مطريات
مطر
مقالات
(أدبيات أحمد مطير غير الشعرية)
- الدودة والعلف
- (بلا عنوان)
- مرشح رئاسي
- لوحة سريالية
- الأمن مُستتب!
- كل الطرق تؤدي إلي قبرص!
- القصّة المظلومة
- هتلر
- فروض الواجب
- الشيخ العرياني!
- العصا والِهراوة
- رقابة ذاتية!
- التّهمة!
- لاعزاء للسيّئات!
- الوليمة
- النفط .. مقابل البغاء!
- مفتي الهلال!
- إسلام أَباد!
- قلب كبير
- دوائر
- الأزاليا الحمراء (1/ 3)
- الأزاليا الحمراء (2/ 3)
- الأزاليا الحمراء 3/ 3
- خط بين نقطتين
- سوق الخطف
- في خدمة السّيرك
- أوراق من مفكّرة عاقل!
- شرف سعيد أفندي
- ساعة شيطان (مرافعة خصاونيّة)
- بلاد الأربعة!
- العَمي
- تخليص الإبريز
- الرّجل التّصويري!
- صدقات
- ثلج
- المنبوذ
- المرأة علي السُّلَّم
- الحكيم الأخضر
- أصدقاء رائعون
- الوهم
- الأخ الأكبر .. إلي الأبد!
- جامعة الأصفار
- من أين يبدأ مسعود؟
- أصل وصورة
- منبع الخوف
- عكس السَّير
- قائد الطيّارة الورقيّة
- مداواة الحنين
- الصّادر .. والوارد
- ثقافة الإرهاب
- هدّية للضمير المستتر
- بدايات خالدة
- الإنجليز يتمرغون بتراب الميري
- أفلام أصيلة
- لا تأكل فيلاً!
- كانت لدينا مواسم للمشمش
- تحيا مصر
- لا توجد أدلة!
- الشيخ عبد يؤبن!
- استطلاعات
- أين هي القِربة؟!
- أرزقنا مقاومة غير شريفة!
- الرّجل الموسوعة!
- منهج في الانتحال!
- المسيسبّي!
- المحروم!
- دور المُخيَّلة
- نطاق الشَّفَق
- مشكلة .. في جميع أحواله!
- الهاربان!
- قَها .. قَها!
- ترام بجنيهين!
- مَشارط وأقلام
- ولو في الصّين ... !
- للكتب أرواح!
- رواية تنعي كاتبتها!
- يا خالق الجرادة!
- العهد الزّاهر!
- بالمشمش (1 - 3) (رجل الأمن)
- بالمشمش (2/ 3) (رجل الرّقابة)
- بالمشمش 3/ 3 (رجل السّلطة)
- تمّت الموافقة
- كتب مشاكسة!
- البطة التي ماتت من الضحك
- الموت لنا
- لغة الاضداد!
- البحث عن الذات
- فلم واقعي
- وجه
- يحدث في بلادنا
- قضية دعبول
- ما بعد الزوال
- مكان شاغر على القمة
- نوع العقوبة
- مابين خفقٍ في الفؤاد .. وكلمة فوق اللسان ..
الدّودة والعلف
الطغيان دودة.
أين توجد هذه الدودة؟
آخر المعلومات تفيد أنها توجد فقط في أعماق كل نفس بشرية.
العمر التقريبي لهذه الدودة يحسب بالدقائق، لكنها فور حصولها علي العلف، تتحول إلي بقرة أو فيل أو ربما كرة أرضية!
أين يوجد هذا العلف؟
المعلومات المتوفرة حتي الآن تقول إنه محصور فقط في كل نفس بشرية.
بعبارة موجزة: إنّ دودة الطاغية متجانسة مع دودة الخنوع لدي جماهير الشعب العظيم.
لا ذنب للطاغية سوي دودته، الذنب كل الذنب في منتجي أعلافها، المتطوعين للخنوع، والمبالغين في الخنوع، والمبالغين في المبالغة.
ماذا يمكن للطاغية أن يكون؟ ديناصوراً؟
حتي الديناصورات انقرضت حين لم تجد العلف.
من فرعنك يا فرعون؟
من حق فرعون أن يتساءل أيضاً: ألكم عين لتسألوني مثل هذا السؤال، بعد أن فتقتم دودتي من فرط التخمة؟!
قال الشاعر القديم .. ابن القديمة:
(ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ
فاحكمْ، فأنت الواحد القهار)!
أعطه يا غلام ألف درهم.
ألف درهم يا غبي؟ كل هذه المعلبات الكافية لإطعام مليون دودة .. نظير ألف درهم فقط؟!
احتاج الشاعر الغبي بضعة قرون حتّي يتعلّم بعض قواعد الاقتصاد .. لكنّه لم يستطع برغم ذلك أن يبالغ في مطالبه لأن الدودة قد تحولت إلي دبّابة وصار غاية ما يعطيه (الغلام) هو نعمة البقاء علي قيد الحياة.
(لولاك يا محقان ما طلع القمر
لولاك يا محقان ما هطل المطر
لولاك يا محقان ما نبت الشجر
لولاك يا محقان .. ما خُلقَ البشر).
خلاصة القول ان الهدف المقدّس من خلق والدنا آدم - رحمة اللَّه عليه - هو إطعام دودة محقان!
ولمَ لا؟ هنيئا وعافية.
وأتدهشنا دودة محقان، ولا يُدهشنا أنّ في الشاعر دودة؟! عندما غضب محقان الموقر علي بائع العلف، صاح بصوته الجهوري: يا غلام .. اقطع لسانه.
ما الفائدة؟ أبعدَ استهلاك العلف؟
كان عمّنا (المتنبي) لا يتذكّر (كافور) إلاّ وتفيض خياشيمه برائحة المسك. دخل مصر فلم يرَ فيها شحّاذاً ولا كسيحاً ولا مظلوماً.
معه حق: رائحة المسك تُسكر. هل يستطيع أن يري والمسك واقف في عينيه قال:
(أبوالمسك لايفَني بذنبك عَفوهُ
ولكنه يفني بعذرك حقدُهُ)
وبنظرة سريعة إلي طبيعة هذا العلف، يجوز لنا أن نعتبر دودة كافور أُمّا للمسك!
هل نمسك الخشب؟ ليس ضرورياً، أصابت العين، وانكشف الحسد.
أغلب الظن أن دودة كافور - برغم انتفاخها ما شاء الله- لم تشكر النعمة.
يا غلام ... أعطه أُذنا صمّاء
أهكذا؟ اسمع إذن:
(وتعجبني رِجلاكَ في النَّعلِ، إنّني رأيتُك ذا نعلٍ إذا كُنت حافيا).
تعجّب عمّنا، هذه المرّة. لأن (كافور) يلبس حذاءً .. إذ كيف يجوز هذا ورِجل كافور نفسها حذاء؟!
أمّا نحن فنعتقد أنه نفس الحذاء الذي ركل عمّنا علي قفاه!
ما الفائدة؟ أبعد استهلاك العلف؟
مرّة استوقف قاطع طريق رجلاً وامرأته.
قال للزوج: أذبحكما، أو ترقص لي زوجتك.
قال الزوج: ارقصي وخلّصينا.
رقصت الزوجة ساعة، وعفا عنهما قاطع الطريق.
قال الزوج بعد هذا: لماذا فعلتِ ما فعلتِ؟
أجابته مندهشة: أنت أمرتني بذلك!
قال لها: أردتك أن تخلّصينا، لا أن تنافسي سهير زكي!
كان هناك رجل اسمه طالب عاش في مطلع هذا القرن في بلاد واق الواق. قيل إنه فكر بترشيح نفسه لمنصب الحاكم، وانطلق يزور المناطق باذلاً المال لاستجماع الأنصار. فماذا حصل؟
كادت دودته الناشئة تموت من ثقل الوجبة.
أول طبق مقبّلات قدمته الجماهير العظيمة كان عبارة عن أهزوجة تقول:
(ثلث للَّه وثلثين لطالب وثلث اللَّه يطالب بيه طالب)!
السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان بمقدور الشيطان الرجيم أن يأتي بمثل هذه الأهزوجة؟
والسؤال الذي يجمع نفسه: ماذا لو أنّ طالب نال المنصب، فاستولي علي الثلث الباقي؟ أين يذهب اللَّه؟!
والسؤال الذي يضرب نفسه علي عجيزته: ما ذنب الدودة؟!
قيل إنّ أحد الولاة كان لديه جمل يحبّه جداً، وكان يطلقه في الأسواق، فيعبث ويدمر كما يحلو له، طرداً للكآبة والضجر، حتّي ضاق به الناس ذرعاً، وعقدوا العزم علي شكايته للوالي.
اجتمع التجار وانتخبوا خمسين رجلاً من ذوي الرأي والشجاعة، وأرسلوهم إلي قصر الوالي لعرض الشكوي.
بعد دقائق من مسير الوفد تملّص ثلاثة. وفي منتصف الطريق كان الوفد قد أصبح ثلاثين رجلاً، وعند الوصول كانوا خمسة!
صاح رئيس الوفد: يا حضرة الوالي المعظّم ..
أطلّ الوالي من شرفة القصر: نعم .. ماذا تريد؟
التفت الرجل فلم يجد من جماعته سوي اثنين.
قال: جملكم، يا حضرة الوالي المعظّم ..
تساءل الوالي: جمّولي؟ ماذا جري لجمّولي؟!
التفت الرجل فلم يجد صاحبيه!
حينئذ قال: جمّولي مسكين يا حضرة الوالي. لا نراه إلا حزيناً وساهماً. إنها الوحدة قاتلها اللَّه. جمّولي يحتاج إلي ناقة تؤنس وحشته. أما آن الأوان لأن تزوجوه؟
يا غلام .. أعطه خمسين قُبلة.
أما جماهير أمتنا العظيمة .. فيا غلام أعطها مليار دودة!
(بلا عنوان)
ما ان تحلّ العطلة الصيفية، حتي يبدأ دوامنا، أنا وصديقي ناصر، في المكتبة العامّة بمحلّة الجمهورية.
لم نكن أنهينا الابتدائية، وكان ولعنا هذا بزيارة المكتبة مثار غيظ وسخرية أقراننا، لكنّنا ألفنا أن نتقبّل سخريتهم باعتبارها ثمناً معقولاً لما نستثيره فيهم من غيظ.
كنّا نمكث في المكتبة حتي الظهر، لنغادرها علي طريق طويل مترب إلي بيت ناصر في الموفقّية، أو نواصل حتي بيتنا في الأصمعي، فنتغدّي ونعبث أو نغفو قليلاً، ثم نعود عصراً إلي قطع الطريق ثانية إلي المكتبة.
وفي واحدة من أوباتنا، حيث كانت شمس الظهيرة تنفخ اللّهب في تراب الطريق، لاح لنا علي بُعد عشرات الأمتار بريق ساطع يخطف البصر، سرعان ما تبيّن لنا أنّه انعكاس ضوء الشمس علي زجاجة ساعة يد أنيقة تتوسّد التراب.
في تلك الأيام، كان العثور علي مثل هذه اللّقية بمثابة العثور علي كنز، فأقلّ ثمن لتلك الساعة كان يعادل ثلاثة أضعاف مصروفنا نحن الاثنين طيلة عام كامل!.
صاح ناصر مبهوراً، وهو يهّم بالهرولة نحوها:
- ساعة!.
قلت له وأنا أجذبه بلطف:
- علي مهلك .. لقد رأيتها أنا أيضاً.
التفت إليّ ووجهه محتقن من فرط التأثّر:
- لم أكن أنوي الاستئثار بها ..
قصّرت خطواتي وأجبرته علي مجاراتي في البطء، وهمست في أذنه:
- ليس عندي شك في سلامة نيّتك .. لكنني لا أستطيع الثقة في نيّات الآخرين، خاصة أولئك الغرباء الذين لم نتشرف برؤيتهم من قبل.
لهث ناصر متأثراً، فيما كنّا نقترب حثيثاً من الساعة:
- ما دخل الغرباء في هذا؟
لم ألتفت إليه، لكنني ابتسمت قائلاً:
- يا ناصر .. لم نألف أن تمطر سماؤنا ساعات أنيقة، خاصّة أننا خارج موسم الأمطار: أمّا من يملك ساعة كهذه، في محلّة متربة كهذه، فأنا علي يقين من أنّه سيربطها حول عنقه بالسلاسل ويعضّ عليها بأسنانه، ويسهر طول الليل علي حراستها، وقد يفقد أمّه وأباه ببساطة، لكنّ من المستحيل أن يفقدها.
ولكي أخرجه من دائرة الألغاز، همست له:
- انظر بعفوية إلي جانبي الطريق، وقل لي .. ألا تري أحداً جالساً هناك؟
رفع بصره إلي السماء الحارقة، ثم خفضه ومشّط جانبي الطريق بلا تكلّف .. وهمس:
- هناك أربعة شبّان علي الجانب الأيمن، يجلسون مستندين إلي الحائط.
قلت له بثقة:
- ليس هناك غيرهم علي طول الشارع.
قال ناصر مؤكداً:
- لا أحد غيرهم. كيف عرفت؟!
أجبته مستفهماً بإنكار:
- هل تعتقد أنّهم قد جلسوا يتشمّسون في هذا الوقت درءاً للبرد القارس؟ إنّهم ينتظروننا يا صاحبي. وأنا سوف لن أُخيّب ظنّهم.
تساءل ناصر:
- ماذا ستفعل؟
قلت له ببرود لا يليق بكرامة الشمس المجتهدة:
- ستري .. كلّ ما عليك هو أن تمشي ببطء.
أصبحنا علي بعد خطوتين من الساعة. قلت لناصر محذّراً:
- إيّاك أن تنحني لالتقاطها.
حملق بي متعجّباً، لكنني صعقته بما هو أعجب، إذ رفعت رجلي عالياً بسرعة خاطفة، ثم هويت بقدمي علي الساعة بكل قوّة، فاستحال زجاجها نثاراً، واندفعت النوابض والتروس من جوفها نحو كلّ الجهات.
وبلمح البصر، خيّمت علينا ظلال الشّبان الأربعة.
كانت عيونهم تقدح بالشّرر، وزأر كبيرهم في وجهي:
- ابن الكلب .. ماذا فعلت بساعتي؟!
قلت له متحامياً ببراءة مصطنعة:
- من كان يدريني أنها ساعتك؟ إنّها ملقاة هنا علي التراب .. لا بد أنها قد وقعت من أحد.
زمجر وهو يرفعها عالياً كمن يرفع جثّة قتيل:
- إنّها ساعتي أنا .. انظر .. إنها مربوطة بخيطي أنا .. كان طرف الخيط المتكوّم في يده مربوطاً بالساعة فعلا .. صرخت به أنا هذه المرّة:
- إذن فقد ربطتها لتجذبها عندما ننحني لالتقاطها؟ أليس كذلك؟ تريد أن تضحك ... ها؟ اضحك الآن حتَي تشبع.
ولأنّه فقد شهيته للضحك، فقد بادر هو والثلاثة الآخرون إلي محاولة استيفاء ثمن الساعة من جسدينا الضئيلين، لكنّنا بعد استيفاء القسط الأوّل، استطعنا أن نتملّص ونطلق سيقاننا للرّيح.
لم يكفّوا عن مطاردتنا إلاّ بعد اقترابنا من بيوت الموفّقية، وعندئذ أبطأنا من سرعتنا، ورحنا، في أثناء لهاثنا، نتحسّس كدماتنا الحارقة .. لكننا سرعان ما طفقنا نضحك.
قلت لناصر:
- لقد خسرنا المعركة .. لكننا كسبنا الحرب.
سألني وهو ما يزال يضحك:
- كيف عرفت أنّه كمين؟!
قلت بلا تردّد:
- لأنني خبير في مثل هذه المعارك .. لقد سبق لي منذ شهور أن ربطت ربع دينار بخيط، ورابطت عند الحائط منتظراً الفريسة.
لم تكن فريسة واحدة. لقد كان هناك ثلاثة شبّان يمشون بكلّ وقار، لكنهم ما ان رأوا الورقة النقدية حتي زال وقارهم كلّه، وانحنوا في وقت واحد، وسقطوا علي الأرض معاً .. إذ أنني وللّه الحمد كنت سريعاً جداً في جذب الخيط.
سألني بذهول:
- ونجوت؟!.
قلت له:
- لا .. طبعاً، لكنّ ربع الدينار نجا. لقد طبّقوا علي جسدي كلّ فنون الضرب، لكنهم لم يستطيعوا مطلقاً أن يفتحوا قبضتي المصرورة علي الورقة.
وأضفت متنّهداً:
- كما تري، فإنني في تلك المرّة أيضاً خسرت المعركة وكسبت الحرب.
قال ناصر وهو يموّج ضحكته:
- نصيحة لوجه اللّه .. حاول أن تخسر بعض الحروب من وقت لآخر، وإلاّ فإنّ انتصاراتك فيها دائماً سوف لن تبقي في جسدك عظماً واحداً يصلح للاستعمال.
مرشّح رئاسي
منذ مائة وخمسة وعشرين عاماً بالضبط، أي في عام،1879 ارتأي الكاتب الأمريكي الساخر (مارك توين) أن يُرشحّ نفسه لمنصب الرئاسة في بلاده. ولم يكن، بالطبع، جادّاً في هذا الأمر، لكنّه أراد الإشارة إلي أنّ الفساد هو جوهر جميع المرشحين لهذا المنصب، وأنّ سرَّ التفاوت بينهم يكمن في كون بعضهم يستخدم مساحيق التجميل بمهارة كافية لطمس ماضيه الأسود!
وعليه فإن النقطة الأساسية التي ارتكز عليها (توين) في خطاب ترشيحه، هي أنه أكثر المرشحين جدارة بالثقة، لأنه أوّل وآخر مرشّح يعلن عن مفاسده منذ البداية!
وفي ما يلي خطاب الترشيح المنشور في كتاب قصصه ومقالاته ضمن سلسلة الكلاسيكيات التي تصدرها دار (بنغوين) :
لقد عقدت النيّة تماماً علي أن أخوض انتخابات الرئّاسة. إنّ ما تحتاجه البلاد هو مرشّح لا يمكن أن تلحق بسمعته لطخة إذا تمّ استقصاء تاريخه الماضي، وذلك لكي لا يتاح لأعداء حزبه أن يستخدموا ضدّه أيّة واقعة لم يكن أحد قد سمع بها من قبل.
إذا كنت تعرف منذ البداية أسوأ الأشياء عن المرشّح، فإنّ أية محاولة لتشويه سمعته سوف تكون فاشلة. إنني، الآن، أدخل الساحة بملف مفتوح. سأعترف مقدماً بكل الأشياء الشريرة التي اقترفتها. وعليه فإذا فكّرتْ أية لجنة في الكونغرس لها موقف عدائي مني، أن تنقّب في سيرتي بأمل العثور علي صنيع أسود ومميت أخفيته، فلتفعل.
في المقام الأوّل أعترف بأنني، في شتاء عام 1850م ألجأت جَدّي المصاب بالروماتيزم إلي تسلّق شجرة. لقد كان عجوزاً وغير حاذق في صعود الأشجار، لكنّني بشخصيتي الوحشية المميّزة جعلته يعدو مسرعاً، بثياب النوم، خارج الباب الأمامي، متحامياً من الخردق الذي كنت أطلقه عليه من بندقيتي، مما ساعده علي أن ينطلق بخفّة ورشاقة إلي قمّة شجرة القَيْقَب، حيث أمضي الليلة كلّها هناك، فيما كنت أسدّد الطلقات نحو ساقيه.
لقد فعلت ذلك لأنه يشخر، وسأعيد الكَرّة لو كان لي جَدّ آخر، فأنا لا أزال أتّصف بالوحشية نفسها التي كانت لي في عام 1850.
اعترف صراحة بأنني هربت من معركة غيتيسبرغ. لقد حاول أصدقائي أن يلطفّوا هذه الحقيقة بتأكيدهم علي أنني فعلت ذلك بهدف محاكاة واشنطن الذي توغّل في الغابة خلال معركة فالي فورغ، من أجل تأدية صلواته. لكنّ هذه كانت حيلة بائسة منهم، لأن السبب في انطلاقي خارج مدار السرطان هو أنني كنت خائفاً. إنني أحب إنقاذ بلادي، لكنني أفضّل أن يتم إنقاذها علي يد شخص آخر. ولا أزال أفضل هذا الخيار حتي الآن.
إذا كان إحراز المرء لفقاعة السمعة الطيبة لا يتم إلا بمواجهة فوهة المدفع، فأنا مستعد للذهاب إلي هناك، علي شرط أن تكون فوهة المدفع فارغة.
أما إذا كانت محشوة بالذخيرة فإن هدفي الخالد الذي لا يمكن تغييره هو أن أقفز فوق السياج وأمضي إلي البيت. أفكاري المالية واضحة الملامح إلي أبعد حدّ، لكنها ليست واعدة، ربما، بزيادة شعبيتي بين المدافعين عن التضخم.
أنا لا أصّر علي التميز الخاص للنقود الورقية أو النقود المعدنية، فالمبدأ الأساسي العظيم في حياتي هو أن أستولي علي أيّ نوع استطيع أن أصل إليه.
الإشاعة التي تقول انني دفنت عمتي الميتة تحت عريشة العنب .. صحيحة.
العريشة كانت تحتاج إلي سماد، وعمّتي كان لابُدّ لها أن تُدفن، وعلي هذا فقد كرّستها لذلك الهدف السّامي. هل في هذا ما يجعلني غير لائق للرئاسة؟ إن دستور بلادنا لا يقول ذلك، وليس هناك مواطن، علي الإطلاق، قد اعتُبر غير مستحق لهذا المنصب بسبب كونه غذّي عريشة عنبه بجثث أقربائه الميّتين. فلماذا ينبغي انتقائي كأوّل ضحية لهذا الحكم المجحف والسّخيف؟! أعترف أيضاً بأنني لست صديقا للفقير. فأنا أنظر إلي الفقير، في حالته الرّاهنة، باعتباره كميّة كبيرة من المادة الخام المُضيّعة. وبتقطيعه وتعليبه كما ينبغي قد تكون له فائدة في تسمين سكّان جُزر الكانابال، وكذلك في تطوير سوق صادراتنا مع تلك المنطقة. إنني سوف أتقدم بمشروع قانون حول هذا الموضوع في أوّل رسالة لي. شعار حملتي سيكون: (احفظوا العامل الفقير، جفّفوه وحولوه إلي سجق هذه تقريباً هي أسوأ الأشياء في ملفي، وبها أتقدم لمواجهة بلادي.
وإذا كانت بلادي لا تريدني، فإنني سأرجع علي أعقابي. لكنني أعتبر نفسي الرّجل الجدير بالثقة - الرجل الذي يبدأ من الأساس الشامل للفساد، ويعتزم أن يبقي شريراً حتي النهاية!
وهكذا .. يمكننا أن نري أن (توين) برغم مبالغته في السخرية، قد عرض لنا صورة فاضلة عن زمانه. إذ لو أنه عاش حتي يومنا هذا، ورأي رؤساء من نوعية كلنتون وبوش الابن، فأي شيطان كان سينجد خياله في السخرية؟
ماذا سيكون إقلاق راحة الجَدّ المريض .. أمام إقلاق راحة الكرة الأرضية كلّها؟
وماذا سيكون دفن العمّة الميتة .. أمام دفن شعوب كاملة وهي علي قيد الحياة؟
وهل كان سيتحدث عن فساده الشخصي لو سمع بقصة مونيكا والرئيس الذي يفعل ما يفعل فقط لأنه يستطيع أن يفعل؟
وهل كان سيذكر شيئا عن فساده المالي، حين يري عصابة تخطف الولايات المتحدة وتستخدم جيشها لتدمير كل مكان، فقط لكي تملأ أرصدتها؟!
لوحة سريالية
يحدّثنا الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز في مذكراته (عشت لأروي) عن أنّه حضر، في شبابه، عرضاً غريباً بطله جندب كان يقوم بأداء حركات راقصة وفق إشارات من مدرّبه، وكان في نهاية العرض ينحني كأيّ نجم استعراض لتحية الجمهور وسط عواصف التصفيق.
وينتهي ماركيز إلي أنّ فنّاناً تشكيلياً كبيراً من بين حضور هذا العرض، مدّ يده والتقط (الجندب) من جناحيه، ثمّ دسّه في فمه .. وأكَلَه!
إنّ الحياة المهنية البارعة والنهاية المأساوية لذلك (النجم) تتجاوزان كثيراً تخوم الواقعية السحرية لتدخلا في نطاق الرسوم المتحركة، علي الرغم من أنّ الراوي يسجّل وقائع حياته التي عاشها فعلاً علي الأرض، بعيداً عن الفنتازيا الروائية التي اعتاد أن يسطرّها علي الورق.
ولكي نصدّق أنّه لا يبالغ لا بدّ لنا أن نتذكّر أنّ ماركيز قد صرّح مرّة بأنّ ما يراه الناس غرائبياً في كتاباته هو أقلّ بكثير من غرابة ما يجري واقعياً في أمريكا اللاتينية.
ومثله كانت إيزابيل أللّيندي تقول إنّ من يعيش وسط أسرة كأسرتها لا يحتاج مطلقاً إلي استخدام الخيال لكي يكتب.
أعتقد أنّه وجب علينا، الآن، أن نصدّقهما دون أن نطالبهما بشهود إثبات، لأنّ ما نراه بأمّ أعيننا من وقائع تجري أمامنا يومياً في جميع أنحاء العالم، يبدو أكثر غرابة ممّا يرويانه، بل هو - ربمّا بفضل العولمة - يمتاز بكونه خليطاً عجيبا من الواقعية السحرية والسريالية والتجريدية وأفلام الكارتون.
ونستند في ذلك، أوّل ما نستند، إلي قاعدة (القاعدة) التي تفخّخ كلّ شيء، منذ زمن طويل، لقتل الناس بلا تمييز: من توراعورا إلي الفلّوجة والعوجة إلي نيويورك إلي مدريد إلي بالي إلي الرياض إلي الدار البيضاء إلي ما شاء الرعب من بقاع الأرض .. لكنّها ما أن تصل إلي بوابة فلسطين .. حتّي تدوس كوابحها بكلّ قوّة، فتزعق عجلات قطارها بشرر التوقّف العنيف، شاكرة ربّها علي عدم تلوّث ثوبها الطاهر بدم الصهاينة الأرجاس!.
القاعدة لدي القاعدة هي الجهاد في كلّ مكان ما عدا المكان الوحيد الذي يجب أن يجاهد فيه الإنسان من أجل قضيّة واضحة وعادلة وصارخة بأن أهلها هم أكثر حاجة من غيرهم .. لغيرة أهلهم!
ومن صور هذا الخليط العجيب الذي تندهش منه الدهشة ويضحك منه البكاء، ما نشرته جريدة (السبيل)الأردنية من أن مجموعة إسلامية مجهولة قد أرسلت إليها بياناً تدّعي فيه مسؤوليتها عن اغتيال اثنين من الغربيين في عمّان، مرفقة بيانها ب (فوارغ الرّصاصات) المستخدمة في عملية الاغتيال كدليل علي براءة المحكومين بالإعدام في هذه القضيّة.
وعندما اتّصلت الجريدة بمحامي المحكومين أفادها بأنّه، هو الآخر، قد تلقّي نسخة من ذلك البيان، ومعه أيضاً نسخة من (فوارغ الرّصاصات) !.
ومن وراء المحيط، يفاجئنا المدير الجديد لتلفزيون BBC البريطاني (مارك تومسون) بأنّه قَبِلَ وظيفته منصاعاً لصوت ضميره، وذلك مثلما فعلت سونيا غاندي في الهند!.
والمفارقة هي أنّ هذا الإعلامي لا يعلم سعة التناقض بين صوت ضميره وصوت ضمير سونيا، فهو (قَبِلَ)وظيفة ستظلّ صغيرة مهما كبرت، بينما هي (رفضت) أكبر وظيفة في بلد كبير جداً بمساحته وبعدد سكّانه وبقدم ديمقراطيته!.
ومع ذلك، فإنّ حكاية سونيا غاندي لا تبتعد هي أيضاً عن غرائبية الخلطة العجيبة، فعلي الرغم ممّا تبعثه تلك الحكاية من مشاعر التقدير والإعجاب، فإنّها تنطوي في الوقت نفسه علي مفارقة كارتونية باعثة علي الضحك:
امرأة من أصل إيطالي تفوز برئاسة وزراء أكبر دولة آسيوية، وتتخلّي عن منصبها لرجل سيخي يضطره البروتوكول لتلاوة قَسَم تنصيبه أمام رئيس مسلم، في بلد غالبية سكّانه من الهندوس!.
من حُسن حظ (هانّا) و (باربيرا) أنّهما ماتا قبل عدّة أعوام، وإلاّ فإنّ قصّة معاهدة الصلح بين (توم وجيري وسبايك) التي قدمّاها في فيلم كارتوني، كانت ستبدو لهما حفلاً جنائزياً أمام كوميديا هذه الحكاية الجارية فعلاً في واقع البشر.
ومن حُسن حظ (سلفادور دالي) أنّه لم يعش حتي وقتنا الراهن، وإلاّ لمات غمّاً وهو يري سرياليته تسيح باهتةً مع (ساعاته الذائبة) في اللوحات .. خاصّةً عندما يري أنّ ساعاتنا، نحن العرب، تسيح علي عماها، دون عقارب أو أرقام!.
ومن سوء حظ ماركيز أنّه عاش ليري أنّ واقعيته السحرية لم تعد تثير الاستغراب إلاّ لكونها أقلّ غرابة من غرائبية هذا العالم السعيد!.
الأمن مُستتب!
أمل الغد
الزقاق مكتظ بالمخبرين .. والبيت ممتليء بالمخبرين .. فكّر في كيفية الخروج .. قرّر أن يصعد إلي السطح، وأن يقفز إلي سطح الجيران .. صعد، فطّوقه جيرانه المخبرون .. رمي بنفسه إلي الزقاق .. سقط فوق مجموعة من المخبرين.
تناقل المخبرون في المدينة خبر الفاجعة التي أودت بحياة خمسة مخبرين كانوا يؤدون واجبهم، إضافة إلي المخبر الخائن المنتحر.
إقتادت قوّة من المخبرين ثلاثة مخبرين من أهل المخبر المنتحر .. كان تقريره قد أكدّ خيانتهم، فيما بقي أفراد قوّة المخبرين القابضة، ينتظرون بأمل فرصة القبض عليهم بناء علي تقارير المخبرين الآخرين.
وكما ينتهي أغلب الأفلام بميلاد طفل كرمز للأمل في البقاء والتواصل .. يسرّنا، هنا، أن نؤكد للجماهير المتطلعة إلي غد مشرق سعيد، أن مخبرة من أهل الزقاق، وهي لحسن الحظّ حامل في شهرها الأخير، شعرت بآلام المخاض، ولم تلبث أن انطلقت من بين فخذيها صرخة تقرير مؤنث.
صاح المخبر الفرحان بمولودته الأولي: نسمّيها وشاية!.
فساد
قُمعتْ الانتفاضة الشعبية بكل أنواع الأسلحة .. وكان من نصيبنا أن سقط في بيتنا صاروخ .. وكان من سوء حظنا أنّه لم ينفجر.
صبرنا عليه حتّي المساء .. ولم ينفجر.
صلّينا ودعونا أن يفجّره الله تفجيراً .. لكنه لم ينفجر.
انفجرت أمّي بالبكاء.
قال أبي بحرقة: إذا لم ينفجر هذا الصاروخ الملعون ويقتلنا، فسيُقبض علينا ونُعدم بتهمة حيازة ممتلكات عائدة للدولة.
قلت لأبي مواسياً: سنقول لهم إنّنا كنّا مستعدين تماماً، لكنّ الصاروخ هو الذي رفض أن ينفجر.
قال أبي: سيتهّموننا بإعاقة عمل صاروخ أثناء تأدية واجبه الرسمي.
داهم بيتنا خبراء المتفجرات، وحملوا الصاروخ وهم في غاية الشعور بالخيبة والامتعاض.
قال لنا الضابط الكبير: لا تخرجوا .. امكثوا في البيت .. سنرسل، في الوقت المناسب، طائرة لقصفكم.
تنفسّنا الصُّعَداء، بعدما زالت عن صدورنا التهمة.
وفيما كنّا ننتظر الطائرة الموعودة، سمعنا في الإذاعة خطاباً تاريخياً للرئيس، تكلّم فيه بغضب وضراوة عن صفقة الصواريخ الفاسدة!.
كل الطرق تؤدي إلي قبرص!
لا يهمني أن تظل قضية قبرص بلا حل الي أبد الآبدين، لكنني، مع ذلك، مضطر الي متابعة تطوراتها بسبب اضطراري الي حلاقة شعري كل شهر ذلك لأن حلاقي قبرصي يوناني، وهو ينتظرني بفارغ الصبر ليناقش معي، حال جلوسي علي الكرسي، آخر مستجدات تلك القضية، ولابد لي من مجاراته، لكي أستطيع من خلال تعاطفي ان ألفت نظره، بين الحين والآخر، الي الاهتمام بالقضية ذات الأولوية التي جئت من أجلها: حلاقة شعري!
كان ولدي بصحبتي حين توجهت الي الحلاق في المرة الأخيرة، ووجدتني أشكو اليه بثّي كأنني مقبل علي كارثة:
- لا أدري ماذا أصنع؟ إن اسابيع مرضي الطويلة شغلتني عن متابعة أهم ما يتعلق بقضية بلادي، فما بالك بقضية قبرص؟
تساءل ولدي بدهشة:
- وما شأنك بقبرص؟!
قلت له:
إنه شأني يا ولدي .. وستري ان صديقي جورج سيبدأ المعزوفة حتي قبل أن أجلس علي الكرسي. إن شعري مبرمج علي ذلك، إذ لا يمكن لجورج ان يقص لي شعري دون ان يقص علي قضيته. بادرني ولدي بطوق نجاة:
- اسبقه أنت هذه المرة. اخترع فاجعة من أي نوع واشغله بها حتي النهاية.
وجدتها فكرة جيدة، فبدأت أبرم خيوط مأساة قابلة للاستطالة، حتي اذا دخلنا الصالون ووجدناه خالياً من الزبائن، ساورني القلق، فهمست لولدي:
- لن يكون متعجلاً. لديه وقت كاف لأخذ حصة وافرة من الكلام.
حييت جورج، وانطلقت رأساً نحو المغسلة، فتبعني وهو يسألني عن الأحوال، وتلك هي عادته قبل ان يبدأ العزف .. فاغتنمت الفرصة حالاً واطلقت زفرة حارقة:
- أوه يا جورج .. لا تسأل. إنها كارثة. كارثة بكل المعاني. لم يبق لي من كل اسرتي سوي أمي، وهي عجوز متهالكة لا أظنها ستعيش بعد هذه الصدمة. تباطأ جورج وهو يصب الشامبو في كفه استعداداً لفرك شعري، وتساءل بهلع واضح:
- ماذا حدث؟!
قلت له وأنا اخفي ابتسامتي في قعر المغلسة:
- لا أدري من أين أبدأ .. لقد وقع انفجار في البصرة فأودي بحياة جميع أهلنا في العمارة.
صفر جورج متأثراً وأبدي جميع ألوان الحزن والأسي وكفت يداه عن فرك شعري، لكنني في اللحظة نفسها، كنت مشفقاً علي ولدي الذي أعلم انه كان يحاول جاهداً ان يكتم ضحكته. فالمسافة بين البصرة والعمارة تستغرق ساعتين بالسيارة، اذا انطلقت بأقصي سرعتها. قلت بحسرة:
- شكراً لله علي أن أمي لم تكن في العمارة عند وقوع الانفجار. لا أحد يعلم علي وجه اليقين من هم الأوغاد الذين وراءه.
فرك جورج شعري بعصبية، ومضي الي التضامن معي الي أقصي حد، اذ بادر متطوعاً بأريحية الي كشف الغموض عن هذه القضية.
- إنهم الأتراك .. صدقني. هذا ما يفعلونه دائماً. انهم يغتنمون أية فرصة لكي يقوموا بالتخريب، ولا تنس ان الأبواب مشرعة امامهم بسبب علاقتهم القوية بأمريكا واسرائيل. سلني عنهم.
ثم لف شعري المبلل بالمنشفة وقادني الي الكرسي قائلاً:
- من باعتقادك وراء الانفجارات الأخيرة في أثينا؟ انهم هم .. لقد ساءهم ان يصوت القبارصة اليونانيون ضد انضمامهم الي الاتحاد الأوروبي. هم يحسبوننا أغبياء لنقول نعم .. كلا، عليهم ان يدفعوا الثمن أولاً برفع أيديهم عنا. نحن القبارصة اليونانيين والأتراك لا شأن لنا بتركيا .. ليرفعوا أيديهم عنا.
ومضي يطقطق بالمقص ليصنع توازناً بينه وبين طقطقة فكيه.
ولمحت في المرآه وجه ولدي، ورأيته يرفع يديه وحاجبيه معاً، اشارة الي ان لا فائدة علي الاطلاق من طوق النجاة، الأمر الذي حفزني علي مقاومة الغرق بكل ما أوتيت من قوة، فخبطت الموج بيد العاريتين، محولاً الموضوع نحو جهة بعيدة جداً:
اسمع يا صديقي جورج .. لدينا نكتة تروي عن صاحب الجمل. إنه تلميذ مهووس بالجمل، فمهما كان موضوع درس الانشاء فانه لابد ان يتحول بين يديه الي حديث عن الجمل .. وقد وجد المدرس ان الحل الوحيد لهذه المعضلة هو ان يوجه التلاميذ لكتابة موضوع عن الكمبيوتر، فبدأ صاحبنا موضوعه قائلاً: إن الكمبيوتر جهاز الكتروني حديث قد انتشر في جميع مدن العالم، لكنه لم يصل الي الصحراء، فأهل الصحراء لا يتمتعون بخدمة الكهرباء، وهم يعيشون متنقلين طلباً للعشب، ووسيلة نقلهم هو الجمل، والجمل حيوان يستطيع ان يختزن في جوفه الماء والطعام لفترة طويلة .. وهكذا.
ولم يبق أمام المدرسة، بعد هذا، إلا ان تطرد هذا التلميذ، فكتب شكوي الي وزير التربية قال فيها: إنني علي الرغم من ظلم المدرس لي، فقد تحملت هذا الظلم طويلاً، وصبرت عليه صبر الجمل. والجمل كما تعرف سعادتك هو حيوان يعيش في الصحراء، ويتصف بالصبر والقدرة علي اختزان الماء في جوفه لفترة طويلة.
انفجر جورج ضاحكاً، ونسي كل ما كان من كارثتي التي تُبكي الحجر، فحمدت الله علي نجاتي، وغمزت لابني في المرآة، فوجدته يبتسم فرحاً لقدرتي علي الانتصار أخيراً. وطقطق جورج بالمقص فالتهم خصلة من شعري، لكنه لم يلبث أن توقف، وقال وهو لا يزال يضحك.
- أتعرف؟ لقد أصبت الهدف تماماً. إن صاحب الجمل هذا مثل تركيا بالضبط. كلما حاولنا ان ننجو بأنفسنا باعتبارنا دولة اسمها قبرص، عضت علينا بأسنانها باعتبار ان نصف القبارصة أتراك.
ومضي في معزوفته حتي نهايتها المعهودة، وهو لا يكف عن الضحك بين الفينة والأخري، من صاحب الجمل، دون ان يخطر في باله انه هو نفسه صاحب الجمل.
قلت لولدي بعد مغادرتنا الصالون:
- لم يعد في القوس منزع .. إما ان تحل قضية قبرص، واما ان أبدل هذا الحلاق. والمشكلة هي انني لا أستطيع تبديله .. فهو حلاق جيد.
قال ولدي، وقد تأكد من ان جورج محصن ضد أية خطة حربية مهما كانت بارعة:
- ليس أمامك، اذن، إلا ان تحل قضية قبرص.
القصّة المظلومة
العمل الأوّل لدي أيّ مبدع هو المعبّر الأمثل عنه، وهو الأقرب إلي قلبه مهما مسح تعاقب الأيّام الغبار المتراكم علي صورته الطفولية، فبدا ضئيلاً غضّاً أو غِرّاً ساذجاً أو ضعيف البنية مثرّم الأسنان.
إنّه الابن الأوّل، وحسبه لموقعه هذا أن يستأثر بالقسط الأوفر من المحبّة والحنان، ولو تكاثر أشقاؤه اللاّحقون وفاقوه وسامة وعافية.
والعمل الأوّل للقاص الرّاحل محمود طاهر لاشين - أحد أبرز روّاد القصّة المصرية والعربية - هو واحد من هؤلاء الأبناء الأوائل المحفوفين من آبائهم بالمحبة الفائقة، لكن حسن حظّه هذا قد أورده أسوأ المهالك، لا لشيء إلاّ لأنّ أباه كان رائداً في مجاله، الأمر الذي اقتضاه جهداً كبيراً في التأسيس والتجريب والإعادة والتعديل، لكي يضمن لقصصه (أبنائه) بلوغ الغاية المثلي من العافية والوسامة والنضج، والوصول بها إلي الكمال الفني المطلوب شكلاً وموضوعاً.
وإذا علمنا أنّ قصّة لاشين كانت لا تستقر علي الورق إلاّ بعد مخاضات كثيرة، تبدأ من اشتغاله عليها ذهنياً، ثم روايتها للعديد من أصدقائه الأدباء، ثمّ المضي بها تقليباً وتعديلاً وتشذيباً حتي مستودعها الأخير، فإننا سنعلم مقدار ما كابده من جهد في كتابة قصّته الأولي (صَح) حيث لم يكن أمامه أيّ نموذج عربي لقصّة حديثة مكتملة الشروط كأختها الأوروبية التي سبقتها إلي التأسيس والاكتمال بعقود طويلة.
إنّ قصة (صَح) التي كتبها لاشين قبل ثمانين عاماً، تُعدّ نموذجاً رائعاً للقصّة الحديثة، حتي بمقاييس أيّامنا، حيث استنفدت الأجيال اللاّحقة كلّ جهدها في التجريب، وبلغت بالقصّة أقصي ما تستطيع من آفاق التطوّر.
يحكي لاشين في (صَح) قصّة مدرّس حساب رفيع الخلق، يموت شقيقه فيضطر إلي الاقتران بأرملته، ليكفل لها الكرامة والستر، وليكفل لولدها ما يستحق من الرعاية. ويبلغ الولد مبلغ الشباب ويدخل في سلك الموظفين بعد إتمامه الدّراسة، لكنّه يبقي مقيماً مع عمّه الذي أحاطه وأمّه دوماً بالرعاية الحقّة.
وحين تموت الزوّجة، يخلو البيت ممّن يقوم علي شؤونهما، فيستأذن العم ابن أخيه، قبل أن يتزوج بامرأة ثانية، فلا يتردّد الشاب في الموافقة.
وهنا تبدأ عقدة القصّة، حيث تكون الزوجة الجديدة شابة، فيخفق قلبها بحبّ الفتي، ويخفق قلب الفتي بحبّها، لكنّهما يكبحان جماح نفسيهما، لأنهّما برغم قوّة المشاعر الفطرية، يحبّان الرّجل حبّاً جمّاً، ويعترفان بنبله وفضله، ويحترمانه إلي أبعد حد.
ولكي يقمع أية زلة محتملة، يقرر الفتي في النهاية أن يغادر المنزل، وحين يصارح عمّه برغبته في السفر إلي بلد آخر لتغيير الجوّ، لا يقتنع الأخير بتلك الأسباب، ويحاول، فيما هو منهمك بتصحيح الدفاتر، أن يثنيه عن عزمه، طالباً منه أن يتريّث ويفكّر في الموضوع.
وينقلب الفتي إلي حجرته، فتهمس له الزوجة من وراء الباب شبه باكية، متوسّلة إليه ألاّ يسافر، فيُدخلها بسرعة، ليصارحها بأنّه متعلّق بها، وهو يعلم أنّها متعلقة به أيضاً، لكنّه مستعد لمكابدة الأهوال، علي أن يسيء إلي عمّه صاحب الفضل عليه. فتعترف له بأنّها تحترم زوجها كثيراً، ولا يمكن أن تُقدم علي اقتراف أيّ فعل يُسيء إليه .. لكنّ أمر المحبّة ليس في يدها.
