالْعَدْلُ
وَقدْ أَظْلَمتِ الآفا ... قُ لا شَمْسٌ وَلا ظِلٌّ
وَلمّا غابَ نُورُ الدّي ... نِ عَنّا أَظْلَمَ الْحَفْلُ
وَزالَ الْخَصْبُ وَالْخَيْرُ ... وَزادَ الشَّرُّ وَالْمَحْلُ
وَماتَ الْبَأْسُ وَالْجودُ ... وَعاشَ الْيَأْسُ وَالْبُخْلُ
وَعَزَّ النَّقْصُ لَمّا ها ... نِ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْفَضْلُ
وَهَلْ يَنْفُقُ ذُو الْعِلْمِ ... إذا ما نَفَقَ الْجَهْلُ
وَإنَّ الْجِدَّ لا يُسْمِ ... نُ حَتّى يُسْمِنَ الْهَزْلُ
وَمُذْ فارَقَ أَهْلَ الْخَي ... رِ ما ضُمَّ لَهُ شَمْلُ
وَكادَ الدّينُ يَنْحَطُّ ... وَكادَ الْكُفْرُ أَنْ يَعْلو
ومنها أصف تضعضع حالي بعده، وأذكر لفقده عدم سروري وفقده:
عَلَى قَلْبي مِنَ الأيّا ... مِ في خِفَّتِها ثِقْلُ
وَقَدْ حَطَّ عَلَى الْكُرْهِ ... مِنَ الْهَمِّ بِهِ رَحْلُ
وَمنْ صُلْتُ بِهِ في الدَّهْ ... رِ أَضْحى وَهْوَ لي صِلُّ
تَوَلّى دُونِيَ الدُّونُ ... وأَبْقى الْعِزَّ لي عَزْلُ
وَأَوْلى بي مِنَ الِحْلَي ... ةِ ما بَيْنَهُمُ الْعَطْلُ
وَماذا يَنْفَع الأَعْيُ ... نَ مِنْ بَعْدِ الْعَمى كُحْلُ
ثم أردت أن أستدرك، وأداري الملك، فقلت:
وَلوْلا الْمَلِكُ الصَّالِ ... حُ ما شَدُّو وَلا حَلُّوا
وَلَمّا أَنْ زَكا النَّجْرُ ... زَكا في الْكَرَمِ النَّجْلُ
وجاءَ الْفَرْعُ بِالْمَقْصو ... دِ لَمّا ذَهَبَ الأَصْلُ
وَجُودُ الْبَعْضِ كَالْكُلِّ ... إذا ما فُقِدَ الْكُلُّ
وَلَيْثُ الْغابِ إنْ غابَ ... حَمى مَوْضِعَهُ الشِّبْلُ
وَما كانَ لِنُورِ الدِّي ... نِ لَوْلا نَجْلُهُ مِثْلُ
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ ... إذا ضاقَتْ بِيَ السُّبْلُ
وَعَلَّقْتُ بِحَبْلِ اللّ ... هِ كَفّي فَهُوَ الْحَبْلُ

مدح الملك الناصر، وتلوى المولى الفاضل نعش جدها العاثر، وترويج حظها الكاسد، وسعرها القاصر، أولها
هجرتكمُ لا عن مَلاَلِ ولا غَدرِ ... ولكن لمقدورٍ أُتيحَ من الأَمْر
وما كنتُ أَدري أَن يُتَاحَ فراقكمْ ... ومن يعلمُ الأَمرَ المقدَّرَ أو يدري
وأَعلمُ أَني مخطىءٌ في فراقكم ... وعذريَ في ذنبي وذنبيَ في عذرِي
أَرى نُوَباً للدهر تُخْصَى وما أَرى ... أَشدَّ من الهجران في نُوَبِ الدهر
بعيني إلى لُقْيَا سواكمْ غَشاوَةٌ ... وسمعي إلى نجوى سواكمْ لَذُو وَقْر
وقلبي وصدري فارقاني لِبُعْدكمْ ... فلا صدرَ في قلبي ولا قلبَ في صدري
وإِني على العهدِ الذي تعهدونَهُ ... وسرى لكم سرى، وجهري لكم جهرِي
تجرعتُ صِرْفَ الهمِّ من كأْسِ شوقكمْ ... فها أَنا في صَحْوي نزيفٌ من السكر
وإنَّ زماناً ليس يَعْمُرُ موطِني ... بسكناكمُ فيه فليس من العمر
وأُقْسِمُ لو لم يَقْسِم البينُ بيننا ... جوى الهمِّ ما أمسيتُ مُنْقَسِمَ الفكر
أَسيرُ إِلى مصرٍ وقلبي أسيرُكُمْ ... ومن عَجَبٍ أَسْرِي وقلبيَ في أَسْرِ
أَخِلاَّيَِ قد شَطَّ المزارُ فأَرْسِلوا ... الخيالَ وزوروا في الكرى وارْبحُوا أَجْري
تذكرتُ أَحبابي بجلَّقَ بعد ما ... ترحلتُ والمشتاقُ يأْنَسُ بالذكر

أخلايَ فَقْرِي في التنائي إليكمُ ... بحقِّ غِنَأكُمْ بالتداني ارْحَمُوا فَقْري
ومنها في وصف المنازل:
ولما قصدنا من دمشقَ غباغباً ... وبتنا من الشوق الممضِّ على الجمر
نزلنا بصحراءِ الفَقيع وغُودِرَتْ ... فواقعُ من فيضِ المدامعِ في الغُدْرِ
ونهنهتُ بالفُوّارِ فَوْرَ مدامعي ... ففاضتْ وباحتْ بالمُكَتَّم من سِرِّي
سرينا إلى الزرقاءِ منها ومن يُصِبْ ... أُوَاماً يَسِرْ حتى يرى الوِرْدَ أَوْ يَسِرِ
أَعَادَتْكِ يا زرقاءُ حمراءَ أَدْمُعِي ... فقد مَزَجَتْ زُرْقَ المواردِ بالحُمْرِ
وَسُودُ هُمومي سَوَّدَتْ بيضَ أَزْمُنِي ... فيومي بلا نُورٍ وليلى بلا فجر
أيا ليلُ زِدْ ما شئتَ طُولاً وظُلْمةً ... فقد أَذْهبَتْ منك السنا ظلمةُ الهَجْرِ
تذكرتُ حَمَّامَ القُصَيْرِ وأَهْلَهُ ... وقد جُزْتُ بالحمَّامِ في البلدِ القَفْرِ
ومنها:
وردنا من الزيتون حِسْمَى وأَيْلَةً ... ولم نَسْتَرِحْ حتى صَدَرْنَا إلى صَدْرِ
غَشِينَا الغَوَاشِي وهي يابسةُ الثَّرَى ... بعيدةُ عَهْدِ القُطر بالعَهْدِ والقَطر
وَضَنَّ علين بالندى ثَمَدُ الحصى ... ومن يرتجي رِيّاً من الثمد النَّزْرِ
فقلت اشرحي بالخِمْسِ صدراً مطيتِي ... بصَدْرٍ وإلا جادكِ النيلُ للعِشْر
رأينا بها عينَ المواساة أَنَّنَا ... إلى عين موسى نبذلُ الزادَ للسَّفْر
وما جسرتْ عيني على فيضِ عبرةٍ ... أَكَفْكِفُهَا حتى عَبَرْنَا على الجسر
وملتُ إِلى أَرضِ السَّدِيرِ وجَنَّةٍ ... هنالك من طلحٍ نضيدٍ ومن سِدْر
وجُبْنَا الفَلاَ حتى أَتَيْنَا مباركاً ... على بركة الجُبِّ المُبَشِّرِ بالقَصْرِ
ولما بدا الفسطاطُ بَشَّرْتُ ناقِتي ... بمن يَتَلَقَّى الوفدَ بالوَفْرِ والبِشْر
ولم أَنْسَ يومَ البينِ بالمَرْج نَشْرَنَا ... مطاويَ سِرٍ في الهوى أَرِج النَّشْرِ
وقد أَقبلت نُعْمٌ وأَترابُها كما ... تَطَلَّعَ بَدْرُ التمِّ في الأَنجمِ الزُّهْر
وقفنا وحادينا يحثُّ وناقتِي ... تَزُمُّ ولاَحِينَا لِمُغْرَمِنا مُغْرِ
وكلُّ بَنَانٍ فوق سِنٍ لنَادِمٍ ... وكلُّ يدٍ فوق التريبةِ والنحر
وبيعَ فؤادي في مناداةِ شوقهم ... فسُمْتُهُمُ أَنْ يأَخذوا الرُّوحَ بالسِّعْرِ
بكت أُمُّ عمرٍو من وشيكِ تَرَحُّلِي ... فيا خجلتا من أُمِّ عمرٍو ومن عمرو
تقولُ إلى مصرٍ تسيرُ! تعجباً ... وما الذي تَبْغي ومَنْ لَكَ في مصر
تُبَدِّدُ في سَهْلٍ من العيش شَمْلَنَا ... وتنظمُ سِلْكَ العيشِ في المَسْلَكِ الوَعْرِ
فقل أيما عُرْفٍ حَدَاكَ على النوى ... ومن ضَلَّةٍ أَنْ تطلب العُرْفَ بالنُّكْرِ
ومن فارقَ الأَحبابَ مستبدلاً بهم ... سواهمْ فقد باعَ المرابحَ بالخُسْرِ
فقلتُ ملاذي الناصرُ الملكُ الذي ... حصلتُ بجدواه على المُلْكِ والنَّصْر
فقالت أَقِمْ لا تَعْدَمِ الخير عندنا ... فقلت وهل تُغْنِي السواقي عن البحر
فقالتْ صلاحُ الدين قلت هو الذي ... به صارَ فضلي عاليَ الحظِّ والقَدْر
ثِقِي برجوعٍ يَضْمَنُ اللّهُ نُجْحَهُ ... ولا تَقْنَطِي أَن نُبْدِلَ العُسْرَ باليُسْرِ
وإِنَّ صَلاحَ الدينِ إِنْ راحَ مُعْدِمٌ ... إِليه غَدا من فَيْضِ نَائِلهِ مُثْرِي
نَعِزُّ بأفضال العزيزِ وفَضْلِهِ ... ونَحْسِبُ نفعاً كلَّ ما مَسَّ من ضُرِّ
عطيته قد ضاعَفَتْ مُنَّةَ الرَّجَا ... ومِنَّتُهُ قد أَضْعَفَتْ مُنَّةَ الشكر

وماذا يحد المدح منه فإنما ... مناقِبُهُ جَلَّتْ عن الحدِّ والحَصْرِ
ولي في الملك الناصر بعد مملكته مصر قصائد موسومة على اسمه ونعته، فمن جملة الموسومات على اسمه قصيدة نظمتها في سنة خمس وستين أنفذتها إليه بمصر، وهي هذه:
يَرُوقُنِي في المَهَا مُهَفْهَفُهَا ... ومن قُدُودِ الحِسَانِ أَهْيَفُهَا
ومن عيونِ الظباء أَفْتَرُهَا ... ومن خُصورِ المِلاحِ أَنْحَفُهَا
ما سَقَمِي غَيْرُ سُقْمِ أَعْيُنِهَا ... ثُمَّ شِفائي الشفاهُ أَرشُفُهَا
يُسْكِرني قَرْقَفُ يُشَعْشِعُهَا ... لحظُ الطَّلاَ لا الطِّلا وقرقفها
يا ضَعْفَ قلبي من أَعْيُنٍ نُجُلٍ ... أَقْتَلُها بالقلوب أَضْعَفُهَا
ومن عِذَارٍ كأَنَّهُ حَلَقٌ ... أَحْكَمَ في سَرْدِهِ مُضَعِّفُهَا
ومن خدودٍ حُمْرٍ مُوَرَّدَةٍ ... أَدْوَمُهَا للحياءِ أَطْرَفُها
في سَلْبِ لُبِّي تَلَطَّفَتْ فأَتى ... نحوي بِخَطِّ الصِّبا مُلَطِّفُهَا
يا مُنكراً مِنْ هَوىً بُلِيتُ به ... علاقةً ما يكادُ يَعْرِفُها
دَعْ سِرَّ وجدي فما أَبوحُ به ... وخلِّ حالي فلستُ أكشفها
واصرف كؤوسَ الملام عن فِئَةٍ ... عن شرعةِ الحب لستَ تصرفها
مِنْ شَرَفِ الحب حلَّ في مُهَجٍ ... أَقْبَلُهَا للغرام أَشْرَفُهَا
لا يستطيِبُ السلوَّ مُغْرَمُهَا ... ولا يَلَذُّ الشفاءَ مُدْنَفُهَا
فالقلبُ في لوعةٍ أُعالِجُهَا ... والعينُ في عَبْرَةٍ أُكَفكِفُهَا