وفي تلك اللحظة، يقرع باب الحجرة، ويلوح العم وراء الباب.
كان العم قد سمع كلّ شيء، لكنّه يحاول جاهداً أن يُعقل عواصف نفسه. وبعد إطراقة صمت طويلة محتدمة بالمشاعر المتضاربة، يقول لهما إنّ الذنب ليس ذنبهما، وعليهما أن يأويا إلي فراشيهما، وفي الصباح سيكون لكلّ حادث حديث.
ويعود إلي تصحيح دفاتر الامتحانات، حانقاً حائراً مثقلاً بالأفكار السوداء، لكنّ صدمته ما تلبث، علي مرّ السّاعات، أن تفتر، وما يلبث الصفاء أن يعاود نفسه، فيقرّر بعد تأمّل طويل أنّ ما حدث ليس غريباً، ويقول في سرّه: (الشابّة للشاب .. وهذا هو قانون الفطرة) .
ويتناول أوّل دفتر أمامه، فيفتحه، ويكتب تحت الإجابة بضربة حادّة: (صَح) .
هكذا تنتهي القصّة كما نشرت في مجلة (الفنون) عام 1924.
لكن يبدو أنّ طاهر لاشين المولع بالتغيير والتعديل، قد أعاد التفكير بجدّية في القصّة، ورأي، بعد عام من نشرها، أنّه قد تعسّف في إجراء مثل تلك النهاية وتمعن في شخصيات القصة فوجدها جميعاً شخصيّات بريئة لم تقترف إحداها جرماً يقتضي أن يُنصّب نفسه قاضياً قاسياً مبرم الأحكام، ليصدر الحكم سريعاً وباتراً لصالح إحداها علي الأخري.
قاريء لاشين يعرف أنّه يحبّ جميع شخصيات قصصه، حتي الخاطئة والمجرمة منها، ويعاملها بحيادية نابعة من عطفه علي ضعف الإنسان. فكيف يمكن لكاتب كهذا أن يقترف جريرة إبداء حكم قاطع في قضيّة جميع أطرافها أبرياء يواجهون قدراً لا حيلة لهم أمامه؟
يبدو أنّ مخاض تأنيب الضمير، قد أفلح بعد عام من نشر القصّة في دفع لاشين إلي نقض الحكم، فإذا بالقصّة نفسها تظهر منشورة مرّة أخري في مجلّة (الفجر) عام،1925 لكن بزيادة سطرين علي أوّلها، وبحذف نهايتها تماماً .. ليكون عنوانها (قصّة بلا نهاية) !.
القصّة بصورتها الجديدة، تكشف عن حدّة موهبة لاشين، وعظيم مهارته في التجريب، وشدّة براعته في توجيه الصياغة والموضوع وجهة أخري، برغم عدم اختلاف النصّ الثاني عن الأوّل إلاّ بلمسات طفيفة.
ففي القصّة التي لم تنته يكون الرّاوي قد اشتري طعاماً في قرطاس، وبعدما استكمل التهامه، فرَدَ القرطاس فإذا هو ورقة من مجلة قديمة طبعت عليها القصّة ذاتها، فقرأها كما هي، لكن عندما يصل إلي مشهد مواجهة العمّ للشّابين تكون السطور في الورقة قد انتهت .. وربّما كانت تكملتها موجودة في ورقة أخري من المجلة نفسها، وقد تحوّلت بدورها لدي البائع إلي قرطاس آخر بيعَ فيه الطعام إلي زبون آخر.
أيُّ براعة!
لقد تخلّص من النهاية تماماً بهذه الحيلة الفنية الجميلة، ونأي بنفسه عن التدّخل في أقدار شخصياته.
لكنّ المشكلة أنّ هذه البراعة المذهلة لا يظهر سحرها إلاّ بقراءة النصّين معاً ..
ولأنّ النصّ الأوّل ينبغي أن يختفي بعد أن جري تعديله، ولأنَّ النّصَ الثاني هو وثيقة التعديل التي لا تملك وحدها الإفصاح عن البراعة الفنّية التي أبداها الكاتب عند التعديل، فقد كتب علي النّصين معاً أن يبقيا إلي اليوم مبعدين عن مجموعات لاشين القصصية الثلاث، ومركونين في ذمّة أرشيف الأعمال غير المنشورة في كتب.
ولم يكن ممكناً للقاريء أن يقع علي هذا اللون من البراعة الفنية، ويستذوق جماله وسحره، لولا همّة الناقد المرموق الدكتور صبري حافظ، الذي بذل جهداً ملحوظاً ومشكوراً في جمع أعمال لاشين كاملة، ضمن سلسلة (روّاد الفن القصصي) وأضاف إلي فضله هذا، فضل تزيينها بثاقب فكره تعريفاً ونقداً.
هتلر
كان قد مضي عام علي تعيين أخي الأكبر مدرساً في العاصمة، عندما عقدت النيّة علي زيارته، مؤملاً أن أجده متوائما مع وظيفته ومحلّ إقامته، خاصّة أنّه قد وصف لنا في إحدي رسائله المدينة النموذجية التي يقطنها، فأبلغنا برغم حياديّة الوصف أنّها جنّة علي الأرض.
كان منزل أخي فيلّلا واسعة، تفعم رائحة الورد طابقها الأوّل القائم بين حديقتين جميلتين، وتلامس أهداب الأشجار سماء طابقها الثاني، حيث تقرّ المدينة الصغيرة كلّها في كفّ غابة رائعة تحبس ضجّة المساء المحيطة بها، وتفتح في إشراقة الصّباح مغاليق القلوب.
جلسنا في عصر اليوم الأوّل لوصولي في الحديقة الأمامية، حول طاولة بيضاء مغروسة في العشب البليل، ورحنا نتحّدث ونحن نحتسي القهوة.
قلت له وأنا أعبّ نفساً عميقاً من الهواء المعطّر:
- إنّها الجنّة.
ارتسمت علي شفتيه ابتسامة جيوكندية، وعلّق دون أن ينظر إليّ:
- تستطيع أن تأخذها منّي مقابل قطعة صغيرة من جهنم، شريطة أن تكون خالية من الضّجر.
وبرغم انني أعرف جيداً طبع السخرية في أخي، فقد أدهشني قوله، ولذلك فقد تساءلت مُحتجّاً:
- كيف يجد الضجر سبيلاً إلي قلب إنسان يقطن مثل هذه البقعة من الفردوس؟!
التفتَ إليَّ بجسمه كلّه، هذه المرّة، وقال بجدّ:
- تعرف أنني حملت معي إلي هنا عدداً لا بأس به من الكتب. لقد احتميت بها من الضجر خلال شهرين كاملين، ثم أعدت قراءتها مرّتين. ولأنّ ضآلة راتبي لا تسمح لي بشراء كتب جديدة، فقد اضطررت في النهاية إلي مواجهة قدري .. فبدأت أجالس الأصدقاء.
تساءلت بدهشة:
- ظننت أنّك ضجرٌ لخلّو حياتك من الأصدقاء. اغفر لي قولي إذا قرَّرتُ أنّك بَطِرٌ جداً. الضجر الحقيقي هو أن تُضطرّ إلي إعادة قراءة كتاب سبق أن قرأته مرّتين، برغم وجودك في بيئة جميلة ومريحة كهذه، وبرغم وجود الأصدقاء من حولك.
كان علي ما يبدو منشغلاً عنّي بمراقبة رجل قادم من الناصية البعيدة.
قال ضاحكاً:
- هاك .. ذلك واحد من أصدقائي. إنّه الأستاذ توفيق مسؤول المركز الصحّي في فردوسنا المفقود.
بدا الرّجل وهو يقترب شخصاً مهماً، بقامته المديدة الممتلئة، وشعره الأسود المفروق بعناية واللاّمع تحت طبقة ثقيلة من الزّيت، وببذلته الكحلية الأنيقة، ووجهه الأبيض العفيّ المشرب بالحمرة، وبشاربه المعقود علي جانبي فمه علي هيئة حزمتين غليظتين من شعرات الذهب، بطرفين معقوفين إلي الأعلي كذنب العقرب علي الطريقة التركية.
قلت لأخي:
- لو كان صديقك هذا راكباً سيّارة تجري أمامها درّاجة نارية لحسبتُه رئيس الدولة ذاته.
لم يعقّب أخي بغير ابتسامة باردة، ورفع يده بالتحية للأستاذ توفيق، الذي ابتدرنا ملوّحاً وهو يتقدَّم نحونا مسرعاً. ثم لمّا حاذي سياج الحديقة ترّيث ليشفع تلويحته بالسَّلام علينا، فخسفَ صوتُه الرفيع جداً نصف هيبته الرئاسية.
بدا متردّداً عندما دعاه أخي للانضمام إلينا واحتساء القهوة معنا، لكنّه سرعان ما دفع الباب ودخل، فنهضنا لمصافحته، وجذب له أخي كرسياً فجلس وهو لا يزال يردّد التحيّات، وينظر إليّ بفضول، ثم سأل:
- مَن الأخ الكريم؟
أجاب أخي:
- إنه أخي الأصغر.
قال الأستاذ توفيق مبتسماً كمن يحاول إخفاء تواضعه:
- لقد خمّنت ذلك .. إنّه يشبهك تماماً.
ردّ أخي وهو ينظر إليّ هازّاً رأسه كتعبير خفيّ عن الضّيق:
- صدقت.
في الواقع لم يكن الأستاذ صادقاً البتّة .. إذ لم يكن هناك أدني شبه بيني وبين أخي لا في الملامح ولا في اللون ولا في مقاسات الجثث ولا حتّي في نبرة الصوت، لذلك فقد بدا لي تصديق أخي القاطع علي ذلك نوعاً من المجاملة الفجّة التي تأبي إخجال تواضع الصديق ذي الفراسة الخائبة.
تساءل الأستاذ توفيق:
- ما اسم الأخ الكريم؟
تحفّزت للردّ، لكنّ أخي سبقني إلي الإجابة بسرعة مذهلة:
- هتلر .. اسمه هتلر.
ندّت عنّي ضحكة قمعها أخي حالاً بغمزة من طرف عينه، وواصل قائلاً:
- قد يبدو لك غريباً أنّ اسمه هتلر. لكنّ لهذا الأمر حكاية.
العجيب أنّ اسمي هذا لم يَبدُ غريباً بالنسبة لضيفنا الفخم، ولم يظهر علي ملامحه أيّ أثر للدّهشة أو الاستغراب، بل أنّه تقبّل الاسم كشيء مألوف، ومدّ يده ثانيةً لمصافحتي قائلاً بتسليم:
تشرّفنا.
غير أنّ أخي لم يكفّ عن تكريمه بتهمة الاندهاش، وواصل الحكاية قائلاً:
- إنّ أبي لم يكن يُنجب. ولأنّه كان من عمّال البلدية الأكفاء فقد كان كأيّ عسكري منضبط معجبا بالقادة العسكريين المشهورين في العالم، ولذلك فقد نذر لوجه اللّه إذا رزقه بولد أن يسمّيه هتلر. وقد تقبّل اللّه نذر أبي.
ثمّ أشار إليّ قائلاً:
- فلمّا رُزق بأخي أحمد هذا .. سمّاه هتلر!
هزّ الأستاذ توفيق رأسه متفّهماً، فنظر أخي نحوي وردّد كمن يزيح عن صدره جبلاً:
- أرأيت؟!
ثم أردف وهو يطبطب علي ظهر الأستاذ توفيق بمرح ومودّة:
- ألديك أيّ اعتراض علي ما رويتُه لك؟
شهق الأستاذ قائلاً:
- اعتراض؟ أستغفر الله .. إنّه نذر ويجب الوفاء به.
عندئذ قال أخي بانشراح مصطنع:
- ونحن أيضاً لا اعتراض لدينا علي حكمة اللّه.
وإنّها لحكمة بالغة أن يرزقنا بأصدقاء واعين ومتفّهمين ورائعين من أمثالك.
ثمّ نظر إليّ مواصلاً كلامه:
- الأستاذ توفيق أوعي وأثقف أصدقائي هنا.
تورّد وجه الأستاذ خجلاً، ورأيته يأخذ يد أخي بكفيّه معاً وهو ينهض ليغادر قائلاً بامتنان حقيقي:
- شكراً، شكراً، شكراً.
وحين غادرنا، نظرت إلي أخي مشفقاً، وقلت بأسي:
- معي في الحقيبة خمسة كتب جديدة سأتركها لك. لكن ماذا عساك أن تفعل بعدها للفرار من ضجر هذه الجنّة اللعينة؟!
قهقه من أعماقه مكرّراً احتجاجي السالف:
- الضّجر؟ كيف يجد الضّجر سبيلاً إلي قلب إنسان محاط بمثل هؤلاء الأصدقاء؟!
فروض الواجب
في وقت متأخر من الليل، دقّ جرس الهاتف في منزل رئيس المخابرات. واستيقظت زوجة رئيس المخابرات التي كانت نائمة في ذلك الوقت المتأخّر من الليل، والتي لم يكن زوجها نائماً معها في ذلك الوقت المتأخّر من الليل.
رفعت سمّاعة الهاتف، وألقت كومة هائلة من التثاؤب:
- آلو ...
جاءها الصوت علي الطرف الآخر:
- أيقظيه حالاً .. المسألة في غاية الأهمّية.
فغرت فمها، وانعقد لسانها لفرط ما استبد بها من ذعر.
وبعد تردّد غير قصير، تساءلت بصوت مضطرب، وهي تلقي نظرة جامدة إلي الرجل النائم بجوارها:
- مَن .. حضرتك؟
- أنا رئيس الجمهورية .. أين زوجك؟
عندئذ تنفسّت الصُعَداء، وألبست صوتها غلالة من المودّة والترحيب:
- أهلاً فخامة الرئيس .. إنه لم يعد حتي الآن.
- أين يكون في مثل هذا الوقت؟
- في كلّ مكان يا فخامة الرئيس .. تلك عادته كلّ ليلة، لا يعود إلاّ في مطلع الصباح. يقول إنّ واجبه يفرض عليه أن ينبش الأرض، شبراً شبراً، بحثاً عن الخَونة!.
الشيخ العرياني!
في رواية الطريق الوحيد للكاتب التركي الساخر عزيز نيسين، نواجه نمطاً عجيباً من الأبطال، إذ نعدو وراء مغامراته بشوق ولهفة، عبر ما يزيد علي خمسمائة صفحة، دون أن نعرف من هو بالضبط، ودون أن نعرف ما اسمه .. ذلك لأنه هو نفسه يعترف لنا منذ بداية الرواية بأنه يغلط في بعض الأحيان بشخصيته الحقيقية وباسمه الحقيقي لكثرة ما انتحل من شخصيات و أسماء طول حياته، حتي لم يعد يستطيع تعداد الشخصيات المزورة التي تقمصها!
وكان من الطبيعي أن يمضي هذا النصاب عدة أعوام في السجون، وقد كسب في إحدي فترات سجنه مبلغاً من المال، عن طريق النصب أيضاً، وهو داخل السجن، ففكر بأن يسافر إلي بلدة بعيدة ويفتح له دكاناً فيها .. لكنه، كغيره من ركاب الحافلة التي استقلها، وقع ضحية عصابة قطّاع طرق جردّته من ماله، فاضطر إلي السير في الجبال تحت الأمطار الغزيرة، واهتدي إلي كهف في أطراف إحدي القري، فدخله عارياً بعد أن ترك ثيابه فوق شجيرات في الخارج حتي تجف. وبعد فترة، جاء بعض أفراد العصابة إلي حيث يختبيء، لكنهم بدلاً من أن يقتلوه، حيّوه باحترام يليق بصوفيّ كبير، ومنحوه شيئاً من الطعام والأغطية.
ولم يمض وقت حتي شاع أمره في القرية المجاورة، فأقبل البسطاء إليه طلباً لكراماته، وصاروا يسمونه الشيخ العرياني.
ومضت الأيام وهو مستمتع بعطايا المساكين المؤمنين بكراماته، حتي حلت به ذات يوم لحظة عصيبة، حين أبلغه بعض مريديه بأن البيك يطلب الإذن بزيارته ليأخذ بركة دعائه و البيك هذا هو مالك لعشرات من القري التي يلوذ الأفّاق بإحداها.
لكنّ البيك أبدي للعرياني عند لقائه به كل معاني الخضوع والولاء، ولم يتردد عن تقبيل يده والإمساك بلجام حصانه أمام الناس، ثم دعاه لزيارة قصره فلبي الدعوة مضطراً، لأنه برغم كل ما يبدو عليه من مظاهر الهيبة، كان ينطوي علي أسراره القبيحة التي يخاف افتضاحها.
وعندما انفرد الشيخ العرياني بمضيفه بعد العشاء، دعاه الأخير إلي شرب كأس من الخمر، فصعق، واعتذر بأنهّ علي وضوء، فصرخ البيك عندئذ: أعلينا هذه المظاهر؟ اشرب يا كافر!
وحين لم يجد المحتال مفراً، كرع الكأس تحت طائلة الخوف، فامتدحه البيك قائلاً: أحسنت يا كبير الديّوثين .. لو لم تشرب لهويت بقبضتي علي نقرة رأسك، وعندئذ سيخرب وضؤوك بجد، لأنك ستعملها في ثيابك.
ونفهم من ذلك أن البيك كان علي علم بحقيقة المحتال، لأنه، علي حد قوله، لا يطير طائر في تلك المنطقة دون علمه .. ونعرف بعد ذلك أنه هو الذي أمر أتباعه بأن يجعلوا من هذه النصّاب شيخاً، بعدما عروّه من كل شيء، لأن القري بعد زوال شيخها السابق، كانت بحاجة إلي شيخ آخر تلتمس عنده الحاجات، ويمكنه أن يملأ الفراغ الذي لا وقت عند ذوي الأملاك لملئه.
يقول البيك: ليس عند إنسان هذه المنطقة طبيب، ولا قابلة، ولا دواء، ولا عمل، ولا نقود .. وعندما لا يكون عنده شيء يقول لو كان عندي شيخ علي الأقل.
ونعلم أن سبب زوال الشيخ القديم هو أنه حمي عصابة إجرام وخبّأ أفرادها عنده، بينما كان القائمقام التابع للمالك قد قضي علي كل عصابات قطاع الطرق، وأبقي علي عصابة واحدة فقط لسد حاجة المنطقة للمجرمين!، ولذلك فقد وبّخ الشيخ السابق قائلاً: كيف تحمي عصابة مجرمين، بينما لدينا عصابتنا؟ ثم طرده من المشيخة بتهمة معارضة الجمهورية والثورة!
المستفاد من تلك الحكاية هو أن ادّعاء المشيخة والكرامات أمام البسطاء المغفلين أمر جائز بل مطلوب جداً، لضمان مصلحة المالك .. لكن الأمر ينبغي ألا يخرج عن هذا الإطار، كأن يصدق المحتال أنه شيخ حقيقي، فيصطدم عنوة بالمالك الذي اخترعه وثبت إدعاءه .. لأنه، حينئذ، سيخرج من كراماته الموهومة بركلة حقيقية علي مؤخرته بتهمة خيانة الجمهورية والثورة!
أتأمل مشهد المالك مع الشيخ العرياني، فتحضر في ذهني طائفة من الشيوخ العريانين المتناثرين علي طول الخريطة التي تضم القري وأُمّها أيضاً، في نسق غير متناسق من اللغات والسحنات والأزياء.
وحسبنا أن نتذكّر، علي سبيل المثال، نورييغا بنما، وجرذ تكريت، والبهلوان الأخضر، كنماذج للذين يرفعون عصيّهم، بكل بسالة، لقطعان البشر في القري التي هم رعاتها .. لكنهم يخفضون مؤخراتهم- بكل تهذيب- لعصا المالك الذي أكرم عريهم بالمشيخة، ونثرهم كالنجوم في مربع أزرق وضع تحته خطوطاً حمراء، تذكيراً بالمصير الدامي لمن يجتاز حدوده، ولا يواصل السير علي الصراط المستقيم!
العصا والِهراوة
محَبوب القلب اللّه يخلّيه ..
لا تَعلومْ ينفع لا نِصِحْ بيه ..
أقول له: الدَّربْ هذا ..
يقول: لا .. ذاك.
لا يِندلْ ولا يخليني أدلّيه!
هذا مطلع أغنية عراقية قديمة، وجدته يتدفق في ذهني كالضرورة، ليغيثني من صعوبة التعبير عن أحوال وأوحال أنظمتنا العربية التي لم يكفها أن تؤلمنا بأفعالها اللئيمة المستديمة، بل تعدت ذلك إلي إيلامنا بأقوالها الطازجة السقيمة.
هذه الأنظمة المنبطحة حتي الأرض السابعة، ملكت الجرأة أخيراً لتصرح بأنها ترفض أي إصلاح يُفرض عليها من الخارج. وأكاد أجزم بأنها لم تنطق بذلك إلا بعد أن أستأذنت الخارج وهو أمريكا بالتحديد .. بتزيين إذعانها، الذي لابد منه، بزركشة كلامية توحي بالتمنع، وهو ما لا تملكه تلك الأنظمة ولن تملكه أبداً، لأنها تعلم، قبل غيرها، أن مبدأ وجودها وفنائها بيد ذلك الخارج.
إن شرعية العصا لا يمكن أن تنصاع إلا لدستور الهراوة. وهذا ما يحدث أمامنا، نحن الديكورات المسماة شعوباً، علي مسرح الستربتيز العربي الرسمي.
وبالعودة إلي الأغنية يحسن بنا أن ننبه إلي أنها مجرد مقاربة لا أكثر، ومبتغانا منها الخاتمة لا غير، فالنظام العربي ليس محبوب القلب، بل هو في أفضل أحواله محبوب الكلب، وهو كذلك ليس مما يطلب المرء أن يخليه الله، بل آخر دعوانا هي الله لا يخليه.
لكننا بعد هذا نستطيع أن نشمله بمكرمة الشطر الثاني من مطلع الأغنية، حيث أمضينا ما يزيد علي نصف قرن، ونحن نئن تحت وطأته، داعين إياه إلي الإصلاح، بإرشاده تارة، وبنصحه طوراً، وهو في كل أحواله منشغل عن الإصلاح الداخلي بالصمود والتصدي لمؤامرات الخارج الإمبريالية التي لولاها لما كان له وجود إطلاقاً!
بُحّتْ أصواتنا ونحن نقول لهذا النظام الطالح بأن عليه أن يحفظ رأسه قبل لحانا، وتقطعت أوتارنا الصوتية ونحن نقترح عليه أن يشتري المحراث بدلاً من البندقية .. غير أنه لم يفهم هذه الأمور البسيطة جداً، إلا بعد أن وقفت هراوة سيده فوق عصاه المنصوبة فوقنا .. فإذا بالبهلوان الأخضر يصرح فوراً بأنه قرر استبدال البندقية بالمحراث، وإذا بالبهلوان القاتي يدخل دورة حلاقين، بعدما أدرك حكمة أن يحلق المرء شعر رأسه بيده!
بالله عليكم، أيها الرافضون الإصلاح المفروض من الخارج، هلا أطلعتمونا علي برنامج إصلاحكم المفترض من الداخل؟!
خمسون عاماً ونحن لم نرمن الإصلاح الداخلي إلا ما رآه اللاتينيون من إصلاحات ذلك الجنرال الثوري المجنون، الذي فرض علي الناس أن يرتدوا ألبسة داخلية نظيفة، ولكي يتأكد من انصياعهم للقانون أوجب عليهم أن يرتدوها فوق ملابسهم الخارجية!
خمسون عاماً وأولئك المُحنطون أو المنحطّون بغلط مطبعي صحيح يكتمون أنفاسنا، ويبعثرون أموالنا، ويصحرون أرضنا، ولم يصلحوا شيئاً سوي قوائم كراسيهم المتهالكة .. ومع ذلك .. تندلق حكمة القرون علي لسان أحدهم، عند أول تشويحة للهراوة، فيقرر أن الديمقراطية لا تتم بكبسة زر!
كبسة زر؟!
أينك يا آينشتاين لكي تنورنا عن نوع ومقدار هذه الحركة التي لم تفلح بعد خمسين عاماً في استكمال كبسة الزر؟!
يا لفضيحتنا أمام السلاحف والديدان والبكتريات!
أحسب أن غلطاً مطبعياً قد وقع لتلك العبارة، وأغلب ظني أن مولانا كان يريد أن يقول إنها كبسة رُزّ.
وفي هذه الحالة ينبغي أن نُقّر بأن التصريح صحيح وفصيح .. فمن يرجع إلي انسيكلوبيديا المطبخ الخليجي سيتحقق تماماً من أن متعاطي هذا النوع من الكبسة لا يمكن أن يفيق إلا علي نفير يوم القيامة!
رقابة ذاتية!
رفعت الرقابة عن الصحف، وانشئت منظمة لحقوق الإنسان، وشرعت السلطة بالتحضير للعملية الديمقراطية.
***
الكاتب: أريد كتابة مقال حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
المحرر: لا مانع .. لكن عليك أن تكون رقيباً ذاتياً علي نفسك .. استعمل ضميرك رجاء.
الكاتب: بالطبع.
المحرر: أي طبع يا أخ وأنت تريد أن تجر قطاراً طويلاً من الكوارث؟!
الكاتب: كوارث؟!
المحرر: بدلاً من الشرح المفصل، دعني أدرب ضميرك علي العمل .. إن الكتابة حول حقوق الإنسان هي تدخل في شؤون الغير .. تقول لي كيف؟ أقول لك إن هناك منظمة مختصة بهذا الشأن، والتدخل في شغلها صفاقة .. أليس كذلك؟
الكاتب: لندع هذا جانباً إذن.
المحرر: والكتابة عن الديمقراطية ليست سوي دوران في حلقة مفرغة .. فإذا كنت ضد الديمقراطية فأنت عديم الضمير، وإذا كنت مع الديمقراطية فأنت سخيف، لأنك تزمع الخوض في مسألة لاتزال في طور التحضير. قل لي بربك أليس من السخافة أن تصف بيتاً قبل أن يُبني؟!
الكاتب: سأكتب، إذن، حول الحرية.
المحرر: لكن الحرية قائمة يا أخ .. فها هي الرقابة علي النشر قد رفعت، فماذا تريد بعد هذا؟
الكاتب: أريد أن أمدح ذلك.
المحرر: هذا نفاق وتملق. إن حرية التعبير ليست منة من أحد. إنها حق أصلي من حقوق الإنسان، ثم لا تنس أن لهذه الحقوق منظمة مختصة.
الكاتب: أريد، إذن، كتابة مقال حَوْل ..
المحرر: حول ماذا؟
الكاتب: حول فقط!
المحرر: رجاء .. دعني أواصل تدريب ضميرك علي العمل .. كيف يرضي هذا الضمير أن يكتب مقالاً حول فراغ؟ هل هذا ما يفترض أن يقدمه الكاتب الشريف للجماهير، في زمن الحرية وحقوق الإنسان والتحضير للديمقراطية؟
الكاتب: إذن .. أريد فقط .. هذا كل ما بقي لي .. مجرد أريد!
المحرر: لا دخل لأحد في إرادتك .. أنت حُرّ.
الكاتب: لكنك لم تسألني .. ماذا أريد؟!
المحرر: هذا أمر راجع لك، نحن لا نملي عليك ما تُريد أومالا تُريد .. نحن فقط نبين لك حقوقك، ونبشرك بالتحضير للديمقراطية، وندربك علي كيفية استعمال ضميرك عندما تريد التعبير بحرية، خاصة أن الرقابة علي الصحف قد رُفعتْ!
التّهمة!
العجائب البريطانية لا تنتهي.
منذ جئتها، في منتصف الثمانينات، وأنا أشهد في عالم سياستها، كلّ يوم، ما يشهده الريفي عند دخوله المدينة لأوّل مرّة.
رأيت القيادات الحاكمة تتعرّي في كلّ موسم، مثل الأشجار، لتتحلّي بأوراق ربيعيّة جديدة. وذلك عجب لم يضارعه إلاّ العجب من رؤيتي لقيادات المعارضة وهي تتعرّي كنقيضتها، مؤمنة مثلها، وياللهول، بضرورة استمرار دورة الفصول.
في هذه المدّة الوجيزة بحساب التاريخ، رأيت خمسة قادة لحزب المحافظين يتعاقبون مثل دوالي الناعور، ورأيت علي الجانب الآخر أربعة قادة لحزب العمال يتعاقبون بسلاسة دوران عقارب الساعة.
أمّا الحزب الثالث الوسيط الراكض خلفهما بقوّة، وهو حزب الأحرار الديمقراطيين، فلم يتخلّف عنهما فبعد اثنين من قادته التاريخيين أخلي المكان لرجل أكثر قوّة وشباباً هو بادي أشداون، ولم يلبث الأخير وهو في عزّ قوّته وتألقه، أن وقف جانباً مخلياً الطريق لقائد جديد أكثر منه شباباً وهمة هو تشارلز كيندي الذي لم يقصّر أبداً، إذ أفلح في فترة وجيزة في أن ينمّي التقدّم الذي أحرزه سلفه، وأن يجعل من حزبه رقماً صعباً في الانتخابات البريطانية.
تلك الأعاجيب شكّلت، بالنسبة لي، أعجوبة كبري مُلخّصها أنّ البريطانيين مُتخلّفون عنّا بسنوات ضوئية .. فهم مع إيمانهم بالقيادة التاريخيّة يجهلون تماماً كيفية جعلها قيادة جغرافية أيضاً، بحيث تلتصق في مواقعها بالصّمغ السوبر، متحدّية في ثباتها الزلازل والآفات والعلل الماحقة.
لكنّ كلّ ذلك لم يعد شيئاً مذكوراً أمام العجيبة الجديدة التي دهمتني، مؤخراً، فأعادتني إلي مربّع الدهشة الأوّل، وأنبأتني بأنني سأظل في ما يتعلق بالسياسة البريطانية جاهلاً بامتياز مع مرتبة الشرف.
لأوّل مرّة أكتشف أنّ المرض - وهو أمر غير إرادي وغير مرغوب ولا مطلوب - يمكن أن يكون فضيحة بجلاجل بالنسبة للسياسي البريطاني، بل قد يتعدّي ذلك إلي اعتباره جنحة مخلّة بالمباديء، أو تهمة موازية لتهمة الخيانة!.
(تشارلز كيندي) قائد حزب الأحرار، شاب معافي، يعمل بهمّة تعادل همّة جميع القادة العرب منذ فجر التاريخ حتي القيامة.
لكنّه، للأسف الشديد، تورّط قبل أسابيع بارتكاب جريمة لم يغفرها له الإعلام ولا أعضاء البرلمان ولا رفاقه في الحزب.
ماذا فعل؟!
لقد أصيب الرّجل بوعكة صحيّة!
يقال إنّ فايروساً داهم معدته فأقعده مريضاً لعدة أيام، لم يستطع خلالها حضور مناقشة الميزانية في البرلمان!.
لكنّه، مع ذلك، استطاع أن يعاند مرضه، وأن يغادر فراشه إلي المنصّة، ليلقي خطابه في مؤتمر الحزب، وهو يتصبّب عرقاً، وأنهي خطابه برغم الإعياء الشديد وانقطاع الأنفاس.
وظننت أنّه سيتلّقي المديح لبطولته هذه، أو التعاطف علي الأقل، لحرصه علي أن يكون حاضراً وفاعلاً برغم المرض.
لكنّ الأمر كان علي النقيض، من ذلك .. لقد قامت قيامة الصحف في اليوم التالي، وأسرف المعلّقون والمحلّلون في تأنيبه علي وقوفه خطيباً في مثل ذلك الوضع المزري، ولم يتردّد عدد من رفاقه في الحزب عن المطالبة باستقالته!.
ورأيت الرجل، بعين حانية وقلب متحرّق، وهو يحاول جاهداً أن يدفع عن نفسه ذلك العار .. وسمعته يردّد بصوت متهدّج هو أقرب إلي البكاء منه إلي التصرّيح: (أنا لست مريضاً .. لقد أصبت بوعكة فقط .. أنا لست مريضاً) .
المسكين .. كأنّه كان يتعاطي المرض إدماناً، أو كأنه اقترف المرض عامداً مع سبق الإصرار والترصّد!.
ملعون أبوالقيادة التي لا تعطي السياسي المصاب بوعكة فرصة شهر واحد علي الأقل، يستطيع خلاله تعديل أوضاعه، وإصلاح أخلاقه، وإبراء ذمته من أي قصد مسبق للوقوع تحت وطأة المرض!.
لو جري الأمر لدينا علي المنوال نفسه - وهو لن يجري ولو انتقل القطب الشمالي الي خط الاستواء - لأصبحنا ذات يوم فوجدنا أنّ جغرافيتنا كلّها قد أقفرت تماماً من جميع القيادات التاريخية، وهي عندنا كلّها تاريخية والحمدلله، فأغلب قادتنا الشبان - سواء في الحكم أو المعارضة - قد مضي علي وقوفهم ممسكين بالتاريخ خشية سقوطه، أكثر من ثلاثين عاماً، بل إنّ مدّة صلاحية بعضهم قد انتهت منذ زمن بعيد حتي دخل التقويم النُّوحي (نسبة إلي سيّدنا نوح) بحيث لم تعد حتي الجن قادرة علي أن تستدل علي غيابه، برغم أنّ دابة الأرض ماتت من التخمة، منذ زمان، وهي تأكل منسأته وتأكله معها!.
أنا الآن علي فراش المرض، ولو أنّ اللّه مَنّ عليّ بالعافية، فإنّ أوّل ما سأفعله هو زيارة (تشارلز كيندي) لتهنئته بالشفاء أوّلاً، ولإغرائه، ثانيا، باستثمار علاقاته مع العرب، لطلب الجنسية العربية، ومواصلة جهده السياسي من هناك، حيث المرض عنوان الصحة وحيث الموت إكسير الحياة بالنسبة للقيادات التاريخية!.
لاعزاء للسيّئات!
كلّنا يعرف ريّا و سكينة اللّتين ملأتا قلوب نساء مصر بالرّعب في العقد الثاني من القرن الفائت، والّلتين أُعدمتا عام 21،19لقتلهما سبع عشرة امرأة معظمهن من السّاقطات، بمشاركة أربعة رجال وامرأة أخري.
وبرغم مرور مايزيد علي ثمانين عاماً علي إعدامهما، لاتزال ذكري هاتين السفّاحتين تثير الفزع في نفوس الناس جيلاً بعد جيل، وترسم لهما في الأذهان صورة بالغة البشاعة مؤطّرة بالكراهية والمقت.
لماذا استأثرت هاتان المرأتان وحدهما بصفة البشاعة التي لاتمحوها الأيّام؟
هل لأنهما لم تكونا علي حظ من الحصافة، لتقرّرا توزيع ثلث ما تسرقانه من ضحاياهما علي مجاميع من الصحافيين، أو أصحاب غرز التحشيش حيث لم تكن الفضائيات قد اختُرعَت بعد أو رجال الشرطة كممثّلين رمزيين لمسؤولي السلطة؟!
ولماذا حين ألقي القبض عليهما في ظلّ حكومة احتلال إنجليزية، لم يشعر العرب الأقحاح بأنّ كرامتهم قد أهينت، وأنّ شرفهم قد غطس في الوحل؟!
ولماذا لم تفتح العدالة العمصاء عينيها، وتنفش شعرها، وتسرف في العويل، طالبة معاملتهما بالرأفة، والحكم بالطلاق البائن بين رقبتيهما وحبل المشنقة؟! هل لأنّ اتحّاد المحامين العرب لم يكن قائما في تلك الأيام السوداء الظالمة .. أم لأنّهما لم تساعدا في بناء ولو حجرة بمشتملاتها لمحام أردني عريق؟!
خذ ضحايا ريّا وسكينة السبع عشرة، واضربهن بمائة وخمسين ألفاَ، لكي تري حجم الفرق الهائل بين رقم جرائمهما ورقم جرائم صدّام الرجيم.
وخذ حصاد ما سرقتاه من ضحاياهما، واضرب ثمنه بعشرات المليارات، لكي تعرف الفرق العظيم بين لصوصّيتهما ولصوصيّة حامي البوابة الشرقية!
وبعد أن تُنبئك آلتك الحاسبة بفارق الأصفار المديد بين جريمة بائتة، وجرائم طازجة لم تنشف دماؤها بعد، فإنّك، إذا كنت حيّ الضمير، ستتمني لو كان قلبك بضخامة جبل رضوي، حتّي تستطيع ان تمتصّ الصدمة، حين تكتشف في غمرة فجيعتك، أنّ أمّتنا الواحدة ذات الرّسالة الخالدة تحتاج إلي ألف سنة لكي تبلغ وجه الحضيض، لأنّها واقعة تحته بمسافة آلاف الأميال!
ذلك لأنّ أمّة لاتشعر بالعار من شعورها بالعار عند إلقاء القبض علي قاتل الملايين وسارق المليارات، هي أمّة لاتستحق حتي شرف الانتماء للحضيض!
لم تكن سكينة مهيبة ركن، ولم تزعم الدفاع عن بوابة بيتها المتهدّم، دعك من البوّابة الشرقية كلّها، لكنّها كانت أكثر تماسكاً وقوّة يوم اعدامها، من قائدنا الضرورة يوم القبض عليه.
كانت سفّاحة السبع عشرة تقول أمام المشنقة أنا جدعة .. ضحكت علي الحكومة وقتلت 17 ست .. وهاتشنق زي الجدعان!
فيما كان سفّاح الملايين القابع كالجرذ في حفرته بصحبة مسدّسة ورشّاشاته، يلعلع قائلا: لا تطلقوا النّار .. أريد التفاوض!
وإذا كانت ريّا قد صاحت بالجلاّد وهو يشدّ وثاقها: بالرّاحة شوية .. أنا برضه وليّة ..
فإنّ سفّاح الملايين لم يُتعب نفسه باطلاق مثل هذه الصّيحة، لأنّ المئات من حماة العدالة حماها اللّه منهم قد تطوّعوا نيابة عنه للصّراخ: دَعُوه .. إنّه وليّ من الصالحين!
ليس قصدي من ذكر هذه المفارقات عند المقارنة ان أردّ الاعتبار للسفاحتين، ذلك لأنّ ضخامة جرائم صدّام هي بمثابة ردّ اعتبار لجميع السّفاحين في الأرض منذ قابيل حتّي اليوم .. لكنني تمنّيت لو طال العمر بريّا وسكينة اللّتين تخصّصتا باستدراج السّاقطات وقتلهن، لكي تشهدا كيف تغيّر الزمان، فأصبح للسقوط اتّحاد يستدرج الضحايا لحسابهما مربوطين بحبل القانون!
الوليمة
وقف الرّجل امام الدّكان، وعدّل وضع نظارته ذات الزجاجات السميكة، ثم دفع بالصغير جانبا وهو يأمره بلطف وحنان:
- اجلس علي الدّكة. سآتيك بالحمّص حالاً.
ابتسم وهو يسلّم علي البائع الذي بادله الابتسام مرحّباً.
- قبل كلّ شيء .. زِنْ لي قليلاً من هذا الحمّص المملّح .. وليمته يجب أن تتقدّم علي وليمة ضيوفه، وإلاّ فالويل لي ولأمّه.
قال هذا وهو يشير إلي الولد الذي اتخذ مكانه بهدوء وأدب علي الدكّة المجاورة للدكان.
التفت البائع إلي الولد مبتسماً، وقال وهو يُعبيء الكيس بالحمّص:
- ما شاء الله. لطيف وهاديء .. ليحفظه الله لكما.
تناول منه الكيس شاكراً، ومال ناحية الولد، ووضعه في حضنه.
- كُلْ يا بني، ريثما يُهيّيء لنا عّمك مستلزمات الوليمة.
شرع الولد بالتقاط الحبّات، وراح يقضمها ببطء وتلذّذ.
- من فضلك .. أأجد عندك نوعية جيدة من الرّز البسمتي؟
- طبعاً .. درجة أولي .. هناك عبوات مختلفة. كم تحتاج؟
- عشرين كيلوغراماً. ولو سمحت .. اعطني مثلها من العدس.
- حاضر.
وفيما هو يطرح الكيسين علي العتبة، اشار الرّجل الي الرّف:
- هذا شاي ابو القلم .. أليس كذلك؟
- نعم. أحسن صنف.
- التقط لي علبتين من فضلك، وزن لي عشرة كيلوغرامات من السكر.
رفع البائع الملقط، وجذب علبتي الشاي ووضعهما فوق الطاولة، ثم غمس المغرفة في زكيبة السكّر، وراح يعبّيء كيسا من الخيش علي كفّة الميزان.
- لطفا .. اذا فرغت، ناولني اربعة اكياس شعرية .. تبدو لي من نوعية جيّدة.
- أحسن نوعية في السّوق.
- ما اصناف الحلوي التي لديك؟
- كلّ ما تشتهيه نفسك. عندنا هنا حلاوة طحينية.
وهنا حلاوة رملية. وعندما ايضا بقلاوة ممتازة. انظركم هي شهيّة .. لقد خرجت من الفرن قبل ساعة فقط.
- زن لي كيلوين من كلّ نوع من الحلوي، وثلاثة كيلوات من البقلاوة.
تكدّست عبوات الشاي والشعرية والعدس والسكّر فوق كيس الرّز الضخم.
قال البائع مازحا، وهو يقتطع الحلوي من الصّينية:
- تبدو وليمتك وكأنّها لجيش من النسور الصائمة!
- ليست وليمتي يا سيّدي: انها وليمة المحروس .. لقد ختم القرآن امس. اقول .. اعطني قطعتي بقلاوة من اجله.
التقط البائع قطعتين، ولفّهما بورقة وناولهما للرّجل الذي ناولهما بدوره للصغير.
- ختم المصحف في هذه السّن؟ اللّهم احرسه من كل شر ببركة كتابك الكريم.
- اشكرك.
- كيف ستحمل كل هذه المؤونة؟
- معي عربة.
اشار الرجل الي شاب يقف وراء عربة يد، وطلب منه حمل الاكياس الي العربة .. ثم التفت الي البائع.
- لِنرَ الآن كم اصبح حسابنا.
راح البائع يسجّل بعقب قلم رصاص علي دفتر صغير، وهو يهمهم، بينما دسَّ الرجل يده في جيب سترته الدّاخلي .. ثم ما لبث ان اخرجها، وشرع يبحث في جيوبه الأخري، ثم فتح عينيه علي اتساعهما دهشة وحرجا، والتفت مستوقفا الشاب:
- ياسر .. لحظة واحدة. اعد الحاجات الي العتبة. يبدو انني نسيت المحفظة في البيت.
قال البائع:
- أبيتك بعيد؟
- كلا .. في الزاوية اليسري من الشارع الثالث مسافة عشر دقائق لا اكثر. اعتقد انه ينبغي ان اذهب لاحضار محفظتي. لن أتأخر.
- أتعرف صاحب العربة؟
- ياسر؟ طبعا اعرفه.
- ليذهب لاحضار النقود. ولا داعي لإنزال الحاجات. دعه يذهب بها الي البيت، ما دام سيحملها في كلّ الأحوال.
- فكرة جيّدة. كم حسابك أخي؟
- سبعة واربعون دينارا وثلاثمائة
فلس. حمّص الولد وحلاوته هدية من المحل. يستاهل .. خاتم كتاب الله. بارك الله فيك.
- أشكرك. اسمع ياياسر. قل لخالتك ان تعطيك خمسين دينارا. توكّل علي الله. لا تتأخّر. في الفترة التي غاب فيها ياسر، استغرق الرّجل بالحديث مع البائع عن وقائع الحرب العالمية وسنوات الكساد. وحين لم يعد الشاب بعد مرور ساعة، ساور الرجل القلق ..
- قلبي يحدّثني بأنّ أمراً غير عادي قد وقع لياسر. انّه يعرف موقع البيت كما يعرف ظاهر كفّه، والمسافة ليست بعيدة، فلماذا تأخّر كل هذا الوقت؟ يشاركه البائع قلقه، وتمنّي ان تأتي العاقبة بالسلامة، ولمّا رأي الرجل يتململ في وقفته قلقاً، دعاه لأن يذهب لاستطلاع الأمر.
قال الرجل بعد ان فرغ من تلاوة المعوّذات:
- اعتقد انّه لابُدّ من ذلك.