كأنَّ قلبي وَحُبَّ مَالِكُهُ ... مِصْرٌ وفيها المليكُ يُوسُفُهَا
هذا بسَلْبِ الفؤاد يظلمني ... وهو بقتل الأَعداء يُنْصِفُهَا
الملكُ الناصرُ الذي أَبَداً ... بعزِّ سلطانه يُشَرِّفُهَا
بعدله والصَّلاحِ يَعْمُرُهَا ... وبالندى والجميلِ يكنفُهَا
وِإنَّ مصراً بمُلْكِ يوسفِها ... جنةُ خُلْدٍ يَرُوقُ زُخْرُفُهَا
وإنَّهُ في السَّمَاح حَاتِمُهَا ... وإنَّهُ في الوقارِ أَحْنَفُهَا
كم آملٍ بالندى يُحَقِّقُهُ ... ومُنْيَةٍ بالنجاح يُسْعِفُهَا
وليس يُوليك وَعْدَ عَارِفَةٍ ... إلاَّ وعندَ النجازِ يُضْعِفُهَا
حَكَّمَ في مالهِ العفاةَ فما ... يَنْفُذُ فيه إلا تَصَرُّفُها
وإن شَمْلَ اللُّهَا يُفَرِّقُهُ ... لِمَكْرُمَاتٍ له يُؤَلِّفُها
ذو شرفٍ مكرماتُهُ سَرَفٌ ... ويستحقُّ الثناءَ مُسْرِفُها
وعزمةٍ بالهدى تَكَفَّلَهَا ... وهمةٍ للعُلَى تَكَلُّفُهَا
يوسفُ مصرَ التي مَلاحِمُها ... جاءَتْ بأَوْصافهِ تُعَرِّفُهَا
كُتْبُ التواريخِ لا يُزَيِّنُهَا ... إلاَّ بأَوْصَافِهِ مُصَنِّفُهَا
ومن يَمِيرُ العفاةَ في سَنَةٍ ... أَسْمَنُهَا للجدُوبِ أعْجَفُهَا
آياتُ دين الإلهِ ظاهرةٌ ... فيكَ ويُثنِي عليكَ مُصْحَفُهَا
ومنها أصف اجتهاده وجهاده للفرنج عند نزولهم على دمياط:
كم جحفلٍ بالعراءِ ذي لَجَبٍ ... بالصفِّ منه يضيق صَفْصَفُهَا
كالبحر طامِي العُبَابِ لاعبةٌ ... بموجه للرياح أَعْصَفُهَا
كتيبة مُنْتَضَىً مُهَنَّدُهَا ... إلى الردى مُشْرَعٌ مُثَقَّفُهَا
غَادَرْتَها للنسورِ مَأْكَلَةً ... حيث بأشلائها تُضَيِّفُهَا
منتصفاً من رءوسِ طاعنةٍ ... بباتراتِ الظُّبَا تُنَصِّفُهَا
وحُطْتَ دمياطَ إذ أَحاطَ بها ... مَنْ بِرُجُومِ البلاءِ يَقْذِفُهَا
لاقَتْ غواةُ الفرنج خَيْبَتَهَا ... فزادَ مِنْ حسرةٍ تَأَسُّفُها

فرَّ فَرِيرِيُّهَا وأَزْعَجَها ... نِداءٌ دَاوِيِّهَا تَلَهُّفُهَا
يُمْطَرُ مُطْرَانُها العذابَ كما ... يُرْدَى بهدِّ السقوفِ أُسْقُفُها
تَكْسِرُ صُلْبَانَهَا وتَنْكِسُها ... لقصمِ أَصْلاَبها وتَقْصِفُهَا
أوردْتَ قُلْبَ القلوب أَرْشِيَةً ... من القنا للدماءِ تَنْزِفُهَا
وَلَّيْتَهَا سَفْكَهَأ فعامِلُهَا ... عَامِلُهَا والسِّنَانُ مُشْرِفُهَا
تعسَّفَتْ نحوكَ الطريقَ فما ... أَجدى سوى هُلْكِهَا تَعَسُّفُها
وحسبها في العمى تَهَافُتُهَا ... بل لسهامِ الرَّدَى تَهَدُّفُهَا
يُمْضي لك اللّهُ في قتالهمُ ... عزيمةً للجهادِ تُرْهِفُهَا
إِنْ أَظْلَمتْ سُدْفَةٌ أَنَرْتَ لها؛ ... أَبْهَى ليالي البدورِ مُسْدَفُهَا
بشائرُ الدينِ في إزالته ... مواعد اللّه ليسَ يُخْلِفُهَا
ومنها:
أدركتَ ما أَعْجَزَ الملوكَ وقد ... بات إلى بَعْضِهِ تَشَوُّفُهَا
جاوزتَ غاياتِ كلِّ منْقَبَةٍ ... يعز إلاَّ عليك مَوْقِفُهَا
وإنَّ طُرْقَ العَلاَء واضحةٌ ... آمِنُها في السلوكِ أَخْوَفُها
صلاحَ دين الهُدى لقد سَعِدَتْ ... مملكةٌ بالصلاحِ تُتْحِفُها
عندي بشكر النُّعْمى ثِمارُ يدٍ ... زاكيةُ الغرسِ أنت تقطفها
فاقبلْ نقوداً من الفضائلِ لا ... يُصَابُ إلا لديكَ مَصْرَفُها
أصدافُ دُرِّي إليكَ أَحملها ... وعن جميع الملوك أَصْدِفُها
إن لم تُصِخْ لي فهذه دُرَرِي ... لأيِّ مَلْكٍ سِواكَ أَرْصُفُها
وهل لآمالنا سوى مَلِكٍ ... يَنْقُدُها بِرَّهُ ويُسْلِفُها
دنيا من الفضلِ قد خَلَتْ وبدا ... للنَّقْصِ في أهله تَعَيُّفَها
وكلُّ سوقٍ للفضلِ كاسدةٍ ... بانَ لأعدائه تَحَيُّفُها
وهل يروج الرجاءُ في نَفَرٍ ... كُلُّهُمُ في العُلاَ مُزَيَّفُها
قد عَطَفَتْ لي فضائلي وَوَفَتْ ... لكنْ حظوظي أَعيا تَعَطُّفُها
وفضلىَ الشمسُ في مطالعها ... لكنَّ جهلَ الزمانِ يَكْسِفُها
قد أَعْرَبَتْ فيك بالثنا كَلِمي ... وحاسدي ضَلَّةً يُحرَِفُها
أَسْدَى لنا شِيرَكُوهُ عارفةً ... يوسفُ من بعدها سيخلفها
أَنت قَمِينٌ بكلِّ تالدةٍ ... إنَّكَ يا ابنَ الكرامِ تُطْرِفُها
ومنها قصيدة أخرى موسومة باسمه أنفذتها إليه من دمشق إلى مصرَ في شهر صفر سنة سبع وستين، أولها:
مُتَثَنِّي العِطْفِ أهيفُهُ ... كيفَ لا يُرْجَى تَعَطُّفُهُ
زادَ في قَتْلي تَسَرُّعُهُ ... ثم في وصلي تَوَقفُه
يا ضنى جسمي لقد خطفَ ... القلبَ مُضْنَى الخصرِ مُخْطَفهُ
وبنفسي من أراقَ دمي ... منه جَفْنٌ سُلَّ مُرْهَفُه
وبلائي من مُقَبَّلِهِ ... وشفائي حين أَرْشُفهُ
ولقلبي مالكٌ أبداً ... يتلافاهُ ويُتْلفه
من لمهجورٍ يدومُ على ... وصلِ من يهوى تأَسُّفُهُ
ومن البلوى تَلَهُّبُهُ ... ومن الشكوى تَلَهُّفهُه
وسقيمُ الطرف يُسْقمه ... ونحيفُ الخصرِ يُنْحِفُه
يتناهى في تَظَلُّمِه ... من حَبيبٍ ليسَ يُنْصِفُه
حَبَّذا ليلُ الشبابِ وقد ... طاب للسمَّارِ مُسْدَفُه
وزمانٌ بالعراقِ لنا ... رقَّ لما راقَ زُخْرُفُه
حين يُصيبني مُقَرْطَقُه ... ويُصَافيني مُهَفْهَفُه
ويُنَاجيني مُقَرَّطُهُ ... ويُنَاغيني مُشَنَّفُهُ

ويعاطيني المُدَامَ وقد ... لانَ عند الوصل معْطَفُه
كاد يُرْديني تَشَدُّدُه ... ثم أحياني تَلَطُّفُهُ
ونجيٍ باتَ يُتْحِفني ... بشكاويه وأُتحِفُه
قال إنَّ الدهرَ ليس على ... وفقِ ما نهوى تَصَرُّفُهُ
وكسادُ الفضلِ في زمنٍ ... رائجٍ فيه مُزَيَّفُه
أَترى في الناس كلِّهِمُ ... من لمعروفٍ تَشَوُّفُهُ
قلتُ ما في الدهرِ غيرُ فتىً ... كلُّ ما قد فاتَ يُخْلِفُه
إنْ يَسُدْ في الدهرِ ذو كرمٍ ... فصلاحُ الدين يُوسُفُه
ومنها قصيدة مدحته بها في سنة اثنتين وسبعين بمصر وأنا في خدمته، أولها:
فديتكَ من ظالمٍ مُنْصِفِ ... وناهيكَ من باخلٍ مُسْعِفِ
بلقياكَ يُشْفَى سقامي الممضُّ ... ولكن بسفكِ دمي تَشْتَفي
وتُخْلِفُ وعدكَ لي بالوصالِ ... حنانيكَ من واعدٍ مُخْلِفِ
وتستحسنُ الغدر طبعاً ومَنْ ... وَفَى مِنْ ذوي الحسنِ حتى تَفِي!
أَمِثْلكَ كلُّ حبيبٍ جَفَا ... ومِثْلِيَ كلُّ حبيبٍ جُفِي
أيا لَيِّنَ العطفِ قاسي الفؤادِ ... بعيشك بالله لِنْ واعْطِفِ
فما ترك الوجدُ لي مُسْكَةً ... ولا مُنَّةً ليَ لَمْ تَضْعُفِ
تلافَ فصدُّكَ لي مُتْلِفٌ ... فُؤَادِي من الأَسفِ المتْلِفِ
وإن كنتَ لابدَّ لي قاتلاً ... بما صنعَ الوجدُ بي فاكتفِ
تناهيتَ في قَتْلَتِي عامداً ... فحيثُ انتهيتَ بقتلي قِفِ
ثناياكَ بُرْئِيَ في رَشْفِها ... وقد طالَ سُقْمي ولم أَرْشُفِ
أأنجو ومن قدِّك السمهريُّ ... لِجَيْنِي وفي جَفْنِكَ المَشْرَفي
أيا مُسْرفاً في عذابي اقتصدْ ... أُعيذكَ من شَطَطِ المُسْرِفِ
نُحُوليَ من خصركَ الناحلِ السَّقيم ... كعاشقِكَ المُدْنَفِ
ومن سُقْمِ لحظكَ ذاكَ المريضِ ... شفائي وأُشْفِي أَنا لو شُفِي
على خَطْفِ قلبي يحل الشباكَ ... عقدُ وشاحك في مُخْطَفِ
أنا المستهامُ بذاك القوامِ ... وذاك المُوَشَّحِ والمِعْطَفِ
وذاك المقبَّلِ والمبسمِ ... المفدَّى المفدَّمِ والقَرْقَفِ
بخدِّكَ من وَهَجٍ شُعْلَةٌ ... أَحاطتْ بقلبي فما تَنْطَفي
فإن تُخْفِ ألحاظُكَ القاتلاتُ ... دمي فبخديك ما يَخْتَفي
غدا عاذلي عاذراً مُذْ رَأَى ... عِذاركَ كالقمرِ الأَكلَفِ
وقال أَرَى خَدَّه مُرْهَفاً ... ولا عيبَ في خَصْرِه المُرْهَفِ
أَقاحٍ وآسٌ ووَردٌ لها ... اجتماعٌ على غُصُنٍ أَهْيَفِ
تَرَفَّقْ رفيقي فليتَ الذي ... يُعَنِّفُ في الحب لم يَعْنُفِ
غرامٌ عَرَا وزمانٌ عَدَا ... فهلْ ظالمٌ منهما مُنْصِفي
زمانٌ خلا من جميلٍ فليسَ ... لغير ذوي نَقْصِهِ يَصْطَفي
جَنَى ظُلْمَةَ الفضلِ حظي المنيرُ ... ولولا سنا الشمس لم تُكْسَف
ويا ليت دهري إذا لم يكن ... بسُؤْليَ يُسْعِفُ لم يَعْسُفِ
أَيبلغُ دهريَ قصدي وقد ... قصدت بِمصرَ ذُرَى يُوسُفِ
وهي قصيدة طويلة تبلغ مائة بيت، والموسومات بنعته كثيرة، فمنها قصيدة أولها:
لو أَن عُذْرِيَ لكَ يا لاحِ لاحْ ... ما كنتُ عن سكريَ يا صاحِ صاحْ