وتطلّع الي الولد الجالس علي الدكّة:
- لا تتحرّك من مكانك ياولد. ابقًَ عند عمّك حتي اعود. هل فهمت؟
هزَّ الولد رأسه علامة الايجاب، فيما كان يواصل قضم حبّات الحمّص.
بعد ساعتين، خرج البائع الي بسطة الرصيف امام الدّكان، واستعرض الشارع من نهايتيه. كان يحكّ رأسه حائرا، وقبل ان يعود بخطي بطيئة الي داخل دكانه، التفت نحو الصغير قائلا في ما يشبه الزّفرة:
- أبوك تأخّر.
قال الولد ورشاش الحمّص يتطاير من فمه:
- انّه ليس ابي.
صُعِقَ البائع.
- ليس اباك؟ مَن يكون اذن؟!
- ما ادري.
- لكنّك جئت معه يدا بيد .. مَن انت ياولد؟!
- انا محمّد. كنت ألعب مع اصحابي في ذاك الشارع، ومرّ بنا هذا الرّجل وسألني هل تحب الحمّص المملّح؟ قلت له نعم، قال تعال اترِسْ بطنك.
النفط .. مقابل البغاء!
كنت أستيقظ يوميا علي أصوات النائحات بمختلف اللغات وهن يندبن أطفال العراق .. لكن ما أن سقط نظام صدام الرجيم حتي انقطعت أو كادت تلك الأصوات الزاعقة التي احتلت من صباحاتي، لأعوام طويلة، دور الديك الفصيح والساعة المنبهة!
ماذا جري؟
الاحتمالان الحاضران لخفوت الرنة هما: إما أن يكون الاحتلال الأميركي قد أوقف برحمته المعهودة وفيات الأطفال العراقيين، وإما أن يكون هؤلاء الأطفال قد انقرضوا عن بكرة أبيهم، فلم يعد هناك ما يوجب البكاء.
وكلا الاحتمالين باطل، فلا أميركا رحيمة، ولا الأطفال انقرضوا، بدليل أنهم مازالوا يتساقطون نتيجة الجوع والمرض وانعدام المياه النظيفة، ونتيجة الجهاد المقدس الذي يشملهم ببركاته وهو في طريقه لمقارعة العلوج!
ثمة احتمال ثالث كان مجرد ظن شبيه بالإثم، لولا أن صدقت عليه جريدة المدي العراقية بنشرها حزمة صغيرة من وثائق الرشوة التي صاحبت برنامج النفط مقابل الغذاء.
إن مبيعات مرحلة واحدة فقط من ذلك البرنامج سمحت بمسح ذلك الظن، وجعلته حقيقة ساطعة خالية إلا من آثام الراشي والمرتشين.
ذلك إذن هو سبب خفوت النواح، فالنائحات لا يندبن ميتاً حباً فيه، ولكن طمعاً في الأجرة المستفادة من ذويه، ولما كان ذوو الميت.
وهم قاتلوه بالمناسبة قد غادروا حفرتهم إلي حبسهم، فقد استحال البكاء احتجاجاً تصرخ به الجيوب لا الأفواه، ليس علي تغييب الأبرياء في المقابر الجماعية، ولكن علي تغييب القاتل في الحبس، واحتباس الأجرة عن النادبات!
أحصيت براميل نفط أطفال العراق التي وهبها من لا يملكها لمن لا يستحقونها، فإذا بها تبلغ في المرحلة الثالثة فقط من ذلك البرنامج الفكاهي بليوناً وخمسمائة وثمانية وسبعين مليوناً من البراميل .. توزعت علي مائتين وسبعين مرتشياً من خمسين دولة .. هم بمعظمهم رؤساء أحزاب ونواب ووزراء وشخصيات مؤثرة.
ولم أعجب لوجود مرتشين من 16 دولة عربية ضمن القائمة، ذلك لأنني حفظت أسماء وأصوات أغلبهم وهي تلعلع بالصوت العريض دفاعاً عن شرعية صدام المنتخب بنعال أبو تحسين بنسبة مائة بالمائة!
لكن ما أدهشني هو وجود مرتشين من جميع دول مجلس التعاون الخليجي، ماعدا الكويت!
ولعل التجربة القاسية التي مرت بها الأخيرة هي التي منعت اكتمال نصاب التعاون علي البر والتقوي وما يثير الدهشة أكثر أن القائمة تضمنت أسماء أفراد من بعض الأسر الحاكمة في دول الخليج، وهم في كل الأحوال ليسوا بحاجة ملحة إلي المال، وليسوا مضطرين إطلاقاً إلي ترجمة عواطفهم الحارة تجاه ذلك النظام عبر معجم البرميل المحيط!
المرتشون العرب حصلوا في المرحلة الثالثة للبرنامج علي أربعمائة وواحد وثمانين مليون برميل نفط فقط لاغير .. أي علي ثلث الرشوة الضخمة التي رصدت لشراء المواقف والضمائر وتسويق قباحات نظامه الهدام.
وبعد انكشاف المستور، فتحت دول الغرب أبواب التحقيق مع المنتفعين من مواطنيها .. وليس ببعيد أن النائب العمالي البريطاني جورج غالاوي قد طرد من حزبه لمجرد ظهور وثيقة، عند نهاية الحرب، تدينه بالاستفادة من نظام صدام.
أما علي الضفة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، فلم نسمع، حتي الآن، أن تحقيقاً جري بشأن واحد من المناضلين ذوي الحناجر الصقيلة، كما لم نسمع من أحدهم نفياً قاطعاً لضلوعه في هذه الصفقات المريبة .. بل علي العكس سمعنا من بعضهم ما يؤكد تلقيه للرشوة، لكنه يغلفها بمسوغات لا تجوز علي عقل الطفل الرضيع، وهي بمجملها مسوغات تعمق التهمة وتحمل لصاحبها الإدانة القاطعة.
واحد من هؤلاء نشر بياناً يدعي فيه أنه يتعرض لما دعاه باغتيال الشخصية، ويؤكد بالحرف الواحد: كنا نتابع مصالح لنا في العراق!
ولا أحد ادعي غير ذلك، فالوثائق تقول إن المرتشين كانوا يتابعون مصالحهم .. أما الخلط بين المصلحة الشخصية وإدعاء الدفاع عن قضية ما، وقيادة قطعان الغافلين- تحت سقف الرشوة - لتمجيد نظام أباد الملايين من مواطنيه، فهو عهر صراح لا تطهره سبعة بحار من الديتول.
والشخصية التي تشارك، عامدة، في الاغتيال المادي لملايين الأبرياء، لا يجوز لها بأية حال أن تشكو من الاغتيال المعنوي.
وهناك من ادعي أنه كان مجرد وسيط لوسيط آخر بدافع الصداقة .. وأنه لم يجن أية أرباح من هذه الصفقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يذهب الوسيط الآخر بنفسه مادام الأمر موضع اختصاصه؟ ولماذا قبلت وساطتك أنت بالذات؟ ولماذا توسطت، أصلاً، في قضية كهذه هي ليست من اختصاصك؟ إن هذا يذكرني بصاحب جريدة كويتي، تفرغ خلال الحرب العراقية الإيرانية لتوريد البساطير العسكرية للجيش العراقي .. مما أكسبه صفة الريادة في تطعيم العمل الإعلامي بالأحذية، متجاوزاً بذلك دخول نعل أبو تحسين لدائرة الأخبار بإثني عشر عاماً!
والأكثر صفاقة بين الجميع .. ذلك المخلوق الذي دافع عن نفسه باتهام نفسه حين قال: إن الحكومة العراقية لم تدفع من جيبها لأي شخص، بل كانت تحدد فقط من يشتري النفط من الشركات والأفراد الذين يأخذون بدورهم هامش ربح بسيطاً!
وأمام صلابة وجه كهذه، لا يملك المرء إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
إن أحداً لم يقل بأن الحكومة العراقية البائدة كانت تدفع من جيبها .. بل علي العكس فإن تلك الحكومة القذرة كانت تدفع من جيب العراقيين المغيبين في الزنازين أو تحت الأرض أو في المنافي، أو المشردين علي أرصفة أشقائهم الذين يستوفون منهم الغرامة بشكل يومي إذا انتهت مدة الإقامة الممنوحة لهم في جنات النعيم!
ويواصل هذا الضعيف مرافعته قائلاً إنه عمل كوسيط لبيع ما بين ثمانية وتسعة ملايين برميل نفط .. بهامش ربح بسيط لا يتجاوز خمسة سنتات للبرميل الواحد.
تأمل كيف أن ذاكرة هذا الشريف ضعيفة إلي الحد الذي لا يؤهلها لتحديد عدد البراميل، فهي ما بين ثمانية وتسعة ملايين .. أي أن أخانا يسهو عن مليون برميل، وكأن الرقم الهائل هذا مجرد إبرة في كومة قش، وليس معادلاً لثلاثين مليون دولار بالتمام والكمال!
وتأمل كيف يستهين بعقلك وعقلي، عندما يقلل من شأن عمولته بوصفها هامش ربح لا يتعدي السنتات الخمسة، وكأن الزني مرة واحدة يعد كرامة مقابل الزني عشر مرات!
ومع ذلك .. فإن هامش الربح البسيط هذا إذا أسندناه إلي تسعة ملايين برميل قيمة الواحد منها، حينذاك، ثلاثون دولاراً، سيبوح لنا برقم يجعل من تواضع صاحبنا إهانة بالغة لكل ذي عقل.
السنتات الخمسة تعني دولاراً ونصف الدولار عن كل برميل .. وهي تعني بالتالي ثلاثة عشر مليون دولار ونصف المليون دولار 000.500.13 عن الصفقة كاملة!
شخصياً لن أسأل هذا الطفيلي الهامشي البسيط عما قدمه لأطفال العراق من هذا الربح، ولا عما دفعه من غرامات العراقيين المشردين علي أرصفة بلاده.
لكنني أسأل قطعان البشر التي لا تزال تهتف للطاغية اللص بتأثير هؤلاء اللصوص:
أما آن لكم أن تكفوا عن هذه الحماقة، وأن تستديروا إلي تجار الدماء هؤلاء لتستردوا منهم أدمغتكم؟
إن كراهية أميركا لا تجيز للعاقل أبداً أن يصطف إلي جانب صنيعتها .. بل ينبغي أن نكر من أميركا، أول ما نكره، جريمة وضعها هؤلاء الطغاة علي صدورنا، وتدميرنا بهم وتدمير بلادنا مرة أخري بأقوي أسلحتها، بذريعة وجود هؤلاء الشياطين الذين لم يكونوا لولاها.
لقد آن لنا أن نصطف مع أنفسنا، وأن نتصالح مع ذواتنا الجريحة، فلا نقف مع شيطان لمواجهة شيطان آخر.
لنفعل ذلك مرة واحدة، لكي نكون شعوباً جديرة بالحياة.
مفتي الهلال!
في عدد يونيو الماضي من مجلّة (الهلال) قرأت ما أضحكني من الأعماق، علي رغم المآسي المحيطة بي من كلّ جانب .. ولعلّ بلوغ هذه المجلّة الوقورة مرحلة الخرف في عامها الرابع بعد المائة، يُعدُّ واحدة من أكبر هذه المآسي.
سأترك جانباً كل ما يمكن أن يقال عن نزوع المجلّة في أعدادها الأخيرة إلي تقليد مجلاّت وصحف الخفّة والفضيحة، بتبنيها موضوعات مثيرة غير محكّمة، وغير لائقة بمجلّة رصينة لا تتطلّب الانتشار بالإثارة المجانية، مثلما فعلت بنشر أوراق علنية علي أنها سريّة تحاول الإيحاء بعمالة الكاتب اللبناني الشهير أمين الريحاني للمخابرات الأمريكية.
وسأترك جانباً مقالات رئيس تحريرها الجديد التي تلوي أعناق المناسبات علي اختلافها من أجل نشر صورة للرئيس المؤبد، في افتتاحية كلّ عدد تقريباً، وإقامة موالد التصفيق والهتاف والتسبيح بحمده.
وسأترك جانباً عدم التناغم في الموضوعات المنشورة، وتراوحها بين الجودة العالية والرداءة التامة، وكأنها مرصوصة (عليك يا الله) ، كما نقول في العامية، أي أنّ كل موضوع معلّق بذمة كاتبه، فإذا كان ذلك الكاتب متمكناً بدا الموضوع رصيناً وخالياً من الأخطاء اللغوية والإملائية، وإذا كان فقير العدّة أمكن القاريء أن يزن الأغلاط في الموضوع بالكيلوغرامات، وكفي الله هيئة المجلة عناء التحرير!.
سأترك كلَ ذلك جانباً، وأدخل في صلب النكتة التي أضحكتني جداً، فهي تعكس بإيجاز بليغ ما آل إليه حال هذه المجلة العريقة التي ظلَت علي مدي قرن من الزمان مدرسة ثقافية للعديد من الأجيال العربية.
في باب (أنت والهلال) الذي يحررَه مدير التحرير، قرأت ما يلي:
(رسالة للهلال من قم: رسالة رقيقة وصلت إلينا من قم بجمهورية إيران الإسلامية ننشرها كما بعث بها مفتي الشيعة هناك:
إلي حضرة رئيس التحرير - مجلة الهلال:
إذا كان بمقدوركم أن ترسلوا إلينا بعض أعداد مجلة الهلال أكون شاكراً لكم، كما أتمني أن أشارك ببعض المقالات.
سيد عبدالله
مفتي الشيعة
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
مدينة قم
مقابل جامعة الزهراء).
وفي نهاية الرسالة نشر الرد التالي من الهلال:
(نشكر لمفتي الجمهورية الإسلامية الإيرانية مشاعره الطيبة نحو مجلة الهلال وفي انتظار مقالاتك وإسهاماتك التي سننشرها فوراً. كما سيصلك قريباً أعداد من إصدارات مجلتنا).
إنَ في نشر تلك الرسالة والرد عليها ما ينم عن الخفة وانعدام المعرفة وعدم الاكتراث بسؤال العارفين.
فأصلاً ليس هناك منصب رسمي للإفتاء لدي الشيعة في أي مكان، بل أنَ هناك علماء بالعشرات يسمَون مراجع التقليد .. يسعي إليهم أتباعهم بطلب الفتوي، دون ارتباط بالدولة، أي أنّ الشيعي البحريني، مثلاً، قد يأخذ الفتوي من عالم لبناني، والشيعي الإيراني قد يستفتي عالماً عراقياً .. وعليه فإنَ مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسه لا يستطيع الإدعاء أنه مفتي الشيعة، فما بالك برجل مجهول اسمه سيد عبدالله، وهو من يمكن أن يكون له ألف سمي في إيران وحدها؟!.
ثم أنّ العنوان الذي سجله سيد عبدالله في ذيل رسالته، يدل بوضوح علي أنه نكرة، وأنه، شأن أي بائع متجول، لا يملك عنواناً محدداً أو مشهوراً، ولذلك اختار أن يلفت انتباه ساعي البريد إلي أنه يسكن مقابل جامعة الزهراء، مثلما يفعل سكان القري بالإشارة إلي عناوين معروفة يتلقون رسائلهم بدلالتها، كمركز البريد أو نقطة الشرطة أو المستوصف .. أو غيرها.
وفي حالة مفتينا العتيد، كان ينبغي لجامعة الزهراء أن تشير في مراسلاتها إلي أنها تقع مقابل المفتي سيد عبدالله، لا العكس، إذ لا يمكن أن تكون تلك الجامعة أشهر من دار الإفتاء!.
إنَ ذلك يذكّرني بالطرفة التي تروي عن شاب عراقي كردي عُيّن عند تجنيده في وزارة الدفاع ببغداد، فطلب من أهله مراسلته علي العنوان التالي: بغداد - وزارة الدفاع، مقابل محلات لبن أربيل!.
وبالعودة إلي رسالة المفتي التي تصفها مجلة الهلال بأنها رقيقة، سنري أنها ليست رقيقة ولا غليظة، بل هي مجرد سطرين يطلب فيهما كاتبهما أعداد المجلة ويتمني أن ينشر فيها بعض المقالات.
غير أن ردّ المجلة العجيب الغريب هو الطافح بالرقة الفادحة .. فهو أولاً لم يحاول جرح رداءة الأسلوب، فآثر أن تكون صياغته ركيكة، وهو ثانياً لم يتوقف متسائلاً عن حقيقة صفة هذا السيد عبدالله، بل بصم بالعشرة علي قرار تنصيبه مفتياً للشيعة، وهو ثالثاً فعل ما لا تفعله أكثر المجلات خفة، إذ أوقف المجلة في محطة القطار انتظاراً لمقالات وإسهامات سيد عبدالله، لكي تنشرها فوراً .. هكذا، دون قيد أو شرط، وفق قاعدة عليك يا الله التي أشرنا إليها آنفاً .. ذلك لأنّ الرد لم يجرح مشاعر المفتي، ولو برقّة، باشتراط أن يكون ما يرسله صالحاً للنشر!.
أتذكّر من أيام طفولتي، أنّ شاباً شقياً من أبناء شط العرب، كان يراسل برنامج ما يطلبه المستمعون في إذاعة إيران العربية، وكان أهل البصرة ينتظرون إذاعة طلباته بفارغ الصبر، لكي يضحكوا، ذلك لأنه لم يكن يطلب الأغنيات بأسماء حقيقية، لكن بأسماء ماركات السجاير والشوارع والأنهار والعاهرات، وقد يتعدّي ذلك إلي شتم عرض الشاهنشاه!.
وكانت أعيننا تفيض بالدمع من فرط الضحك ونحن نسمع المذيع يتمطّق برصانة قائلا: وطلب أغنية زهور حسين من البصرة كلّ من لوكس فردوسي وتركية غازي (أسماء أربع ماركات للسجاير) ويهديانها إلي حسنة ملص وزهرة الطويلة (عاهرتان شهيرتان) وإلي مأخوذ مرته شاهي (شتيمة فاقعة لزوجة الشاه) !.
وقد مرّ وقت طويل قبل أن تكتشف الإذاعة وقاحة صاحبنا فتمتنع عن إذاعة طلباته.
يبدو لي الآن أنّ سيد عبدالله قد أفلح بعد عقود متطاولة في أن يأخذ بثأر الإذاعة الإيرانية البائت، وأن يستوفي ثمن ضحكنا القديم بالضحك الطازج علي أهم صرح ثقافي عربي .. إذ ليس لدي شك في أنّ أهالي قم سينفجرون بالضحك كلما طالعوا رسالة (مفتيهم) وأنهم سيبتهلون إلي الله أن ينعم علي مجلة الهلال بطول العمر، وأن يجعلها دائماً نافذة لتفريج الهموم!.
أحمد مطر
مفتي عموم المسلمين
بريطانيا العظمي
مقابل ملعب ويمبلي
إسلام أَباد!
في اللّيلة الحادية والعشرين قالت شهر زاد: بلغني أيّها الملك السّعيد أنّ حافلة نُسفت بإذن اللّه، في وسط العاصمة، وقد تفحّم جميع مَن كانوا فيها والحمدللّه. وأنّ أسرة بأكملها ذبحت بمنّة اللّه، لأنّ لا حياء في الجهاد كما يقول قائد المجموعة المؤمنة بالله .. وأنّ عشرات الأطفال قد قُتلوا وهم في طريقهم إلي المدرسة، برصاص آبائهم في اللّه .. وأنّ سيّارة مفخّخة انفجرت بعون الله، أمام مركز لإسعاف عباد اللّه ..
قاطعها شهريار غاضباً: مهلاً، مهلاً، لقد أسرفت في مراقمة الفواجع .. ماذا تقصدين بكلّ هذا الهراء؟
قالت شهرزاد بلامبالاة: أقصد يا زوجي في اللّه، أنّه يكفيك ما رويته لك حتّي الآن .. ذلك لأنني لن أواصل تأليف الأكاذيب من أجل تسليتك ..
وعلام أتعب نفسي؟ مَن يضمن لي أنني لن أُقتل برصاص إخواني في اللّه، وأنا خارجة من عندك في الليلة الثانية بعد الألف إن شاء اللّه؟!
قلب كبير
ليس هناك زمان قبيح وزمان جميل .. بل هناك إنسان قبيح وإنسان جميل.
الزّمان ليس صورة ثابتة. إنه نهر صافٍ يجري بحياد، مثل المرأة، وهو في جريانه لا يُبدي صورته الخاصة، ولكن يعكس صور النّاس الذين يمرّون به، ويبقي علي حياده، علي الرّغم من اسرافهم في تحمليه صفات هذه الصّور.
ومن تلك الصّور المنعكسة علي هذه المرآة، تبدو لنا، من بعيد، صورة عام،1916 حيث تنطبع علي جانب منها مشاهد الهول والدمار وإهراق الانسان لدم أخيه الانسان، في ذروة الحرب العالمية الأولي.
لكنّنا، في الوقت نفسه، نشاهد في زاوية قصّية من الجانب الآخر فيها وجه فنّان في العشرينات من عمره، يسمّيه أصدقاؤه بيب تحبّباً، وتعبيراً عن براءة ملامحه الطفوليّة.
كان بيب في ذلك الوقت يعمل لدي شركة (فيم كوميدي) لإنتاج الأفلام الصّامتة في فلوريدا، وكانت أدواره ثانوية وبسيطة، لكنه ثابر من أجل ان يفوز بأدوار أكبر وأكثر تأثيراً، دون ان ينقطع عن عمله كمغنٍّ في أحد المسارح، ليلاً، لأنّه كان يحب الغناء أكثر من أيّ شيء اخر.
وقد جمع له علمه المزدوج شعبية كبيرة، كان من نتائجها ان تضاعف راتبه لدي شركة التمثيل، فارتفع دخله بصورة كبيرة. لكنّه لم يتردّد في إنفاق ذلك الدّخل الكبير، أولاً بأوّل، ليس بدافع الإسراف والتبذير، ولكن بدافع سخائه الذي لا حدّ له، الأمر الذي جعل حتّي معارفه العابرين يستغلّون طبعه الجميل هذا، فكانوا يقترضون منه المال، علي وعد بتسديد القرض في موعد محدّد، لكنهم سرعان ما يتناسون، ببساطة، تعهدهم بالسّداد، فيما كان هو بسبب من رقّة قلبه ورهافة احساسه، لا يجرؤ، إطلاقاً، علي تذكيرهم بتلك الدّيون.
وعلي هذا المنوال كان ينفق الكثير من النقود علي الكثير من الدّيون الميّتة، بصورة لم يسبقه اليها احد، وربّما لم يلحقه بها أحد ايضاً!
إن سخاء بيب المفرط، كان نابعاً من تجربته المرّة في صباه، عندما عرف -وهو يتيم في كنف أمّ مكافحة- كيف ان كل قرش يكسبه المرء يمكن ان تكون له قيمة كبري. وعلي هذا كان يحمل في أعماقه تعاطفاً فطرياً مع أيّ انسان يعاني من ضائقة ماليّة.
كان بيب وغالبية العاملين معه في الشركة يقيمون في فندق (أتلانتك) بمنطقة جاكسونفيل.
وفي أحد الفنادق المجاورة، كان هناك شاب موهوب يعمل في غسل الأطباق، ويؤدّي طائفة أخري من الأعمال التافهة من أجل توفير لقمة العيش.
وذلك الشّاب الواقف علي حافة الفقر، والذي يحدوه الأمل بدخول علام الاستعراضات كمغنٍّ، كان متزوجاً حديثاً من شابة مغنّية أيضاً، وكانا يسافران من مكان الي آخر، علي درّاجة ناريّة متهالكة، بحثا عن عمل. وكانا، لشدّة فقرهما، يضطران كثيراً الي النوم ليلاً علي مقاعد الحدائق العامّة.
عندما سمع بيب بحكاية هذا الشاب شعر بصدمة عنيفة تهزّه من الأعماق، إذ لم يصدق أبداً انه يمكن لأيّ إنسان أن ينحدر الي وهدة حياة بائسة كهذه.
وعلي الفور، انطلق لدعوة ذلك العامل الشاب وزوجته للإقامة في فندق (أتلانتك) ، وأصرّ علي أن يدفع أجرة غرفتهما مقدماً لمدّة ثلاثة أشهر، وبسرعة غير عادية استطاع ان يجد للشاب عملاً جديداً لائقاً، ثم وضع في يده خمسين دولاراً (هي ثروة في تلك الأيام) لكي يقضي بها حاجاته الراهنة، ورجاه بشّده ألاّ يفكّر بإعادة المبلغ اليه!
تمتم الشاب المشدوه بانبهار وخجل:
- لكن يا سيّدي .. إنني يجب أن أردّه اليك.
ولمّا رأي بيب اصرار الشاب علي ذلك، قال له لبطف بالغ:
- هناك طريقة واحدة في هذا العالم، يمكنك ان تسدّد بها ما أعطيك إيّاه: في يوم ما، عندما تجد شخصاً أسوأ حالاً منك، لا تتردّد عن مساعدته.
إنّ ذلك سيكون، بالنسبة لي، سداداً مضاعفاً لما أعطيتك إيّاه!
اغرورقت عينا العامل الشاب بالدّموع، وطفق يبكي، وعندئذ بادر بيب الي مغادرة الغرفة بسرعة خاطفة.
إنّ بيب الذي رحل عن الدنيا في عامه الثاني والستين، بعد ان أصبح نجماً كبيراً وطبقت شهرته الآفاق، ظلّ حتّي آخر لحظة من حياته محتفظاً بطبعه الجميل هذا، وبوجهه الطفولي البريء، وبروحه الطفولية البريئة نفسها.
واذا لم يكن في وسعه ان يسخو علي جميع البشر من جيبه، فانّه استطاع، بالفعل، ان يسخو عليهم من فنّة بهبات وافرة جدّاً من السعادة والضحك، بقيت تتدفّق، من بعده علي النّاس في كلّ أنحاء العالم، كالصّدقة الجارية.
لم يكن بيب هذا غير أوليفر هاردي الممثّل الكوميدي البدين ذي الوجه الطفولي، الذي أسعد العالم مع زميله ستان لوريل بسلسلة أفلامهما الهزلية التي حملت اسم (لوريل وهاردي) !
دوائر
نظرت من نافذتي في الطابق الثالث. كان الشارع ساكناً، وبدت المحلات علي جهته المقابلة متراصفة مع سكونه مثل التوابيت. وكان المارّة القليلون يتحّركون علي الرصيف ببطء وضجر، مثلما تتحّرك موجات النهر المتكاسلة امام هبّة ريح خفيفة.
رفعت بصري إلي السماء، فبدت لي مكتظّة بالغيوم الدّاكنة الكئيبة.
خطرت في ذهني المترع بكآبة لا حدّ لها، صورة حجر مقذوف كالطلقة، يكشط، في تسارعه، وجه الماء الساكن، ويستثير الضجّة من حوله، ثمّ لا يلبث أن يخلّف من بعده دوائر تترادف وتتّسع إلي ما لانهاية.
وفكرّت في أنّ تلك الغيوم إذا ما بصقت حمولتها علي وجه الشارع فلن تبعث فيه الحياة المرجّوة. سيسطع البرق للحظة، ربما، وسيزأر الرّعد لثوان، ربما، لكن هذا هو كلّ شيء. وفي المقابل فإنّ خرير المطر الموحش سيكتسح أمامه حتّي موجات العابرين المتكاسلة، وسيجبر حتّي الأبواب القليلة المفتوحة علي الكفّ عن تثاؤبها.
***
(كرااااش)!
ركزّت جوارحي كلّها في نظرة عاجلة إلي واجهة دكّان الخبّاز. ها هو ذا حجر قد اندفع بعنفوان ليفتتح سيمفونيّة الحياة.
بلمح البصر خرج الخبّاز حانقاً، وفي يده لوح الأرغفة الخشبي، وجري من ورائه جميع عمّال المخبز.
داست الأرجل شظايا الزّجاج التي ملأت الرّصيف. صرخ واحد من العمّال الحفاة، وراح يتقافز علي رجل واحدة، حاملاً بيديه رجله الأخري وهي تقطر بالدّم.
صاح الخبّاز وهو يري الواجهه مهشّمة تماماً:
- أولاد الكلب.
كان أمام الدَكان صبيّ مطأطيء نحو الأرض يبحث عن درهمه الذي سقط منه. تلّه الخبّاز من ياقته، وألهب وجهه بصفعة رنّانة، أردفها بالصرّاخ:
- ابن الكلب .. ماذا تريد ان تكسر أيضاً؟!
ارتعش الصبيّ بين يَديّ الخبّاز. وبعد هنيهة من صمته المطبق نتيجة خضّة المفاجأة، أطلق عقيرته بصراخ يمزّق الاذان.
تفتّحت النوافذ علي جانبي الشارع، وتردّدت الهمهمات والصيّحات متسائلة، ثم تتابع هطول النّاس من أبواب المباني.
أقبلت امرأة مذعورة، واخترقت الزّحام. وحين رأت الصبيّ غارقاً في دموعه وهو مشنوق من ياقته بيد الخبّاز، لطمت خدّيها وصدرها، وأطلقت صيحة فزع عالية:
- ابني!!
جذبت الصبيّ بعنف، وانتشلت اللّوح بسرعة من يد الخبّاز، ثمّ راحت تجلده به بضربات متلاحقة، وهي تصرخ بلا انقطاع:
- جبان. جبان.
حاول أحد العمّال استخلاص اللّوح من يدها، فسقطت علي الأرض، واندلع غضبها، حينئذ، أعنف ممّا كان.
اندفع رجل من وسط الزّحام، وتوجّه كالعاصفة نحو ذلك العامل الذي أسقط المرأة.
كان الرّجل، في عجلته للنزول، لا يرتدي غير سروال بيجامته، وكان وجهه لا يزال مغطّي بالصابون.
صاح النّاس برعب:
- العن الشيّطان يا رجل!
تراجع العامل فزعًا، وامتدت الأذرع للإمساك بالرّجل الغاضب الذي كان يصرخ، وفي يده تلتمع شفرة الحلاقة:
- يا خسيس .. تضع حيلك في امرأة؟!
أفلح البعض في جذب الرّجل الشّهم وتثبيته في مكانه، لكنّ موجة الزّحام الطاغية دفعت بالعامل نحوه بقوّة.
تدفّق الدّم كالنافورة، واصفّر وجه الشّهم الذي ما زالت يده قابضة علي الشّفرة المغروزة في بطن الخسيس.
صرخ العامل المطعون قبل أن يهوي علي الرّصيف:
- قتلني!
أقبل من آخر النّاصية شرطيّ يركض. وقف بين الجموع حائراً. كان الجميع يشدّونه من كلّ جانب، وكانوا جميعاً يزعقون في وقت واحد، مشيرين إلي كل الاتجّاهات: من الخبّاز وعمّاله، إلي الأم وولدها، إلي صاحب الشّفرة، إلي جثّة العامل النازفة فوق الرصّيف.
توقّفت السّيارات في الشارع، وراحت تنفخ أبواقها دون جدوي، حيث لم يكن هناك سبيل إلي تفريق الناس.
وبين الفينة والأخري، كانت صفّارات شرطة المرور تزغرد آمرة بالتحرّك، لكن لم يكن في وسع السائقين إلاّ مواساتها بنفخ الأبواق وضخّ البنزين ودوس الكوابح بسطتُ ذراعيّ علي طوار النافذة، مصيخاً إلي ضجّة الحياة التي بعثها ذلك الحجر السّاحر في سكون نهر الشّارع، ورحت أرقب بشغف، تلك الدوائر التي خلّفها وهي تترادف وتتّسع.
قلت وأنا أسمع صفّارات الشرطة:
- تلك هي دائرة المرور.
ولم يلبث صوت سيّارة الإسعاف أن أتي يتأوّد من بعيد، وارتفع بالتدرّيج كصرخة المفجوع.
- ها هي ذي دائرة الصحّة.
ثم ضحكت حتّي دمعت عيناي، حين امتلأ الشّارع بعويل متصّل مصحوب برنين الأجراس.
قلت وأنا أغمض عينيّ منتشياً:
- .. وهذه دائرة الإطفاء.
فتحت عينيّ لأري المارّة يتراجعون صائحين، أمام لهب النار، ورجال الإطفاء يقتحمون بخراطيمهم دكّان الخباز الذي اندلع فيه الحريق.
كانت النّار تشبّ وتخبو مكفّنة بالدّخان ورائحة الاحتراق. وكان الزّحام يشتدّ، وكانت الضجّة ترتفع وترتفع.
سمعت قرعاً علي بابي.
تركت النافذة، وفتحت الباب. رأيت أمامي شرطياً عابساً، وإلي جانبه رجل غاضب، ووراءهما حشد من النّاس.
قال الرّجل الغاضب وهو يشير إليّ:
- هذا يا سيّدي .. نعم هو نفسه.
لقد رأيته بعينيّ هاتين، من نافذتي علي الجانب الآخر، وهو يقذف الحجر نحو واجهة المخبز.
قُلت في سرّي، وأنا أهبط من علي الدّرج أمام الشرطي والجماهير:
- ها نحن قد وصلنا، الآن، إلي دائرة القضاء! ورحت أتخيّل ميلاد دوائر أخري وأخري، فأنا أعلم علم اليقين أنّ الدوائر التي يصنعها ارتطام الحجر بالماء الساكن ستظلّ تترادف وتتّسع بلا نهاية.
قلت لنفسي، وأنا أصعد إلي سيّارة الشرطة: - لا يهمّ .. لقد بعثنا الحياة في الشّارع!
الأزاليا الحمراء (1/ 3)
جاءت الجدّة من الرّيف لزيارة أسرة ابنتها في شنغهاي، حاملة معها للأسرة، علي سبيل الهديّة، دجاجة صغيرة.
ويبدو أنّ الجدّة كانت مضطرّة لجلب هذه الهدية الثمينة، فهي لشدّة فقرها لم تعد تستطيع توفير الطعام للدجاجة، ولأنّها قد رعتها منذ كان عمرها يومين فإنّ قلبها لم يطاوعها علي ذبحها وطبخها.
وقد كُتب لهذه الدّجاجة أن تبقي علي قيد الحياة، لأنّ ربّة الأسرة رفضت أن تذبحها، لكي تُجنّب أطفالها رؤية مشهد القتل، فظلّت الدّجاجة تزحم البيت برائحة مخلّفاتها، حتي قرّرت الأسرة أن تبيعها لتتخلّص منها، لكنّها تراجعت عن هذا القرار عندما وضعت الدجاجة بيضتها الأولي.
ذلك لأنّ قيمة البيضة في السوق كانت أعلي قليلاً من قيمة المواطن الصّيني في أيّام الزعيم الأوحد (ماوتسي تونغ) غير أنّ هذه الدّجاجة تحوّلت، فيما بعد، إلي أزمة خطيرة كادت تعصف بمستقبل الأسرة. فقد صدر قرار حزبي بإخلاء البيوت من الدّواجن، وكان من الصعب إخفاؤها طويلاً، لأنّها كانت تفضح وجودها بقأقأتها المتواصلة، الأمر الذي دعا اللجنة الحزبية في المنطقة إلي إرسال وفد لمنزل الأسرة لأخذ تعهّد قاطع بالتخلّص منها، وعرضها مذبوحة علي مسؤول الحزب في صباح اليوم التالي، وإلاّ اتُّهمت الأسرة كلّها بالعصيان!.
وفي الصباح هيّأت الابنة الكبري (آنتشي) الماء الساخن والسكّين، وقبضت علي الدّجاجة بغية ذبحها، لكنّ هذه عندما أحسّت بقرب أجلها، قفزت هاربة إلي غصن شجرة في باحة البيت، وتنقّلت صاعدة من غصن إلي آخر، حتي بلغت ذروة الشجرة، في الوقت الذي كان فيه المسؤول الحزبي يقرع جرس الباب.
وفي حيرة (آنتشي) بين الدّجاجة الهاربة وبين المسؤول المنتظر، حاولت جاهدة أن تلفّق عذراً مقبولاً تدفع به عن أسرتها تهمة العصيان. لكنّها في تلك اللحظة بالذّات، سمعت صوت ارتطام الدجاجة بالأرض، والتفتت فرأتها تنتفض، ثم ما لبثت أن سكنت إلي الأبد.
لقد كانت هذه أوّل دجاجة في التاريخ تُقدم علي الانتحار احتجاجاً علي استبداد السُّلطة!.
وإذا كان هذا هو حال الدّجاجة في ظِلّ ذلك النظام الشمولي المطلق، فكيف، إذن، كان حال الإنسان؟!
الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) تعرض لنا في كتابها الفريد (الأزاليا الحمراء) صوراً بليغة لمأساة الإنسان في صين (ماو) ، هي في الحقيقة نسخ صينية لمآسي الناس في ظلّ جميع الأنظمة الشمولية في هذا العالم.
(الأزاليا الحمراء) كتاب سيرة شخصيّة يتوخّي الدّقة في ذكر حقائق حيّة عاشتها الكاتبة، لكنّه لغرابة وقائع تلك الحياة، ولكثافة الشاعرة والصّدق في السّرد، يكاد ينافس أفضل الرّوايات المتخيّلة حبكةً وتشويقاً.
عنوان الكتاب مستمدّ من عنوان الأوبرا التي ألفّتها مغنية الأوبرا سابقاً وزوجة (ماو) لاحقاً (زيانغ تشنغ) التي كان لها موقع مؤثّر في حياة الكاتبة. وهي في اختيارها لهذا العنوان أرادت القول بأنّ كلّ إنسان في ظلّ النظام الشّمولي، يظلّ وحيداً منفرداً مستوحشاً مثل نبتة (الأزاليا) الصحراوية، برغم امتزاجه بمئات الملايين من الناس. وهي لم تَعْدُ الصّواب في اختيارها هذا، إذا علمنا أنّ عاطفة الحب في ذلك العهد كانت تُعدّ من المحظورات، ومن التّهم التي قد تودي بصاحبها إلي التهلكة .. ولهذا فإنَ مقدّمتها التي لم تستغرق سوي سبعة أسطر، قد ركّزت علي هذه النقطة بالذّات، باعتبارها السلك الذي ينتظم عقد مئات من الصفحات الحافلة بمختلف الأحداث المؤلمة.
تقول (آنتشي مين) : الحبّ قوّة جبّارة تجعلك تنسي كلّ شيء آخر تقريباً، حتي التفكير بإعلان الثورة. فبدلاً من أن تفكّر في الصراع وتدمير الأشياء، تجد نفسك، حين تحبّ، راغباً في البحث عن السلام والاحتفال بالحياة.
ولأنّ الحزب يعلم أنّ الناس سيخرجون عن سيطرته الكاملة، إذا أحبّوا، فقد كان قادته علي الدوام يخافون من الحب!.
ولدت (آنتشي مين) في شنغهاي عام،1957 وفي طفولتها أصبحت عضواً مثالياً في (طلائع الحرس الأحمر) .. وعندما بلغت السابعة عشرة التحقت بالعمل الشّاق في المزارع الجماعية. ومن هناك التقطها مرافقو زوجة (ماو) لتكون نجمة في أفلام الدعاية الشيوعية.
لكن بعد وفاة (ماو) عام 1976 شعرت آنتشي بالخزي والمرارة، فقرّرت أن تغادر الصّين إلي الولايات المتحدة. وقد أمكنها في عام 1984 أن تنفّذ قرارها بمساعدة بعض الأصدقاء.
عندما غادرت (آنتشي) الصين، كانت معرفتها باللّغة الإنجليزية محدودة، ولذلك فقد حاولت أن تكتب سيرتها هذه بلغتها الأصلية، لكنّها وجدت الأمر صعباً، ورأت أنّها لن تجد الطريقة المناسبة للتعبير عن معني الحريّة إلاّ بعاطفة حرّة مستمدة من لغة جديدة!.
ولهذا فقد صبرت حتي تمكّنت من الكتابة باللّغة الإنجليزية، لتنشر سيرتها في عام،1993 كشهادة مهمة علي عهد جائر، تضاف إلي الشهادات القليلة التي كتبها صينيّون من واقع تجربتهم الحيّة التي بدت أبعد وأقوي تأثيراً من أجمل الرّوايات المتخيّلة، لأنها شهادات كُتبت بدم أصحابها.
وإذا لم يكن للاستبداد من سيّئة أكثر من جعله المرء يشعر بالنفور من لغته الأمّ، لأنّها عاشت علي لسانه وهو عبد، فإّن ذلك وحده يكفي لصبغ الاستبداد بالسّوء الذي لا تغسله كلّ بحار الأرض.
الأزاليا الحمراء (2/ 3)
لم تكن هناك طفولة في صين (ماو) ، لأنّ الطفولة كانت تُعدّ تَرَفاً. ولم يكن للأبّوة والأمومة معني حقيقي، لأنَ هاتين الرّابطتين كانتا في ذلك العهد تُعدّان من الكماليات!
كان الصغار والكبار جميعاً أبناءً للحزب، وهو وحده الذي يقرر كيف يعيشون وكيف يموتون كتروس في آلة مشاريعه الحكيمة والصحيحة دائماً!
تقول الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) في سيرتها الشخصية (الأزاليا الحمراء) التي تروي فيها تجربتها خلال سنوات الثورة الثقافية في الصين:
لي أخ وشقيقتان كنت أسمّيهم أطفالي، وذلك لأنّه كان عليّ، يومّياً، أن اصطحبهم إلي الحضانة أو الرّوضة، وأعود بهم منهما، فيما كنت أنا نفسي مثلهم طفلة في الرّوضة!
وتتحدّث عن اسمها وأسماء أخوتها، لتبيّن أنّ تسميتهم وحدها كانت مغامرة جريئة من والديها، ومؤشّراً علي غرابة أطوارهما وسباحتهما ضدّ التّيار.
تقول: لقد اتّخذ والداي خيارات تسميتنا بشكل غير مألوف، إذ أطلقا علينا نحن البنات أسماء أحجار كريمة، فأنا (آنتشي) ، وأختي الثانية (المزهرة) ، وأختي الأصغر (حجر المرجان) ، أمّا أخي فقد سميّاه (فاتح الفضاء) .. وكانا من هذه الناحية يُعدّان شاذَّين بالنسبة للآخرين، لأنّ جيراننا كانوا قد سمّوا أبناءهم علي النحو التالي: حارس
اللّون الأحمر، الوثبة العظيمة، المسيرة الطويلة، النجم الأحمر، التحرير، الثورة، الصين الجديدة، طريق روسيا، مقاوم الأمريكان، الوطني الرّائد، الجندي الشيوعي الفذّ، إلخ! وتُبدي ملاحظة لابُدّ منها حول اسمها قائلة إن والديها سمّياها في البداية (لن - شوان) أي (الشمس المشرقة فوق الجبال) .. لكنّهما سرعان ما انتبها إلي زلّتهما، وبادرا فوراً إلي إلغاء هذا الاسم، حين تذكّرا أن الزعيم (ماو) كان يعتبر الشمس الوحيدة في هذا العالم!
وبعد تفكير طويل أطلقا عليها اسم (آنتشي) ومعناه (حجر السلام) . أمّا اسم أخيها (فاتح الفضاء) فقد اختاره أبوها لسببين: أولاً لأنه كان يحب علم الفلك وثانيا لكي يؤكّد تفاعله مع تصريح (ماو) الذي أعلن فيه عن أن الصين ستبني قريباً جداً مركبتها الفضائية الخاصة! وعن فترة أمومتها لأخوتها وهي طفلة في الرّوضة، تقول إنها برغم خوفها من الأزقّة المظلمة ومن عبور الشوارع المزدحمة، عند اصطحابها لأشقّائها، فإنّها تعلمت ألا تُظهر خوفها، لأنها كان مفروضاً عليها أن تكون قدوة أعلي للأطفال، وأن تعطيهم مثلاً علي ما تعنيه الشجاعة.
وبعد أن توصلهم إلي البيت، كانت تذهب إلي المطبخ لإعداد العشاء. وكانت دائماً تستغرق وقتاً طويلاً من أجل إشعال الموقد. وعن ذلك تقول: لم أكن أفهم أن الخشب أو الفحم يحتاجان إلي هواء لكي يشتعلا. وعلي ذلك فإنني كنت أحشو الموقد بالحطب، ليندفع الدّخان منه بلا نار، وكنت في الوقت نفسه أُغنّي عدّة مقاطع مقتبسة من تعاليم (ماو) !
نعم .. (الهواء) .. تلك هي كلمة السّر التي تلخّص معاني الحياة كلها. إذ لا يمكن للنار أن تشتعل بترديد تعاليم (ماو) .. بل بالهواء تشتعل. وكذلك لا يمكن للحياة أن تتحقق بغناء تعاليم الزّعيم الأوحد .. ولكن بهواء الحريّة تتحقّق!
وعند انتقالها إلي المرحلة الابتدائية، وانضمامها إلي (طلائع الحرس الأحمر) كانت (آنتشي) غاطسة ليل نهار في مهمّة إعلاء شأن الشيوعية.
تقول: في تلك الأيّام كنت أرسم الشعارات الثوريّة علي الجدران والألواح، وكنت أقود زملائي وزميلاتي لجمع قطع النقد الصغيرة التي لا تتعدي قيمتها بضعة بنسات، وذلك لكي نتبرّع بها لإعالة الأطفال الجائعين في أمريكا!
وتضيف: لقد كنّا فخورين بهذا العمل، وكنا واثقين من أنّنا بهذا نضع نقطاً (حمراء) جديدة علي خارطة العالم، وأننا نناضل من أجل السلام النهائي لكوكب الأرض!
ذلك ما تصنعه الدّعاية الحزبية اللئيمة بأذهان الأطفال، فتغسلها من المنطق الذي ينبغي أن يكون حاضراً في الأذهان عند إجراء المقارنة بين الشيء ونقيضه، بين حياة أطفال الصّين المرفّهين وحياة أطفال أمريكا الفقراء الذين يتصدّق أولئك عليهم بالبنسات من أجل إشباع جوعهم!
لنستمع إلي هذه المرفهّة المتصدّقة وهي تحّدثنا عن مظاهر رفاهيتها ..
تقول (آنتشي) : عندما التحقت بمدرسة السعادة الابتدائية، كانت رفيقاتي في الصفّ يسخرن منّي، لأنني كنت دائماً، أرتدي نفس المعطف المطرّز بالثقوب من كلّ جهة، وهو أصلاً واحد من الثياب القديمة التي تلقّيتها من ابنة عمّي!
وتواصل قولها: إنّ أختي (المزهرة) كانت، في العادة، ترتدي ملابسي التي تضيق عليّ بفعل النموّ، ولكن بعد أن توضع لها رقع علي الياقات والمرافق. أمّا أختي (حجر المرجان) فقد كانت ترث الملابس نفسها من (المزهرة) بعد أن تضاف إليها رقع جديدة أخري، بحيث تبدو تلك الملابس عليها وكأنها ذائبة، برغم حرصها الشديد علي العناية بها، لعلمها بأنّ شقيقنا (فاتح الفضاء) ينتظر دوره في ارتدائها!
و (فاتح الفضاء) بحكم تأخّر دوره، كان دائماً يرتدي أسمالاً بالية، حتّي أنّ أطفال الجيران كانوا يسمّونه (البرغوث) . وقد كان هذا يجعلني أشعر بأنني مذنبة إلي حدّ بعيد!
وعلي الرغم من ذلك، فإنّ هذه الأسرة المنفّذة حرفياً لاشتراكية الأسمال، كان من المحتمل جداً أن تُتّهم، بكل بساطة، بأنها (أسرة بورجوازية) ، بمجرد أن يغضب منها أيّ رفيق .. وعلي المرء أن يتخيّل ضخامة حجم هذه الاحتمالات، إذا تذكّر أن الصين كانت تعجّ بما يزيد علي مليار رفيق!
في عام 1967 انتقلت أسرة (آنتشي) من مسكنها بسبب ما كابدته من أذي الجيران في الطابق الأسفل .. إذ كان هؤلاء غاضبين علي الدّوام لكون الطابق الذي تقطنه أسرتها يتألف من غرف أكثر، ولهذا كانوا لا يتورّعون عن دلق دلاء (مخلّفاتهم) فوق أسرّة النوم في بيت آنتشي.
وظلّ أولئك الجيران يُصعّدون عدوانهم يوما بعد يوم، ويهدّدون بإيذاء الأطفال عند غياب أمهّم وأبيهم - وهما بالطبع غائبان للعمل طول اليوم - ووصلوا إلي حدّ تهيئة المسرح لارتكاب جرائم معفاة من العقاب، بقولهم إنّ ابنتهم الثانية لها تاريخ طويل في الاختلال العقلي، ولهذا فانّهم غير مسؤولين عمّا ستفعله.
تقول (آنتشي) : عندما عادت أميّ من العمل، ذات يوم، وتخطّت باب المبني إلي الداخل، قفزت (البنت الثانية) فوقها، مشهرة في وجهها مقصّاً. لقد رأيتهما تتصارعان في بئر السلّم، ثمّ تلقّت أمّي دفعة عنيفة جعلتها تترنّح وتهوي مرتطمة ببلاط الأرضية، وعلي وجهها وذراعها طعنات المقصّ. كانت صدمة بالنسبة لي. وقفت إلي جانب أميّ التي كان الدّم يتدفّق من جراحها. حاولت أن أصرخ، لكنّ صوتي كان قد هرب منّي.
أمّا (البنت الثانية) فقد نزلت إلي الطابق الأسفل، وجرحت رسغيها بمقصّها، ثم اندفعت إلي الخارج بعجلة وعنف، متوجّهة نحو حشد الفضوليين، وراحت تصرخ رافعة رسغيها الدّاميين عالياً: انظروا إليّ .. إنني عاملة، وقد هوجمت من قبل الطبقة البورجوازية. أيّها الرّفاق، إنّها جريمة سياسيّة!
أهذه نكتة؟ ربما .. لكنني لا أراها كذلك، لأنني كعراقي أعرف كثيراً من هذه المواقف في عهد صدام الرجيم، حيث كانت تهمة الخيانة تهدي إلي المواطن لأيّ سبب، مرفقة بطلقة وفاتورة بثمنها يتوجّب علي أهل المواطن تسديدها بعد قتله!
كان يمكن للرفيق الفاشيّ في دولة المنظمة السريّة أن يتهّم حتي الأعمي والمُقعد بالتجسّس لصالح الامبريالية!
والعراقي الذي يعرف هذا لن يستطيع أن يضحك من الواقعة التي ترويها (آنتشي مين) ، لكنّه يستطيع بكلّ تأكيد أن يتذكرّ، بوحي هذه الواقعة، طائفة كبيرة مثلها أو أسوأ منها، فيحتاج حينئذ إلي البكاء .. ويحتاج في ذلك إلي مَن يساعده بقدر إضافي من الدموع!
الأزاليا الحمراء 3/ 3
في صين (ماو) كان ارتفاع ضغط الدّم يُعدّ مرضاً بورجوازياً يخاف صاحبه من أن يُضبط متلبّساً به، ولذلك فإنّه يضطرّ إلي مواصلة العمل الشاق في أثناء نوبة الدّوار التي تعلّقه بين الحياة والموت، دون أن يجرؤ علي طلب إجازة قصيرة للرّاحة، كي لا يتّهم بتعطيل مسيرة الثورة البروليتارّية!.
وفي صين (ماو) كان الاختصاص العلمي شيئاً، والاختصاص الحزبي شيئاً آخر، وإذا وقع الخلاف في مسألة علمية دقيقة بين العالِم والمسؤول الحزبّي، فإنّ كلمة الأخير هي الرّاجحة، حتَي ولو كان هذا لا يعرف التّمييز بين الألف وكوز الذّرة!.
ترسم الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) في سيرتها الشخصّية (الأزاليا الحمراء) صوراً عديدة لمثل هذه الحالات في ظِلّ حكم شمولي خانق كان يُحتَم علي الإنسان أن يمشي فوق هوَة فاغرة، علي حبال أعصابه المشدودة علي الدّوام، حذر الوقوع في زلّة غير مقصودة قد تسلمه إلي العدم!.
تقول إنّ والدتها كانت تعمل مُدرّسةً، وقد طُلب منها، ذات يوم، أن تكتب شعاراً يقول (عشرة آلاف سنة من الحياة التي لا تنتهي للزّعيم ماو) .. لكنها تحت وطأة إصابتها بضغط الدّم، وعدم السّماح لها بأخذ إجازة للرّاحة، أخطأت في كتابة الشّعار، إذ نسيت - بسبب زيغ عينيها - أن تكتب كلمة (لا) المتّصلة بكلمة (تنتهي) .. وعندئذ تمّت دعوتها إلي اجتماع حزبي في اليوم التالي، لمحاكمتها عن تهمة كونها تحمل (نيّات شريرة)تقضي بمعاملتها كمجرمة!.
وفي المساء، تدبّرت (آنتشي) كتابة مرافعة لتستخدمها أمّها في الردّ علي التّهمة الموجّهة إليها، مستفيدة من أقوال (ماو) في الكتاب الأحمر المختصر الذي تحفظه عن ظهر قلب.
وممّا جاء في هذه المرافعة: إنّ الزعيم (ماو) قال: إننا يجب أن نسمح للنّاس بتصحيح أخطائهم، فذلك هو الطريق الوحيد لفهم الشيوعية العظيمة .. وعلي هذا فإنّ الخطأ الذي ارتكبته إنسانة بريئة ليس جريمة، ولكن منع هذه الإنسانة من تصحيح الخطأ هو الجريمة. بعبارة أخري إنّ عدم طاعة تعاليم (ماو) هو الجريمة.
ويبدو أنّ المسؤولين الحزبيين قد تحسّسوا رؤوسهم عند سماع هذه المرافعة، إذ أنّ والدة (آنتشي) نجت بأعجوبة من مصير أسود، بعد أن قرأتها .. لكنّها، في مناسبة أخري، لم تسعد بامتلاك مثل هذا الحظّ.
ففي ذلك الزمن السعيد، لم يكن في طاقة الناس أن يشتروا (ورق التواليت) ، ولذلك فقد كانوا يستخدمون قصاصات ورق الصحف لهذا الغرض. وقد حكم الحظَ العاثر علي هذه الأمَ المسكينة، وهي تحت وطأة نوبة شديدة من نوبات ضغط الدّم، أن تستخدم، عند دخولها الحّمام، قصاصة من جريدة كانت عليها صورة (ماو) !.
في هذه المرّة كانت الجريمة ثابتة الأركان، ولم يكن بوسع أيّة قوّة في الأرض أن تغفرها، وعلي هذا تمّ فصل والدة (آنتشي) من مهنة التدريس، وإرسالها للعمل الشّاق في مصنع للأحذية!.
أمّا والد (آنتشي) المختص بعلوم التكنولوجيا، فقد طرد من عمله في متحف شنغهاي للعلوم الطبيعية، بعد اختلافه في الرّأي مع مسؤوله الحزبي حول أحد المخّططات التكنولوجية. وكانت التهمة التي تمّ بموجبها طرده من العمل هي أنّه يستغل (العلوم) لمهاجمة (الحزب الشيوعي) !.
كان الناس مجرّد تروس في آلة الحزب العظيم، وكان عليهم أن يدوروا وفق اتّجاه حركة الآلة بلا نقاش، سواء أكانوا علماء أم مدرّسين أم طلبة أم أميّين. وسواء أكانوا أطفالاً أم طاعنين في الغيبوبة.
وإذا كان علي والِدَي (آنتشي) أن يُمارسا علوم اللغة والتكنولوجيا في مصانع الأحذية، فقد كان علي (آنتشي)التي بلغت السابعة عشرة أن تترك المدرسة مرغمة لتلتحق بالمزارع الجماعية .. وكأنّ الصّين قد أقفرت من الفلاّحين!.
إنّ أكثر من مائتي ألف شاب وشابة من كلّ مدينة صينيّة، كانوا يُقتلعون من مدارسهم لكي يعملوا في المزارع الجماعية إلي أمد غير معلوم، حيث كانوا يعيشون ويعملون في تلك المزارع كالسجناء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقّة. وفي نهاية الأمر فإنّ ما ينتجونه من محصول لا يكون كافياً حتّي لإطعامهم!.
تقول (آنتشي) : طالما تساءلنا: ماذا كنّا نعني حقَاً عندما نهتف: الكدح بشدّة .. إنماء الكثير من المحاصيل .. من أجل دعم الثورة العالمية؟!.
وفي المزارع أيضاً لم يكن عمل المرء شفيعه بل رضا المسؤول الحزبي، ولم يكن اختصاص ذلك المسؤول في الفلاحة شفيعه بل اختصاصه في حفظ أقوال (ماو) !.
تتحدّث (آنتشي) عن المسؤولة القاسية في المزرعة التي عملت فيها، فتقول إنّها كانت تردّد دائماً: إنني لا أمانع في أن أكون خرقة تستخدم لمسح أكثر زوايا المطبخ قذراة .. من أجل الحزب الشيوعي!.
وهذه المسؤولة (الخرقة) كانت قد وضعت نظاماً للعمل أمرت فيه بعدم السماح لأحد بدخول المرحاض إلاّ مرّتين في اليوم فقط، علي ألاّ يمكث فيه أكثر من خمس دقائق.
وعقّبت علي ذلك قائلة: إنّ الحمير الكسولة فقط هي التي تحتاج إلي أكثر من هذا الوقت لقضاء حاجتها .. والحمير الكسولة تستحق أن تضرب بلا رحمة!.
تقول (آنتشي) : كنت أفكّر كم هو سهل علي هذه المسؤولة أن تكتب عنّي تقريراً كاذباً تُدخل بواسطته كلمات غامضة إلي ملفّي، حيث لا يؤذن إلاّ لرؤساء الحزب بالوصول إليها .. كلمات يمكن أن تدفنني حيّة .. كلمات إذا ما دخلت الملفّ فإنّها لن تتغيّر أبداً، وستظلّ تتبعني حتَي بعد الموت. فالملفَ هو الذي يُحدّد مَن أنا وماذا سأكون، وتلك الكلمات هي التي ستصنع صورتي الوحيدة التي يعتبرها الحزب جديرة بالثّقة حقاً!.
وكان من حق (آنتشي) أن تذعر من هذا الاحتمال، لأنّ خبرتها منذ الطفولة قد علّمتها ألاّ تثق حتي بنفسها عندما يتعلّق الأمر بالولاء للحزب. فبعد انتقال أسرتها من البيت القديم كانت قد تعّرفت علي طفلة في سنّها، وقد سألتها تلك الطفلة ذات مرّة عمّا إذا كانت ترغب في الانضمام إلي الندوة التي تقيمها أسرتها لدراسة أقوال (ماو) كلّ ليلة بعد العشاء، فأجابتها بأنّ عليها أن تستأذن والدها أوّلاً.
تقول (آنتشي) : عندما أستأذنت والدي قال: لا .. إنني لا أريد ممارسة الثّورة حتي في المنزل. وقد فاجأني هذا الردّ وصدمني، فأمضيت اللّيلة كلّها أتساءل عمّا إذا كان والدي معادياً في السّر للثورة، وعمّا إذا كان يتوجّب عليّ أن أكتب تقريراً للسّلطات عنه أم لا؟.!
و (آنتشي) لم تتحرّر من عبودية المزارع الجماعية، إلاّ بعد اختيارها لعبودية التمثيل في سينما الدعاية الحزبية الممجوجة، لكنّ الملايين من أبناء جيلها لم يُقيّض لهم أن يذقوا طعم هذه العبودية المحسّنة .. فها هي أختها (المزهرة) التي كانت في المرحلة المتوسطة قد تَقرَّر أن تُرسَل إلي مدرسة مهنية، فكان لا بُدّ من إسقاط (إقامتها)في شنغهاي هي الأخري (وكأنّها ليست جزءاً من بلدها) !.
وماذا عن أختها (حجر المرجان) ؟
هكذا سألت (آنتشي) أمّها في إحدي زياراتها النادرة للأسرة، فقالت الأمَ: إنّها تُصلَي من أجل الالتحاق بأحد المصانع، ومن الصعب أن يحصل هذا، لكن إذا ظهر أنّها معاقة بدنيّاً فإنّ فرصتها للبقاء في شنغهاي ستكون أفضل. ولهذا فهي ترفض الذّهاب إلي الطبيب علي الرّغم من إصابتها بالديزنتاريا الحادَة. إنّها تحاول أن تدمّر أمعاءها ليكون لها حقَ الإدّعاء بأنها معاقة .. وكثير من الشباب في الجوار يعملون الشيء نفسه. إنّهم مرعوبون من فكرة الذَهاب إلي المزارع الجماعية.
لم تكن الأمّ لتلوم ابنتها علي ذلك، لأنَها كانت مقتنعة فعلاً بأن لا سبيل لنجاة الإبنة إلاّ بهذه الطريقة، فهذه الأمَ المنكودة نفسها عندما عادت من العمل ذات يوم مخطوفة اللّون ومنهارة تماماً، عبّرت عن سعادتها البالغة لأنَ الفحوص الطبيّة أثبتت أنّها مصابة بالسُّل .. ذلك لأنّ هذا الأمر وحده هو الذي سيمنحها الفرصة للرّاحة في البيت قليلاً، والاهتمام بشؤون أبنائها!.
كلّ ما ذكرته (آنتشي مين) في كتابها يؤكدّ لي أنّ نظام صّدام الرَجيم كان يطلب العلم ولو في الصّين، ولو علمت (آنتشي) بسعة استيعاب ذلك النظام لعلوم صينها العظيمة، وقدرته الفائقة علي تطويرها وتسمينها، لأدركت معني تفوَق التلميذ علي الأستاذ، ولتفهّمت بلاغة الإيجاز التي نأت بالعراقيين عن تأليف السِّير
الشخصيّة المطولة. فلأنّ وصف الكارثة التي حاقت بهم كان أوسع من أفواههم وأطول من ألسنتهم، ولأنّ الأمّة التي وجدوا أنفسهم فيها قد عقدت صفقة مطلقة مع صمم وعمي الأنانية، فإنَ العراقيين اختزلوا مرارتهم ويأسهم في سيرة واحدة مؤلّفة من بيتين من الشعر لا أكثر .. أوّلهما يقول: (كفي بك داءً أن تري الموت شافيا - وَحَسْبُ المنايا أن يكُنَّ أمانيا) .
وثانيهما يقول: (لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبه - لا يؤلم الجرحُ إلاّ مَن به الألم) .
وأغلب الظنّ أنّ مفردة (الناس) في البيت الثاني قد اقتضتها ضرورة الوزن، وإلاّ فإنّ التعبير الصّحيح في الحالة العراقيّة يعني (وحوش ما قبل التّاريخ) تلك التي تختلف أرديتها الشمولية ما بين الدِّين والطين، لكنّها تتوحّد جوهرياً في أيديولوجيا السّاطور!.
خط بين نقطتين
كل الانجازات الباهرة في الدنيا كانت وراءها أفكار صغيرة. ومن الطبيعي أن يحتاج تنفيذها وارساؤها علي أرض الواقع الي الفطنة والموهبة والجهد، لكن كل هذه الأشياء لا تشفع للمرء في تحقيق أدني النجاح اذا لم يكن مؤمنا حقا بما يفعل، ومتدرعا بالاصرار وعدم التسليم بالفشل مهما طالت التجربة، ومهما كانت المعوقات.
إن هذا هو مؤشر التمايز بين الناس، واذا كان لنا ان نندب سوء أوضاعنا وتخلفنا عن الآخرين، فينبغي ان ندرك ان ليس مرد ذلك الي كوننا فقراء الي المواهب والطاقات، ولكن لكون الآخرين أطول منا نفسا، وأكثر صبرا، وأكبر قدرة علي التحدي والمواصلة.
اننا نتناقل جيلا بعد جيل، حكاية القائد المغلوب الذي ألهمته النملة باصرارها علي نقل كسرة خبز ثقيلة ونجاحها بعد طول الجهد والمحاولة، ان يجمع فلول جيشه المهزوم وينتصر في النهاية.
لكن الحكاية تبقي معنا مجرد طرفة نزجي بها ليالي السمر، فيما هي عند الآخرين تجربة حية وحثيثة علي أرض الواقع.
كذلك كانت تلك الحكاية بالنسبة للصبي جيمس وات الذي رأي غطاء ابريق الشاي يرتفع حاليا بتأثير تصاعد البخار، فكان ان اخترع المحرك البخاري الحديث، وكذلك كانت بالنسبة لبائع الصحف الصغير توماس أديسون الذي أضاء لنا ليلنا باختراعه المصباح، لكي نقطعه بالسمر وترديد حكاية القائد المغلوب والنملة، مضيفين اليها والي الآلاف غيرها حكايته وحكاية صاحبه وات ايضا.
منذ زمن طويل كان هناك شاب صغير من مدينة كنساس مولع بالرسم، لم يترك جريدة الا وتقدم اليها محاولا بيع رسومه الكاريكاتيرية، لكن المحررين جميعا جابهوه بالبرود، بل وبالرفض القاطع، مصرحين له بغلاظة بأنه عديم الموهبة وان عليه ان ينسي تماما أمر الاشتغال في هذا المجال.
لكن ذلك لم يثبط الشاب، بل راح يواصل الرسم والبحث عن اية فرصة متاحة لاستثمار امكاناته.
وفي النهاية عرض عليه أحد القساوسة ان يرسم للكنيسة اعلاناتها في المناسبات لقاء أجر زهيد. لكن الشاب الغر أعرب عن حاجته الي مرسم .. وهو في الواقع كان بحاجة اليه لا للرسم فقط بل للنوم ايضا، اذ لم يكن لديه مكان يأوي اليه!
ويبدو انه كان لدي الكنيسة مرآب مهمل تزحمه الفئران، فأشار القس علي الشاب ان يقيم فيه. لكن .. من يصدق ان واحدا من تلك الفئران سيصبح فيما بعد اشهر فأر في التاريخ، وان ذلك الشاب سيصبح واحدا من اشهر الفنانين في العالم؟!
ذلك الفأر معروف الآن لدي الملايين باسم ميكي ماوس، اما الشاب فهو والت ديزني.
وتلك حكاية اخري تضاف الي غيرها من المسامرات الليلية .. وحظنا منها ان نسمعها بانبهار واعجاب، ولا شيء غير ذلك، لأن نظرتنا اليها ستظل مقتصرة علي نقطتي البدء والنهاية وحدهما. أما حظ الآخرين فهو السير الواقعي علي الخط المتعرج الطويل القائم بينهما: خط الايمان بالفكرة والثقة بالنفس والتجربة الدائبة والجهد الحثيث لتذليل العقبات والاصرار علي النجاح وعدم الاعتراف بالفشل علي الرغم من تكرره.
سوق الخطف
كنت قد كتبتُ، منذ عدة أعوام، حكاية عن لصوص يسطون علي بيت فلا يجدون فيه سوي امرأة عجفاء بصحبة نصف دزينة من الأطفال الجاذعين الذين يفترشون معها العراء، ويتراشقون بالشتائم الذّاوية لشدة ما بهم من وهن!
وحيث انّ البيت كان فارغاً حتي من قدر، فإن المرأة التي تخففت من واجب الهاء أولادها بطبخ الحصي، كما في الحكاية التراثية، لم تفزع، بل رأت في مقدم هؤلاء اللصوص بارقة أمل، فانتشلت واحداً من الأولاد وقدمته لهم هدية، لكي لا يخرجوا من بيتها فارغي الأيدي!
غير ان اللصوص اعتذروا عن عدم قبول الهدية، وصارحوها بأنهم لم يحترفوا السطو إلا بسبب كثرة العيال وضيق ذات اليد، وان أخذ ولدها لن يفيدهم في شيء، بل سيحملهم هماً اضافياً، وذلك لانهم سيضطرون الي اطعامه دون ان ينتظروا من ورائه فدية!
ولم أتخيل أبداً ان مبالغتي الساخرة هذه ستكون عرضة لسخرية ما يجري واقعياً في عراق اليوم الذي فتحت فيه عصابات العنف الأعمي الهابّة من الجهات الأربع، سوقاً عمياء للخطف يتداول بضائعها تجار يملكون رأس المال نفسه الذي يملكه اللصوص في حكايتي، لكنهم، غالباً، لا يملكون حنكتهم في عدم قبول البضاعة الفاسدة! روت لي صديقة كويتية ان خطيب اختها -وهو عراقي يعيش في الكويت مع أهله ذوي الدخل المحدود -كان قد غادر الي البصرة، بعد زوال نظام جرذ تكريت، لكنه اختطف في الطريق من قبل عصابة طالبت أهله بفدية مقابل إطلاقه.
وعبثاً حاول أهله اقناع العصابة بأنهم عراقيون علي مدِّ الله، وانهم لا يملكون حتي رائحة المبلغ المطلوب، فلما يئسوا اسلموا امرهه وأمرهم الي الله.
وطال الوقت بالخاطفين وهم ينقصون من مقدار الفدية مرة بعد مرة، دون ان يجدوا اذناً صاغية .. حتي استحال المخطوف الي ورطة بالنسبة لهم، فتفتقت اذهانهم عن فكرة بيعه الي عصابة أخري، ولم يكن حظ هذه أفضل من حظ سابقتها، فاضطرت في النهاية الي الاستحواذ علي ثياب الرهينة واطلاقه بملابسه الداخلية!
وحكي لي صديق عائد من العراق حديثاً ان ابن جارهم قد تعرض للاختطاف، وتلقي والده رسالة من الخاطفين تطالبه بفدية من اجل انقاذه، ولأن الوالد كان -كما يؤكد صديقي- في حالة مالية مزرية، فقد أرسل من يسأل الخاطفين عما اذا كان يطعمون ولده جيداً، فجاءه الرد بالايجاب، وعندئذ أرسل اليهم متوسلاً ان يخطفوه هو ايضاً مع اولاده الآخرين!
وانهي الصديق حديثه بأن الولد عاد سالماً الي البيت في الليلة ذاتها.
وحين أعربت عن دهشتي من غباء مثل هؤلاء الخاطفين الذين يحاولون سرقة الأحذية من الحفاة، طمأنني الصديق الي ان السوق لا تخلو من التجار الأذكياء العارفين الذين يعملون حساباتهم بالقلم والمسطرة.
وقال لي، في هذا السياق، إن عصابة خطفت ولداً آخر وحاول أبوه تقليد جارهم، فادعي انه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، لكنه فوجيء بالعصابة وهي ترسل اليه كشفاً دقيقاً بجميع ممتلكاته!
ولكونه تاجراً حاذقاً، فقد جرّب طريقته المعتادة في المساومة، للوصول بمبلغ الفدية الي أدني مستوياته، مقفلاً الموضوع بقوله ان الذي خلق ولده هو الكفيل بأخذ روحه أو إعادته حياً.
ويبدو انه كان في ضلاله القديم، اذ أبلغه الخاطفون بأنهم لن يقتلوا ولده، لكنهم سيقطعون ذراعه قبل ان يعيدوه اليه. وعندئذ أذعن ودفع المبلغ الثقيل بالدولار.
عندما لمح الصديق علائم الشحوب علي وجهي، حاول ان يواسيني بقوله: انها مجرد حوادث شاذة ليست من صميم طبيعة مجتمعنا، وستزول باذن الله، بعد ان يسترد الوطن عافيته .. وهي تبقي أكثر رحمة من أعمال خاطفي الاسلام و خاطفي الوطنية والقومية الذين يخطفون أرواح الناس لمجرد إرواء عطشهم للدماء، ثم بعد ذلك فقط قد يفكرون في تسليم الجثث المقطعة الأوصال الي أهلها لقاء فدية مخفضة -لوجه الله- وبالدولار أيضاً!
في خدمة السّيرك
الرّوائي النرويجي كنوت هامسون الحائز علي نوبل،1920 وصاحب رواية (الجوع) الشهيرة، كان قد كتب في بواكير تجربته الأدبية عدداً من القصص القصيرة التي شكّل بعضها نواةً أو تخطيطاً أوليّاً لأهم رواياته الكبيرة اللاحقة.
وقد كان أغلب تلك القصص مستلهماً من تجربته في أمريكا التي مارس فيها، لبضعة أعوام، مهناً مختلفة كقاطع تذاكر في القطارات، أو عامل بسيط في المزارع الشاسعة.
ومن ضمن هذه القصص هناك واحدة ذات لمسة محلية خالصة، تعكس بشكل خاص، وضعية المثقف النرويجي في نهايات القرن التاسع عشر، وتترك في قارئها أثراً واضحاً علي رغم تباعد الأزمنة والأماكن.
في قصّة المحاضرة هذه يروي هامسون حكاية مثقّف شاب يعاني من ضائقة مالية، ولا يملك من سبيل للخروج منها إلاّ عن طريق إلقاء المحاضرات خارج العاصمة. وعلي هذا فإنّه يُعدّ محاضرة في الأدب الحديث، وبما لديه من نقود قليلة يستقل القطار متوجهاً إلي مدينة درامن التي لا يعرف فيها أحداً ولا يعرفه فيها أحد، من أجل أن يجرّب حظّه هناك، مؤملاً أن تهزّ محاضرته الأوساط الثقافية، وأن تكون حديث الناس.
عند وصوله إلي المدينة، يزور إحدي الصحف المحلّية للتعريف بنفسه وبما أتي من أجله، وللسؤال عن أفضل وأوسع القاعات التي يمكن أن تستوعب روّاد محاضرته، فيبلغه المحرّر المندهش بأنّ شاباً قد جاء في العام الماضي لإلقاء محاضرة ثقافية، لكنّه فوجيء بأن عدد الحاضرين لم يتجاوز أصابع اليدين، فعاد من حيث أتي بعد يومه الأوّل.
لكنّ صاحبنا الواثق من نفسه لم يُبال بذلك، وركّز اهتمامه في معرفة المبلغ المطلوب لاستئجار أكبر قاعة في المدينة. وعندئذ طمأنه المحرّر بأنّ أوسع القاعات هي قاعة البلدية، وأنّ بإمكانه أن يحدّث العمدة مباشرة في هذا الأمر.
يوافق العمدة علي تأجير القاعة للمثقف الشاب لقاء مبلغ معقول يسدّده إذا استطاع أن يحقّق ربحاً من المحاضرة.
ولأنّ صاحبنا لم يكن قادراً علي دفع ثمن إعلانات عن المحاضرة، فقد اكتفي بتوزيع خمسمائة بطاقة شخصية كانت في حوزته أصلاً، علي الناس في الفنادق والبارات والمحّلات التجارية.
وتوفيراً للنفقات اكتفي بالسكن في فندق رخيص جداً تتضمن خدماته تقديم وجبة الإفطار مجّاناً.
في ذلك الفندق يتعرف بلاعب سيرك أمّي كان قد بدأ للتّو تقديم عروضه في المدينة، ويحاول هذا إغراء المثقف بالعمل معه كمعلّق علي فقرات برنامج السيرك نظراً لقدرته، كمثقف، علي الوصف والتعبير بصورة مشوّقة وكذلك لكونه غريباً عن المدينة، لأنّ الناس لن يثقوا بالوصف الذي يقدّمه واحد منهم يعرفونه، مثلما حصل في عرض الليلة الماضية حين اضطر لاعب السيرك إلي تكليف شاب من أهل المدينة للقيام بذلك العمل.
وفي يوم المحاضرة يستعين صاحبنا برجل للقيام بمهمة قطع تذاكر الدخول. وقبيل الموعد بقليل يمضي إلي القاعة، فتتردّد أصداء خطواته عالية في جنباتها الواسعة، ويُجيل بصره في صفوف المقاعد الكثيرة فيجدها كلّها مُتحفّفة من ثقل أيّ إنسان!.
ويُطمئن المثقّف نفسه بأنّ الموعد لم يحن بعد، لكن حتي بعد حلول الموعد ومرور وقت طويل عليه لم يحظ برؤية أيّ إنسان. وفي اللحظة التي يداخله فيها اليأس والغيظ يسمع صوت رجل آتياً من عند شباك التذاكر، فيخرج بلهفة الفضول لرؤيته، لكنّه يُفاجأ بأنّ ذلك الرّجل هو محرّر الصحيفة التي زارها، وقد جاء لقطع تذكرة من باب التشجيع!.
وحين يتقدّم الليل دون أن يحضر أحد، يقفل صاحبنا عائداً إلي الفندق الرخيص، مارّاً في طريقه بالمسرح الذي يقدّم فيه البهلوان عروضه، فيصدمه ازدحام الحضور، وتصفعه عواصف هياجهم وتصفيقهم.
في تلك الليلة يعاود البهلوان إغراءه، راجياً منه أن يشاركه، في الليلة المقبلة، كتابة فقرات البرنامج وتقديمها بطريقته، لقاء بعض المال.
ولأنّ صاحبنا يكتشف أنّه لم يعد يملك حتي ثمن تذكرة العودة بالقطار إلي العاصمة، فإنّه يوافق علي مضض، ويعكف علي كتابة التعليق بأسلوب بليغ وجميل، ثم يمضي في مساء اليوم التالي إلي تقديم العروض علي المسرح، فيندهش لانبهار الحضور بالوصف الذي يتلوه عليهم، وينتشي لهياجهم وتصفيقهم بعد انتهائه من وصف كلّ فقرة!.
وبهذا العمل وحده، لا بمحاضرته الأدبية التي استنفد فيها خلايا ذهنه، استطاع المثقّف أن يحظي بالإعجاب والتصفيق، وأن يتدبّر ثمن تذكرة العودة!.
أتأمّل هذه القصّة، وأفكّر في حال الثقافة العربية وحال مثقفينا .. فأتساءل: كم محظوظاً استطاع أن يؤمّن معيشته وأجرة مسكنه وتذكرة مواصلاته بالإبداع الذي يحسنه ويؤمن به ويحبّه ويرضاه، دون أن يضطر إلي ملامسة حلبة السيرك؟!.
ويتْسع تساؤلي ليكون: أهي الثقافة التي تشتغل، عندنا، في السيرك، أم هو السيرك الذي يشتغل في الثقافة؟!
أوراق من مفكّرة عاقل!
مضت سنة كاملة علي هروبي من مستشفي المجانين .. أنا الآن في منتهي السعادة .. وسأعمل المستحيل لكي لا أقع في أيدي المُطارِدين.
هؤلاء الّذين وفّروا لي مكاناً للاختباء، كانوا قد فرّوا من المستشفي قبلي. هذا ما قاله (شلغم) . لذلك فهم يُدركون جيّداً فظاعة ما سألقاه إذا قُبض عليّ وأُعدتُ ثانية إلي هناك.
إنّنا في مركب واحد. كلٌّ منّا حريص علي عدم غرق الآخر. أنا مطمئن لهذا السبب. الحمدللّه.
مع مرور الأيّام اكتشفت أنّ زملائي في المخبأ قد اتّبعوا الخطة ذاتها التي أتبّعتها للهرب. قلت في نفسي سبحان اللّه .. كيف تأتّي لنا جميعاً أن نفكّر بالطريقة نفسها؟!
أتذكّر أنّ أهلي اتفّقوا مع رجلين تبدو عليهما سيماء الجديّة والحزم. جاء الرّجلان وهما يرتديان ثياب الممّرضين. ألبساني قميصاً بالمقلوب وربطا أكمامه من خلفي، ثم بمنتهي السرعة والحذق ألقيا بي داخل سيّارة تشبه سيّارات الإسعاف، وانطلقنا .. ويو ويو ويو ويو.
أضحك في سِرّي. نفس الخطة دائماً، ويشربها الأغبياء.
هنا في المخبأ، الكلّ يبتسم للكل. لماذا لا نبتسم ما دمنا بعيدين عن ذلك المكان الرّهيب؟
أفكّر أحياناً: ماذا أفادني الهرب؟ ها أنا محبوس في هذا المخبأ منذ عام. أهذه حريّة أم سجن؟
لكنّني أعود فأقول لنفسي: ألم يكن مستشفي المجانين سجناً هو أيضاً؟ هنا علي الأقل أجد أصدقاء طيّبين يشعرون بأهميّتي، ويضحكون برغم كلّ شيء. ليس هنالك أجمل من وجودك بين أصدقاء عقلاء يحترمون عقلك.
هنا يبتكر الإخوة، كلّ يوم، مختلف الوسائل لإسعادك. اليوم، مثلاً، كان الرّاديو الوحيد لدينا يلعلع بخطاب الرئيس. قام (شلغم) وحمله علي رأسه بكلّ خشوع، ثم هوي به فجأة إلي الأرض فتحطّم وتناثرت شظاياه في كلّ ناحية.
حدّق في الحطام مذهولاً وأجهش بالبكاء:
يا جماعة .. البقاء في حياتكم. الرئيس فطس. قوموا ننصب فاتحة.
راح (شلغم) يلطم، فيما كان الجميع يقرأون علي روح المرحوم ما تيسّر من السلام الجمهوري.
وبعد أن شبع لطماً قال: هذا يكفي. مأجورون. أخذ حقّه وزيادة. شيّعوه يا جماعة. ولو سمحت يا عطوان أمشِ أمامهم. أعتقد أنهم لا يعرفون الطريق إلي جهنّم.
ظريف (شلغم) رغم عصبيّته الزّائدة. لقد شبعنا ضحكاً علي روح المرحوم.
القلق يأكل أعصابي ويصيب ذهني بالشّلل. أخشي أن تكون أمّي قد ثرثرت هنا أو هناك. آخر مرّة، عندما جاءت خفية لرؤيتي، قالت إنّها لا تستطيع الصبر علي هذه الحال، ولعلّها قالت إنّها ستتشفّع لي لدي الدّولة. ربّاه .. أرجو ألاّ تكون قد فعلت ذلك. سيعرفون مكاني ويقبضون عليّ.
جاءت أمّي اليوم. همست في أذني: سآخذك إلي البيت غداً. لن يعرف أحد. كن مستعداً. ولا تطلع الآخرين علي الأمر. كلّ شيء سيكون علي ما يرام.
علي ما يرام؟ كيف؟ والناس في الشوارع؟ والجيران؟ والحكومة؟
قالت لي بحنان: لا عليك يا حبيبي. لن يعرف أحد.
كان يوماً عصيباً.
ما كدنا ننطلق من المخبأ، حتي فوجئنا برجل عند الباب يسدّ طريقنا.
صاح بصوت رهيب: قِفا. أليس هذا شلغم؟. تمنّيت لو أنّ الأرض انشقت وابتلعتني. لكنّ أمّي كانت رابطة الجأش. اقتربتْ من الرّجل وحيّته بلطف.
سألها: أعندك ما يثبت أنّه ليس هارباً؟.
عجباً لأعصاب أمّي. قالت له بكلّ برود: نعم يا سيّد .. إنّ شلغم لم يعد يشكّل خطراً علي أحد. لقد سمحوا له بالمغادرة. انظر هذه شهادة اللجنة الطبيّة.
اعتذر الرّجل من أمّي، وتركنا ننصرف.
نفس الشوارع .. نفس الجيران .. نفس الملصقات .. نفس الشعارات .. نفس الجماهير. ولا أحد من زملاء المخبأ.
خدعتني أمي. كنت أحسبها تحبّني. ها أنا، بفضلها، أعود ثانية إلي مستشفي المجانين!.
شرف سعيد أفندي
في سيرته السينمائية (استذكارات بين الظلام والضوء) الصادرة حديثاً عن دار الفارابي، يستعرض الفنان العراقي المعروف يوسف العاني التجارب السينمائية في العراق منذ أواخر اربعينيات القرن الماضي. ومن خلال الحديث عن دوره الشخصي في تلك التجارب، يركز بصفة خاصة علي فيلم (سعيد أفندي) الذي يُعدّ، بالنسبة للكثيرين، أيقونة السينما العراقية.
وقد استوقفتني، في ذلك الحديث، لمحة إنسانية عابرة، قد لا يلتفت إليها البعض في خضم المادة الأساسية المكونّة للسيرة، لكنّها، علي بساطتها وعفويتها، تترك في النفس أثراً كبيراً من حيث كونها تلخيصاً لجوهر كينونة الفنّان، في صلابته أمام اغراءات اللحظة، وقدرته المبدئية علي الانتصاف من نفسه حتي للنظام الزائل الذي كان يناوئه.
لم يكن (سعيد أفندي) أول فيلم عراقي، فقد سبقه بثماني سنوات فيلم (عليا وعصام) الذي أدي الدور الأول فيه الفنان الراحل إبراهيم جلال، لكنه كان أوّل فيلم عراقي خالص بطاقمه الفني وقصته وإخراجه وتصويره، وبتبنيّه
أسلوب (الواقعية الجديدة) الذي برع فيه المخرج الإيطالي (دي سيكا) بالخروج من الاستوديو إلي الشارع، وإشراك الناس العاديين في تمثيل أحداث الفيلم.
وقد قُدّر ليوسف العاني أن يتحمل القسط الأوفر من مسؤولية هذا الفيلم المأخوذ عن قصّة (شجار) للكاتب العراقي أدمون صبري، وذلك بإعداده القصّة سينمائياً، وكتابته السيناريو والحوار، وأدائه الدور الأول فيه.
عرض (سعيد أفندي) عام 1957م، أي قبل عام واحد من ثورة 14 تموز التي أنهت العهد الملكي. وقد بلغ من شدّة صدقه الفني أنّ الناس الذين تفاعلوا معه وأحبّوه قد تخيّلوا مشاهد لم تكن موجودة فيه، وأوهموا أنفسهم بأنّ الرقابة قد حذفتها!
وحتي هذا اليوم، تجد كثيراً من العراقيين يحدّثونك - عندما تذكر فيلم سعيد أفندي - عن مشهد ذهب فيه الأستاذ سعيد ليشتري سمكة، وقال للبائع إنّ (السمكة جايفة من الرأس) .. ويعدّون ذلك أبلغ تعريض بالحكومة في ذلك الوقت.
الطريف في الأمر أنّ مشهداً كهذا غير موجود في الفيلم أصلاً، والأطرف منه أن يوسف العاني نفسه، صانع الفيلم وبطله، كان قد هُزم في نقاش مع متفرج عراقي - قابله في الخارج - حين ألح الأخير علي وجود هذا المشهد وأنَّه رآه في النسخة الأصلية قبل أن تقتطعه الرّقابة .. بل وأضاف مشاهد أخري غير موجودة وزعم أنّ الرّقابة حذفتها. وعبثاً حاول العاني إقناعه بعدم صحّة ذلك!
وفي تحليله لهذا الأمر يقول العاني إنّه أدرك أنّ الفيلم قد خاطب ضمير النّاس وإحساسهم، وأنّ مَشاهده قد غطّت أو عبّرت عن حاجة في النفس، لكنّها لم تَفِ بكلّ الحاجة، أي أنّ الناس كانوا يريدون المزيد من الكشف عن حالات جديرة بأن يكشف عنها.
وهكذا تجمّعت قضايا كثيرة غير موجودة في الفيلم ظنّوا أنّها كانت موجودة لكنّ الرقيب حذفها.
وبعد عودة يوسف العاني إلي بغداد كان النظام الملكي قد سقط وقام مكانه النظام الجمهوري، وذات ليلة من ليالي الترحيب به طرحت عليه فكرة بدت له غريبة أوّل الأمر، بل حسبها دعابة، وذكرّته حالاً بالرّجل العراقي الذي ناقشه حول الفيلم عندما كان في الخارج.
يقول العاني: إنّ الفكرة كانت تتمثل في أن نضيف مشاهد جديدة تشبع حاجة المتفرّج، وبعد أن أُمثّلها تضاف إلي الفيلم الذي عرض علي الناس .. ولكن بعد أن نعلن ونقول يعرض سعيد أفندي بعد أن أعيدت إليه اللقطات التي حذفها الرقيب.
ويضيف: هنا كان لي موقف حاسم وعنيف .. أن أرفض باستنكار وصلابة هذه الطروحات، وأن أبذل الجهد لكي ألتقي بالأستاذ (ممتاز العمري) الذي كان مدير الداخلية العامة، الرّجل الفذّ الذي أجاز الفيلم بكامل مشاهده
ولقطاته وحواره بعد قصّة طويلة ومثيرة، وذلك لكي أشكره وأعبّر له عن احترامي لموقفه. وقد تحقّق لي ذلك بعد أشهر.
هي لمحة بسيطة، لكنّها جميلة جداً ومؤثرة جداً، لأنّها تمثّل نجاحاً للجوهر الإنساني عند وضعه أمام اختبار الإنصاف، وهو مدرّع بكلّ إغراءات القوة والقدرة وسنوح الفرصة.