ومنها قصيدة في التهنئة، بكسر عسكر حلب والموصل، بتل السلطان يوم الخميس عاشر شوال سنة إحدى وسبعين، أولها:

يومٌ أَهبَّ صَبَا الهِبَاتِ صَبَاحُهُ ... وروى حديثَ النصر عنكَ رَواحُهُ
فالسَّعْدُ مُشْرِقَةٌ لنا آفاقُهُ ... والنصرُ باديةٌ لنا أَوْضَاحُه
أَوفى على عُودِ الثناءِ خطيبَهُ ... وشَدَا على غُصْنِ المُنَى صَدَّاحُه
فالشامُ مُبْتَلُّ الثَّرَى ميمونُهُ ... والعامُ مُنْهَلُّ الحَيَا سَحَّاحُه
والمحلُ زالَ كبارقٍ مُتَهَلِّل ... لمَّ الشعوبَ بوَمْضِهِ لَمَّاحُه
فالحمدُ للّه الذي إِفْضَالهُ ... حُلْوُ الجَنا عَالِي السَّنَا وَضّاحُه
عاد العدوُّ بِظُلْمَةٍ من ظُلْمِهِ ... في ليلِ ويلٍ قد خَبَا مِصْبَاحُه
رَكَدَتْ قَبولُ قُبولِهِ مِن بَعْدِ أَنْ ... هَبَّتْ غُروراً بالرياءِ رِيَاحُه
ومنها:
أَوفى يريدُ له بجرِّ جُنودِهِ ... ربْحاً فجرَّتْ خَسْرَةً أَرْبَاحُه
حملَ السلاحَ إلى القتالِ وما درى ... أنَّ الذي يَجْني عليه سِلاحُه
وَلَّى بكسرٍ لا يُرَجَّى جَبْرُه ... وبِقَرْحِ قَلْبٍ لا تُبِلُّ جِرَاحُه
ونجا إلى حلبٍ ومِن حَلَبِ الردى ... دَرٌّ وفيه نجاتُهُ وفَلاَحُهُ
ومنها:
إن أَفْسَدَ العصاةُ بِحِنْثِهِمْ ... فالناصرُ المَلِكُ الصلاحُ صَلاَحُه
ومنها:
فَرِحَ العدوُّ بجمعه وَلَقيتَهُ ... فتحوَّلَتْ أَحزانَهُ أفراحُه
صَحَّتْ على ضربِ الكَماةِ كُسُورُهُ ... وَتَكَسَّرَتْ عند الطِّعَانِ صِحَاحُه
وافى بسَرْحٍ للنِّقَادِ فكانَ في ... لُقيا الأُسودِ الضارياتِ سَرَاحهُ
مَجْرٌ كبحرٍ دَارِعُو فرسانِهِ ... حيتاتُهُ وزعيمُهُمْ تِمسَاحُه
شَحْنَاؤُهُ شَحَنَتْ جواريَ فُلْكِهِ ... جَوْراً ومالَ بِهُلْكِهِ مَلاَّحُه
عَدِمُوا الفلاحَ من الرجالِ فجاءَهم ... من كلِّ صوبٍ مُكْرَهاً فَلاَّحُه
فهمُ لحرثٍ لا لحربٍ حِزْبُهُمْ ... أَيُثيِرُ قُرْحاً من يُثَار قَرَاحُهُ
قد فاظَ لما فاضَ جيشُكَ جأْشُهُ ... غيظاً وغاضَ لبحركمْ ضَحْضَاحُه
كم سابِقٍ بِِرَادَه يُرْدَى سابحٍ ... في بَحْرِ هُلْكٍ ما نجا سَبَّاحُه
ومنها:
كم عَيْنِ عَيْنٍ غَوَّرَتْ غُوَّارُهُ ... وقليبِ قَلْبٍ عَوَّرَتْ مُتَّاحُه
إن آذنَتْ بالنتن ريحُ قتيلهم ... فالنصرُ نفَّاحُ الشَّذَا فَوَّاحُه
كم مارقٍ من مأزقٍ دَمُهُ على ... مَسْحِ الحسام مُرَاقُهُ مسَّاحُه
يُصْبيكَ نَهْدٌ إن سباتهُ نَاهِدٌ ... ولديك جِدٌّ إن أباهُ مزَاحُه
ولك الكعوبُ مُقَوَّمَاتٌ للردى ... وله الغَداةَ كَعَابُهُ ورَدَاحُه
راحُ النجيعِ بها صحافُ صِفَاحِكُمْ ... مَلأَى وتَمْلأُ كلَّ كاس رَاحُه
وتجولُ في صَهَواتِهَا فُرْسانُكُمْ ... وتدورُ في خَلَواتِهِ أَقدَاحُهُ
ويروقُهُ الخمرُ الحرامُ وعندَكُمْ ... مما يُرَاقُ من الدِّماءِ مُبَاحُهُ
ضَرْبُ الطُّلَى بالمشرفيِّ طِلاَبُكُمْ ... وبراحِ مَنْ شَربَ الطِّلا طُلاَّحُه
محمرُّ خدِّ صقيِلةٍ تُفَّاحُكمْ ... وأسيلُ خدِّ عقيلةٍ تُفَّاحُهُ
ومنها:
للّهِ جَيشٌ بالمُرُوجِ عَرَضْتَهُ ... أُسْدُ العرين رجالهُ ورماحُه
ومن الحديدِ سوابغاً أَبْدانُهُ ... ومن المضاءِ عزائماً أَرْوَاحُه
وله فوارسُ بالنفوس سَمَاحُهَا ... أَتُعَادُ بالعِرْضِ المصونِ شحَاحُهُ
روضٌ من الصُّفْرِ البنودُ وحُمْرِها ... والبيضِ، يُزْهَى ورْدُهُ وَأَقَاحُهُ
من كل ماضي الحدِّ طَلَّقَ غِمْدَهُ ... فَتْكاً لأغمادِ الرقابِ نِكَاحُهُ

قد كان عزمُكَ للإلهِ مُصَمِّما ... فيهمْ فلاحَ كما رأيتَ فَلاَحُه
ومنها:
وكأَنني بالساحل الأقصى وقد ... ساحَتْ ببحرِ دمِ الفرنجةِ ساحُهُ
فاعْبُرْ إِلى القوم الفراتَ ليشربوا ... الموتَ الأُجَاجَ فقد طَمَا طَفَّاحُهُ
لِتَفُكَّ من أيديهمُ رَهْنَ الرُّهَا ... عَجلاً ويدركَ لَيْلَها إِصْبَاحُهُ
وابغوا الحرَّانَ الخلاصَ فكم بها ... حرَّانُ قلبٍ نحوكم مُلْتَاحُهُ
نَجُّوا البلادَ من البلاءِ بِعْدَلكم ... فالظلمُ بادٍ في الجميع صُرَاحُهُ
وَاسْتَفْتِحُوا ما كانَ من مُسْتَغْلِقٍ ... فيها فربُّكمُ لكمْ فَتَّاحُهُ
قُولوا لأَهلِ الدينِ قَرُّوا أَعينا ... فلقَدْ أَقَام عَمُودَهُ سَفَّاحُهُ
بشرايَ فالإسلامُ من سلطانِهِ ... جَذِلُ الفؤادِ بنصره مُرْتَاحُهُ
مَلِكٌ لِيُمْنِ المعتفينَ يمينُهُ ... ولراحةِ الرَّاجينَ تُبْسَطُ رَاحُهُ
لما اجتداهُ من الرَّجَاءِ رجالُهُ ... أَوْفَى على قَطْرِ السَّمَاءِ سَمَاحُهُ
فاقصدْ بِبَرْح الفقرِ رَحْبَ جَنَابِهِ ... فبِراحِهِ يومَ النَّوالِ بَرَاحُهُ
مَلِكٌ تَمَلَّكَ جَدُّهُ من جِدِّهِ ... فالمجدُ مَجْدٌ والمَراحُ مِرَاحُهُ
ملكٌ يُحبُّ الصفحَ عن أَعدائِهِ ... فلذاك تَصْفَحُ عن عِداهُ صِفَاحُهُ
ومنها:
لك بيتُ مجدٍ ليس يُدْرَكُ حَدُّهُ ... يعيا بذرع عُرُوضِهِ مَسَّاحُهُ
المُلْكُ غابٌ أَنتمُ أَشْبَالُهُ ... والدين رُوحٌ أَنتمُ أَشْباحُهُ
ما شَرْحُ صَدْرِ الشَّرْع إِلاَّ مِنْكُمُ ... ولذاكَ مِنْكُمْ للهدى إِيضَاحُهُ
فخراً بني أَيوبَ إِنَّ مَحلَّكُمْ ... ضاقَتْ على كلِّ الملوك فِسَاحُهُ
لولا اتساعُ جَنَابكم لعَدَدْتُه ... خَصْراً، وفودُ المُعْتَفِينَ وِشَاحُهُ
أنتمْ ملوكُ زمانِنا وسَرَاتُهُ ... وكِرامُهُ وعِظَامُهُ وفِصَاحُهُ
عظماؤُهُ كبراؤهُ فضلاؤُه ... ورِزَانُهُ ورِصَانُه وصِبَاحُهُ
أقمارُهُ وشموسُهُ ونجومُه ... وبحارُه وجبالُه وبطاحُه
أنتمْ رجالُ الدهرِ بل فرسانُه ... ولذي الحلومِ الطائشاتِ رِجاحُه
فُتَّاكُهُ نُسَّاكُهُ ضُرَّارُهُ ... نُفَّاعُهُ مُنَّاعُهُ مُنَّاحُهُ
وأبو المظفرِ يوسفٌ مِطْعَامُهُ ... مِطعانهُ مِقْدَامُه جَحْجَاحُه
وإذا انتدى في مَحْفَلٍ فَحَيِيُّهُ ... وإذا غدا في جَحْفلٍ فَوَقَاحُه
أَسْجَحْتَ حين ملكتَ عفواً عنهمُ ... إنَّ الكريمَ مُؤَمَّلٌ إسْجَاحُه
ومنها قصيدة أخرى أنفذتها إليه من دمشق إلى مصر قبل مملكة الشام، أولها:
سكرانُ باللحظِ صاحِ ... نشوانُ من غيرِ راحِ
بوجنةِ الورد يَفترُّ ... عن ثنايا الأَقَاحِ
وقامةِ الغصنِ يهتز ... في مَرَاحِ المِرَاح
وعارضِ المسك مثل المساءِ ... فوق الصباح
نمَّ العذارُ عليهِ ... فتَمَّ فيه افتضاحي
وردُ الحياء جَنِيٌّ ... في ذلك التفاح
والريقُ كالراحِ شُجَّتْ ... بعذبِ ماءٍ قَرَاح
من كأسِ فيه اغتباقي ... مُنَعَّماً واصطباحي
وفي الأمورِ اختتامي ... على اسمه وافتتاحي
أَهوى طلوعَ صَباحي ... على وُجُوهِ صِبَاح
ولثمَ أَحورَ أَحْوَى ... وضمَّ رُودٍ رَدَاح
ورِيَّ قلبي الصدى من ... عناقِ ظامي الوشاح

وفتنتي من عيونٍ ... حورٍ مِرَاضٍ صحاح
يا صاحِ إني نزيفٌ ... سُكْراً وإنك صاحِ
وبرحُ وجدي مقيمٌ ... فما لَهُ من بَرَاح
دَعني فما أنتَ يوماً ... مؤاخذٌ بجُنَاح
وما أطعتُ غَرامي ... حتى عصيتُ اللَّوَاحي
وَفَى الحبيب وَتَمَّتْ ... بوصلهِ أفراحي
وزادَ قِدْحي ودارت ... بمُنْيَتِي أَقْدَاحي
أُعطى الكؤوسَ مِلاءً ... على أَكُفِّ الملاح
ورضتُ بالصبر دهري ... وكان صعبَ الجماح
قد استقرّت أُموري ... فيه بحَسْبِ اقتراحي
كما استقرَّ صلاحُ الدنيا ... بملْكِ الصَّلاَح
تنيرُ شمسُ مساعيه ... من سماءِ الصَّبَاح
وأمرهُ مستفادٌ ... من الفَضَاء المُتَاح
ذو المفخَرِ المُتَعالي ... والنائلِ المُسْتَمَاح
وللحقيقةِ حامٍ ... وللدنية ماحِ
غيثُ السماحة طَوْدُ ... الْوقار لَيْثُ الكفاح
صدرٌ بجدواه صَدْري ... مُذْ لم يزل في انشراح
من قَدْحِ زندِ الأماني ... به وَقُودُ القداح
أَمَّلْتُهُ لِمُلِمِّي ... فلاحَ وجهُ فَلاَحي
آمالُنا بلُهَاهُ ال ... أَجْسَامُ بالأرْوَاح
نَدَى كريمٍ حييٍ ... وبأسُ ذِمْرٍ وَقَاح
يَفْديكَ أَهلُ اجتراءٍ ... على رُكُوبِ اجْتِرَاح
بالمالِ غيرُ كرامٍ ... بالعِرْضِ غيُ شِحَاحِ
رأيتَ صونَ المعالي ... في بذلِ مالٍ مباح
إن طالَ ليلُ مُلِمٍ ... وافيتَ بالإِصْبَاح