ساعة شيطان (مرافعة خصاونيّة)
سامحه. هاه. عقلك كبير وقلبك أبيض، واللّه يحبّ المسامح. ثمّ أنّ الأمور إذا كبّرتها تكبر وإذا صغّرتها تصغر. إي واللّه. خذ علي نفسك بعض الشيء .. لا تكن متصلّباً. سامحه، هاه.
أعلم أنّه كسر أنفك. ما كان ينبغي أن يفعل ذلك. هذا عمل شرير، ولك الحقّ في أن تغضب. لكن لو نظرت من زاوية أخري لوجدت أنّ الأمر قد جري في ساعة شيطان، والشيطان شاطر. لعنة اللّه علي الشيطان. سامحه واكسر الشّر. العوض علي ربّ العالمين. نحمده علي سلامة فمك. تنفّس من فمك. دعني أُقبّل أنفك المكسور. سامحه.
أعرف أنّه سرق مصاغ زوجتك وسرق نقودك وسرق الأثاث حتّي. لا شكّ أنّ هذا من عمل اللصوص، لكن دعه لربّك. إنّ ربّك لبالمرصاد. كن أحسن منه. اكسر عينه وسامحه. العافي حبيب اللّه.
أعلم أنّه قتل ابنك. أين يذهب من الله؟ اللّهم اجعله في الشهداء والصالحين. أعني المرحوم ابنك. كيف فعل الملعون ذلك؟ لا أعني ابنك. علي كلٍّ العوض برأسك، والصبر طيّب. لست أحسن من أيّوب عليه السّلام. قل عليه السّلام. مات جميع أبنائه، فصبر وشكر. جعلك اللّه قرينه في الصبر والشكر، وزادك عليه في العفو. العفو جميل، ولا يلقّاه، إلاّ ذو حظّ عظيم. ولو نظرت إلي القضيّة من زاوية أخري فأنت الرّابح. ابنك شهيد. توكّل علي اللّه وسامحه. ستسامحه، أليس كذلك؟
نعم. أدري أنّه قتل ابنك الثاني أيضاً. أسأل اللّه أن يزيدك صبراً وأجراً، وأن يهبك ثلاثة أبناء .. اثنان منهم علي سبيل التعويض، والثالث اكرامية.
لقد وقع القضاء ولا مَردَّ له. واحد أو اثنان، لم يعد ثمّة فرق. المصيبة هي المصيبة. ضع أملك باللّه .. وسامح. إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعاً إلاّ أن يُشرك به.
أأنت أحسن ممّن خلقك؟ لا تكفر يا رجل. سامح.
آه، صحيح. تذكّرت الآن أنّه خطف ابنك الثالث. إذن اصرف النظر عن الإكرامية. وإذا خلّفت ثلاثة، بإذن اللّه، فاعتبرهم جميعاً علي سبيل التعويض. أنت مؤمن ولا ينبغي أن يكون قلبك أسود. أين أنت ممّا جري للأنبياء والصّالحين؟ فبهداهم اقتده .. قال ما أنا صانع بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخٍ كريم.
قال اذهبوا فأنتم الطّلقاء. أتري؟ أين أنت من عفو رسول اللّه؟ سامحه. هاه.
نعم لم يغب عن ذهني أنّه هتك عرض ابنتك. اللّهم اخزه يوم الحساب. هذا هو الزّني بعينه. الأمر للّه. ماذا يمكنك أن تفعل؟ لقد وقع الفأس في الرأس، وكلّ غضبك لن يرجع ما ضاع. دعه لربّك. ضاعت عفّة المحروسة فلا تضيّع العفو من يديك.
ماذا تجني من العداوة؟ ما جري قد جري، والصّلح خير.
إنَها حماقة كبيرة أن يهدم بيتك .. هدم اللّه حَيْلَه. لكنّ ربّك كريم. سيعوّضك قصراً في الجنّة. وربما سيرزقك فتبني بيتاً غير الذي انهدم. يا رجل إنّ هذا مكسب. سيتيح لك ذلك أن تبني البيت وفق الطّراز الحديث. هيّا اطرد الضغينة من قلبك. من أجل صحتك قبل كلّ شيء، فلا تنسَ أنّ زوجتك المسكينة بحاجة إليك بعدما أقعدها الصّدمة، وفقدت علي أثرها النطق والسّمع والبصر. سامحه اللّه. لماذا فعل كلّ هذا؟ ألا لعنة اللّه علي الشيطان الرّجيم. إنّ له لغواية كبري. قال لأحتنكنّ ذرّيته. هذا من ذريّة آدم المُحتَنكة. لا تكن أنت والشيطان عليه. قوِّ قلبك والتمس له الصفح.
إي واللّه. من حقّك أن تتألّم بعد كلّ هذه الأعوام التي حبسك فيها تحت الأرض وجرّب فيك كلّ صنوف التعذيب. ابكِ قليلاً. فضفض عن نفسك. لكن إيّاك أن تسرف في الانفعال فتلوّث لسانك. لا تفجر. ليس المؤمن بطعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء. أنت أكبر من هذا، ثمّ أنّ ما جري هو شهادة علي إيمانك، فالمؤمن مُبتلي. أمّا الظالمون فإنّما يؤجّلهم ليوم تشخص فيه الأبصار. سامحه إذن وكثّر ذنبه عند الله.
قل إنّك سامحته. بحقّ معزّتي عندك قل إنك سامحته. ما بالك لا ترد؟ قل شيئاً .. ما هذا؟ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. منذ متي فاضت روحك أيّها الطيّب؟
واأسفاه. أهكذا علي غفلة تُسلم الرّوح وترحل؟ لكن مهلاً .. إنّك لو نظرت إلي المسألة من زاوية أخري لوجدتها في صالحك. لقد أراحك اللّه جزاء إيمانك، إذ لا راحة لمؤمن إلاّ بلقاء ربّه. لكنني كنت أودّ لو أنّ العفو كان آخر عمل لك في هذه الدنيا الحقيرة الفانية .. أرجو أن تكون قد سامحته قبل أن تموت. سامحته؟ هاه؟
بلاد الأربعة!
في بلد بعيد .. بعيد جداً، غير مرسوم في الخرائط، وليس مذكوراً في أيّ كتاب، ولا علاقة له، من أيّ نوع، بأيّ بلد عربي .. التقيت مجموعة من الرّجال في مقهي العاصمة الوحيد.
ربّما يسأل سائل عن الهدف أو الدافع لوصولي إلي مثل ذلك البلد البعيد .. وأقول إنّ الأمر تم بالصّدفة، حتي أنني لا اعرف كيف وصلت او لماذا .. هكذا، وضعت حرف جرّ غير مكرّر (وإلاّ لكان راقصة) وألحقت به الميم والقاف والهاء والألف المقصورة، فتمّ لي الجلوس (في مقهي) .. والحقيقة الصّرف هي أنني فكّرت في البداية بإسقاط طائرة كنت علي متنها، لكني قلت لنفسي: علامَ التحطيم وقتل الناس، ما دمت في النهاية سأنجو لأكمل الحكاية، وما دام بإمكاني الوصول الي ذلك البلد بكتابة العبارة علي الوجه التالي: (التقيت مجموعة من الرّجال في مقهي العاصمة الوحيد) ؟
أنا حرّ في ان اصل الي أيّ بلد وبأيّة طريقة، ودون ابداء الأسباب، وبشكل غامض ومبهم ومسدود المسالك علي كلّ سؤال.
وللمناسبة .. فإنّ أوّل ما خطر لي هو استطلاع احوال الحرّية هناك .. أو ليس هذا هو ما يشغل بال كلّ واحد منّا عندما تقذفه ظروف التأليف أو التلفيق من جنّة بلاده الحرّة الي مثل ذلك البلد البعيد؟
سألت واحداً من الرّجال، وأنا أرتشف الشاي الذي كان بلا طعم:
- لماذا شايكم بلا طعم؟!
قال بوقار غير مصطنع:
- أنت غريب دون شكّ .. شاينا هو شاي المواطَنة الصالحة. إنَه خالٍ من الكافين لأنّه منبّه، وخالٍ من السكرّ لكي لا يجعلنا حلوين أكثر مما ينبغي.
صدمني جواب الرّجل، وحرّضني علي استطلاع حال النّاس. فإذا كان الشاي يُعامَل بهذه الطريقة، فكيف يُعامَل المواطن؟!
قال لي الرّجل:
- المواطنون عندنا، والحمد للّه، أربعة انواع: إمّا عبد، وإمّا مأمور، وإمّا عبد مأمور، وإمّا عبد المأمور.
سألته مشفقاً:
- وأنت من أيّ نوع؟
- أنا مأمور.
- لماذا؟
- لأنني عبد.
سألت رفيقه: وأنت؟
قال: أنا مثله .. تخرّجنا من مدرسة واحدة.
- أعندكم مدارس؟!
- مدارس كثيرة .. (السّجن مدرسة) .
- في بلادنا. (الأمَ مدرسة) !
- وعندما أيضاً ما يشبه ذلك .. (الأمّ في المدرسة) ..
السّجن ليس حكراً علي أحد. جميع المواطنين يجب ان يكونوا متعلمين.
سألت الرَجل الثالث: وأنت؟ من المدرسة نفسها؟
قال: لا .. أنا من مدرسة أخري. أنا عبد.
- لماذا أنت عبد؟
- لأنني مأمور.
ذهلت لهذا التقسيم الطبقي الملتبس، فسألت الرّجال: ما الفارق بين الاثنين؟!
قال لي أحدهم: المأمور لأنّه عبد هو النّشط الذي يقوم بالخدمة حتي قبل ان يسمع الأوامر .. أمّا العبد لأنّه مأمور فهو الذي ينتظر حتّي يسمع الأوامر .. لا فارق كبيراً بين الإثنين، إنّه كما تري قليل من الكسل.
أشرت الي النّادل بإصبعي فأقبل كالرّيح، فخمنّت أنّه من الفئة النّشطة.
قلت له: قدح ماء .. رجاءً.
قال بأدب كثيف: الماء موجود في الشاي يا سيّدي .. بلدنا في حالة تقشّف، ولسنا مترفين إلي حدّ وضع كلّ منهما في قدح منفصل.
بلع ريقه وأردف: ثم إنني أرجوك وأقبّل قدميك .. لا تقل لي (رجاءً) مرّة ثانية. إذا رجوتني فسيدخلونني المدرسة مرّة أخري .. سيقولون إنني تجاوزت طبقتي .. أرجوك يا سيّدي .. ما أنا إلاّ عبد المأمور.
- ومَن المأمور؟
- سيّدي صاحب المقهي.
قلت للعجوز الوقور الجالس الي جانبي: أأنا في حلم أم في علم؟!
قال: انت في علم يا سيّدي.
قلت وانا اشعر بغيظ الدّنيا كلّه
- كيف ترضون بهذا الواقع؟
قال مستغرباً: لماذا لا نرضي؟ هكذا خُلقنا.
صرخت فيه: كلاّ .. لقد خلقكم اللّه أحراراً. أنتم أحرار .. عليكم ان تغيّروا هذا الواقع.
قال: كيف نغيّر هذا الواقع؟
قلت: اقرؤوا .. ثقّفوا أنفسكم ..
اعرفوا حقوقكم.
سأل: ماذا نقرأ؟
اقرؤوا الدستور.
- لا يوجد دستور.
- اقرؤوا الكتب.
- لا توجد كتب.
- انشروا كتباً.
- نشر الكتب ممنوع.
- انشروا آراءكم في الصّحف.
- الصحيفة الوحيدة لدينا لا تستخدم الحروف، لأنّها لا تؤمن بالكتابة .. هي عبارة عن صفحة واحدة تحمل صورة سيّدنا (العبد الأعظم) .
- أعظم؟! كيف يكون أعظم وهو عبد؟
- العبودّية مقامات يا سيّدي .. إنّ عبودية سيدنا الأعظم مستوردة من الدّول العظمي.
- اذن .. اصرخوا.
- عيب ان تقول هذا يا سيّدي. إنّ بلدنا في حالة تقشّف، وهو يحتاج الي كلّ ما يمكن من الهدوء والسكينة .. أخذني الغيظ بعيدا .. قلت للرّجال:
- سأصرخ نيابةً عنكم.
قال العجوز الوقور: إذا شئت ان تكون مواطناً صالحاً وسالماً في الوقت نفسه، فإنني انصحك يا سيّدي بالتزام الهدوء والسكينة. إذا صرخت فستقلق راحة البلد، وعندئذ سيحملونك الي (المدرسة) .
صرخت باستنكار: ومَن قال لك إنني اريد ان اكون مواطنا صالحاً مثلكم؟
قال: يجب ان تكون .. القاعدة هنا هي ان تكون مواطناً صالحاً، أو مواطناً مقتولاً .. هل تريد ان تُقتَل؟!
صحت به غاضبا: كلاّ .. اريد ان ارحل.
رفع عينيه نحو السقف، وراح يربّت علي الطاولة، مرسلاً صفيراً خافتاً متقطّعاً، ثم قال كالمتشفّي:
- لن تستطيع ان ترحل .. السّفر ممنوع.
ضحكت ضحكة باردة هازئة: هذا ما تظنّه .. لا احد يمكنه منعي من السّفر .. انا رجل حٌرّ من بلاد حرّة.
أخرجت قلمي ودفتر ملاحظاتي، ففغر الرّجال افواههم، وأبعدوا ايديهم عن الطاولة بسرعة خوفاً من التلوّث بهاتين التّهمتين.
قلت وصدري ممتليء بالفخر: انظروا .. ما دام عندي قلم ودفتر، فلا احد في الارض يمكنه ان يمنعني من أيّ شيء .. انظروا ..
وكتبت بسرعة: ( .. وبشكل ما، استطعت الفرار من ذلك البلد البعيد المخيف) .
أُفّ .. كلْما تذكرت تفاصيل لقائي بمجموعة الرّجال في مقهي العاصمة الوحيد في ذلك البلد البعيد، تنفسّت الصُّعداء، وأغمضت عينيّ، ووضعت يدي علي قلبي شاكراً السماء علي أنني لم أٌخلَق أو أَعِش في بلد مثل ذلك البلد.
عجيب أن يحيا المرء في بلد مواطنوه أربعة: عبد، أو مأمور، أو عبد مأمور، أو عبد المأمور! أليس ذلك عجيباً؟!
العَمي
في منتصف الستّينات من القرن الفائت، عندما كان الكاتب (ألبرتو مانغويل) يافعاً يعمل بعد المدرسة في إحدي مكتبات بوينس آيرس، التقي، لأوّل مرّة، بالكاتب الأرجنتيني الشهير (بورخيس) عند زيارته للمكتبة برفقة والدته المسنّة، حيث كان في تلك الفترة يقترب من العمي التام.
ويتذكّر مانغويل أنَّ بورخيس كان يطلب الكتب، وبنهم القاريء القديم المدمن يقرّب صفحاتها من عينيه حتي تلاصق أنفه، كما لو أنّه يريد أن يتنفّس الحروف التي لم يعد قادراً علي رؤيتها!.
ويقول إنّه، في فترة لاحقة عندما فقد بصره تماماً، سأله عمّا إذا كان يملك وقت فراغ في المساء يمكنه خلاله أن يزوره ليقرأ له، لأنّ والدته المسنّة قد بلغت الغاية من التعب.
وقد أبدي مانغويل موافقته، دون أن يدرك في ذلك الوقت، عظم الامتياز الذي خصّه به ذلك الكاتب الكبير.
وأثناء تلك العلاقة كان مانغويل، في كثير من الأحيان، يرافق بورخيس إلي دور السينما، ليروي له أحداث الأفلام، وسط تأفّف وغضب المتفرّجين الآخرين الذين كان يزعجهم صوت الرّاوي الشاب وهو يقطع عليهم متعة المشاهدة، خاصّة أن بورخيس لم يكن ليقنع بوصف الأحداث والصور، بل كان يطلب من مانغويل أن يضيف إليها من عنده ما يعزّز الوصف، كأن يصف مشاعر الشخصيات، وزوايا الصور، من قبيل: إنّه يبدو متوعّداً جداً من طريقة دخوله الغرفة أو الكاميرا الآن تُظهر بانوراما المدينة بشكل رائع ومؤثّر.
وفي طريق العودة إلي شقّته كان بورخيس المولع بالتذكّر يصف لمانغويل المدينة كما كانت عندما كان يستطيع الرؤية، ويروي حكايات عن قُطّاع الطرق الممسكين بقبضان الحديد في الزوايا الخطرة من الشارع، دون أن يدرك أنّ الموقع الذي يصفه قد حلّ مكانه، في الوقت الرّاهن، البرج الزّجاجي لفندق الشيراتون، والمخزن المصمم بأحدث الطرز الهندسية!.
يقول مانغويل إنّه عندما ذكر لبورخيس أنّ هناك بئراً، الآن، تتوسّط ميدان (سان تيلمو) السياحي، في القسم الاستعماري القديم من المدينة، لم يصدّقه، وقال مستنكراً: لا يمكن وضع بئر في ميدان عام .. الآبار تحفر في الأفنية الخاصّة داخل البيوت.
عندئذ تخيّل مانغويل فيلماً وثائقياً (اقترحه كما يقول علي ريك يانغ الذي كان في ذلك الحين ينتج أفلاماً في كندا).. ويتمثّل هذا الفيلم في تصوير معالم الحاضر في بوينس آيرس مرفقة بصوت بورخيس وهو يصف معالم المدينة نفسها في الماضي، حين كان يتجوّل في الشوارع قبل عقدين من الزّمن.
لكنّ مانغويل أبدي أسفه لأنّ أيّة محطة تلفزيون كندية لن يمكنها رؤية الميزة التي تحملها مثل هذه الرحلة.
بالنسبة لي شخصياً أستطيع أن أتفهّم دهشة مانغويل واستثارته، حين كان يري المدينة بعينيه، ويسمع بأذنيه، في الوقت نفسه، وصفاً آخر لها مغايراً تماماً لما يراه.
لكنّني أستطيع أن أتفهّم جدّاً مرارة واستنكار (بورخيس) المستثار من حدّة وقسوة التغيّر الذي صنعته الرؤية بمدينته المصونة خلف أسوار عماه.
أوّل مرّة شاهدت فيها (البصرة) بعد مغادرتها منذ ثلاثين عاماً، كانت من خلال لقطات سريعة لمراسلي التلفزيون، وهم يتجوّلون فيها بأعقاب الحرب الأخيرة. وكنت في تلك الأثناء أتبع الكاميرا بغيظ ولهفة وأكاد أستوقفها لكي أقبض علي موضع من مدينتي الجميلة التي أعرف جميع دروبها كما أعرف خطوط كفّي. لكن عبثاً حاولت الوصول إليها. وعدت علي أعقابي مسربلاً بحزن وحيرة التائه الغريب في مدينة لا يعرفها قط!.
وتبع ذلك استنجادي بمن هناك، عن طريق الهاتف، لعلّ في وصفهم لمرابع الصّبا ما يؤكّد هوية مدينتي المرسومة في قلبي بكامل جمالها وأناقتها، وبأدقّ تفاصيلها المغتسلة في ذاكرتي بوضوح أصفي من البلور. غير أنّ أقرب ما سمعته من وصف كان يبدو لي كصفحة من كتاب قديم تراكم فوقها الغبار حتي كاد يطمس السطور.
وفي الآونة الأخيرة كنت ألتقي ببعض العائدين من هناك، فكانوا يحدّثونني عن أماكن لا أعرفها أبداً، وأسألهم بحرقة عن أماكن تنتصب شابة ملء قلبي، فينكرون وجودها .. وفي أفضل الأحوال يعتقدون أنّها ربّما شاخت واندثرت.
يا إلهي!!
أثمّة فرق بين المنفي والعمي؟!.
ويا إلهي ..
أليس في قلب العدالة المعصوبة العينين من حرقة قلبي ما يجعلها تفكّ العصابة عن عينيها، وتهوي بميزانها علي رؤوس عميان القلوب والضمائر من المحامين (الخارجين علي القانون) .. أولئك الذين تطوّعوا للدّفاع عن طاغية أعمي أطفأ بظلمه بصر البلاد وأهلها؟.
تخليص الإبريز
الغضب الساطع: في الوقت الذي يبدأ فيه ثمانية آلاف معتقل وأسير فلسطيني في سجون إسرائيل إضراباً مفتوحاً عن الطعام .. السّلطة الفلسطينية تستنفر جميع وزاراتها وأجهزتها لدعم (عمّار حسن) الفلسطيني المشارك في البرنامج الغنائي (سوبر ستار) !.
تنزيلات: السفير البريطاني في العراق: لم تأتِ قوّاتنا إلي هنا طمعاً في النفط، فقد عرضه صدّام حسين علينا (قبل الحرب) بسعر خمسة دولارات للبرميل، مقابل أن نتركه في السّلطة!.
بَندقة المحراث: بعد زوال (فدائيّي صدّام) .. جماعة (فدائيّي القذّافي) تصدر بياناً تتوعدّ فيه كلّ من يحاول إثارة موضوع الإمام (موسي الصّدر) الذي اختفي خلال زيارته إلي ليبيا عام 1978!.
سياحة العنكبوت: صدّام يطلب نقله إلي سجن سويدي!
عجلة الإصلاح تدور: قرار سوري بتغيير لقب العضو الحزبي من (رفيق) إلي (سيّد) !.
خذوا الحكمة: الرّئيس السوداني يطلب تدخّل القذّافي لحلّ مشكلة دارفور!.
مباديء: رغد ابنة صدّام تطلب محامياً أمريكياً للدّفاع عن أبيها، وتقول للصحافية الأمريكية دافني باراك: المحامون يثيرون جنوني بمطالباتهم الماليّة!.
اجتثاث الفساد: (قريع) يصدر بياناً يعلن فيه منع تناول (الفطائر) في اجتماعات الحكومة!.
مكافأة دارفورية: ترقية الرّئيس عمر البشير من (فريق) إلي (مشير) !.
وَصلة حزن: الرّاقصة (دينا) تعتزل الرّقص (مؤقتا) حزناً علي وفاة والدها!.
>>>
خلاصة: كان بطل رواية (الجوع) للكاتب النرويجي كنوت هامسون يصف ظلام غرفة بات فيها ذات ليلة بقوله: الظلام يتوالد من حولي .. الحلكة اللاّنهائية لا يمكن سبر غورها، حتّي أن أفكاري تغصّ بها ولا تستطيع لفظها.
بماذا يمكنني مقارنتها؟
لقد بذلت محاولات يائسة من أجل العثور علي كلمة سوداء بما يكفي لوصف هذه الظلمة .. كلمة بالغة السّواد بحيث أنني إذا نطقتها فإنّ من شأنها أن تُلوّث فمي!.
لو كان المؤلف حيّاً لنصحته، من أجل إنهاء معاناة بطله، بأن يضع علي لسانه عبارة (الوضع العربي) !.
الرّجل التّصويري!
انتهي الأمر بأن بصق (نعمان) في وجهي.
لم أُصَب بقطرة من رذاذ البصقة، لأنّ الصّدفة شاءت لها أن تستقرّ بكاملها علي وجه (جلاّوي) الذي كان يحجز بيني وبينه، لكنّ صوتها المدوّي كان موجّهاً نحوي أنا بالذّات .. ولن أكون مغالياً إذا ادّعيت أنّه صفعني أيضاً، لأنّ وقوع الصفعة علي خدّ (جلاّوي) لا يغيّر شيئاً من حقيقة أنّ الصفعة كانت موجّهة نحو خدّي أنا بالذّات.
صرخت به من وراء جثّة جلاّوي:
- اسمع يا نعمان. نحن لسنا في غابة. إنّنا والحمدلّله نعيش في مدينة، والمدينة فيها شرطة وقوانين .. وعليه فإنني سأطلب رَدّ اعتباري من الحكومة نفسها.
شوّحَ بيديه:
- أتهدّدني؟ سأذهب معك بلا تأخّر .. القانون بيننا، وسنري إن كان لدي الحكومة اعتبار لمن يضرب أولاد الجيران.
كرّرت ما قلته عشرات المرّات، قبل أن أندفع نحو مركز الشرطة:
- لم أضرب أولادك. ولم أشتمهم. إنّهم كذّابون .. لم أفعل غير أن طلبت منهم بالإشارة أن ينزلوا من علي مقدّمة سيّارتي.
أكدّ جلاّوي وهو يحاول أن يستوقفني، ويستوقف نعمان الرّاكض في أثري:
- لم يضربهم .. فقط قال لهم (كش كش كش) .
وحين لم يفلح في إيقافنا، جارانا في الهرولة، وعندئذ توقّفت وطلبت منه العودة، لكنّه أصرّ علي مرافقتنا إلي الشرطة كشاهد.
قلت له متحامياً ممّا لا تحمد عقباه:
- كُن في شأنك يا جلاّوي .. إنني أستطيع الدفاع عن نفسي.
قال نعمان متحدّياً:
- دعه يشهد. إنه لا يُخيفني.
انفجرت حانقاً:
- يا أخي لا أريد شهادته. ارجع يا جلاّوي.
لكنّ جلاّوي لم يرجع، بل زاد من سرعته وكأنه ينافسنا في سباق. وقال من خلال لهاثه:
- أنا لا أدافع عن أحد. أنا أدافع عن الحقّ. أمسكت بطرف جلبابه وتوسّلت إليه أن يخرج من القضيّة، لكنّ إمساكي به لم يوقفه، بل جرّني وراءه كعربة قطار.
قلت للمحقق باختصار:
- المسألة وما فيها أنّ أولاد جاري هذا لا شغل لهم سوي الرّقص فوق سيّارتي طول اليوم. إنّهم لا يختارون من جميع السيّارات التي في ساحة العمارة إلاّ سيّارتي أنا ليقيموا فوقها دبكتهم .. وقد تعبت، دون جدوي، من كثرة ما توسّلت إليهم أن يكفّوا عن هذا العبث، ولطالما شكوتهم لوالدهم لكنّ المشكلة لم تنته أبداً. واليوم جاءني جاري هذا وادّعي أنني ضربت أولاده. أقسم لك أنني لم أفعل غير أن أشرت لهم بأن ينزلوا من علي سيّارتي .. لكنّه أزبد وأرعد وشتم وبصق وصفع .. إنني يا سيّدي أطلب أن تأخذوا بحقّي منه وأن تردّوا لي اعتباري.
وجّه المحقّق بصره نحو نعمان وسأل:
- ما قولك أنت؟
- قولي أنّه ضرب أولادي. حلفوا لي أنه ضربهم. والدليل أنّهم كانوا يبكون من شدّة الوجع ..
الإشارة باليد لا تجعل الأطفال يبكون من الألم .. أليس كذلك؟
في هذه اللحظة اندفع جلاّوي موسّعاً بذراعيه الفجوة ما بيني وبين نعمان، حتي التصق بطاولة المحقّق، تاركاً إيّانا خلفه، وصاح بصوت مجلجل:
- أقول الحقّ ولا شيء غير الحقّ.
بهت المحقّق، وحدّق فيه مغيظاً:
- مَن أنت؟!
قال جلاّوي بأدب:
- أنا جلاّوي يا حضرة المحقّق.
تساءل المحقق والغيظ لا يزال مرتسماً علي ملامحه:
- ما علاقتك بالقضيّة؟!
- أنا شاهد.
رمي المحقّق ببصره نحونا من فوق كتفي جلاّوي وسألنا:
- أكان هذا حاضراً عندما تشاجرتما؟
لم يدع لي جلاّوي فرصة للرّد، بل انطلق يُعدّد كالمدفع الرّشاش:
- نعم يا حضرة المحقّق .. حاضر وناظر وباظر أيضاً.
رأيت كلّ شيء وسمعت كلّ شيء من التيسي للفيسي للرّيسي. أقسم باللّه العظيم أنَ الأولاد قد افتروا علي هذا الرّجل الطيّب. رأيتهم بعيني قبل أن يخرج وهم يتقافزون فوق السيّارة (زيق فيق بيق) .. وكلّ ما فعله أنّه قال لهم بيده (كيش كيش كيش) .. وعندما لم ينزلوا أعطاهم (شاك طراك طراك) .
استوقفه المحقّق حانقاً:
- هيه .. هيه .. ماذا أعطاهم؟!
- صار يخبط علي السيّارة بغضب لكي ينزلوا .. ويبدو أنّهم خافوا حينئذ، إذ أنّهم (تشرمب تشرمب تشرمب)واحداً بعد الآخر.
صرخ المحقق به:
- ماذا تقول يا رجل؟!
قال جلاّوي بكلّ تهذيب:
- أقول يا سيّدي إنّهم قفزوا إلي الأرض .. وما هي إلاّ لحظات حتّي جاء الأخ نعمان يهزّ الأرض هزّاً (دُمْ دُمْ دُمْ) ومن دون سلام أو كلام (طراااخ) بكلّ قوّة فوق زجاج النافذة، ثم توجّه لهذا الرّجل الطيّب بكلّ ما في الدنيا من (كذا وكذا ما كذلك) .
تلّه المحقق إليه من جلبابه بعنف حتي حاذي وجهه، وحدّق في عينيه بغضب مسعور:
- لقد دوّختني. احك ما رأيت بلا موسيقي تصويرية .. ماذا تعني بهذه الكذاءات؟!
ثاب جلاّوي إلي الواقع، وقال وهو يبلع ريقه خوفاً:
- كان يسبّه ويسبّ أمّه سيّدي.
- كان بإمكانك أن تقول هذا. تكلّم باختصار وإلاّ فسأضطر لأن ألعن كذا ما كذاك .. واصِلْ .. ماذا جري بعد ذلك؟.
قال جلاّوي، وقد استعاد جلبابه وهدوءه:
- ثمّ يا سيّدي لم أنتبه إلاّ (تشاك) وطار الشّرر من عيني. كانت صفعته قوّية سامحه اللّه .. ولم يكتف بهذا بل نزل علينا (تفو .. تفوو .. تفوووه) ..
استوقفه المحقّق صارخاً:
- كفي، كفي .. لم أعد بحاجة إلي المزيد.
ثمّ التفت نحو الشرطي الواقف بالباب وأمره بحزم:
- خذ هذا اليربوع واحبسه في غرفة النظارة، وبعد أن تقفل الباب عليه، اذهب إلي بيت نعمان وأحضر أولاده.
غاب الشرطي مدّةً، وعندما عاد مصطحباً الأولاد، قال للمحقّق:
- وجدتهم يرقصون فوق سيّارة.
هتفت بانشراح:
- أرأيت يا سيّدي؟ إنّها سيّارتي بالتأكيد.
قال المحقّق لنعمان بلهجة جافّة ومؤنّبة:
- عليك الآن أن تعتذر من الأخ، وعليك بعد ذلك أن تحسن تربية أولادك. وإذا تكرّر عبث الأولاد فإنني سأضعك في الحبس لمدة شهر مع الغرامة.
مدَّ نعمان يده إليّ مصافحاً، وابتسر الكلمات مرغماً:
- سامحني يا أخي .. أنا الغلطان.
قال المحقّق:
- تفضّلوا الآن .. مع السّلامة.
قلت له:
- وماذا عن جلاّوي؟!.
قال مبتسماً لأوّل مرّة:
- سيبقي في الحبس إلي أن يقدّم تعهّداً خطيّاً بنزع جميع أشرطة الموسيقي التصويرية من دماغه .. وسأحبسك أنت أيضاً إذا جئت به للشهادة مرّة ثانية.
ضحكت برغم صعوبة الموقف، وضحك المحقّق عالياً، وانتقلت عدوي الضّحك إلي نعمان الذي همس لي كالمتشفّي:
- خَلِّصْ شاهدك.
وجّهت بصري نحو جلاّوي المقرفص في غرفة التوقيف القائمة في الزاوية القصيّة من ردهة المخفر، وناديته:
- سأجلب لك العشاء. لا تجزع يا جلاّوي. الحبس للرّجال.
وجاء صوته المغضب محمَّلاً بكل بروق ورعود الأفلام:
- عشنا ورأينا .. حكومة شيطي بيطي ميطي، تحبس الشاهد وتطلق المتّهم!! ترَررم بَرَرم طَنْطن .. أهذا قانون أم كمنجة؟!.
صدقات
الكلمة الطيّبة، عند اللّه، خير من صدقة يتبعها أذي، بل إنّ الكلمة الطيّبة هي بحدّ ذاتها صدقة. لكنّك تصطدم، أحياناً، بكلمات طيّبة يلتصق الأذي الفوري بها كالذيل كانساً من خلفها آثار خطواتها المؤنسة، بشكل يجعلك تتمنّي الأذي الآجل كلّه بديلاً عن هذا البديل الذي سَدّ مسدّ الصدقة المؤذية.
ولأنّ الكلام لا يكلّف شيئاً فإنّك تميل إلي الاعتقاد بأنّ ذلك الأذي هو في الغالب نتيجة لخيانة التعبير ليس إلاّ.
من مثل ذلك أنّ قارئاً سمع أنّي مريض فكتب يقول: (شفاك اللّه وعافاك وأعادك سالماً إلي قرائك .. وإلاّ فإننّا نسأله أن يبدلنا منك ويعوّضنا عنك) !.
وكما هو واضح فإنّ الصّدقة هنا خرجت من غرفة الدّعاء بالخير ودخلت غرفة المفاوضات!.
إنّها مفاوضة صريحة بين القاريء وربّ العالمين، فإذا شفاني فبها .. وإلاّ فإنّه يطلب تعويضاً عنّي.
ولا يخفي أنّ أداة الشرط هنا تعني أنّه احتسبني عند اللّه وأغلق تربتي بالفاتحة (آمين) !.
ولقد ذكّرني ذلك بما رواه الباحث التراثي الكويتي عادل العبدالمغني عن صديق له بشأن طرق التّداوي والعلاج في الكويت القديمة.
يقول ذلك الصديق إنّه أصيب، في ذلك الزّمن، بصداع حادّ تواصل لعدّة أيّام، دون أن تنفع معه كلّ المسكّنات المعروفة، فنصحه المجرّبون بزيارة شيخ يقال له (العَيْدروس) ليقرأ علي رأسه ويكتب له تعويذة.
ولشدّة وجعه توجّه فوراً إلي (العَيْدروس) وحمل معه طاسة حلوي كهدية.
سأله الشّيخ عن اسمه واسم أمّه ليكتب له تعويذة تشفيه من الصّداع إلي الأبد، وتجلب له الحظّ أيضاً .. فأجابه بأنّ اسمه (عبدالله) واسم أمّه (قماشة) .
بعد التعازيم والتمتمات والتهويمات، اختلي الشيخ ساعة، ثم عاد وفي يده تعويذة طلب من عبداللّه أن يعلّقها في رقبته.
يقول عبداللّه إنّ الصّداع زال في الحال، ولم يعاوده قط، فدفعه الفضول إلي استجلاء سرّ هذه التميمة العجيبة التي تفوّقت علي جميع المسكّنات، ففتحها، وإذا به يقرأ التالي: (ياني عبداللّه بن قماشه، وشايل بإيده طاسه، ويقول يعَوره راسه .. إذا طاب وُدّي .. وإذا ما طاب عند يَدِّي) !.
ولكي أكون منصفاً ينبغي عليّ الاعتراف بأن قارئي ألطف نفساً من (العيدروس) ، فهذا الأخير دعا بالشفاء لعبداللّه، لكنّه لم يشترط تعويضاً في حالة عدم شفائه، بل طلب من اللّه أن يلحقه بجدّه .. أي أن يقبض روحه!.
ومن طريف ما أتذكره في هذا الصدد حكاية صديق عراقي قال إنّه، في وقت من الأوقات، كان مهتماً بصحّته البدنية والنفسية إلي درجة الهَوَس، إذ كان يمارس الجَري والسّباحة ويؤدي التمارين السويدية صباح كلّ يوم، وينظّم وجبات طعامه وفق القواعد الصحيّة التي يجدها في مجلّة (طبيبك) وأشباهها، وأنّه في رحلة بحثه عن السّلام الرّوحي اكتشف رياضة اليوغا فلم ينقطع عن ممارستها، وفوق هذا فإنّه قرأ كتاب دايل كارنيجي (دع القلق وابدأ الحياة) أكثر من مرّة، وحرص علي تطبيق ما قرأه علي كلّ شأن من شؤونه.
يقول صديقي: باختصار .. كنت بصحّة وعافية وفي غاية البهجة والإقبال علي الحياة، عندما التقيت مصادفة بصديق لم أره منذ مدّة، فإذا به يُحيّيني بصوت صاعق يُفزّز الموتي: (هلا بالبطل .. شلونك وردة؟!) .
لكنّه بعد أن حضنني وقبّل وجنتي، بدا كما لو أنه ندم علي تقليدي وسام البطولة ومنحي رتبة الوردة، فصار يبعد عينيه عني ويقرّبهما منّي كمن يدقّق في لوحة انطباعية، ولو استطاع لقلَّبني وجهاً علي قفا مثل أيّة بضاعة، ثم صرخ بحرقة أمّ ثكلي: (هاي شبيك مصوفر وزايع عافيتك .. جنّك ديج منشول؟) .
والترجمة الحرفية لهذا التشخيص هي: (مالك مُصفّراً ومعدوم العافية كأنّك ديك مزكوم؟) !.
قال صديقي ضاحكاً إنّه منذ ذلك اللقاء وقع مريضاً ثلاثة أشهر، وحتي بعد شفائه لم يفلح كارنيجي ولا الطبيب القبّاني ولا تمريناته الرياضية في إعادته إلي سابق لياقته وبهجته!.
ثلج
حاول (كا) باعتباره صحفياً، أن يستطلع أسباب ظاهرة انتحار بعض الفتيات المحجّبات في إحدي المدن التركية النائية، فوصفه الإسلاميون بأنه ملحد يريد إرواء غليل العلمانيين في أنقرة. وفي الوقت ذاته اتّهمه العلمانيون بالتعاطف مع الإرهابيين الذين لن يتورّعوا عن قطع رأسه إذا ما استولوا علي السلطة. أمّا الأكراد الذين لم يترددوا عن الشكوي إليه من بطالتهم واضطهاد السلطة لهم، فقد كانوا علي ريبة من صلته بذوي النزعة القومية العنصرية من العلمانيين والإسلاميين علي حدٍّ سواء. وبالنسبة لرفاقه القدماء من العسكر الذين كانوا ينتقدون صلاته بكل أولئك، كان مفترضاً به وجوباً أن يكون مشاركاً لهم في انقلابهم المحدود للحفاظ علي المباديء الأتاتوركية. وفي معزل عن كلّ هؤلاء كانت دائرة المخابرات تعتبره مجرّد آلة تسجيل ينبغي أن تُفرِّغ المعلومات منها حول جميع تلك التيّارات، ولو تحت طائلة التعذيب!.
والواقع أنّ (كا) لم يكن مؤمناً فيما مضي، لكنّه انتهي، فيما بعد، إلي أن يري قدرة اللّه مجسّدة حتي في حبّة الثلج النازلة من السّماء، ثم توصّل في آخر الأمر إلي أن يكون مجرّد (مواطن) متطلّع إلي سعادة الارتباط بجميع المواطنين علي اختلاف توجهاتهم برباط المواطنة ومباديء الإخاء والحرية والعدل والمساواة. لكنّه، في توجهه هذا، لم يجد له مكاناً آمناً أبداً وسط غابة تتعدّد فيها (الشّموليات) من حوله. ذلك أنّه بدلاً من أن يحظي بمودّة الجميع له واعترافهم به، وجدهم يرفضون نموذجه الوسطي والموضوعي، علي الرغم من ألحان الوجد التي تطلقها شعاراتهم عن الحرية، وعلي الرغم من إدعائهم الوصل جميعاً بليلي الإخاء والمساواة.
التعدّدية في مثل هذا المناخ ليست منافسة بين تيارات اجتماعية مختلفة من أجل الوصول إلي تحقيق الحرية للجميع والمساواة بين الجميع، بل هي سباق بين ديناصورات حديثة تحمل بين أنيابها الشّعارات وأصابع الديناميت معاً، للوصول الي ديمقراطية (القبيلة المنفردة بالسلطة) وتحقيق أقصي درجات العدل في توزيع بركات الإبادة علي كلّ التيارات الأخري!.
تلك هي خلاصة محنة (كا) كما يقدّمها الرّوائي التركي أورهان باموق في روايته الأخيرة (ثلج) .. ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّها محنة باموق نفسه، ومحنة جميع الخارجين علي حظائر فرعون أو هامان أو قارون .. في هذا الشرق السعيد.
المسألة التي تُلحّ علي باموق في معظم أعماله هي محاولة فهم حالة بلاده تركيا التي شاءت الأقدار لها، جغرافياً وتاريخياً، أن تكون كتوأمين سياميين أحدهما رجله في آسيا والآخر رجله في أوروبا. ومن ثم محاولة التوصّل إلي صيغة حياة ممكنة لا تفرّط في الموروث الشرقي ولا تستغني عن مستجدات الحضارة الغربية التي يري فيها إغناءً للموروث، واستنهاضاً له للمشاركة، بعد سبات طويل، في صنع الحياة، والتقدّم بالحضارة الإنسانية إلي الأمام.
والواقع أنّ ما يصحّ بالنسبة لتركيا في هذا الشأن، يصحّ في التقويم النهائي، بالنسبة لكلّ بلاد الشرق التي كانت، ذات يوم، واقعة تحت نفوذ تركيا العثمانية، قبل أن تشيخ وتمرض وتُسلِّم الجَمل بما حمل لورثتها الغربيين. ولذلك فإنّ محاولة باموق، في النهاية، لا تختصّ بتركيا وحدها، بل بكلّ البلاد الشرقية، وهذا ما يجعلنا شخوصاً غير
منظورين في رواياته، ومن ثمّ شركاء أصليين في رحلة بحثه عن الصيغة المنشودة للتعايش والتبادل الحضاري، دون الذوبان في الآخر .. ودون الانقطاع عنه.
لقد عالج باموق هذه العلاقة المتوتّرة في روايته الشهيرة (اسمي أحمر) بقالب فنّي استدعي فيه تاريخ فنون التشكيل لدي الغربيين والشرقيين.
أمّا في روايته الأقرب إلي نفسه (الحياة الجديدة) فقد اختار أن يعالج الموضوع نفسه عن طريق الفنتازيا البوليسية، دون أن يتردّد، خلال ذلك، عن الاحتجاج بوضوح وبصوت حادّ النبرة ضدّ المنسلخين من الهوية الشرقية من جهة، وضدّ المتقوقعين في قمقم تلك الهوّية من جهة أخري، إذ يري أنّ الفريقين لا يختاران طريقين مختلفين للوصول إلي (الحياة) .. بل هما يختاران مكانين مختلفين لملاقاة (الموت) .. ولا فرق حينئذ، بالنسبة له، بين أن ينتحر المرء في بيته أو أن ينتحر في عرض الشارع العام.
في أثناء عمله علي رواية (ثلج) صرّح أورهان باموق بإنّها ستجرّ عليه المتاعب.
ولا أحسب أنّ تصريحه بذلك كان نوعاً من النّبوءة، فقد كان واضحاً له، كما أصبح واضحا لنا بعد قراءة الرّواية، أنّه بالصيغة الفنيّة الجديدة التي عالج بها موضوعه الأثير، قد دخل إلي أرض الواقع المعيش والحي والمعروف، وهو يعرف أنّها أرض مزروعة حتي هامتها بالألغام، وأنّ الحيل الفنيّة، مهما اتسعت، لن تستطيع مراوغة آفاقها الضيّقة، حيث كلّ جماعة فيها تؤمن من صميم قلبها بديمقراطية (الفرقة الناجية) !.
لم ينج (كا) من العذاب.
ولم ينج (باموق) من غضب جميع الأطراف. لكنّنا، بالإلحاح، علي إدانة هذه الحالة، سوف ننجو جميعاً في النهاية.
المنبوذ
في عامه السادس والسبعين، يبدو شيخ كتّاب أمريكا اللاتينية (غابرييل غارسيا ماركيز) وكأنه قد عاد الي صباه، فمثل أيّ تلميذ كسول ومشاغب يطرد من الصف، يواجه ماركيز، الآن، قرار منعه من المشاركة في المؤتمر العالمي للّغة الإسبانية الذي ينظمه، كلّ أربع سنوات، مجمع الدّول الناطقة بالإسبانية.
إذا صحّ هذا الخبر المدهش والمؤسف الذي نشرته (الغارديان) البريطانية قبل أيّام، فهو يعني أنّ الناس هناك ليس عندهم (كبير) حين تصل الأمور إلي حدّ المساس بهيبة اللّغة.