ومنها:
مُلِّيتَ يوسفُ مِصْراً ... جِدّاً بغير مزاح
مُلكاً بغيرِ انتزاعٍ ... عزّاً بغير انتزاح
يا من أياديه تُبْدي ... بالحَصْر عِيَّ الفِصَاحِ
ومَنْ مُرَجَّى نَداهُ ... مُبَشِّرٌ بالنجاحِ
عدوه في اتِّضَاعٍ ... ومَجْدُه في اتِّضَاح
ومنها:
صريحُ مدحي لعَلْيَا ... كَ عن وَلاَءٍ صُرَاح
بقَيْدِ شُكْري عطايا ... كَ مُطْلَقَاتُ السَّرَاحِ
ولي فيه قصيدة طائية عند وصوله إلى الشام واتصالي بخدمته أَحببت إثباتها في الخريدة، وإيداعها في الجريدة، لأجل ذكر أخواتها من نظم شعراء العصر في الأقاليم، وهي هذه:
عَفَا اللّه عنكم مالكم أيها الرهطُ ... قسطتمْ ومن قلب المحبِّ لكم قِسْطُ
شَرَطْتُمْ له حفظَ الوداد وخُنْتُمُ ... حنانيكمُ ما هكذا الوُدُّ والشَّرْطُ
جعلتمْ فؤادَ المستهامِ بكم لكُمْ ... مَحَطّاً فعنه ثِقْلَ هَمِّكُمُ حُطُّوا
إذا كنتمُ في القلبِ والدارُ قد نَأَتْ ... فسيَّانِ مِنْ أحبابه القربُ والشَّحْطُ
ثوى هَمُّهُ لما ثَوَى الوجدُ عنده ... مقيماً وشطَّ الصبرُ في جيرةٍ شَطُّوا
وأَرَّقَهُ طيفٌ طَوَى نحوه الدُّجَى ... وقد كاد جيبُ الليل بالصبح يَنْعَطُّ
تشاغلتمُ عنه وثوقاً بوده ... كأَنَّ رضاكم عن محبكمُ سُخْط
جزعت غداةَ الجِزْع لما رحلتمُ ... وأَسْقطني من بينكمْ ذلك السِّقْطُ
ملكتمْ فأنكرتمْ قديمَ مودَّتي ... كأَنْ لم يكن في البين معرفةٌ قَطُّ
فَدَتْ مهجتي مَنْ لا يُذَمُّ لمهجتي ... إِذا حاكَمَتْهُ وهو في الحُكْمِ مُشَتَطُّ
يريكَ ابتساماً عن شتيتِ مُقَبَّلٍ ... كأَنَّ نظيمَ الدرِّ أَلَّفَهُ السِّمْطُ

وما كنت أَدري قبل سطوةِ طرفه ... بأَنَّ ضعيفاً فاتراً مِثْلَهُ يَسْطو
وهبْ أن بالقُرْطَيْنِ منه مُعَلَّقٌ ... لذنبِ الهوى قلبي فَلِمْ عُلِّقَ القُرْط
وأَهيفَ للإشفاقِ من ضعفِ خصره ... محلُّ نطاقٍ للقلوبِ به رَبْط
على قُرْبِه في الحالتين مُحَسَّدٌ ... من الثَّغْرِ والشَّعْرِ الأراكةُ والمشْط
بوجنتهِ نورُ المُدامةِ مُشْرِقٌ ... ومقلته نَشْوَى وفي فيه إسْفِنْطُ
تزينُ عِذارَيْهِ كتابةُ حُسْنِهِ ... ومِنْ خَالِهِ في وجنتيه لها نَقْط
فؤادكَ خالٍ يا خليلي فلا تَلُمْ ... فؤاداً سباه الخالُ والخدُّ والخَطُّ
يلازمُ قلبي في الهوى القبضُ مثلما ... يلازم كفَّ الناصرِ الملكِ البسطُ
مليكٌ حوى الملكَ العقيمَ بضبطه ... كريمٌ وما للمالِ في يده ضَبْطُ
ومولىً سريرُ الملكِ حفَّ بشخصه ... كما حفَّ بالإنسان من ناظرٍ وَسْط
مليكٌ لنجم النجح من أُفْقِ عِزِّهِ ... سَناً ولطيرِ السَّعْدِ في وكره قَمْط
إذا لُثِمَتْ أَيدي الملوك فعنده ... مدى الدهرِ إجلالاً له تُلْثَمُ البُسْط
لنوم الرعايا وادعين سهادُهُ ... إذا وَادِعُوا الأَملاك في نومهم غَطُّوا
أكفُّ ملوكِ العصر لا وَكْفَ عندها ... وكفُّ المليك الناصرِ البحرُ لا الوقْطُ
عطايا نقودٌ لا نَسَايَا فكلُّهَا ... تُعَجَّلُ لا وعدٌ هناك ولا قَسْطُ
أَغرُّ لكفِّ الكفرِ كفٌّ ببأْسِهِ ... كما لفقارِ الفَقْر من جُوده وَهْط
أَياديه غرٌّ وهي غيرَ مُغِبَّةٍ ... وإحسانه غَمْرٌ وليس له غَمْطُ
يحبُّ ضجيجَ الشاكرين إذا دَعَوْا ... ويهوى سؤَال المعتفين إذا أَطُّوا
ويَعْبَقُ عَرْفُ العُرْفِ والقِسْطِ عندهونَدُّ النَّدَى لا البانُ والرَّنْدُ والقُسْطُ
إلى طَوْلِهِ المعروف طُولُ يدِ الرجا ... وفي بحر جدواه لأمالنا غَطُّ
صنائِعُهُ رُبْطُ الكرامِ وإنها ... لوفد أَياديه المصانعُ والرُّبْط
يَمُرُّ ويحلو حالةَ السخط والرضا ... فنعمته دأْبٌ ونقمته فَرْط
من القوم تلقاهم عن النكر إن دُعُوا ... بطاءً وإن يُدْعَوْا إلى العُرْفِ لا يُبْطوا
همُ رَضَعُوا دَرَّ الحجى في مُهودِهِمْ ... أَمَاجدُ وانضمتْ على السؤددِ القُمْطُ
يصيبونَ فيما يقصدون فكم رَمَوْا ... بسهم الثراءِ المملقين فلم يُخْطوا
متى يَقْدِروا ويَعْفوا وإن يَعِدُوا يَفُواوإن يَبْذُلُوا يُغْنُوا وإن يَسْأَلُوا يُعْطُوا
يصيبُ الذي يصبو إلى قصدِ بابهم ... وفي غيرِ هذا القصدِ يُخْطِي الذي يَخْطُو
وما أَسْعَدَ المَلْكَ الذي نَحْوَ بابه ... مطايا بأبناءِ الرجاءِ غدت تَمْطو
وما روضةٌ غناءُ حُسْناً كأَنَّما ... لوارِفِها من نَسْجِ نُوَّارِها مِرْطُ
إِذا قادني للنرجس النضرِ ناظرٌ ... تلاه عذارٌ للبنفسج مُخْتَطٌّ
وللوردِ خدٌّ للحياءِ مُوَرَّدٌ ... ولِلبانِ قَدٌّ جيدُهُ أبداً يَعْطو
تلوحُ به الأشجارُ صَفَّاً كأَنَّها ... سطورُ كتابٍ والغديرُ لها كَشْط
تُغَنِّي على أَعوادها الوُرْقُ مِثْلَمَا ... يرتِّل للتوراةِ ألحانَها سِبْطُ
كأَنَّ سقيطَ الطلِّ عبرةُ مُغْرَمٍ ... وبارِقَهُ من نارِ لوعته سِقْطُ
ترى لِمُحَيَّا الشمسِ من هامرِ الحيا ... لثامَ حياءٍ دونه ليسَ يَنْحَطُّ
بأزكى وأذكى منك حُسْناً وإِنما ... بحسناكَ لا بالروضِ للعائذِ الغَبْط

لك الصدرُ والباعُ الرحيبان في العلا ... وذاك المحيا الطلْقُ والأنملُ السُّبْطُ
لراجيكمُ ماءُ البشاشةِ والنَّدَى ... جميعاً وحظُّ الحاسد النارُ والنَّفْط
عَنَا لَكَ طوعاً نيلُ مصرٍ ودجلةُ ... العراق ودان العُرْبُ والعُجْمُ والقِبْطُ
وللنيل شطٌّ ينتهي سيبُهُ به ... ونَيْلُكَ للراجينَ نِيلٌ ولا شَطُّ
وعفوكَ وَرْدٌ والجناةُ جُناتُهُ ... وبِيضُكَ شوكٌ في العداةِ لها خَرْط
فِداؤَك ممتدُّ المِطالِ مُحَجَّبٌ ... وحاجِبُهُ للكبرِ والعُجْبِ مُمْتَطُّ
فداؤُكَ قومٌ في النديِّ وفي النَّدَى ... وجوهُهُمُ سُهْمٌ وأَسْهُمُهُمْ مُرْطُ
لتبكِ دماً عين العدو فقد جرى ... على الأَرضِ من أَوْداجهِ دَمُهُ العَبْط
ومنها:
منعتَ حمى الإسلام للنصر معطياً ... غداةَ عوت من دونه الأَذْؤُبُ المُعْطُ
وصُلْتَ وكم فرَّجْتَ عَنَّا مُلِمَّةً ... بسهم الرزايا في الكرامِ لها لَهْطُ
بَعَوْدِكَ عادَ الحقُّ واتَّضَحَ الهدى ... وهبَّ نسيمُ النصر وانفرجَ الضَّغْطُ
وأنتَ أَجَرْتَ الشامَ من شُؤْمِ جاره ... ولم يكفِ رهطُ الكفرِ حتى بغى رهطُ
أَجَرْتَ وقد جارُوا ودِنْتَ وقد عَدَوا ... وصُلْتَ وقد خَارُوا ولِنْت وقد لَطُّوا
فلا يعبإِ المولى بمن مِلْءُ جَأْشِهِ ... هَوىً وبقومٍ حَشْوُ جيشهِمُ زُطُّ
كثيرٌ تَعَدِّيهِمْ قليلٌ غَنَاؤُهُمْ ... وهمْ لا أَصابوا رشدهم هملٌ رَهْطُ
عَدَلْتَ فلا ظلمٌ وطُلْتَ فلا مَدىً ... وقُلْتَ فلا مَيْنٌ وجُدْتَ فلا قَحْطُ
فميِّزْ مكانَ المخلصين فإِنَّما ال ... أَعادي أُنَأسٌ في رءوسهمُ خَلْط
وَقَرِّبْ وَلِيّاً صحَّ فيك ضميرُهُ ... ولا يأمنِ التمساحَ مَنْ دَأْبُهُ السَّرْطُ
نَبَا بِي مقامُ الجاهلينَ فعِفْتُهُ ... وقد نَضْنَضَتْ للنهش حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ
همُ مَنعُوا رِفْدَيْ قبولٍ ونائلٍ ... وذا وَشَلٌ بَرْضٌ وذا أُكُلٌ خَمْطُ
وكم مُطْمعٍ في خيره بِشْرُ وجهه ... ومشتملٍ منه على شَرِّهِ الإِبْط
لأَبدى بلا عذر حظوظَ فضائلي ... نفارُ العَذَارى من عِذارٍ به وَخْط
وجئتكَ أَلقى العزَّ عندك مُلْقياً ... قلائدَ للأسماع من دُرِّهَا لَقْط
أَعِرْني جميلاً واصْطَنِعْنيَ واصْفُ لِي ... جميلَكَ حتى يشمتَ الحاسدُ المِلْط
أعِنِّي فعينُ الفضلٍ عانٍ مُقَيَّدٌ ... بعُقْلةِ حرمانٍ نَدَاك لها نَشْط
وأَوْعِزْ بتشريفي ورسمي فإنَّهُ ... لحمدي جزاءٌ قد تَقَدَّمَهُ الشَّرْط
إِلامَ زماني لا يزال مُسَلِّطاً ... على نابهٍ من أَهْله نَابُهُ السَّلْط
سَعَتْ نحوكم مِنِّي مَطَايَا مطالبٍ ... لأَنْسُعِهَا في النجح عندكم مَغْط
فدُمْ ظافراً أَبا المظفر بالعِدَى ... حليفَ قبولٍ لا يكون لها حَبْط
بقيتَ ولا زالتْ عداكَ مُفِيدَةً ... سعوداً ولا تُحْسِنْ صعوداً ولاهبط
ولو كنتَ جاراً للمعريِّ لم يَقُلْ ... لمن جيرةٌ سيموا النوالَ فلم يُنْطُوا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التذكرة