السيدة (ماجدالينافيلاسي) وزيرة الثقافة الأرجنتينية التي تستضيف المؤتمر الحالي، قالت إنّ مؤلف (مائة عام من العزلة) قد منع من الحضور بسبب ما أحدثه من ازعاج في المؤتمر الذي عقد في المكسيك قبل ثمانية اعوام، حين قال إنّ الإملاء .. ذلك الإرهاب النازل علي البشرية من المهد الي اللّحد، يجب ان يحال علي التقاعد!
ويبدو أنّ ماركيز، عندما اقترح رمي الإملاء في مقلب النفايات، لم يكن يتوقع أن يصبح منبوذاً إلي هذا الحد .. لكن هذا هو ما حصل.
وقد استفز قرار منعه زميله الرّوائي البرتغالي الحاصل علي جائزة نوبل (خوزيه ساراماغو) الذي صرّح بأنّه سيعيد بطاقة الدعوة الخاصّة به الي منظّمي المؤتمر، إذا صحّ خبر منع ماركيز من الحضور.
ومن جهتها أكّدت وزيرة الثقافة الأرجنتينية أنّ مجمع اللغة هو الذي أصّر علي منعه من المشاركة.
وفيما يدور التساؤل حالياً حول صحّة هذا الأمر أو عدمها، يستوقفنا تساؤل آخر، لا يقلّ أهمية، عن الدافع الحقيقي الذي دعا الرّوائي الكبير إلي اقتراح إلغاء (الإملاء) من اللغة الإسبانية. أكان ذلك نابعاً من حكمة خبير باللّغة، رأي، بعد طول التجربة، أنّ الوقت قد حان لتخليص اللغة من زوائدها غير الضرورية، وتيسير الأمور علي الناشئة من الكتّاب؟
كلاّ .. فالإملاء ليس زائدة دودية تلحق باللغة. إنّه اللغة نفسها، وعلي الكاتب أن يبذل الجهد من أجل إتقانه، إذا كان يعد نفسه للكتابة بالقلم، لا للرواية باللسان.
ما سبب دعوة ماركيز الغريبة إذن؟
السبب، ببساطة شديدة، هو ضعف ماركيز الشخصي في الإملاء، وتلك مشكلة رافقته مثل كعب أخيل طيلة حياته.
وقد اعترف ماركيز في سيرته (عشت لأروي) بضجره من الإملاء، لأنّه لا يحسنه، وروي حكاية من ماضيه الدّراسي، حين كان عليه أن يكتب الخطاب الافتتاحي لأحد احتفالات المعهد الرسمية، فقال إنّه بعد أن قابل المدير لعرض الخطاب عليه، نبّهه الأخير بفظاظة إلي عدد من الأخطاء الإملائية التي ارتكبها.
يقول ماركيز: إنّ أكثر ما أثّر بي في تلك المقابلة هو مواجهتي، مرّة أخري، لمأساتي الشخصّية في الإملاء. فأنا لم أستطع فهمه. وقد حاول أحد أساتذتي أن يوجّه إليّ الضربة القاضية، عندما قالي لي إنّ سيمون بوليفار لا يستحق كلّ تلك الأمجاد، بسبب أخطائه الإملائية. بينما حاول آخرون مواساتي بالقول إنّه داء يصيب كثيرين. وحتّي اليوم، بعد أن صار لي سبعة عشر كتاباً منشوراً، ما زال مصمّمو تجاربي المطبعية يٌشرّفونني بكياسة تصويب أخطائي الإملائية، علي أنّها مجرّد أخطاء مطبعّية!
حسناً .. إنّها مشكلة شخصّية، كان من الممكن لماركيز أن يذلّلها بالاستيعاب، أو بالتعايش معها، ما دامت قد أصبحت علّة مزمنة، خاصّة أنّ المصحّحين لن يتخلّوا عن كياستهم أمام روائي عظيم مثله. لكنّه بدلاً من ذلك، حاول أن يتفادي المشكلة بإلغائها وكأنّها بثرة في يده وحده، وليست ضرورة حيوية للغة أمّة كاملة.
ويبدو أن ماركيز كان يحتمي بشيخوخته وبطول قامته الإبداعية، عندما واتته الجرأة علي المطالبة أخيراً بإعدام ذلك (الإرهابي) الذي رافقه منذ الطفولة. لكن لم يدر بخلده أنّه، بعد كلّ هذا العمر وكلّ هذه الشهرة، سيواجه مَن له القدرة علي طرده، ببساطة، من الصّف!
لو كنت في مكان ماركيز لهززت يدي في وجوه سدنة اللغة الإسبانية، ولقلت لهم بمنتهي الاستخفاف: ما هذا الهراء؟ لم يبق إلاّ أن تطلبوا مني إحضار وليّ أمري. ماذا فعلت يا سنيورات حتي أستحق كلّ غضبكم هذا؟ إنّه إملاء ليس إلاّ .. مجرّد إملاء. أأهون عليكم من أجل هذا الشيء التافه؟ ماذا سيقول عنكم إخوانا العرب إذا وصل
إليهم خبر تحجّركم وقلّة عقلكم؟ إنّ صبيانهم هناك قد تجاوزوا من زمان مسألة ضرب الإملاء علي مؤخرته. إنّهم الآن لا يتورّعون عن المطالبة بإعدام النحو والصرف، بل ويعمدون بكلّ سلاسة وعذوبة إلي تجريد الكلمات من معانيها، وإنهم ليتساءلون بسخرية مُرّة: ما حكاية المعاني هذه التي جاءتنا علي آخر الزّمن؟
ومع ذلك فإن لغتهم الرؤوم تبدو سعيدة بهم، ولا يهمها شيء سوي ألم فراقهم الغالي عليهم، ولا تزال تناغيهم بكلّ حنان:
(أنا البحر في أحشائه الدّرُّ كامِنٌ
فهل سألوا الغوّاص عن صَدفاتي؟)
وهي علي يقين تام من أنهم، عندما يكبرون، سيسألون الغوّاص عن صدفاتها وعن الرّبيان أيضاً، لكي تستطيع مجامعهم اللغوية المجدّدة أن تطبخ (الكامخ) بالرّبيان، حين تعدّ لهم الشاطر والمشطور في الأعوام المقبلة!
المرأة علي السُّلَّم
تُحدّثنا طرفة فقهية عن زوج رأي زوجته تصعد السُّلّم، فاستوقفها قائلاً: أنت طالق إذا صَعدتِ، وطالق إذا نزلت، وطالق إذا وقفتِ .. فما كان منها إلاّ أن قفزت إلي الأرض من منتصف السُّلّم!
ذكيّة .. أليست كذلك؟ ومن حقّ زوجها الصالح أن يغتبط لذكائها .. أليس كذلك؟ ومن واجبنا نحن السّامعين الكرام أن نرسل إليهما من مجامع قلوبنا أسمي آيات التهنئة والاعجاب .. أليس كذلك؟
نعم .. هو كذلك، عندما يتعلّق الأمر بنا كقطعان ماشية، لأننا في الواقع نسخ من صورة تلك المرأة الصّالحة، ومن شأننا أن نسعد جداً بقدرة أمثالنا علي ممارسة أسوأ أشكال الذلّ بأعلي درجات الذّكاء!
لكنّّ الأمر ليس كذلك إطلاقاً، إذا كنّا علي سوية البشر الأحرار. ذلك لأن المكان والحدث والشخوص ستتيح لنا، حينئذ، رؤية الأمر بصورة أفضل، وستفتح في جدران تلك الطرفة نوافذ خيارات أخري غير ذلك الخيار الذي لا يؤدي إلا إلي عيادة الكسور في مستشفي العظام، ولا يعود إلا إلي حظيرة ذلك الفحل الصالح الذي في يده عقدة الطلاق .. وكل عُقد الدنيا الأخري.
لا ريب أن الطرفة ستفقد طرافتها إذا نحن فتحناها علي خيارات أخري، لكنّ ذلك ثمن بخس مقابل استعادة الدنيا لبهجتها، واستعادتنا نحن لسوّيتنا الإنسانية.
لنفرض أنّ المرأة ليست ذكيّة بما يكفي، ولذلك فإنها وقفت لتفكر في حَلّ لمشكلتها، ولنفرض أن الزّوج رأي أنها استغرقت من الوقت ما جعلها في حالة الوقوف النّاجز .. عندئذ ستكون المشكلة برمّتها قد وجدت الحَلّ، إذ ليس علي المرأة إلاّ أن تزغرد من صميم قلبها، لخلاصها من مثل هذا الرّجل الأحمق.
أو .. لتبق المرأة ذكيّة - كما هي في الطرفة - لكي يمكننا الافتراض أنها بادرت فورا إلي النزول ثم حزمت أمتعتها، واستدارت في طريقها إلي الباب، لتشكر الذي في يده عقدة العُقد، ولتذكّره بأنه يعرف مكان بيت أهلها، وعليه فإنه لن يجد عناء في ايصال ورقة الطلاق السعيد إليها.
أما إذا كان البيت ملكها، فما عليها إلا أن تفتح له الباب، وهو بلا شكّ سيعرف طريقه جيداً إلي الشارع .. لكنّنا سنظل في شَكّ بالنسبة لهذا الاحتمال، لأن من لا يملك البيت سيكون أعقل قليلاً من اللعب بعقدة الطلاق، وأكثر مهارة في ترويض عُقده النفسية المتراكبة.
هناك خيار آخر أمام المرأة، هو أن تصعد إلي الطابق الثاني لانتقاء أحد خيارين: فإما أن تتصل بالقاضي طالبة منه تأديب ذلك البهلوان، وإمّا أن تتّصل بمستشفي المجانين محدّدة بالضبط مقاس بعلها، لكي لا يكون قميص المستشفي ضيّقاً بحيث يصعب معه ربط أردانه من ورائه بسهولة.
ولأن المرأة ذكية كما تقول الطرفة، فإنها ستستبعد خيار الاتصال بالقاضي، لخشيتها من أنه كفحل وكفقيه، سوف لن تسهل عليه التضحية بتلك الطرفة الفقهية الرّائعة من أجل سواد عينيها.
وعليه فنحن نميل إلي الاعتقاد بأنها ستدير قرص الهاتف، لتقول للطرف الآخر:
(52) .. ونفهم من هذا أنها قد أضافت ثلاث درجات مضاعفة إلي مقاس زوجها، لتضمن أن يكون القميص (مرحرحاً) بصورة كافية لتقييده جيداً.
نحن هنا نتحدث عن زوجة شرعية اختارت ذلك البعل بمحض إرادتها وبرضا أهلها، لا عن امرأة مخطوفة ومغتصبة، فهذه الأخيرة لا ينفعها أن تكون بطلة طرفة .. بل هي تستأهل أن تكون بطلة مأساة اغريقية، وذلك لأن مثلها لن تفوز أبداً بعرض الطلاق السخيّ هذا من مختطفها، وعليه فإن خياراتها المفترضة هي أن تتوسل إليه راجية أن يعتقها، أو أن تتحيّن الفرصة للهرب أو الاتصال بالشرطة، أو أن تشعل النار في البيت، وتقفز حالاً .. من الناقذة.
وحتي بالنسبة لحالة هذه المرأة المنكودة، تبدو حالتنا، نحن السامعين الكرام، أسوأ .. فنحن لا نستطيع اقناع خاطفينا بعتقنا، لأن أدمغتهم مركّبة في أعقاب بنادقهم. ولا نستطيع الهرب من البيت لأن (الغربة مَذَلّة!) . ولا نستطيع الاتصال بالشرطة لأن الاتصال بالخارج عمالة وخيانة عظمي. ولا نستطيع، في النهاية، إحراق البيت، لأنه ملكنا نحن، وحتي لو فعلنا فإننا سوف لن ننجو من الاحتراق لأن الخاطف قد سمّر جميع النوافذ والأبواب، في لحظة استيلائه علي البيت وعلينا.
خسائرنا بالجملة علي كل اتجاه، وهذا ما يوضح سبب انحيازنا لامرأة الطرفة الفقهيّة، لأنها تمنحنا فرصة للادعاء بأننا اخترنا هؤلاء الخاطفين (الملهمين) بمحض إرادتنا، وبملء روحنا الرّياضية والفكاهية .. فبذلك وحده سيمكننا، بلا حرج أو حياء، أن نواصل القفز (بالروّح والدّم) إلي مشاء اللَّه .. من فوق السُّلّم!
الحكيم الأخضر
كانوا ثلاثة إخوة يسيحون في أرض اللّه طلباً للحكمة. وقد ألقوا عصا التّرحال، ذات ظهيرة، في بلدة هادئة، وجدوا في أحد طرقاتها المقفرة من المارّة، شيخاً طاعناً في الذّهول، يجلس مستنداً إلي حائط بيت، تحت لهب الشمس الحامية، وكأنّه يستظلّ منها بها!.
كانت للشيخ لحية خضراء، وعليه ثوب أخضر، وتحت إبطه كتاب أخضر.
سلّم الإخوة عليه، فلم يردّ عليهم السّلام، بل وضع إصبعه عمودياً علي شفتيه، طالباً منهم بالإشارة أن يلتزموا الصَمت، فألقوا عصا التّرحال أمامه، وتحلّقوا من حوله صامتين، وفي يقينهم أنّهم قد بلغوا الغاية.
تناول الشيخ (عصا ترحالهم) وهزّها في وجوههم، ثمّ انهال عليهم ضرباً، فتباعدوا عنه قليلاً. لكنّه تبسّم، وركز العصا أمامه، وراح ينبش الأرض بأناة، ويحثو التّراب عليهم، وهم في أثناء ذلك يتأمّلونه صامتين خاشعين. وما مضت ساعة حتّي كان الشيخ قد صنع حفرة، ما لبث أن زحف نحوها حتّي غطّاها بمؤخرته، ونشر حولها ثوبه، وارتعد صائحاً: (الطبيعة الطبيعة .. الأرض الأرض .. الفضاء الفضاء) .. وسكت فجأة، ثم ابتسم، ثمّ عبس، ثم بكي، ثم استغرق في الذّهول!.
قام الإخوة الثلاثة ينفضون التراب عن ثيابهم، وقبّلوا يد الشيخ تباعاً، ثمّ التقطوا عصا ترحالهم وانصرفوا.
وفيما كانوا سائرين بحثاً عن خانٍ يستظلّون به من القائلة، قال أكبرهم:
- الشّيخ أنبأنا بأنّ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها!.
وقال الأخ الأوسط:
- بل أنبأنا بأنّ الموت مصير كلّ حي .. ألم ترياه قد تبسّم ثمّ بكي ثمّ استقرّ فوق الحفرة؟!
قال الأخ الأصغر:
- بل هو قد لخّص لنا ناموس الطبيعة، فقال إنّ الماء سّر الحياة المودع في الأرض كما هو مودع في السّماء، ألم ترياه، ونحن في موسم انقطاع قطر السّماء، قد حفر لنا بئراً في الأرض؟!.
سار الإخوة طول الظهر يترنّحون تحت الشمس، حتي لاح لهم خانٌ فدخلوه. وبعد أن استراحوا وطعموا وارتووا، قصّوا علي صاحب الخان حكاية الشيخ، وأبدوا تعجّبهم من ترك حكيم مثله يقتعد الطريق في عراء الظهيرة دون ظلّة. ثمّ سألوه عن اسم الشيخ بغية التبّرك بذكره والدعاء له.
سألهم صاحب الخان:
- ماذا رأيتم الشيخ يفعل بعد أن قعد فوق الحفرة؟
قال الأخ الأكبر:
- رأينا الحكمة مثلّثة.
ثم روي له ما استنتجوا من حكمته.
قال صاحب الخان:
- إنّما حكمته واحدة لا تتجزّأ ولا تنقسم ولا تتعدّد. بل تتكرّر.
ثم ابتسم قائلاً:
- لقد اعتاد الشيخ أن يحفر حفرة كلّما أراد أن يتبّول. إنّه (عُميران الأخضر) مجنون البلدة!.
هتف أحد الإخوة: يا سبحان اللّه .. ها هي ذي حكمته قد تربّعت بعد تثليث!.
فإن لم ينزل الماء من السّماء، وإن لم يتدفّق من الأرض .. فليس أمام المرء إلاّ اللجوء إلي (النهر الاصطناعي)!.
عقد العجب لسان صاحب الخان، لكنّه استطاع أن يقول بعد حين:
- لماذا لا تأخذون (عُميران) معكم؟
مثلكم، واللّه، أولي بمثله.
أصدقاء رائعون
من وحي صورة فوتغرافية يعود تاريخ التقاطها إلي عام،1962 كتب الرّوائي والشاعر البريطاني سي. جي. درايفر مقالة تشبه رواية مكثّفة، في العدد الثمانين من مجلّة (غرانتا) الأدبية الفصلية.
المقالة عنوانها (كنّا أصدقاء رائعين) وهو بالضبط ما تعكسه الصورة التي تتقدّم النصّ الذي خطّه درايفر من وحيها: تسعة أصدقاء في العشرينات من أعمارهم، مُتحلّقون حول مائدة في مطعم. جميعهم تقريباً يبتسمون ابتسامات عريضة، وهم يتطلّعون إلي عين الكاميرا، بزهو الفتوّة المطمئنة في ربيع العمر ودعة الحياة.
غير أنّ الرّوح تدبّ تدريجيّاً في تلك الصورة الجامدة، تبعاً لسحر حركة القلم في يد الكاتب، فإذا ما وصل المرء إلي النقطة الأخيرة في الصفحة العشرين من المقالة، تجلّي له ما كان مخبوءاً وراء تلك الوجوه الناعمة المبتهجة، من مصائر عاصفة بالمحن. فإذا بأولئك الفتيان المبتسمين قد تفرّقوا علي دروب نهايات مريرة، تبدأ بالاعتقال وتمرّ بالتعذيب أو القتل، وتنتهي إلي المنافي التي اتخّذها بعضهم أوطاناً إلي الأبد، ومنهم درايفر نفسه، الذي لولا حضوره في (الصورة) وتواصله، بطريقة أو بأخري، مع مَن ضّمتهم، ولولا كفاءته الأدبية، لما تيسّر لهؤلاء الشبّان من يقدّم عنهم شهادة منصفة نظير ما بذلوه من أنفسهم من أجل الإنصاف!.
منذ السطور الأولي ينبئنا درايفر بأنَ الصورة التقطت لمناسبة احتفال أحد الأصدقاء الظاهرين فيها، بعيد ميلاده الحادي والعشرين، وذلك في مطعم صيني في كيب تاون بجنوب أفريقيا. وينبّهنا كذلك، بغيظ واضح، إلي عدم وجود أيّ شخص أسود معهم، برغم أنّ بعضهم يرتبط بصداقات مع شبّان سود، وذلك لأنّه، في ذلك الزمن، لم يكن في كيب تاون كلّها سوي مطعمين فقط يسمحان باستقبال البيض والسود معاً، ولم يكن ذلك المطعم الصيني واحداً منهما.
ما يجمع أولئك الأصدقاء - وهم جميعاً من الأفريكان البيض - هو حدّة الوعي الإنساني لديهم بمشكلة السود في جنوب أفريقيا، ووقوفهم جميعاً ضدَ الفصل العنصري، وتدّرجهم في ذلك الموقف من التعاطف عن بعد، إلي التضامن الفعلي، إلي الاحتجاج اللفظي، إلي النضال الحقيقي الذي أورد بعضهم المهالك، وقضي علي بعضهم بالاعتقال الطويل والتعذيب، ودفع البعض الآخر للهرب إلي الخارج بعد الاعتقال، ومنهم كاتب المقالة الذي استقر نهائياً في بريطانيا واتّخذها موطناً له.
يختتم درايفر مقالته بكلمات مشحونة بالعاطفة، تمشي كنشيد جنائزي فوق السّطور .. هي كلمات رثاء لصديقه الظاهر في مقدّمة الصورة وهو يبتسم بعنفوان:
(عندما أنظر إلي تلك الوجوه التسعة النابضة بالحياة، فإنّ مَن أراه بكلّ وضوح هو ريك تيرنر وأتخيّل، ثانيةً، اللحظة التي قُرع فيها جرس باب بيته، فقام من الأريكة، حيث كان يجلس، وتوجّه نحو الباب الأمامي الذي كان يقف وراءه شخص مبهم يحمل بندقية .. إنني أتساءل: هل أدرك؟ هل تردّد؟ ليس هناك جواب ممكن، وليس هناك جواب ضروري).
و تيرنر في سياق المقالة هو واحد ممّن اغتالتهم السّلطة البيضاء، بسبب نضالهم ضدّ الفصل العنصري.
وإذا كانت صورة واحدة قد حدّثتنا بكلّ هذا، فما أكثر الصور التي لم تجد راوياً يبعث الحياة فيها، وما أكثر الصور التي لم تلتقطها عدسات الكاميرات، أو أشرطة مسجّلات الصوت؟
ليس في الدنيا ما هو أجمل وأرقي من العدل والإنصاف والإخلاص لقضّية الإنسان. وليس في الدّنيا مَن هو أطول عمراً ممّن ينحاز إلي هذه المعاني، حتي لو مات مبكّراً من أجلها.
لقد أعادتني كلمات درايفر إلي مذكّرات نيلسون مانديلا الذي قدَم في أمثال هؤلاء الشبّان شهادة رائعة، يصعب أن تصدر ممّن غطس طيلة حياته في هوان العبودية تحت مقارع عنصرية البيض .. لكنّه واحد ممّن وهبهم اللّه جمال العدل والإنصاف والإخلاص لقضيّة الإنسان.
فعلي رغم كلّ ما كابده مانديلا من مرارة العذاب في سجنه البغيض طيلة سبعة وعشرين عاماً، لم يفته أن يري - ولو لثانية واحدة - براءة الإنسان الفطرية، حتي في نظرات أو سلوك بعض سجّانيه، فادّخر رؤيته تلك، علي ضآلتها - لتدعيم ثقته بالجنس الإنساني، ولترميم ذاته في أشدّ حالات انهيارها، وادّخرها كذلك لهؤلاء السجّانين كمسوّغ للصفح ونسيان الماضي من أجل التطلّع للمستقبل.
و مانديلا الذي لا يجهل أنّه أصبح أسطورة، لا يتردّد عن التأكيد علي أنّه مجرّد إنسان عاديّ صنعت ظروف الظلم أسطورته، وأنّه مدين بذلك للكثيرين ممّن لقوا حتفهم في هذه السَبيل، ولا يتورّع عن أن يضع في رأس قائمة هؤلاء الأبطال عدداً كبيراً من البيض (الأفريكان) الذين قاتلوا وسجنوا وتشرّدوا وماتوا وهم يواجهون قومهم، من أجل تحرير مواطني جنوب أفريقيا السّود، وتحرير أرض هؤلاء من سطوة إجرام الأقلّية البيضاء.
وفي ذلك يقول مانديلا إنّه كان يقاتل من أجل رفع الظلم عن شعبه الأفريقي، لكنّ أولئك البيض كانوا يقاتلون شعبهم الأبيض من أجل رفع الظلم عن شعب مانديلا .. وشتّان بين موقف المضطر وموقف المتطوّع.
وعلي هذا فإنّ هؤلاء البيض، في نظر مانديلا، هم الأولي بوصف البطولة.
الوهم
- دكتور .. أشعر أنّي كلب.
- إهدأ، إهدأ. هذا مجرّد وهم. دعنا نناقش المسألة.
- لا يحتاج الأمر إلي أيّ نقاش. أنا كلب والسّلام.
- علي رسلك. لست الوحيد الذي يعاني من مشاكل في هذا البلد. كلّ واحد منّا عنده جبال من المشاكل. إهدأ قليلاً، ودعنا نتحدّث. قل لي أوّلاً: مَن أنت؟
- كلب.
- أعني ما اسمك؟
- اسمي كلب.
- حدّثني عن عائلتك. لنبدأ بالسيّد الوالد. ما اسم والدك؟
- السيّد الوالد كلب. لا تدوّخني يا دكتور. فأنا كما قلت لك: كلب ابن كلب.
- يبدو لي أن أعصابك تالفة أكثر ممّا تصوّرت. قل لي .. ما الذي يجعلك متشائماً إلي هذا الحدّ؟!
- لستُ متشائماً .. بالعكس .. أنا متفائل ..
- لماذا تسمّي نفسك كلباً إذن؟
- هل التفاؤل عندكم أن ينكر الواحد اسمه؟
- لكنّك لستَ كلباً.
- مَن قال ذلك؟
- أنا أقول ذلك، فهناك فرق بين الحيوان والإنسان.
- حَسَناً؟!
- قلت لك إنّ هناك فرقاً بين الحيوان والإنسان.
- سمعتك. ثمّ ماذا؟
- ثمّ ماذا؟ أنت لست حيواناً.
- وماذا تسمّي الكلب؟!
- الكلب حيوان.
- إذن أنا حيوان، لأننّي كلب.
- لا يا عزيزي .. أنت إنسان.
- بالقوّة؟!
- كلاّ إنك إنسان. انظر في المرآة وقل لي ماذا تري؟
- أري كلباً.
- لا يمكن. هذه صورتك. حدّق بها جيّداً. أتري؟
أنت كائن بشري.
- كائن ماذا؟ الكلب كائن بشري؟!
- الكلب كائن حيواني. وأنت لست كلباً.
- ليس بإرادتك. شعوري يقول لي إنّني كلب.
- شعور كاذب.
- هل تملك شعور كلب لكي تعرف صدقه من كذبه؟!
- كلاّ .. أملك شعور إنسان، ولذلك أعرف أنّ شعورك كاذب.
- أنت بيزنطي يا دكتور. إذا كنت لا تعرف شعور الكلاب، فلماذا تتّهم شعوري بالكذب؟ لماذا تهين كلبيّتي؟
- كفي يا ابن آدم. لقد فلقتني. إنني أحاول منذ الصباح أن أضبط أعصابي. لا تثرني أرجوك. بيني وبين الانفجار مجرّد شعرة. استر عليّ يسترك الله.
- ماذا فعلت لك يا دكتور؟
- ماذا فعلت؟ منذ ساعات وأنت تدّعي أنّك كلب!.
- وماذا تريدني أن أفعل؟ أغيّر جنسي؟!
- عدنا من جديد. اللعنة عليك وعلي جنسك. لستَ كلباً، ولن تكون كلباً، وهذا آخر كلام. هل فهمت؟
- لا .. لم أفهم.
- دعني أسألك، إذن، ياحضرة الكلب: هل تستطيع أن تنبح متي تشاء؟
- لا.
- هل تستطيع أن تعضّ اللصوص؟
- لا.
- هل تستطيع أن تشتغل في أجهزة المخابرات؟
- لا.
- هل تستطيع أن تعبر الحدود دون جواز سفر؟
- لا.
- هل تستطيع أن تمشي ليلاً دون أن يستوقفك أكثر من حاجز للتفتيش؟
- لا.
- هل تستطيع أن تنام آمناً؟
- لا.
- هل تستطيع أن تأكل وتشرب دون أن تعمل بثلاث وظائف وعمل إضافي؟
- مستحيل.
- هل تستطيع أن تقود قطيع خراف، دون أن تتّهم بتنظيم مظاهرة؟
- علي رسلك يا دكتور .. ستحبسني!
- إذن، كيف تواصل الكذب عليّ وعلي نفسك فتقول إنّك كلب؟!
- أنا لا أكذّب .. ولكن أتجمّل.
- إذن بدأت تدرك أنّك إنسان؟
- كلاّ يا دكتور. لقد بدأت أدرك أنني مجرّد مواطن!
الأخ الأكبر .. إلي الأبد!
من المؤكّد أنّ جورج أورويل عندما اخترع مصطلح (الأخ الأكبر) للتعبير عن قسوة متابعة السّلطة المستبّدة لدقائق حياة المواطن، لم يكن يقصد من إشارته لهذه الحقيقة أن يغري المجتمعات باتخّاذها برنامجاً لِلّهو والمتعة. بل هو، علي العكس من ذلك، أراد أن يثير رعب المجتمعات منها، بغية الثورة عليها وإلغائها نهائيّاً من برنامج الحياة الواقعيّة.
وإذا كان أورويل قد بني بعض أعماله الأدبية علي أساس هذه الفكرة، فإنّ صانعي فيلم ترومان شو قد ترجموها سينمائياً بشجاعة نادرة، فوضعونا مباشرة أمام حالتنا الرّهيبة الرّاهنة كأرقام تعيش وتموت تحت وطأة رقابة السلطة الجبّارة المسيطرة، وسط ديكورات معدّة بإتقان ضمن نطاق موقع تصوير واسع يسمّي (العالم) !.
العجيب أنّ هذه الصورة المتخيّلة التي حاولت أن تعرض للناس ملخّصاً للصّورة الحقيقية البشعة التي يحيون داخل إطارها، قد استحالت إلي ملهاة يعشقها الناس ويتابعونها بدأب وشغف، عبر برامج مستنسخة في كلّ البلدان، لا تستحي من أن تحمل بفخر واعتزاز عنوان (الأخ الأكبر) ، ولا تتورّع عن الاتفاق بأجمعها علي إصابة الإنسان السَويِّ بالصدمة والشعور بالغثيان!.
ولو أنّ حياة أورويل امتدت إلي زماننا، لكان من المؤكّد أن يتساءل بمرارة: ما حاجتكم إلي تجزئة البشاعة وعرضها كنماذج مقلَّدة في أكثر من مكان؟ إنكم تعيشونها في الواقع فعلاً، وفي مكان واحد هو عالمكم المُدجَّن.
عندما شاهدت فيلم ترومان شو أدهشتني شجاعة منتجيه، وأسعدني أن أري السينما الأمريكيّة وهي تقتحم، بهذه القوّة، مجال إثارة الوعي بدلاً من تغييبه. وزعمت أنّه يكفي هذا الفيلم نجاحاً أنّه حمل الي الناس رسالة مهمّة وضرورية، واستطاع، بشكل ذكيّ ومقنع، أن يضعهم أمام حقيقة وجودهم المخيفة محليّاً ودوليّاً.
لكن لم يخطر في بالي مطلقاً أن يكون مُلِهما بصورة عكسية، ولم أتوقّع أن يبلغ شغف القطعان بالزّريبة المتخيّلَة حدّاً يدعوها إلي إعادة انتاجها ووضعها ثانية داخل الزّريبة المخيفة القائمة أصلاً في الواقع، علي نسق الدُّمي الروسيّة!
فها هو برنامج (الأخ الأكبر) بنسخته الألمانيّة، يبشّرنا بأنّه سيقفز، في الربيع المقبل، قفزة عملاقة، بافتتاح مدينة صغيرة علي أرض الواقع، تحاكي بالضبط مدينة فيلم ترومان شو!.
هذه المدينة التي تمّ بناؤها خارج (هامبورغ) لا تختلف عن مدينة ترومان إلاّ من حيث مشاركة سكّانها في العرض، وهم بكامل وعيهم وإرادتهم!.
وتقضي الخطّة أن يقيم المشاركون لأعوام قد تمتّد لعدّة عقود، في هذه المدينة التي ستحتوي علي غابة وميدان ومتاجر وكنيسة ومدارس وشركات، حيث سيحيا هؤلاء ويتعلّمون ويُحبّون ويتزوّجون وينجبون، تحت نظر ملايين المشاهدين من كلّ أنحاء العالم، وعلي مدار السّاعة!.
يقول منتجو البرنامج إنّه سيتّم انتقاء أفضل مجموعة من الناس، للعيش في هذا المكان الذي يعتبر مزيجاً من فيلم ترومان شو و عالم ديزني، وسيكون جميع أفراد المجموعة التي ستتجاوز المئات .. عاطلين عن العمل، حيث سيمكنهم، هناك، أن يتعلّموا اللّغات، وأن يُؤدّوا مختلف الاختبارات المهنيّة التي تؤهّلهم للنجاح في الأعمال التي سوف يختارونها.
ولهذا فإنّ هؤلاء المنتجين يأملون في إغراء الشركات بفتح فروع لها في المدينة من أجل تشغيل سكّانها العاطلين، مثلما يأملون في إغراء المدرّسين والأطباء بالعيش فيها.
وربّ سائل يسأل عمّا منع أمريكا (وهي الرّائدة في ابتكار مثل هذه المشروعات المدمّرة) من أن تكون هي البادئة؟
والجواب علي ذلك هو أنّ فكرة إنشاء هذه المدينة الألمانية مأخوذة أصلاً من تجربة قناة فوكس التلفزيونية الأمريكية، التي أنتجت في هذا المنحي برنامجها الخاصّ (جنّة عدن إلي الأبد) واتّخذت لإقامة المشاركين فيه واحدة من الجزر الكاريبية.
وكان مقرراً أن يبقي عرض هذا البرنامج غامضاً وغير محدّد الأمد، لكنّه، ولأسباب غير معلومة، ألغي في أبريل الماضي بعد أن بُثّت منه ثلاث حلقات فقط.
غير أنّ بثّ هذه الحلقات لم يكن عبثاً، فقد كان من شأنها أن تبثّ، بسرعة عجيبة، نعمة دماره الشامل إلي أبعد مدي، لتلتقطها ألمانيا، ولتلتقطها من ألمانيا - كما هو متوقّع - جميع دول عالمنا الحرّ السعيد!.
يقال إنّ فكرة هذا البرنامج الذي سيسمّي (الأخ الأكبر إلي الأبد) لن تكون مطابقة حرفياً لعالم ترومان الذي كان يجهل منذ ولادته أنّه مادّة تلفزيونيّة تعرض علي النّاس أربعاً وعشرين ساعة، وذلك لأنّ مدينة هذا البرنامج ستمنح المعجبين حقَ الدّخول إليها لزيارة سكّانها. لكنّ المنهج الذي سيُتّبع في هذا المشروع سوف لن يختلف عن منهج برنامج (الأخ الأكبر) من حيث اهتمامه بمتابعة حالات المصاعب الجنسية، ونوازع الافتتان التي تنطوي عليها طبيعة البشر!.
عالم النفس جو غرايبل المتخصّص في سايكولوجيا الإعلام، عبّر عن قلقه حيال هذا المشروع بقوله إنّ النّاس الذين سيمكثون في مدينة البرنامج، ومهما كان طول مدّة إقامتهم، سيجدون صعوبة فيما بعد في التكيّف مع (العالم الواقعي) .
ولا أعلم بالضبط ما إذا كان السيّد غرايبل يقصد أنّ البرنامج سيدمّر شخصياتهم، أم أنّه سيلطّف حياتهم، نوعاً ما، فيتيح لهم عند عودتهم إلي الواقع، أن يدركوا، ولو بشكل متأخر، شدّة وطأة عالمهم الواقعي وبشاعته؟!.
لكنني أعلم جيداً أنّ هذا البرنامج بعد اجتذابه المشاهدين وتواصل عرضه، سَيبسط جاذبيته علي جميع قنوات العرب الفضائية (السبّاقة إلي فعل الخيرات) وستعمل بأمانة متناهية للحفاظ علي كلّ ما يحتويه من شوائب أخلاقية، لكنّها سوف لن تتردَد أيضاً عن المساهمة بحصّتها في إنماء بنائه الحضاري، وذلك بأن تضيف إلي البرنامج لمسة تجديدية خاصة نابعة من صميم تقاليد العالم التالف. وتلك اللمسة ستتمثّل في جعل نصف سكَان المدينة المفترضة .. من رجال المخابرات.
صحيح أنّهم لن يستطيعوا ممارسة أعمال التعذيب المعهودة تحت رقابة ملايين الشهود، لكنّ لهم ملايين الوسائل الأخري غير المنظورة التي يستطيعون بها أن ينتزعوا المعلومات!.
جامعة الأصفار
في عام،1974 التقي الصحفي سليم زبّال بالسيّد عبد الرحمن عزّام .. باشا أوّل أمين عام لجامعة الدّول العربيّة، وكان الرّجل معتكفاً في منزل ابنه ببيروت، بعد أن بلغ الثمانين من عمره. وقد سأله، في ذلك اللقاء، عن ظروف وكيفية ولادة الجامعة، فأجاب قائلاً: كنّا نبحث عن عروبتنا تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي المسيطر علي كلّ شبر من أرض وطننا العربي الكبير .. كان كلُّ منّا لا يعرف الآخر، وكنا مختلفين في الرّأي والتفكير وحتّي في معني العروبة .. وأذكر أنني تحدّثت مرّة مع الملك فيصل الأوّل (ملك العراق حينذاك) عن الوحدة العربيّة، فردّ عليّ قائلاًِ: (صفر + صفر .. كم تساوي يا عزّام؟) .. أجبته: (1+1+1 تساوي 3) فقال: (عندما تصبح كلّ دولة عربية واحداً صحيحاً، تعال وكلّمني يا عزّام) !
أتأمّل رأي مليكنا المفدّي، وأتساءل: ما الذّي تغيّر إلي الأحسن منذ ذلك الحين؟ ومن أين لنا، الآن، برجل متواضع وحصيف وصريح مثله، ليختزل الحالة بمثل ذلك القول المختصر والمغني عن كلّ تعليق؟ إنّ الاختلاف في الرّأي والتفكير، وحتي في معني العروبة لم يعد أمراً ذا أهمية أمام الائتلاف في الكوارث الكبري التي بدأت بالانقلابات الدموّية والغزوات المتبادلة شأن الجاهلية الأولي، ومرّت بالاختلاف في معني الإسلام نفسه الذي تمّ تفصيله وبيعه في سوق التجزئة علي مقاس كل ذي ساطور، وانتهت بإلغاء الشّعوب، وتوقيت الدساتير علي نسق القنابل الموقوتة، وتأبيد الحكّام علي نسق الأحكام المؤبّدة، وجملكة الجمهوريّات علي صدور الجماهير التي لا رؤوس لها ولا أقدام، ولا نفوس بها ولا أحلام، وتوريث المسالخ كاملة لأبناء الجزّارين، وإرساء الأنظمة علي (قواعد) أمريكية صلبة في كلّ شبر من أرض وطننا العربي الكبير، والسعي إلي الإصلاح الذاتي باستبدال المحراث بالبندقية بالنسبة للشؤون الخارجية، واستبدال البندقية بالمحراث بالنسبة للشؤون الداخلية، والتخلي عن أسلوب (العصا والجزرة) البغيض، باستبعاد الجزرة نهائياً عن الموضوع، ومواصلة النضّال من أجل تثخين العصا إلي أبعد حدّ، في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمّتنا المجيدة!
إنّ فيصل الأوّل وعبد الرحمن عزّام - وكلاهما الآن في ذمّة العزيز المقتدر - قد ذهبا، لكن الحسبة الرياضية البسيطة بقيت بعدهما كما هي. ولو أنهما عادا إلي الحياة الآن، بعد ستّين عاماً تقريباً علي إنشاء (كلبشة الدّول العربية) لما اختلفت الحسبة إلاّ في تثخين الأصفار، ولما تردّد فيصل الأول عن أن يقول: (صفر + 20 صفراً تساوي صفراً يا عزّام .. ليس هناك أي واحد صحيح، سواء أكان الأمر بيدك .. أم بيد عمرو) !
من أين يبدأ مسعود؟
قرّر مسعود أن يكتب مذكّراته.
أخرج القلم، ووضع الأوراق علي المنضدة، وأطرق يفكّر:
- مِن أين أبدأ؟
في الساعة الثالثة ودقيقتين وأربع وعشرين ثانية من عصر الجمعة المقبل، يكون مسعود قد بلغ الثانية والخمسين من عمره.
كلّ امريء عاقل وحصيف ومجرّد من الأنانية، لابُدّ أن يقرّر، مثل مسعود، كتابة مذكّراته يوماً ما. واليوم، وهو الأحد المصادف يوماً ما، قرّر مسعود وهو بكامل شعوره بالمسؤولية، أن يتخلي للأجيال الطالعة عن ثمار نصف قرن من التجارب والعبر.
- من أين أبدأ؟
نعم .. من أين يبدأ مسعود؟
البداية هي أصعب ما يمكن أن يواجهه المرء عندما يريد أن يكتب. فدون بداية جيّدة عليه أن يتوقّع أنّ كلّ شيء سينتهي نهاية سيّئة.
لنفرض، مثلاً أنّ السيّد عبد السّميع عبد القادر محمد آغا الموصلي، شكا من التهاب البواسير .. مجرّد فرض، فالسيّد عبد السّميع لا يشكو هذه الأيّام من أيّ شيء، ولن يشكو أبداً، لأنّه في آخر مرّة شكا فيها من سوء أخلاق جاره، تبيّن له أنّ الجار مخبر سرّي، فوصفت له إدارة الأمن زجاجة في مؤخّرته، ومنذ ذلك اليوم شفي تماما من الشكوي ومن احتمالات الإصابة بالبواسير!
نقول (لنفرض) أنّ عبد السّميع شكا من التهاب البواسير، فإنّه في هذه الحالة لابُدّ له من مراجعة الطبيب:
- مِمّ تشكو؟
- من آلام في مؤخّرتي.
- افتح فمك.
- آآآآ
- قل آه
- آآآه
- اسعل
- كح كح كح.
- ماذا أكلت أمس؟
- ركلتين إلاّ صفعة.
- ماذا شربت اليوم؟
- أربعة مقالب.
- حاول أن تقول بسرعة (قَبرُ حربٍ بمكانٍ قفرٍ وليس بقرب قبر حربٍ قبرُ)
- صعبة. ثم أَنّ قبر حرب لم يعد في مكان قفر .. فالقفر كلّه مزروع بالقبور من شمال الوطن حتّي جنوبه.
- قُل، إذن، بسرعة (حوش خالد خوش حوش)
- خالد ليس عنده حوش. هدمته البلدية. تبيّن أنّه يقع في منتصف الشّارع العام المزمع افتتاحه في المستقبل .. واعلم يا دكتور أنّ خالد لم ينتقل إلي حوش جديد. كلّ ما فعله هو أنه انتقل إلي رحمة اللَّه. لقد كان، في أثناء عملية الهدم، موجوداً بالصّدفة داخل الحوش.
عندئذ يضع الطبيب نظّارته .. ويكتب.
يذهب السيّد عبد السّميع إلي الصيدلية. يقرأ الصيدليّ الوصفة، ويناوله قارورة مصحوبة بابتسامة طافحة بالحكمة:
- بالشّفاء .. هذا آخر مكتشفات الطبّ الحديث للقضاء علي السّعال الدّيكي.
الواقع أن كتابة الطبيب هي التي أصابت الدّيك بالسّعال، فيما كان يجب أن تصيب بواسير عبد السميع
- وهي بواسير مفترضة كما قلنا - بالشفاء.
كتابة الأطبّاء، عموماً، كتابة ركيكة، لأنّهم لا يحسنون اختيار البداية. وفي قضيّتنا هذه كان علي الطبيب أن يبدأ من النهاية لكي تكون كتابته صحيحة، أي أن يبدأ من مؤخّرة عبد السّميع مباشرة.
من هنا فإنّ تساؤل مسعود ينمّ عن حكمة بالغة.
- من أين أبدأ؟
هذه المرّة ينبغي له أن يعتصم بالفطنة والحذر.
- بداية جيّدة يا مسعود. جيّدة وذكيّة ولا تخرّ الماء. ضيّعت نصف قرن في البدايات الغبيّة. فرصتك الآن أن تختم الأمر ببداية ممتازة.
نعم .. ليست مذكرات مسعود كلّها إلاّ ثمرة (من أين أبدأ؟) :
- نحن نعرف كلّ شيء، فلا تحاول أن تعلب بذيلك قل كلّ ما لديك.
- من أين أبدأ؟
- من البداية جّداً .. ارجع بذاكرتك إلي الوراء جدّاً.
يرمي ذيله وراء ظهره، مخافة أن يغريه باللعب، ثم يبدأ.
يسرّح دماغه فتتساقط الأماكن والأحداث والمؤامرات والأسماء. أسماء، أسماء، أسماء. حتي أسماء الذّين سلموا عليه بالغلط، حتي أسماء الساقطين في البكالوريا، حتي أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما، بغضّ النظر عن أنّ السلطة لم تصدر حتي تلك اللحظة بياناً توضّح فيه ما إذا كانت راضية عنهما أم لا!
يتعب من الاعتراف فيناولونه وجبة من التعذيب، ويفرجون عنه في اللّيلة نفسها .. بعد أربعة أعوام.
- في كلّ مرّة لا تحسن البداية. أنت الآن وحدك. ليس معك إلاّ ضميرك. لا تخذل نفسك، لست مضطراً إلي تسريح دماغك. ابدأ كما تشاء، العب بذيلك كما تشاء. هو ذيلك وأنت حرّ فيه يا أخي.
انتصف اللّيل ومسعود منهمك في هرش رأسه.
- من أين أبدأ؟
تناول القلم، وكتب:
- (أنا مسعود بن عبد الواحد .... )
- هيه .. هيه .. لا تذكر اسم أبيك. أأنت مجنون؟
من يجبرك علي هذا؟ اشطبه، اشطبه. ثمّ ما حكاية (أنا مسعود) ؟ أأنت مضطر إلي هذا يا أبله؟ اختر لنفسك اسماً حركيّاً .. مَن يعرف؟ الفطنة يا مسعود شطب مسعود اسمه وكتب:
- (أنا أبو الرّيح ... )
- هيه .. أنت يا أبا الرّيح، لا تسرف في الكلام. اكتب ما قلّ ودًَلّ. انتبه جيّدا. ما قَلّ ودَلّ. لا تطيّنها كالعادة.
كتب مسعود:
- (أنا أبو الرّيح .. وقد واجهت كثيراً من الأهوال في حياتي، وذكرياتي عن هذه الأهوال لاتزال مطبوعة بالنّار في روحي وفي جسدي .. عزيزي القاريء .. أكتفي بهذا القدر من مذكّراتي المؤلمة هذه، وقد أكملت كتابتها في يوم ما .. التوقيع: أبو الرّيح - تمّت) !
أصل وصورة
علي القناة الرّابعة في التلفزيون البريطاني، قدّم نيك نايجل موضوعاً طريفاً عن الناس ذوي الأسماء المتشابهة، أولئك الذّين يكون الواحد منهم سميّاً للآخر ( Namesakes) .
وقد بدأت فكرة الموضوع لديه عندما قرأ رواية (نجم أمريكي) للكاتبة جاكي كولنز، فوجد أن بطلها يحمل اسمه كاملاً (نيك نايجل) ، ولأنّ هذا البطل، كما تصوّره الرّواية، صاحب سيرة جنسيّة فظيعة، فقد شعر نايجل بما يشبه الإغماء بسبب الاضطراب والإثارة معاً، وهو يتابع سلوك سَميّه القصصيّ الخيالي.
وانطلاقاً من هذه النقطة، تساءل عمّا يحدث في الواقع، عندما يجد المرء نفسه سَميّاً لشخص مشهور، وعن مدي ما يعكسه تشابه الأسماء من تشابه في الطباع، وعن الأثر النفسي الذي يحمله هذا التشابه للمغمورين، خاصّة إذا وجد الواحد منهم أنّه سَميّ لشخص ترتكز شهرته علي سوء السمعة؟.
وفي بحثه عن إجابات لهذه الأسئلة، عمد نايجل إلي التنّقيب في (كشوف الناخبين البريطانيّين) ، فإذا به يقع علي مهرجان من الطرافة.
لقد وجد أنّ الجزر البريطانيّة تحفل بالعديد من النّاس الذين يحملون (أصليّاً) أسماء المشاهير.
في البدء تتبّع الأسماء المألوفة جداً، فاكتشف أنّ هناك كثيرين ممّن يحملون اسم توني بلير و جورج بوش و مايكل جاكسون.
لكنّه سرعان ما دخل مغامرة البحث عن أسماء أخري ليس من الوارد التفكير بها، فطبع علي محرّك البحث في جهاز الكمبيوتر اسم دونالد دك، فظهر أنّ هناك ثلاثة يحملون هذا الاسم.
وعندئذ لم يترك اسماً مشهوراً من الماضي أو الحاضر، ومن الواقع أو الخيال، إلاّ وعرضه علي محرّكات البحث، فتوصّل إلي عدد كبير من الأسماء المتشابهة، وعلي ذلك قرّر أن يقابل هؤلاء الناس الذين يحملون أسماء المشاهير، فبدأ بالكتابة إليهم، أو الاتصّال بهم، وانتهي إلي الوقوف علي عتباتهم والطرق علي أبوابهم. وقد حفل هذا الأمر بالكثير من المواقف المضحكة والمحرجة.
أوّل شخص حاول نايجل أن يلتقيه هو السيّد فريد فلنتستون .. وهو سَميّ شخصية الكارتون المشهورة التي اخترعها الثنائي (هانّا - باربيرا) والتي تعيش في العصر الحجري بمواصفات العيش في المدينة الحديثة.
عندما وصل إلي عنوانه في (فولهام بالاس رود) أخبره أحد السكّان أنّ السيّد فلنتستون لم يعد يقيم في هذا العنوان، برغم أنّ صاحبة المنزل ما زالت تتلقّي الرّسائل الواردة إليه وتعيدها إلي مصدرها.
أمّا دونالد دك أو بطوط سَميّ الشخصيّة الكارتونية في أفلام ديزني، فقد وجده يعيش في الأطراف النائية من مرتفعات سكوتلندا، وهو طبيب عام متقاعد ذو منزلة رفيعة، ويتمتّع بروح دعابة عالية. وقد قال إنّه لم يخطر في باله أن يغيّر اسمه، لأنّه وجده مدعاة للفكاهة، ثمَ أنَه، في كلّ الأحوال، هو الأسبق، إذ ولد قبل عشرة أعوام من ميلاد شخصيّة ديزني الكارتونيّة.
وقال دونالد دك إنّ اسمه لم يسبّب له شخصيّاً أيّة مشكلة. لكنّه أشار إلي أنّ أحد مرضاه هو مَن وقع، للأسف، ضحيّة لهذا الالتباس. فقد أحاله مرّة إلي أحد مستشفيات أدنبره، وهناك قررّوا عرضه علي محلّل نفساني، لأنّه ظلّ مصّراً علي القول بأنّ طبيبه هو دونالد دك!.
وفي رحلة الاستكشاف هذه وجد نايجل زوجين عجوزين يحملان اسم دنيس و مارغريت ثاتشر. وهما لم يردّا علي رسالته، وحين اتصّل بهما أغلقا الخطّ في وجهه، ثم سرعان ما اتصّل به ابنهما المتزوّج ليقول له بجفاء: (نعم، لقد تلقيا رسالتك، وقد مزّقتها بنفسي. رجاءً لا تزعج أبي وأمّي ثانيةً) ، وصفق السمّاعة بعنف، دون أن يترك لنايجل فرصة لسؤاله عمّا إذا كان اسمه مارك أيضاً مثل ابن رئيسة الوزراء السابقة!.
وهناك اثنتان أخريان اسمهما مارغريت ثاتشر قالتا له إنّه خلال الانتخابات في الثمانينات كان بعض الناس يوقظونهما في منتصف الليّل لكي يوبّخوهما بسبب سياسات حزب المحافظين!.
وفي مهرجان الطرافة هذا كان مدرّس الجغرافيا ديفيد بيكهام من (سكاربره) ، قد تلقّي علي مدي عدّة أسابيع مكالمات هاتفية تشتمه وتهدّده، بعد أن تمّ طرد اللاعب ديفيد بيكهام من المباراة لسوء تصرّفه في بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 1996.
إنّها مسألة تبدو كنوع من سحر (الفودو) ، حيث يمكن للمشعوذ بإيذاء (السَمِيّ) أن يؤذي المُسمّي!.
في القائمة أيضاً نتعرّف علي نعومي كامبل الأخري، وهي مسؤولة تغذية في مدرسة بإحدي ضواحي لندن، ولها من طيبة النفس ما يكفي لأن تتحدّث بمرح عن الفرق الشاسع بينها وبين عارضة الأزياء الشهيرة.
فهي قالت بكلّ بساطة: (إنّني لست جميلة، ولست طويلة، ولست سمراء، وفوق هذا فأنا بدينة جَداً) .
وإلي جانب هذه المفارقات الفكاهية، كانت هناك قصص أخري تحمل غصص أصحابها، إذ يعاني أكثرهم من صعوبة إقناع الآخرين بأنّ أسماءهم هي أسماؤهم.
ومن هؤلاء السيّد روديارد كبلنغ سَمِيّ الشاعر والكاتب المعروف، صاحب المقولة الشّهيرة (الغرب غرب والشّرق شرق ولا يلتقيان إلاّ كما يلتقي عظيمان) .
فهذا السَميُّ المسكين أمضي ليلة كاملة في الحبس، لأنّ الشرطي اعتقد أنّه يسخر منه عندما قال له إنّ اسمه روديارد كبلنغ!.
أمّا جنكيز خان مراقب المستودعات في برمنغهام، والبالغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، فقد اعترف بالأثر الموجع لاسمه عليه، وأشار إلي أنّ اسمه يمثّل بالنسبة له (كابوساً) أو (فايروساً) ، لأنّه رجل مسالم وذو روح ساخرة، ويقف فطرّياً ضدّ الحروب. وقال إنّه، في سنوات الدّراسة، فكّر جدّياً بتغيير اسمه.
لكنّ الأكثر بؤساً هو من يجد نفسه سَمِيّاً لشخص رديء السّمعة، في البلد نفسه، إذ أنّ السمعة الرّديئة هذه تلاحقه أينما ذهب، وقد تشكّل له متاعب عبر الحدود الدوليّة، أو مصاعب في الحصول علي عمل.
ومن هؤلاء دزينة تقريباً ممّن اسمهن ماكسين كار اللّواتي عانين من كونهن سَميّات المعلمة في مدرسة سوهام، وصديقة إيّان هنتلي قاتل الطفلتين جيسيكا شابمان و هولي ويلز، والتي كانت قد أمضت مدّة في السجن، وغادرته باسم وهمي، بعد أن كذّبت في شهادتها أمام المحكمة، من أجل إنقاذ صديقها القاتل.
واحدة من هؤلاء الفتيات وجدت نفسها مضطرّة للزّواج، فقط، لكي تتخلّص من اسمها حين تحمل لقب زوجها!.
ظاهرة تشابه الأسماء هذه، بكلّ ما تحتويه من فكاهات وأحزان، جعلتني أعود بذاكرتي إلي الوراء، حيث كانت لي ذكري من طفولتي تنتظم في السّياق ذاته، ولا تزال حتي الآن تحملني علي الضحك كلمّا مرّت في ذهني.
في عام 1958 قامت ثورة 14 تموّز بقيادة الزّعيم الركن عبدالكريم قاسم، وسرعان ما أصبح هذا الرّجل موضع حبّ وإعجاب جميع الفقراء.
وفي تلك الأيّام، كان بالقرب من بيتنا دكّان لبيع الثلج يديره رجل اسمه قاسم، لم تبق علّة معروفة أو مجهولة إلاّ وطرقت باب بيته وحلّت ضيفة دائمة عليه وعلي جميع أفراد أسرته. وكان هذا الرّجل دائم الشوق لإنجاب ولد، بعد سلسلة طويلة من البنات.
وعندما حقّق اللّه أمنيته، سمّي الولد علي الفور عبدالكريم تيمّناً باسم قائد الثّورة المحبوب.
كان ذلك الصغير - وراثياً وبيئيّاً - أشبه بفأر مدهوس، ممّا جعله مبعثاً للخوف وللشفقة معاً.
وعندما جاء موسم التّطعيم ضدّ الأمراض المتوطّنة، حمل قاسم ابنه إلي المستوصف، كخرقة بائسة ملفوفة بخرقة أكثر بؤساً.
سأله كاتب المستوصف عن اسم الولد، فأجاب باعتزاز:
- عبدالكريم قاسم.
ولمّا كشف عن جثّته المفزعة، جفل الكاتب وارتدّ إلي الوراء قائلاً بلا مواربة أو تردّد:
- تف .. لا بارك اللّه.
ثمّ أردف متسائلاً باستنكار:
- هذا عبدالكريم قاسم؟! اللّه لا يسامحك. طيّحت حظّ الزّعيم!.
أمّا بالنّسبة لي، فأنا أعرف حتّي الآن أنّني سَميّ ثلاثة أشخاص، منهم موظّف كبير في الطيران السَعودي، وشاعر شعبي قطري، ولاعب كرة قدم كويتي.
وأنا سعيد لأنّ أحداً منهم لم يسبّب لي أيّة مشكلة. لكنني سأكون أكثر سعادة إذا علمت أنَ اسمي لم يُلحق بأحدهم أيّ أذي!.
منبع الخوف
في سالف الأعوام، كان صاحبنا إبراهيم يقطع المسافة الطويلة المظلمة بين محلّتنا والمحّلة المجاورة، وهو يركض بسرعة، مطلقاً صرخات متنوّعة عالية ومتلاحقة. حكمته في ذلك هي أنّه لكي لا يخاف، كان يوهم الخوف بأنّه ليس وحده، بل أنّ هناك حشداً من الناس يركض معه ويصرخ.
عندما سمع عبدون الزبّال بذلك ضحك كثيراً، وتساءل بدهشة: لماذا يخاف هذا الولد الغبيّ من وحدته؟ كان حَرّياً به أن يشعر بالخوف أكثر لوجود هذا الحشد من الناس الرّاكضين معه!
كانت مارلين ديتريتش ساحرة السينما الأمريكية في مطلع القرن العشرين، قد بلغت أرذل العمر، حين سألها صحفي من وراء الباب الذي رفضت فتحه، عمّا إذا كانت تخشي الموت، فأجابت بلا تردّد: الموت؟ كلاّ، علي الإطلاق. إن ما أخشاه هو الحياة!
ومثلها، في مصر، كانت النجمة فاطمة رشدي بطلة فيلم (العزيمة) قد رفضت في أعوامها الأخيرة أن تفتح بابها لأحد من الناس، حيث وجدت أن الوحدة هي ملاذها الآمن من الآخرين.
وليس بعيداً ذلك المغزي العميق الذي سجّله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين كتبَ عن المذنب الذي حُكمَ عليه، يوم الحساب، بالذهاب إلي الجحيم، فوجد أنّ الجحيم مكان جميل ومريح وفيه كل ما يحتاجه المرء، لكنّه كان أيضاً يكتظ بالناس المناكفين الذين يُحوّلون حياة بعضهم البعض إلي عذاب حقيقي لا يُطاق، فاكتشف، عندئذ، أنّ الجحيم هو (الآخرون) ! عبدون الزبّال، ومارلين ديتريتش، وفاطمة رشدي، وجان بول سارتر، علي رغم تباعد الأزمنة والأماكن، توصّلوا إلي النتيجة نفسها، بعد أن وقفوا أمامها وجهاً لوجه، وأدركوها جيّداً.
لكنّّ إبراهيم المسكين حين توصّل إليها فيما بعد، لم يتسع له الوقت أبداً، لكي يدركها.
الوحدة لم تقتل إبراهيم، والظلام لم يقتله. قتله الإنسان المستبدّ، ذلك النوع المتفرد بين جميع الحيوانات، الذي لا يتورّع عن قتل أبناء النوع الذي ينتمي إليه!
عكس السَّير
في مدينة بيرن السويسرية، كان رجل في السادسة والثمانين من عمره، يقود سيّارته علي الطريق السريع.
وهذا أمر ليس فيه أيّة غرابة، لكنّ الغريب هو أنّ ذلك الرّجل كان يسير في الاتجّاه الخطأ بمواجهة طوفان من السيارات المسرعة!
هل أدرك أنّه ماضٍ في الطريق الخطأ؟
كلاّ .. بل كان مقتنعاً بأنّ جميع السّائقين الأخرين هم مَن كانوا يسيرون عكس الاتجّاه، ولذلك فإنّه كان يشعل المصابيح العالية في وجوه أولئك الحمقي القادمين نحوه لتنبيههم إلي خطأهم!
ولأنّ الشارع كان يبدو له مزدحماً بعدد هائل من هؤلاء المجانين الذين يقودون سيّاراتهم في الاتّجاه غير الصّحيح، فإنّ الرّجل الثمانيني الحكيم ما أن رأي دورية للشرطة متوقّفة علي جانب الطريق حتي توقّف
وعبّر لهم عن شكواه من مخالفة السّائقين الأخرين! بلطف شديد، انتزع رجال الدوريّة مفاتيح سيّارة العجوز، ثمّ أوصلوه بسيّارتهم إلي بيته.
تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الرّجل من نفسه، وإنقاذ النَاس من رعونته.
ومع أنّ حجم الكارثة التي كان ممكناً أن تتسبّب فيها قيادة هذا الرّجل، يظلّ صغيراً جدّاً بالمقارنة مع قيادة أمثاله لأوطان بكامل ما فيها من ملايين البشر، فإننّا إذ نضحك ساخرين من رعونة العجوز، نشعر بكلّ عار الدّنيا، ونصرخ مُحتجّين، إذا ما انتزعت دورية - أيّة دوريّة- مفاتيح القيادة من سائق مجنون يقود الوطن بأكمله علي طريق الهلاك المحقّق!
من حُسن حظّ الرّجل السويسري الثّمانيني أنّه لم يصطحب معه هيئة قضائية تشجب تصرّف رجال الشّرطة.
ومن حُسن حظّ النّاس أنّه لم يسحب وراءه قطيعاً من العُربان المُسمَّنين بالكوبونات، ليتظاهروا تضامناً معه، مستنكرين أن تغلق الدوريّة حنفية (الرّوح والدّم) التي فتحوها علي آخرها فداءً لكوارثه المقدّسة.
فالواضح من مجري حكاية العجوز السويسري أنّه استسلم في النهاية وأذعن للشرطة، لكنّ الأمر، للأسف، لا يجري بمثل هذه السهولة مع سائقي الأوطان المجانين.
فبالأمس، مثلاً، شاهدت، علي شاشة التلفزيون، جزّار شيلي البغيض (أوغستوبينوشيه) الذي كاد يبلغ التّسعين، وهو يُصرّح قائلاً: (إنّهم يريدون مِنّي الاعتذار عمّا فعلته. لكن ماذا فعلت لكي أعتذر؟!)
إنّه برغم انتزاعه لآلاف الأرواح، وبرغم أنّ الدورية قد سحبت منه المفاتيح ورخصة القيادة منذ عدّة أعوام، وبرغم كونه يستحق الإعدام ألف مرّة، لقاء حوادث القتل التي ارتكبها .. ما زال يعتقد أنّه كان يسير في الاتجّاه الصحيح، وأنّ جميع ضحاياه الأموات والأحياء، هم السّائرون في الاتَجاه الخطأ!
قائد الطيّارة الورقيّة
علي أحد رفوف قسم الرّوايات والقصص بإحدي المكتبات اللندنيّة الكبري، لفت انتباهي كتاب متوسّط الحجم طُويَ غلافه من منتصفه بورقة حمراء عريضة كادت تأكل العنوان كلّه وصورة الغلاف.
التقطت الكتاب، فوجدت أنّ الورقة تتضّمن سطوراً بقلم الرّوائية الشيليّة (إيزابيل أللّيندي) تقول فيها:
(رائعة .. إنَّها واحدة من تلك القصص التي لا تُنسي، والتي تبقي منطبعة في النّفس علي مدي سنوات.
كلّ الموضوعات العظيمة في الأدب وفي الحياة قد شكّلت نسيج هذه الرّواية غير العادية: الحبّ، الشّرف، الذّنب، الخوف، الفداء ...
إنّها رواية قويّة جدّاً، إلي درجة أنّ كلّ شيء قرأتهُ، بعد فترة طويلة من قراءتها، كان يبدو لي باهت التأثير)!.
تساءلت مأخوذاً: ما هذه الرّواية التي أخذت بمجامع قلب أللّيندي؟ ومَن هذا الرّوائي الذي استطاع أن يهزّ فروع هذه الشجرة الشاهقة الرّاسخة؟ وأيّة حرارة إبداعية هذه التي جعلت كلّ ما عداها يبدو بارداً بالنسبة لهذه المبدعة الكبيرة؟!.
الرّواية هي (قائد الطيّارة الورقيّة The Kite Runner) .
أمّا المؤلف فهو (خالد حسيني) .
مَن خالد حسيني؟!
هو طبيب أفغاني شاب يعيش في أمريكا، والرّواية هي عمله الإبداعي الأوّل، وقد رسم فيها، بقدرة عالية، صور مأساة الأفغان، علي مرّ العهود الحديثة، ابتداءً من أواخر العهد الملكي، مروراً بالحكم الشّيوعي والاحتلال الرّوسي ودويلات بارونات الجهاد، وانتهاء بالهجوم الأمريكي وسقوط إمارة طالبان .. وكلّ ذلك من خلال حكاية صبيّين ينتميان إلي قطبين اجتماعيين متنافرين (البشتون والهزارة) ويعيشان علاقة ملتبسة تفضي إلي أحداث مستقبليّة أكثر التباساً.
الطريقة المتميّزة في القَصّ لدي خالد حسيني، تجعل قارئه، عند نهاية كلّ فصل، يقفز بشوق ولهفة إلي الفصل الذي يليه، لأنّه يبرع في إقفال الفصول بجمل مفاجئة وصادمة ومستثيرة للرّغبة في المتابعة، شأن مؤلفي القصص البوليسيّة المُحكمة.
ولأنّه اختار أن يكون البطل هو الرّاوي، فقد استطاع بحذق ومهارة، أن يوهم القاريء بأنّه هو البطل، وأنّ الرّواية هي سيرته الشخصّية. لكنّه أكدّ في إحدي المقابلات التي أجريت معه، أنّ القصّة بشخوصها وأحداثها هي من نسج خياله، برغم كونها تستمد حبكتها من وقائع معروفة.
وقال، في هذا الشأن، إنّه إذا كان قد استطاع، فعلاً أن يوهم القاريء بأن الشخصيات حيّة وملموسة إلي هذا الحد، وأنّ الأحداث كلّها حقيقيّة، فهذا يعني أنّه (كذّاب كبير) .. أي أنّه بعبارة أخري (راوٍ جيّد) .
والحقّ أنّه راوٍ جيّد بالفعل، بل هو راوٍ من طراز فريد. وحتّي لو لم يكتب بعد هذه الرّواية شيئا آخر، فإنّها وحدها تؤهّله لحجز مكانه اللاّئق في صفّ أفضل الرّوائيين في العالم، وهي في الوقت نفسه تكفينا دليلاً علي أنّ نواحينا لا تفتقر إلي المواهب الجبارة لكنها تفتقر إلي البيئة الثقافية المتحرّرة من (شموليّات) أعداء اللّه وأعداء الإنسان،
سواء أولئك الذّين يدّعون أنّهم يحكمون بتفويض من اللّه، أو أولئك الذين يزعمون أنّهم يحكمون بتفويض من الإنسان!.
المكان في الرّواية عبارة عن مثلّث: قاعدته أفغانستان، وضلعاه باكستان وأمريكا. وحركة الأحداث والشخصّيات تتواصل في فضائه متنافرة بين هذه المواقع، لكنّها تتقارب في نموّها الحثيث، لتلتقي برغم تباعد الفصول، الأمر الذي ينمّ عن خبرة الرّاوي وكفاءته الفنيّة.
ومن جميل ما نلاحظه فيها أنّ (حسيني) الذّي كتب الرّواية بالإنجليزية كواحد من أهلها، لم ينسَ هوّيته كأفغاني مسلم، فضمّن كثيراً من سرده وحواراته عبارات هي من صميم بيئته، وهي في معظمها عبارات عربيّة خالصة، ترجمها للآخرين في سياق عفويّ لا يؤثّر في مجري السّرد. ولعلّه وجد في استخدامها (كما هي بلسانه)حاجة لتحقيق التوهّج والحرارة المعبّرين عن روح وهويّة الرّواية، ممّا لا تستطيع التعبير عنه أيّة لغة أخري.
خلال قراءتي لهذه الرّواية الممتعة جدّاً، شعرت بأننّي أتنقّل بين مواقع علي الأرض لا علي الورق، وبين بشر حقيقيين لا مجرد أشخاص مرسومين بالكلمات.
وفي خضم رحلتي هذه كان المؤلف يقودني، صعوداً وهبوطاً، عبر مختلف الانفعالات الإنسانية، فينجح، بفعل حرارة صدقه الفنّي، في استثارة غضبي هنا، أو انتزاع ضحكتي هنالك، أو إشعال كراهيتي هناك.
ولا أتردّد عن الاعتراف بأنّه في واحدة من ذُرا تلك الحوادث المحوريّة في قصّته، قد أسلمني إلي البكاء!.
كلا .. لا يذهبنّ الظنّ بعيداً. ليست الرّواية فيلماً هندياً، فلو أنّها كانت كذلك لوفّرت علي بطلها الكثير من العناء، ولأسعفته بحلول جاهزة للعقد المستحكمة التي واجهها، فتمنّي - وتمنّينا معه - لو أنّه كان شخصيّة في واحد من تلك الأفلام الهندية التي طالما شاهدها، والتي يعرف علي وجه الدقّة بأيّة حركة أو سلوك أو قول سيمكن للبطل فيها أن يخرج من محنته، لكنّه، إذ تمّر في ذهنه مثل هذه الخواطر، يتأسّف لأنّ ما يجري في الواقع هو شيء مختلف تماماً عمّا يجري في تلك الأفلام.
ولمناسبة ذكر الأفلام، أودّ أن أجتزيء هنا لمحة من الرّواية، يدخل فيها البطل محلّ أشرطة فيديو في أمريكا، فيسأله أحد الزّبائن عن رأيه بفيلم (العظماء السبعة) الذي ينوي استعارته. ولأنّ البطل كان قد شاهد هذا الفيلم مَرات عديدة حين كان في أفغانستان، فقد أسهب في إطرائه، إلي حدّ أنّه روي للزّبون قصته كاملة، مما جعل الزّبون يتمّيز غيظاً بدلاً من أن يبدي امتنانه، وذلك لأنّ البطل أفسد عليه لذّة مشاهدة الفيلم!.
أردت، باجتزائي هذه اللمحة، أن أبيّن السبب الذي دعاني للإحجام عن تلخيص مسار الرّواية أو عرض محاورها، أو نقل بعض تفاصيلها المؤثّرة. إنّه الحرص علي عدم إفساد لذّة قراءتها بالنسبة للقاريء العربي .. وهو حرص يصاحبه الأمل بترجمتها قريباً إلي اللغة العربيّة، ويسبقه الألم لصدور طبعتين إنجليزيتين وطبعتين أمريكيّتين منها حتّي الآن، إضافة إلي صدور ترجماتها للأسبانية والألمانية والهولندية والسويديّة والدانماركية .. واهتمام هوليوود بإعدادها للسّينما، فيما لم أسمع لها أيّ صدي في جنبات عالمنا الثقافي حتّي هذه السّاعة!.
أتمنّي أن يكون صوتها وصداه قد انطلقا عندنا، لكنّ صممي أنا هو الذي حال دون سماعهما.
أتمنّي ذلك من كلّ قلبي.
مداواة الحنين
كنت، في الأسبوع الماضي، قد تحدّثت عن رواية (قائد الطيّارة الورقيّة) للكاتب الأفغاني خالد حسيني، وذكرت أنّه جعل (البطل) راوياً للقصّة، الأمر الذي أوهم كثيراً من القرّاء بأنّه هو نفسه البطل، فيما أكدّ في إحدي المقابلات أنّ روايته متخيّلة تماماً، علي الرّغم من أنّ حبكتها مستمدّة من الواقع الأفغاني، وبرغم نقاط الشبه العامّة بينه وبين البطل من حيث البيئة وظروف التربية أو ظروف النزوح .. وعلي ذلك عقّب مفاخراً بأنّه إذا كان قد استطاع أن يوهم القاريء بأنّ الشخصيّات حيّة والحوادث حقيقيّة، فمعني ذلك أنّه (كذّاب كبير) أو بعبارة أخري (راوٍ جيّد) .
وقد وجدت خالد حسيني يعود قبل أيّام إلي إغناء هذا الموضوع، في مقالة له في الملحق الثقافي لجريدة (الغارديان) .
في هذه المقالة يُنبئنا (حسيني) بأنّ ذلك الوهم لدي القاريء قد أجّج الفضول لدي الرّاوي، إذ قرّر الأخير أن يتبع خطي بطله علي أرض الواقع، في محاولة لاستكشاف أوجه الشَّبه بينهما، فإذا به يتوصّل إلي نتائج مثيرة للدهشة.
يقول (حسيني) : (إنّ أمير سيكون أوّل مَن يُخبركم بأنّه ليس الأنبل ولا الأشجع بين الرّجال. لكنّه، قبل ثلاث سنوات مضت، قد قام بعمل جامع لصفتَي النّبل والشّجاعة معاً. فهو قد عاد إلي أفغانستان - التي كانت آنذاك تحت حكم طالبان - من أجل تصفية حساب قديم. عاد بعد عشرين عاماً من الغياب، للتكفير عن خطيئة كان قد اقترفها وهو صبيّ، وذلك بإنقاذ طفل لم يعرفه من قبل، وإنقاذ نفسه من اللّعنة.
وقد كادت رحلته تلك أن تكلّفه حياته .. والمسألة هنا هي أننّي أنا الشّخص الذي أرسله في هذه المهمّة، وقد كان الأمر سهلاً عليّ، لأنني، في النهاية، أنا مَن اخترع (أمير) .. فهو بطل روايتي (قائد الطيّارة الورقيّة) .
ويواصل قائلاَ: (لكنّني، بعد وضع اللّمسات الأخيرة علي مسودّة الرْواية، وجدت نفسي في مارس،2003 أترسّم خطي بطلي، فأخذت مكاني في الطائرة عائداً إلي أفغانستان، بعد غيبة طويلة امتدّت سبعة وعشرين عاماً تقريباً.
عندما غادرت بلادي كنت في نحو الحادية عشرة، صبيّاَ نحيف البنية في الصفّ السابع الابتدائي، وها أنا أعود إليها وعمري ثمانية وثلاثون عاماً، بوصفي رجلاً متزّوجاً وأباً لطفلين، حيث أعمل طبيباً وكاتباً، وأقيم في شمال كاليفورنيا) .
ما أن هبطت الطائرة في كابول حتّي تردّدت في ذهن (حسيني) بضعة أسطر من الرّواية، فإذا بأفكار (أمير) قد أصبحت، فجأة، أفكاره هو: (كنت أظنّ أننّي قد نسيت هذه الأرض .. لكنّ هذا لم يحدث. لعلّ أفغانستان لم تكن قد نسيتني هي أيضاَ) .
وفي غمرة ذهوله من هذا الإحساس الغريب الذي جعله يتماهي مع بطله، يقول (حسيني) : (إنّ العُرف القديم في الكتابة يقول إنّك تكتب حول ما جرّبته. أمّا في حالتي أنا فقد كنت ذاهباً لتجربة ما كتبته سَلفاً) !
وخلال زيارته القصيرة، يكتشف (حسيني) أنّ كثيراً ممّا تخيّله كان مُنتصباً أمامه في الواقع، وأنّ معظم الأحاسيس التي بثّها في روح البطل قد عادت حيّة وتلبّست روحه، حتي أنّه كان يمشي بقدمَيّ (أمير)ويتقمّص انفعالاته ويري الأشياء بعينيه.
يقول: (مثل أمير، كنت ممتلئاً بإحساس العائد إلي وطنه للقاء صديق قديم. لكن مثل أمير أيضاً شعرت قليلاً بأننّي مثل سائح في بلادي .. كلانا لم يشارك في الحروب، كلانا لم ينزف دمه مع الأفغانيين الآخرين. لقد كتبت عن شعور أمير بالذّنب .. وها أنا الآن أجرَبه بنفسي) .
وحين يعثر، بعد جهد، علي بيت أسرته القديم، يُحسّ في داخله بانكسار حاد، كذلك الانكسار الذي أحسّه بطله تماماً عند العودة إلي المنزل القديم. هو يعيد علينا ما جرّبه الكثيرون منّا من شعور بالصّدمة والحزن، إزاء الأماكن التي تعيش رحبة وشامخة في ذاكرتنا، ثم نراها، بعد طول غياب، صغيرة ومتضائلة.
لكنّه يُقسم أنّه رأي حتّي آثار زيت السّيارات يُغطّي أرض مرآب بيتهم القديم بالصورة نفسها التي رسمها خياله لمرآب بيت أمير.
وحين استدار مودّعاً بيته القديم بقلب مفعم بالحزن، أدرك (حسيني) أمراً غير عاديّ، هو أنَه لو لم يكتب (قائد الطّيارة الورقيّة) لكانت مشاهدته الأخيرة لبيت أبويه أشدّ وطأة علي نفسه، وأكثر إيلاماً لمشاعره. يقول: (في النهاية كنت قد مررت بهذه التجربة سلفاً: لقد وقفت، من قبل، مع أمير أمام بوّابة منزل والديه، وجرّبت شعوره
بالفقد، ورأيته وهو يضع يديه فوق القضبان الحديديّة الصدئة، وحدّقنا معاً في السّقف المتداعي، وفي درجات السلالم المكسورة.
إنّ كتابتي لهذا المنظر في الرّواية قد خفّفت كثيراً من قسوة ألم تجربتي الشخصّية في الواقع).
وقد توصّل (حسيني) من كلّ هذا إلي خلاصة مفادها أنَ الفنّ يعمل، في الخفاء، علي تلطيف آلام الحياة.
الصّادر .. والوارد
كنت قد بدأت تناول غدائي للتّو، عندما دخل (هادي) ذو السنوات الخمس البيضاء، وانتصب في باب الصّالة مثل بسطار عسكريّ ملطّخ بالوحل.
قال: (أمّي تريدك) .
نهضت بسرعة وتبعته مستكملاً بلع اللقمة في طريقي.
صاحت أمّي حانقةً: (أكمل طعامك .. إنّهم لن يطيروا) .
قلت لها وأنا أجري: (سأعود حالاً .. غطيّه واحرسيه من الذّباب) .
استقبلتني (أمّ جواد) متهلّلة عند باب البيت، وجرّتني من يدي إلي الدّاخل قائلة مثل كلّ مرّة:
(تعال .. جاءك رزق).
كنت أعرف هذا، لكنّ تصريحها كان يسعدني دائماً لأنّه تأكيد مسبق علي أنّ الأمر لن يكون لوجه الله.
طلبت منّي الجلوس علي البساط، فجلست، ومضت هي إلي زاوية الحجرة، وغمست يدها في صندوق من الكرتون، ما لبثت أن أخرجت منه مظروفاً وقلماً ودفتراً مدرسيّاً. عادت لتجلس قبالتي. رمت المظروف والقلم في حجري، وانتزعت ورقة من الدفتر ثم سوتها فوقه ووضعته فوق ركبتي.
قالت بعجلة ولهفة: (اكتبْ) .
أمسكت القلم وانتظرت.
رصّتْ قبضتها علي خدّها، وتنهّدت قائلة: (بسم الله الرحمن الرحيم .. صباح الخير. إن كان صباحاً .. ومساء الخير إن كان مساء .. حضرة جناب الأخ المحترم والدي العزيز أبو زهرة .. ) توقّفتُ عن الكتابة.
نخزتني بسبّابتها محتجة ومستحثة: (اكتبْ) .
قلت لها: (خالتي أم جواد .. كيف يصير جناب الأخ والدك؟!) .
قالت: (ما عليك .. هكذا كان عمي يكتب له) .
قلت لها: (لكنه أخوه!) .
قالت بحسم: (وهل أنا من فطر الحائط؟ أنا أيضاً ابنته .. اكتبْ) .
خشيت أن أواصل الجدل فيضيع رزقي، فعملت بكل ما أملكه من رداءة في الإملاء علي تصريف طوفان أحزانها ولوعتها وشكواها من نزق جواد وهادي، ومن فراق زوجها الجندي الذي لا تُرجي عودته من حرب الشمال، ومن عداوة الجيران، ومن سوء كل شيء تقريباً.
وحين انتهيت، ورفعت رأسي عن الورقة، رأيت عينيها الحمراوين طافحتين بالدّموع.
قامت، مثل كل مرة، وأشعلت سيجارة، ثم قدمتها إليّ قائلة: (لا أوصيك .. من هنا، ومن هنا، ومن هنا. لا تحرق الكلام) .
كانت تلك هي طريقتها في التعبير عملياً عن حرقة قلبها.
شرعت أثقب الورقة من أطرافها بجمرة السيجارة، محاذراً من اندلاع اللهب فيها، وحين انتهيت، بدأت في طيها، فانتبهت إلي أن ظهرها ممتليء بالكلمات المكررة: (نار .. نيران .. نور - دار .. دور - قدري قاد بقرنا)!.
أدركتُ حالاً أنّ الخالة قد انتزعت هذه الورقة من دفتر جواد، وعليها واجب القراءة. واكتشفت أن نار السيجارة قد أحرقت نار الدّرس، وشبّتَ في الدُّور، ولم تُبقِ من (بقرنا) سوي حروف الباء!
فكرت في أن أمام جواد ثلاث سنوات ليصبح مثلي في الصف الرابع الابتدائي، وعندئذ سيتولي وظيفتي ويقطع رزقي.
وتحت سطوة هذه الفكرة، شعرت بالغيظ، فدسستُ الورقة في المظروف، ولعقته بلساني وألصقته، دون أن أبدي للخالة أيّة ملاحظة علي واجب جواد المحترق. أعطتني عشرين فلساً، وقالت: (هذه العشرة للطابع .. وهذه العشرة لك) .
لم يمض أكثر من شهر، حتي انتصب (هادي) في باب الصالة، وقال باقتضاب: (جدّي يريدك) .
كنت قد تعشيت منذ ساعتين، ولذلك فقد انطلقت هذه المّرة دون خوف من حنق أمي، ودون حرج من تكليفها بحراسة طعامي.
ابتسم (أبو زهرة) عن ضرس واحد يكاد ينهدم من فرط الوحشة.
كان جالساً فوق البساط وسط الحوش، متكئاً علي وسادة غليظة، وكانت (أم جواد) جالسة أمامه تُعدّ الشاي علي منقلة الفحم.
دسّ يده في جيبه وأخرج مظروفاً مغلقاً، وقال لي بما يشبه الغمغمة: (تعال يا سبع .. اقرأ لي هذا المكتوب) .
حدّقتْ (أمّ جواد) في المظروف بريبة ظاهرة، لكنّها لم تنبس ببنت شفة.
فضضت المظروف، فاستحال شكّي علي الفور يقيناً قاطعاً. كانت الثقوب السوداء جاثمة فوق النار والدور وبقرنا.
ما أن شرعت بالقراءة حتي صرخت (أم جواد) كالملدوغة: (هذا مكتوبي!) رفع (أبو زهرة) يده مسكتاً إيّاها بالإشارة، لكي يستطيع مواصلة الاستماع، وكان في أثناء ذلك يهزّ رأسه بتأثر واضح.
وعندما انتهيت رأيت الدموع تلتمع فوق خدّيه، ورأيته يميل ناحية ابنته ويحضنها بحنان ويقبّل رأسها قائلاً: (مَن يدريني؟ المضمّد حمدان هو وحده الذي يستطيع قراءة المكاتيب. وقد التحق بعمله قبل ستّة أسابيع، ولم يعد إلي القرية منذ ذلك الحين. لو كنت أعلم أن المكتوب منك لفتحته وشممت رائحتك علي الأقلّ) .
حمدت الله لأنه لم يفتحه، إذ لو أنه فعل لما شَمَّ سوي رائحة احتراق بقرنا!
التفت إليَّ وابتسم: (هاه .. نسيتك .. خُذْ يا سبع) وأعطاني عشرة فلوس.
مددت يدي والتقطت العشرة بفرحة مشوبة بالخجل. (عشرتان لمكتوب واحد) .. هكذا قلت في نفسي وأنا أشعر بغبطة عارمة.
وضعت العشرة في جيبي، ومضيت نحو الباب، لكنّني قبل أن أخرج، التفتُّ بقلب خافق بالطمع، وسمعت صوتي الخفيض يتأوّد بوقاحة مثقلة بالحياء: (هل تريد أن أكتب لك جواباً علي المكتوب؟) .
ثقافة الإرهاب
يحكي الكاتب الأوروغواني إدواردو جاليانو في (كتاب المعانقات) أنه قرأ، مرةً، رواية يلتقي في أحد فصولها جد مسن جداً بأصغر أحفاده.
الجد الطاعن في السن هذا خرف تماماً (أفكاره هي لون الماء .. كما تصفه الرواية) ، وهو يبتسم ابتسامات لاهية تشبه ابتسامات حفيدة المولود حديثاً.
الجد الأكبر سعيد لأنه فاقد الذاكرة، وحفيده الأصغر سعيد لأنه لم يمتلك، بعد، أية ذاكرة.
ويعلق جاليانو علي ذلك قائلاً: إن هذه، كما أتصور، هي السعادة الكاملة .. لكنني لا أرغب في أي نصيب منها!
لا يريد جاليانو نصيباً من هذه السعادة، لأنها في الواقع سعادة البلهاء، أي أنها، بعبارة أخري، سعادة المواطنين الصالحين بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية ومن الطبيعي بالنسبة لرجل مثله، أمضي أعواماً عديدة من عمره بين المنافي والسجون، بسبب دفاعه عن الحرية، أن يرفض هذا الصلاح الفاسد، وأن يستخدم كل مواهبه من أجل تعريته، سواء أجاء بوجه أجنبي أم بوجه وطني.
هذا النوع من السعادة، عنده، هو معادل الارهاب الذي يتحول علي يد السلطة المستبدة الي (ثقافة) قائمة بذاتها، حيث تستخدم كل الوسائل الممكنة من أجل تجذيرها في بنية المجتمع، حتي تثمر، مع الأيام، يقيناً عاماً بأنها جزء لا يتجزأ من كينونة هذا المجتمع.
ولعل هذا هو ما يفسر لنا اختلاط المشاعر الذي يدعو المضطهدين الي الخوف من التحرر المفاجيء، أو يحمل الضحايا علي البكاء، لدي زوال جلاديهم فجأة!
إن (ثقافة الارهاب) تتحول، بعد تجذرها، الي حلقة تبادلية فعالة، تنتج الطغيان من الأعلي، وتنتج الطغاة من الأسفل!
وفي استعراضه لبعض عناصر هذه الثقافة يقول جاليانو:
إن الاستعمار الواضح يشوهك دون أية ذريعة: إنه يمنعك من الكلام، يمنعك من الفعل، ويمنعك من الوجود.
أما الاستعمار الخفي، فهو يقنعك، بأية طريقة، بأن العبودية هي قدرك، وأن العجز هو طبيعتك: إنه يقنعك بأن من غير الممكن أن تنطق، من غير الممكن أن تفعل، ومن غير الممكن أن توجد!
وماذا يكون الاستعمار الخفي سوي السلطة الوطنية الجائرة؟!
إن الكاتب لا يفاضل، هنا، بين جور وجور آخر، لكنه يصفع بشدة وجوه أولئك الذين يعتقدون ان الخضوع لسلطة القمع الداخلي هو البديل الوحيد والأهون عن الوقوع فريسة للغزو الخارجي، في محاولة لايقاظهم علي حقيقة مروعة: هي أن الفرق بين الاستعمار الخارجي والاستعمار الداخلي، هو أنهم في الثاني يشاركون، باقتناع تام، في حفلة اعدامهم!
ويسوق مثالاً علي تلقيم الخنوع، وتحويل المواطن الي مجرد رقم، من كتاب مدرستي كان يستعمل حتي وقت قريب في مدارس أورغواي: (في ما يتعلق بالطفل المثالي:
فتاة صغيرة تلعب بدميتين وتوبخهما لكي تظلا ساكنتين.
الطفلة نفسها تبدو مثل دمية: جميلة جداً، وطيبة، ولا تزعج أي أحد) .
إن صدي مثل هذا التأليف المدرسي المجرد يتردد في الواقع علي شكل دُمي حقيقية حية.
وذلك ما نجد مثاله في حكاية فتاة اسمها راميونا كارابالو كان أسيادها قد وهبوها الي بعض الناس كهدية، عندما كانت بالكاد تتعلم المشي!
وفي عام،1950 إذ كانت تلك الفتاة لا تزال طفلة، اشتغلت كعبدة في أحد بيوت مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي، حيث كانت تعمل كل شيء مقابل لا شيء.
وذات يوم جاءت جدتها لزيارتها، ولم تكن راميونا تعرفها أو تتذكرها. وكان علي الجدة القادمة من الريف أن تعود الي قريتها بسرعة، ولهذا فإنها شرعت، حال دخولها البيت، بإنجاز مهمتها، إذ حملت السوط وراحت تجلد حفيدتها جلداً مبرحاً، ثم انصرفت، تاركة الطفلة تنحب وتنزف.
جدة راميونا كانت تصرخ بها وهي تنهال عليها بالسوط:
- (إنني لا أضربك بسبب ذنب ارتكبته .. إنني أضربك بسبب ما سوف ترتكبينه) !
هل ثمة فرق بين ما فعلته تلك الجدة وبين ما تفعله جميع السلطات في أوطاننا السعيدة، أو ما تفعله أمريكا علي مستوي العالم كله؟!
ان الفعّالية التي تتحرك بها دائرة التبادل بين الطغيان وضحاياه، لا تقتصر علي تلك النماذج الناتئة الواضحة، لأن ذلك التلقين المقدس يتناسل حتي في الأماكن التي يظنها المرء خارج هذه الدائرة.
يعدد جاليانو في هذا الاتجاه، طائفة من (المكرمات) : الابتزاز، الإهانة، التهديد، الصفع، الضرب، الجلد، الغرفة المظلمة، الدوش المثلج، التجويع، الاتخام بالقوة، الحرمان من مغادرة البيت، الحرمان من قول ما تعتقد، الحرمان من فعل ما ترغب، الاذلال العلني .. ثم يقرر بشكل صاعق أن تلك الاشياء كلها هي بعض مناهج العقاب التقليدية في الحياة الأسرية!
فمن أجل معاقبة التمرد، وتهذيب السلوك الخارج عن اللياقة، يعمد التقليد الأسري الي تخليد (ثقافة الارهاب)التي تهين المرأة، وتعلم الطفل علي الكذب، وتنشر حولها وباء الخوف.
ولهذا فإن أندريس دومينغيز أحد أصدقاء جاليانو لم يتعد الصواب حين قال له مرة: إن حقوق الانسان يجب أن تبدأ في البيت.
إن هذه البداية الصحيحة هي التي يمكن أن تحقق للانسان حصانة ضد الأوبئة المدمرة كلها، وفي مقدمتها وسائل الاعلام التي لم يسبق لعصر أن ابتلي بسيطرتها التامة والواسعة مثل عصرنا المنكود.
فإذا كان الناس علي دين ملوكهم، فإن ملك هذا الزمان، بلا منازع، هو الاعلام، وان سلطته الجبارة الأقوي من أية سلطة، هي في أغلبها لسان صدق في فم الكذاب، إذا تأكد شرط امتلاكه للقوة!
ولعل الحكاية النموذجية التالية التي يرويها جاليانو كافية تماماً لاظهار صورة الدمار الهائل الذي يخلفه هذا الوباء:
يقول جاليانو انه اطلع لدي محامٍ يدعي بيدرو ألغورتا علي ملف ضخم حول جريمة قتل امرأتين نفذت بالسكين في نهاية عام،1982 في احدي ضواحي مونتيفيديو.
المتهمة ألما دي أغوستو كانت قد اعترفت بجريمتها المزدوجة، وقد مر علي ايداعها السجن أكثر من عام، وكان من الجليّ أنها قد حُكم عليها بأن تتعفن هناك حتي آخر لحظة من حياتها.
وكما جرت العادة، فإن رجال الشرطة اغتصبوها وعذبوها، وبعد شهر من مواصلة ضربها بقسوة، استطاعوا ان ينتزعوا منها: عدة اعترافات!
لم تكن اعترافات ألما متطابقة، وبدت كما لو أنها ارتكبت الجريمة بطرق كثيرة مختلفة، فقد كان هناك أشخاص مختلفون يظهرون في كل اعتراف مثل خيالات وهمية لا أسماء لها ولا عناوين.
وذلك لأن التعذيب كان من شأنه أن يحول أي شخص الي مؤلف قصصي كثير الانتاج. والأكثر من ذلك فإن هذا المؤلف يقدم حكاياته برشاقة لاعب أولمبي، وبزينة مهرجان أمازوني، وببراعة مصارع ثيران محترف!
لكن الأكثر اثارة للدهشة كان غني التفاصيل. ففي كل اعتراف كانت ألما تصف بدقة بالغة: الملابس، الايماءات، الأجواء المحيطة، المواقع، والأشياء.
وموضع العجب في هذا كله هو أن ألما المسكينة كانت عمياء!
الأدهي من ذلك أن جيران المتهمة الذين يعرفونها جيداً ويحبونها كثيراً، كانوا مقتنعين تماماً بأنها هي القاتلة.
سألهم المحامي:
- لماذا؟!
- لأن الصحف قالت ذلك.
- لكن الصحف تكذب!
- ولكن الراديو قال ذلك أيضاً .. والتلفزيون!
هل يحق للغالبية العظمي منا أن ترفع اصبع اللوم في وجه أولئك الجيران؟
كلا .. لأننا في الواقع مثلهم تماماً، خيوط مرتبة بكل نعومة وتناسق في نسيج (ثقافة الارهاب) الشاملة!
هدّية للضمير المستتر
الزّلزال الآسيوي قتل ما يقارب مائة وسبعين ألفاً من النّاس في إثني عشر بلداً.
وصدّام الرّجيم قتل مليوني إنسان في بلد واحد.
الزّلزال الآسيوي شرّد خمسة ملايين إنسان في اثني عشر بلداً.
وصدّام الرجيم شرّد خمسة ملايين إنسان من بلد واحد.
الخسائر التي خلّفها دمار الزّلزال الآسيوي قدرت بما يقرب من مائتي بليون دولار.
والخسائر التي خلّفها دمار صدّام الرجيم حتّي عام 1991 فقط، قدّرت بما يزيد علي أربعة أضعاف خسائر الزلزال الآسيوي.
القوّة التدميرية للزّلزال الآسيوي، حسب تقديرات العلماء، كانت تعادل قوّة مليون قنبلة ذرية.
وعلي هذا المقياس يتبيّن لنا انّ قوة صدّام التدميرية كانت تعادل عشرين مليون قنبلة ذريّة.
ولمّا كان هذا هو، بالضبط، عدد سكان العراق، فإنّنا نخلص إلي أنّ عهده (الميمون) قد خصّص (قنبلة ذرية)كاملة لكلّ فرد عراقي!.
تلك أرقام بسيطة لا تحتاج إلي تحليل، ولا تحتمل التّحايل .. نضعها بكلّ تقدير أمام أنظار جميع الخصاونة الكرام .. لنسألهم بعد هذا:
هل كذّبت أمريكا حقّاً بشأن احتواء العراق علي سلاح الدّمار الشّامل؟
بعبارة أخري: أأنتم أدري من أمريكا بنوع السّلاح الذي اخترعته ونصبته في العراق طيلة ستّة وثلاثين عاماً؟!
أتمني من هيئة الدّفاع عن (محقان) أن تأخذ منه، في زيارتها المقبلة، القنبلة الذرية الخاصّة بي .. هديّة خالصةً لها، لكي تغسل بها ضميرها .. إذا استطاعت أن تعثر علي هذا الضمير!
بدايات خالدة
ليس هناك حصر للقصص والروايات الرائعة التي خلفها المبدعون، شرقا وغربا، علي مختلف العصور. لكن هناك مايشبه الاجماع علي روعة وتميز عدد محدود من البدايات التي افتتح بها بعض المبدعين اعمالهم القصصية.
وليس المقصود هنا قدرة الكاتب علي جذب قارئه وتشويقه منذ الصفحة الأولي للكتاب، اذ لاحصر ايضا، للموهوبين القادرين علي ذلك، خاصة ان البداية الجيدة والمحكمة كانت، ولاتزال، الهم الاكبر لجميع القصصيين، باعتبارها المؤشر الأول لانشداد القاريء أو تردده او تركه العمل الادبي برمته.
لكن المقصود هو تلك البدايات التي لاتتعدي فقرة صغيرة، او جملة قصيرة قد لاتكون غريبة او ذات بلاغة عالية، لكنها مع ذلك تملك من السحر وقوة التأثير، ما يجعلها تترك بصمتها المميزة في نفس القاريء، سواء بحمولتها الخاصة وحدها، او بأثر النص كله بعدما ينتهي القاريء من مطالعته، فاذا ترددت علي مسمعه عبارة الافتتاح تلك، في الأعوام اللاحقة، احس بحرارة الميسم التي احسها عند قراءة العمل الادبي من قبل، وعادت الي ذهنه حرارة العمل كله.
ولكي نعلم مقدار اثر مثل تلك البدايات التي تحولت الي مايشبه (الأيقونات) علينا ان نصغي باهتمام لما يقوله واحد من اعظم الروائيين في عصرنا، عن شدة الأثر الذي طبعه في نفسه المفتتح لقصة فرانز كافكا (المسخ) :
(عندما استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من احلامه المزعجة، وجد نفسه وقد تحول، في فراشه، الي حشرة ضخمة جدا).
يقول غابرييل غارسيا ماركيز انه عندما قرأ هذا في بداياته، ادرك، من خلال دهشته وانبهاره، ان كل شيء ممكن في القص.
ولعله وجد في ذلك حافزا لايرد علي أن يمضي في سبيله بجرأه غير معهودة، ليطلع علينا في النهاية بشيء لاعهد لنا به من قبل اسمه (الواقعية السحرية) .
ولعل ماركيز يعلم ايضا ان جملته الاولي في عمله الكبير (مائة عام من العزلة) قد كان لها، علي بساطتها، التأثير ذاته في نفوس قرائه، مما سيجعلها واحدة من البدايات الخالدة:
بعد أعوام عديدة، فيما كان يواجه كتيبة الاعدام، تذكر العقيد أورلياندو بوينديا عصر ذلك اليوم البعيد الذي اخذه فيه والده لمشاهدة الثلج).
لكن هل كان الكاتب النرويجي كنوت هامسون يتخيل ان تعبيره الافتتاحي عن اثر مدينة كريستيانا علي نفس بطل روايته (الجوع) سيكون له الوقع ذاته علي نفوس قراء الرواية علي مر الاعوام؟. يفتتح هامسون روايته هكذا:
(حدث هذا في تلك الايام التي كنت فيها مشردا اتضور جوعا في مدينة كريستيانا، تلك المدينة العجيبة التي لايغادرها احد قبل ان تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها).
وكذلك لايغادر احد رواية (الجوع) دون ان تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها، بحيث يكفي ان يسمع الفقرة الافتتاحية، لكي يستعيد الاثر الموجع للرواية كلها، مهما تباعدت الاعوام، اذ ان تلك الفقرة هي تلخيص مكثف للمرارة التي احتوتها الرواية، حيث انتصب التشرد والجوع بطلين اساسيين فيها.
وفي رأس قائمة تلك البدايات التي لاتنسي، تأتي بداية رواية (آنا كارنينا) لتولستوي:
(كل الأسر السعيدة متشابهة، أما الأسر التعيسة فلكل منها تعاستها الخاصة المميزة).
انها واحدة من (الأيقونات) التي تكرست علي مر العهود، سواء من قبل القراء العاديين او من قبل المبدعين الكبار. فعلي الرغم من عظمة جميع اعمال تولستوي، تبقي (آنا كارنينا) في قمة هذه الاعمال، وفي قمة جميع الاعمال الادبية الاوروبية ايضا، كما رأي ديستويفسكي وتبقي افتتاحيتها في الصف الأول من تلك الافتتاحيات ذات الاثر الدائم.
اما الكاتب الانجليزي تشارلز ديكنز فيأخذ مكانه في هذا الصف بفعل البداية الرائعة لروايته الخالدة (قصة مدينتين) :
(كانت افضل الأزمنة، وكانت اسوأ الازمنة.
كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الايمان، وكان عهد الشك. كان موسم النور، وكان موسم الظلام. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كنا نملك كل شيء أمامنا، وكنا لانملك شيئا مما امامنا.
كنا جميعا ذاهبين مباشرة الي الجنة، وكنا جميعا ذاهبين في الاتجاه الآخر)!.
ان قراء ديكنز قد ينسون كثيرا من تفاصيل قصصه المؤثرة، وقد ينسون حتي الموقف الموجع للصغير اليتيم الجائع أوليفر في مفتتح رواية (أوليفر تويست) وهو يطالب بمزيد من الحساء .. لكنهم لايمكن ان ينسوا مطلع (قصة مدينتين) الحافل بكل المتناقضات، والعابر من تشخيص حال مدينتين هما لندن وباريس، الي تشخيص موجز وحاد ومؤلم لحال الجنس الانساني الذي تنفصم مدينته نفسها الي مدينتين وينقسم زمنه ذاته الي زمنين!.
البدايات القصصية المميزة قد تكرست، غالبا، نتيجة تطاول العهود، وازدحام المارة علي دروب الاعمال الادبية المذكورة علي مختلف الازمان، واذا كنت قد ذكرت تلك البدايات فليس لانها البدايات المميزة حصرا، اذ لاريب ان هناك كثيرا مثلها، لكنني انحزت الي النماذج التي وجدتها اكثر شيوعا.
نتيجة متابعتي، وهي متابعة محكومة بسقف قراءاتي الذي اعترف بانه ليس عالياً بما يكفي للاحاطة بكل تلك البدايات.
بقي القول ان الحافز الذي حرك في ذهني شرارة هذا الموضوع هو مفتتح رواية (انتظار) للكاتب الصيني (ها-جن) .. إذ إنني حال وقوع عيني علي هذا الطُعم الذي وضعه لاصطياد القاريء، وجدته مؤهلا لدخول موسوعة البدايات المميزة من اوسع ابوابها، اذا اتسعت شهرة الرواية، وتعددت منافذ ترجمتها الي مختلف اللغات.
يقول (ها- جن) في السطر الأول من روايته:
كل صيف، كان لن كونغ يعود إلي قرية البجع من أجل تطليق زوجته شو - يو!.
هل يمكن لمثل هذه البداية أن تمر علي القاريء دون ان تنطبع في ذاكرته إلي الأبد؟ لا أعتقد
الإنجليز يتمرغون بتراب الميري
قبل أربعين عاماً بالضبط حصلت إنجلترا، للمرة الأولي والأخيرة، علي كأس العالم لكرة القدم، نتيجة هدف بقي طول تلك الأعوام مشكوكاً في صحته، حتي أثبتت الأجهزة الدقيقة، حديثاً وبشكل قاطع، انه بالفعل هدف غير صحيح.
ومنذ ذلك الوقت ظل منتخب إنجلترا يواصل الاشتراك في البطولة العالمية قانعاً من الغنيمة بالإياب في كل مرة.
وفي البطولة الأخيرة، لم يخالف المنتخب تقاليده العريقة في الخروج من التصفيات مبكراً.
وعلي الرغم من ان انجلترا هي التي اخترعت كرة القدم الحديثة، ونشرت قواعدها في جميع انحاء العالم، فإن منتخباتها علي مرّ الأعوام، لم تكن لتهدد أحداً أو لتحظي بتنبؤات الفوز بالكأس، كغيرها من منتخبات أوروبا أو أمريكا اللاتينية.
وقد اعتاد الناس علي عودة منتخب إنجلترا ساحباً ذيله بين رجليه، مثلما اعتادوا علي تصريحاته النارية التي تضع الحق دائماً علي الطليان!
لكنه في الدورة الأخيرة وضع الحق، لأول مرة، علي مدربه السويدي إريكسون، وهو، للمناسبة، مستحق تماماً لأكبر كمية من اللوم والتعنيف.
لكنّ المضحك المبكي في الأمر، هو أن الإنجليز لم يكتفوا بإعفاء الطليان من اللوم فقط، بل بلغت بهم الضعة والصغار وقلة الحيلة، حد التعلق باقدامهم من أجل الفوز بشيء من رائحة الكأس.
بعبارة أكثر وضوحاً ان الانجليز آمنوا بأن فوز إيطاليا بالكأس هو، بصورة أو بأخري، فوز محقق لإنجلترا نفسها!
كيف؟!
يُحكي ان هناك لاعباً ضمن صفوف المنتخب الإيطالي اسمه سيمون بيروتا كان قد ولد، ذات مصادفة عمياء، في مانشستر!
نعم .. هكذا، ومن يبحث عن صورة كاملة للهوان وقلة الحياء، يجد في هذه الصورة غاية الاكتمال.
والأكثر من هذا ان الانجليز لم يكتفوا من هذه الصلة الواهية بالحديث عن سيمون باعتباره بريطاني الجنسية، بل اقترفوا المستحيل بادعائهم انه إنجليزي!
ولن نعرف أبداً سر هذه التركيبة الإنجليزية السحرية التي تجعل المواطنة عرقاً، هذا إذا صح في الأصل انه مواطن بريطاني!
فعلي مساحة ثلاث صفحات كاملة، نشرت احدي الصحف الإنجليزية تحقيقاً عن هذا اللاعب بالكلام والصور، غايته استدراج تاريخ ميلاده للالتصاق بالعرق الانجلوسكسوني، أو محاولة ذلك العرق اللحاق بميري سيمون أو التمرغ في ترابه .. لكن التحقيق، مع ذلك، لم يخرج، برغم الجهد، إلا بنتيجة واحدة مذلة ومخجلة، وهي أن ليلي التي يدّعي الإنجليز وصلاً بها، لا تعرف من لغة الغرام سوي الهجران!
اسم الولد أولاً سيمون وليس سايمون، واسم عائلته بيروتا هو اسم إيطالي صرف .. وعليه، فمنذ المطلع لا يجد المرء أية دلالة سكسونية في قصيدة هذا اللاعب.
وثانياً ان أبويه الايطاليين كانا قد وصلا إلي بريطانيا في منتصف الستينات ثم عادا إلي موطنهما الأصلي القح في بداية الثمانينات. وفي أثناء إقامتهما المؤقتة أنجبا درّة التاج هذا، ثم غادرا وهو لم يبلغ الخامسة من عمره، حيث عاش ثلاثة وعشرين عاماً هناك، في موطنه الأصلي. وعليه فإنه لم يتوفر له الوقت الكافي حتي ليكون مجرد مواطن بريطاني.
وثالثة الأثافي هي ان الحوار مع اللاعب ووالديه قد أعطي الثلاثة فرصة لرفع العلم الإيطالي عالياً علي الخلفية الإنجليزية، ولخرق بالون التحقيق بمسمار غليظ وتفريغه من محتواه تماماً.
سيمون قال: انني لا أتذكر من إنجلترا سوي ان السماء كانت رمادية وممطرة علي الدوام. أما في إيطاليا، فإن الطقس مشمس دائماً لحسن الحظ، فأنا لا استطيع العيش دون ذلك.
وأضاف: أتمني لو كنت استطيع التحدث بالإنجليزية لكنني لا أعرف كيف، فصحيح انني ولدت في بريطانيا، لكنني غادرتها وأنا في الخامسة فقط.
ولقد قيل لي، بناء علي هذا، انني استطيع ان ألعب للمنتخب الإنجليزي، لكن ليس هناك أي شك، بالنسبة لي في انني أحب أن ألعب لإيطاليا، وانني لفخور جداً لأني مواطن إيطالي!
وبعد هذا الهدف الساحق، تطوع أبوه لتسجيل الهدف الثاني في مرمي التحقيق، إذ قال فرانسيسكو بيروتا: من الطبيعي ان يشعر ابني قليلاً بأنه بريطاني، لكن ليس إلي حد كبير.
ثم اختتمت والدته آنا ماريا الشوط الثاني من التحقيق بهدف إيطالي ثالث، عندما قالت: لقد تلقي سيمون منذ سنوات عرضا من نادي أفرتون الإنجليزي، لكنه قرر البقاء في إيطاليا. ان ابني قد ولد في بريطانيا لكنني أعرف انه فخور بانتمائه لإيطاليا.
وبرغم جميع هذه الركلات الموجهة من الثلاثي إلي خاصرة الإنجليز، ظلت الصحيفة تعلن، بين فقرة وأخري، ذلك الدعاء: إن إنجلترا لا تزال قادرة علي حمل كأس العالم هذه المرة، والشكر كل الشكر في ذلك .. لسيمون بيروتا!
هناك مثل يتحدث عن قرعاء تفاخر بشعر ابنة اختها، وأنا لم أعرف إلا الآن أن هذه القرعاء هي إنجلترا بجلدها وعظمها.
إن سيمون وانجلترا يلخصان حال الدنيا في إقبالها وإدبارها، ولو كانا يفهمان العربية، لوجهت إلي سيمون الشطر الأول من القول العربي المأثور:
إذا أقبلت .. باض الحمامُ علي الوتدْ.
ولاحتفظت بالشطر الثاني لإنجلترا العتيدة:
وإن أدبرتْ .. بال الحمارُ علي الأسدْ!!
أفلام أصيلة
معظم الأفلام العربية الجيدة - إذا استثنينا منها المأخوذة عن نصوص أصليّة - قد عاشت طول عمرها تقتات فضلات مائدة السينما الغربيّة، والأمريكية منها علي وجه الخصوص. فقد أتيح لي خلال السنوات العشرين الأخيرة أن أشاهد عدداً كبيراً من أفلام الفترة الذهبية لهوليوود، وكثيراً ما انكسرت متعتي تحت وطأة الغيظ حين يذكرني الفيلم الذي أشاهده بأننا سلخناه وقدمناه علي أنه من بنات أفكارنا.
إنني لست في معرض الإحصاء، ولو تطلّب الأمر منّي ذلك لأمكنني أن أشير إلي أفلام عربية كثيرة وشهيرة هي ليست إلاّ تقليداً حرفيّاً لأفلام أمريكية قديمة جداً - ربما لم تشاهدها الغالبية العظمي من جمهور الترسو - لكنني مع ذلك أجد ما يشفع لها تجاوزاً فتقليد الفن هو فن أيضاً، إذ أنّ هوليوود - قبل أن يسيطر عليها المحاسبون، وقبل أن تستهلكها المؤثرات الخاصة وحيل الكمبيوتر - كانت تقدّم أفلاماً توازن بدقة بالغة بين الكفاءة التقنية والحمولة الإنسانية، أمّا الآن، فمن بين أكثر من أربعمائة فيلم تنتجها هوليوود سنوياً، لا تعثر إلاّ علي أفلام تعدّ علي أصابع اليدين، تحمل ذلك التوازن الدقيق بين القدرة التكنولوجية والبعد الإنساني.
ولأننا لا نستطيع مجاراة الإبهار التقني للسينما الأمريكية، فقد وقف جهدنا علي مشارف تقليد التفاهات وحدها، أو اصطناع تفاهاتنا الخاصة التي لا تحتاج إلي جهد كبير، لحسن الحظ، فهي تكاد تكون صفة أصلية فينا!.
العلّة، كما أري، لا تكمن في العوائق المالية أو الرقابية أو التقنية، بل في الزحف المغولي الأهوج علي مواقع الفن الخالص والفنانين المخلصين، وانكفاء الطاقات الأصليّة عن النضال (نعم النضال) لاستنقاذ جوهرة الفن من أيدي الغوغاء، واستسلامها لهذا الدجل الفاقع من أجل إشباع بطونها دون أن تعلم أنّ الموت الحقيقي للفنان يكمن في جوعه إلي الفن أكثر من جوعه إلي الطعام.
لقد تيسّر لي في الفترة الأخيرة أن أشاهد ثلاثة أفلام من أقطار يحكمها فقر الإمكانات التقنية واستبداد الرقابة وندرة الأسواق، لكنها كانت تخفي وراء الصور كنوزاً من المشاعر الإنسانية النبيلة، والنقد الاجتماعي الذي يذبح بريشة النعامة.
الفيلم الأول صيني، عنوانه (معاً) ، كاتب قصته ومخرجه هو تشين كيج، وبرغم قلّة أشخاصه فقد كان ممتلئاً بالحركة. وهو يحكي، عبر ثلاثة رجال وصبي، حكاية عامل بسيط يبذل كلّ جهده وماله من أجل توفير مدرسين أكفاء لولده الموهوب بعزف الكمان. ومع الموسيقي التي لها دور بطولة لا مناص منه، هناك امرأة جميلة أيضاً، لكننا - لبراعة النصّ والإخراج - ننصرف عن وجهها وملابسها الحديثة، لندخل، بفعل موهبة التمثيل العالية، إلي أعماقها ونشهد جمال الروح الأخّاذ.
أمّا الفيلم الثاني فهو إيراني، عنوانه (أين بيت صديقي؟) ، كاتب قصته ومخرجه عباس كيارستمي، وهو يحكي قصّة تلميذ صغير يحاول أن يرجع دفتر زميله الذي نسيه معه في زحمة الخروج من الصف، وهو يعلم أن المدرّس سيعاقبه في اليوم التالي إذا لم يكن قد كتب واجبه المدرسي، وذلك لأنه قد كرّر نسيان دفاتره أكثر من مرّة.
ولأنّ بطل الفيلم لا يعرف عنواناً محدداً لزميله سوي أنّ بيته يقع خلف التلال البعيدة، فإن استغراقه في البحث عن العنوان طول اليوم، يأخذنا معه في رحلة إنسانية رائعة، عمادها الشخصيات المبثوثة في البيت والطرقات والقري النائية. وفي غضون ذلك تعمل مباضع النقد الاجتماعي البنّاء برهافة في الفيلم، فنحسّ بأثرها عميقاً دون أن نراها تسيل دماً. ونخلص إلي حقيقة قالها الفيلم دون أن ينطق بها، وهي أنّ هناك اثنين في المجتمع لا يجدان من يصغي إليهما: الطفل والمرأة.
أما الفيلم الثالث فهو تركي عنوانه (بعيد) ، وكاتب قصته ومخرجه أيضاً هو نوري جيلان .. وجوهر القصّة استقاه المخرج من حياته الشخصية وتجاربه وقراءاته. والعجيب أنّ هناك شخصيتين رئيسيتين فقط، طول الفيلم، غير أن المشاهد، مع ذلك، لا يشعر بالملل. وقصّة الفيلم تدور حول رجل يعيش وحيداً في شقته باسطنبول، حتي يأتيه يوماً شاب من أقاربه في الريف باحثاً عن عمل في العاصمة، فيقيم معه مؤقتاً. وهنا تبدأ العقدة، إذ يقع الرجل في صراع بين شعوره بانتهاك خصوصيته، وبين واجبه في إكرام ضيفه .. وعلي مدار الأيّام التي يقضيها الشاب معه، قبل أن يغادره فجر أحد الأيام تحت وطأة سوء طبعه، نعيش دراسة تشريحية حيّة علي الصعد النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فنكاد نلمس عناصرها بأصابعنا، ونكاد نري جوانب كثيرة من أنفسنا فيها.
الأفلام الثلاثة السالفة كلها لم تعتمد علي أية مؤثرات خاصة، بل اعتمدت علي عين وقلب المخرج، وعدسة آلة التصوير العادية. ولم تعرِّ جسد امرأة لكنها عرّت خفايا النفس الإنسانية ببراعة تامّة، والأكثر من هذا إنها بأجمعها لم تحرق علماً أمريكياً مثلاً، لكنها - وليس عندي أي شكّ - قد أحرقت قلب السينما الأمريكية، لمقدرتها علي صنع فيلم لا يملك مئات الملايين من الدولارات، لكنّه في النهاية ينثر غناه الفنّي الفاحش علي كل الشاشات ويحصد جوائز المهرجانات السينمائية المحترمة، بقرارات نخبة النقّاد، وهي قرارات برغم كونها متطلبة، لا تمنع من أن يكون الفيلم شعبياً ومحققاً لمتعة الناس .. جميع الناس.
يبدو لي أن سبب نجاح تلك الأفلام هو أنّ مخرجيها، الذين كتبوا قصصها أيضاً، هم علي اختلاف ميولهم واتجاهاتهم، ينتمون إلي أمم تشترك في صفة محرّكة كنار المرجل، وهي أنها أمم تقرأ بشراهة، وهذا سبب حيوي لإبقاء جمرة الإبداع متّقدة.
ولأن أمّة (اقرأ) لا تقرأ، وتحلف بالطلاق علي ألاّ تقرأ، فإننا سنظل بحاجة دائمة إلي إحراق المزيد من الأعلام .. والأفلام!.
لا تأكل فيلاً!
منذ أكثر من ألف عام كان العرب يروون القصص، لكنهم يسمونها أخباراً، غير عابئين بتطوير تقنياتها الفنية، فهي في تراكيبها تكاد تكون واحدة، لولا اختلاف الموضوعات. وذلك لأنهم لم يطلبوا من ورائها سوي الطّرافة والغرابة والفكاهة، باعتبارها وسائل الترفيه الوحيدة المتاحة لسواد الناس المضغوطين بين مدينة خانقة يزحمها عسس الخليفة وجباته، وصحراء قاحلة تتحكم فيها غزوات القبائل وهجمات الضواري.
وكانت تلك الأخبار تروي علي أنها أحداث حقيقية وقعت لأشخاص حقيقيين، خاصة ان المصنفين هم رجال أفاضل لا ترقي إليهم شبهة الاختلاق والكذب. والحق أن كثيراً من تلك الحكايات يمكن قبوله علي انه حقائق بالفعل، لكن جانباً كبيراً منها أيضاً لا يمكن لعاقل أن يسلم بصحة وقوعه، وحيث انه لا يمكنه كذلك أن يُكذب صاحب الخبر، فإنه سيحيله إلي الحذق وسعة الخيال .. أي انه سيدخله في دائرة الكذب الجميل الذي نسميه فناً.
غير أن أكذب تلك الحكايات هي تلك التي وردت في الجزء الثالث من (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة)للقاضي المحسّن بن علي التنوخي، وهي مرويّة عن الطبري عن جعفر الخلدي عن أبي اسحاق الخوّاص الصوفي.
ذلك (الخواص الصوفي) يحكي عن رحلة له في البحر مع جماعة من الصوفية فلما أوغلوا في الرحلة تحطمت السفينة، فركب بعض الناجين أخشابها فرمتهم إلي ساحل لا يعلمون أين هو ولا ما هو .. وأقاموا أياماً لا يجدون ما يأكلونه، حتي أدركهم الهلاك، فاجتمعوا لينذروا لله علي انفسهم نذورا إذا أنجاهم وخلصهم من ذلك المكان. فنذر بعضهم أن يصوم الدهر، وقال بعضهم انه سيصلي كل يوم كذا وكذا ركعة، وقال بعضهم سأدع الكذب ما حييت، وهكذا، إلي أن سئل الخواص عما يقول فقال: نذرت لله ألا آكل لحم فيل أبداً.
وعاب عليه الجماعة هزله في مثل هذا الموقف، فقال بصراحة: والله ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم صرت أعرض علي نفسي شيئا أدعه لله عز وجل، فلا تطاوعني نفسي إلي غير هذا الذي تلفظت به، وما قلت إلا ما اعتقدته.
المهم أن الجماعة انتشروا يبحثون عن طعام، فوقعوا - ويا للمصادفة الهندية! - علي فرخ فيل، فاحتالوا فيه حتي ذبحوه وشووه، ووقعوا فيه نهشاً، ودعوا الخواص لمشاركتهم فأبي، متعللاً بأنه قد تركه منذ ساعة لله، ولعل الله قد أراد هلاكه بهذا وهو راض بما قدره البارئ.
فلم يكن إلا ساعة، وإذا بفيل أقبل من الموضع الذي استخرجوا منه الفرخ، وهو ينعر وقد امتلأت الأرض بنعيره وشدة وطأته. وراح ذلك الفيل يتشمم الجماعة واحداً واحداً، ثم يشيل إحدي قوائمه ويضعها علي الرجل حتي يفسخه فإذا علم انه قد مات تركه إلي غيره، وهكذا فعل بالجميع، فلما وصل الدور إلي الخواص تشممه من سائر أعضائه، وبعد وقت من التفحص لفّه بخرطومه ورفعه في الهواء وأقعده علي ظهره، وجعل يهرول ويسرع إلي أن أضاء الفجر، فوقف وأنزله برفق إلي الأرض، ثم تركه وانقلب عائداً في الطريق التي جاء منها.
فلما بعُد الفيل، تأمل الخواص موضعه فإذا هو علي القرب من بلد عظيم من بلدان الهند. فقصده وفاز بالحياة. وعندما روي قصته للناس هناك زعموا له أن الفيل قد سار به في تلك الليلة الواحدة مسيرة عدة أيام!
انتهت الحكاية .. ولنا الآن أن نأتي للنظر في عناصرها العجيبة: إن هذا الخواص الصوفي هو في نظري أكبر خبّاص، فعلي الرغم من صوفيته فان نفسه لم تطاوعه علي نذر العبادة التي هي هواه الطبيعي، ولم يجد في موقفه العصيب من شيء يتركه لربه إذا نجا إلا التعهد بعدم أكل لحم فيل!
أما جماعته - الذين تقربوا إلي الله بأفضل ما يتقرب به العبد - فلم يجدوا لطعامهم إلا ابن الفيل
وأما الفيل الأب - أو الأم - فقد كان من حقه ان يثأر من آكلي ضناه .. لكنه بالغ كثيرا في إكرام ذلك الخواص الخباص. وقد كان يكفيه ان يتركه ليموت في موضعه أو ليجد من رحمة البارئ ما ينزل عليه من السماء دجاجة مشوية .. نظير نذره السخيف.
إن ذلك الفيل المنتقم، تحول في لحظة واحدة من قاتل إلي راهب في إرسالية خيرية، ومن فيل إلي طائرة كونكورد .. وهي معجزات لا سبب لها ولا ضرورة إلا إنقاذ ذلك الخواص البهلوان!
هناك فائدة واحدة يمكن ان نستخلصها من هذه الحكاية المثقلة بالدسم .. وهي تختص بنوع النذر الذي نذره ذلك الصوفي .. إذ حصر كل وعوده لله في امتناعه عن أكل لحم الفيل.
ليت جميع حكامنا المؤبدين وزعماء أحزابنا التوابيت يقتصرون في شعاراتهم ووعودهم لجماهير أمتنا المجيدة علي وعد واحد يتمثل بعدم أكل لحم الفيل. ولأن الأطعمة علي اختلافها، متاحة في الواقع دون لحم الفيل فإننا سنحظي، لأول مرة في التاريخ، بساسة لا يكذبون في وعودهم، أما إذا أراد الله ألا يتوفر طعام سوي لحم الفيل، فإنهم سيموتون جوعاً، وعندئذ سنسعد بالتخلص منهم سلمياً إلي الأبد!
كانت لدينا مواسم للمشمش
قال لي أحد الأصدقاء ضاحكاً، بعد أن قرأ الجزء الخاص برجل السلطة من نص بالمشمش الذي نشر هنا في الأسابيع الماضية:
- الآن عرفت سبب ما أنت فيه من آلام .. إنك تبالغ في أحلامك وآمالك إلي حد السرف المهلك، كمن يطلب قرص الشمس من أجل أن يقلي فوقه بيضة. الدنيا ظلمة دامسة وأنت تريد منها أن تمنحك سراجين اثنين .. العاقل يا صاحبي يطلب عقب شمعة أو حتي عود ثقاب.
قاطعته:
- علي رسلك .. ما ضيرك أو ضير الدنيا من أن أحلم بسيادة الأمور الصحيحة؟
ضحك مجدداً:
- لكنك لا تتذكر أبداً أن هناك حداً أدني للأمور. إنك حتي لم تطلب الحد الأعلي، بل بالغت فتجاوزته إلي طلب ما فوق العادة بأميال .. يا رجل، كيف استطعت أن توقف رئيس الجمهورية وهو عجوز وقور في الطابور الطويل أمام مخزن التموين شأنه شأن عبادالله الآخرين؟ ثم كيف بالغت في تعريضه للسخرية من قبل شاب نزق واقف في الطابور هو أيضاً، ويتبين لنا أنه ابن وزير الداخلية، ومع ذلك فهو لا يعرف رئيس الجمهورية؟! قلت بجد:
- من أين له أن يعرف؟ الشوارع والمكاتب خالية من صور وتماثيل الرئيس، والصحف لا تضيع صفحاتها الأولي في استعراض صورته يومياً، والتلفزيونات لا تخنق أنفاس الفضاء باستقبالاته وتوديعاته .. إنه مجرد موظف. صحيح أن وظيفته كبيرة ومتعبة، لكنها تبقي وظيفة كغيرها من الوظائف، فلماذا يتميز عن بقية الموظفين بجعل صورته قرينة للشمس والقمر؟
إذا كان لابد من ظهور الرئيس فإن أعماله هي التي تملك حق الظهور، وإذا كان لابد أن يتحدث فإن نتائج أعماله هي التي يجب أن تتحدث.
استغرق صديقي في الضحك، ثم أقفل الموضوع قائلاً:
- اسمع .. لقد قلتها أنت، وها أنا أقولها لك: بالمشمش!
قلت علي الفور:
- عسانا علي خير إذن، فلعلك لا تدري أنه كانت لدينا بالفعل مواسم حقيقية للمشمش؟ إنني حين أحلم لست أبالغ في طلب المستحيلات، بل أوسع الأمل في اجتلاب تلك المواسم.
هاك مثلاً هو ليس إلا حبة في مسبحة أمثال: ذات زمان استعماري بغيض، كان لدينا رئيس جعلته منشورات الثوريين أخاً بالرضاعة للشيطان، لكنه مع ذلك كان ينطوي علي كثير من شمائل رئيس الجمهورية الذي ذكرتُه في رجل السلطة.
كان ذلك الرجل ضابطاً كبيراً مشاركاً في الثورة العربية ضد العثمانيين. وعند تأسيس الدولة الحديثة، شارك في هندسة بنائها بحرفنة بالغة، وأثبت أنه رجل دولة من الطراز الأول.
أما علي الصعيد الاجتماعي فقد كان من صفوة أبناء الأصول الرفيعة، وموقعه علي سلم الطبقات كان يقف به علي رتبة الباشا.
وعلي الرغم من خطورةمنصبه، وكثرة أعدائه من اليساريين والقوميين في الداخل والخارج، فقد كان بيت ذلك الرجل ملاصقاً لبيوت الناس العاديين. وكان لا يطيب له أن يأكل لقمته إلا مما تخبزه نساء الجيران، دون أن يقف في بلعومه متذوق فدائي يأكل نصف الرغيف قبله، خوفاً من أن يكون السم معجوناً به لقتل الباشا.
والأطرف من هذا هو أن ذلك الرئيس الخطير كان ينزل من بيته في الصباح، مرتدياً الروب فوق بيجامته، حاملاً زنبيلاً مثل كل الناس البسطاء، ليتجول في السوق ويبتاع احتياجات بيته اليومية، ولا تكاد تميزه أبداً عن غيره من المتسوقين، فليس من أمامه مدرعة، ولا من خلفه قطيع حماية.
رجل علي سجيته، يتزاحم بالمناكب مع الناس ويفاصل الباعة علي أسعار البضائع بلا حرج، ثم يعود إلي بيته ويرتدي ملابس الوظيفة، ويذهب إلي عمله، ليدير شؤون بلد بكامله ببراعة منقطعة النظير.
حسناً .. لقد أسقطت الثورة المباركة عهد ذلك الرجل، لتفتح الباب واسعاً لعهود رهيبة من حكم أولاد الشوارع والشطار والعيارين.
لكنه عندما أحاط به العامة الذين تخصصوا في التمثيل بجثث الموتي بعد استلامها من أيدي الجنود. أخرج مسدسه وأطلق النار علي نفسه بكل شجاعة، فمات بكرامة مثلما عاش بكرامة، وهو الأمر الذي لم تسمح أصول صدام الرجيم ولا تربيته بأن يفعله، فقد قُبض عليه في بالوعة، ورشاشته معه مذخورة لوقت الشدة!
سألني صاحبي وهو بين مصدق ومكذب:
- عمن تتحدث؟!
أجبته بنبرة هادئة وقاطعة ومفعمة بالوجع:
- أتحدث عن صنيعة الاستعمار وربيب الامبريالية العميل الخائن نوري السعيد رئيس وزراء العراق المزمن في العهد الملكي، رحمة الله عليه .. وعلينا.
تحيا مصر
بعد وفاة محمد علي باشا، مؤسس الدولة المصرية الحديثة، توالت علي الحكم من بعده سلسلة من ذريّته.
وعلي الرغم من أنّ النظام كان ملكيّاً وراثياً، فقد تسنَّي للمصريين -وياللعجب- أن يشهدوا خلال أعوام حكم الأسرة فواصل ترفيهية كثيرة تمثّلت في التغييرات السريعة أو متوسطة السرعة لوجوه الحكّام. ولم يكن بقوّة الموت وحدها، ولكن بقوّة العزل أيضاً، ممّا أتاح للأجيال الغاربة المحظوظة أن تتمتّع برؤية حكّام سابقين أحياء، وهو ما لم تحظ الأجيال اللاحقة برؤيته حتّي في الأحلام.
لقد دفعني الفضول الي استطلاع سجّل الحكّام الملكيّين والجمهوريين في مصر، فهالني الفارق الشّاسع بين وقائع الأنظمة الغريبة المستبدّة المتوارثة العميلة للاستعمار، وبين مزاعم الأنظمة الثورية الوطنية المستقلّة المبشّرة بالغد الأفضل، وهو فارق لم يكن علي الإطلاق في صالح الوطنية والاستقلال:
إبراهيم باشا بن محمّد علي: حكم تسعة أشهر فقط .. (مارس 1848 - نوفمبر 1848) .
عبّاس حلمي الأوّل: حكم ست سنوات تقريباً .. (نوفمبر 1848 - يوليو 1854) .
محمّد سعيد باشا: حكم ثماني سنوات وسبعة أشهر .. (يوليو 1854 - يناير 1863) .
الخديوي إسماعيل: حكم خمسة عشر عاماً وستة أشهر .. (يناير 1863 - يونيو 1879) .
الخديوي محمّد توفيق: حكم أحد عشر عاماً وستة أشهر (يونيو 1879 - يناير 1892) .
الخديوي عبّاس حلمي الثاني: حكم إحدي وعشرين سنة وتسعة أشهر .. (يناير 1892 - سبتمبر 1914) .
السلطان حسين كامل: حكم سنتين وعشرة أشهر .. (ديسمبر 1914 - اكتوبر1917) .
الملك فؤاد الأوّل: حكم ثمانية عشر عاماً وستة أشهر .. (أكتوبر 1917 - أبريل 1936) .
الملك فاروق: حكم ستة عشر عاماً وثلاثة أشهر .. (أبريل 1936 - يوليو 1952) .
الملك أحمد فؤاد الثاني: حكم أحد عشر شهراً فقط .. (يوليو 1952 - يونيو 1953) .
أما الحكام الجمهوريون فقد كان سجلهم كالتالي:
محمد نجيب: حكم خسة عشر شهراً، ويمكن اعتبار فترة حكمه القصيرة التي لا تليق بعسكري ثوري، مجرد غلطة مطبعية خارجة عن إرادته وداخله في إرادة قيادة الثورة التي صححتها بأخذ مكانه في المقعد الأبدي حتي الموت من أجل غد مشرق وضاء (في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ أمتنا المجيدة .. التي نسأل الله أن يعافيها من أمجادها، وأن يعافي التاريخ من وجودها كزائدة دودية في خاصرته) .
جمال عبدالناصر: حكم ستة عشر عاماً .. (1954 - 1970) .
أنور السادات: حكم أحد عشر عاماً .. (1970 - 1981) .
حسني مبارك: حكم، حتي الآن، أربعة وعشرين عاماً (أي أكثر من أي حاكم ملكي أو جمهوري سبقه) ولا يزال يحكم، وسيظل يحكم إلي ما شاء الباريء، وإني لأدعو الله مخلصاً أن يمنحه عمر نوح، وأن يرزقه كثيراً من الأحفاد الأصحاء، لكي يواصلوا، بعده وبعد بنيه، حمل شعلة القيادة الحكيمة التي لم يُخلق مثلها في البلاد، حتي يصلوا بها إلي أبواب يوم القيامة، تحقيقاً للافتة المستفزّة التي رفعها صاحب مخزن في القاهرة، والتي تقول: (نعم لمبارك ولابن ابن مبارك) !
ولِمَ لا؟
مَن في البلد أحسن من هذا الولد؟!
أحزاب المعارضة؟
أهي أحزاب (الياميش) و (الفرقع لوز) التي طلعت علينا فجأة من باطن الأرض مثل الفطر، مرتدية الستر الخاكية فوق الجلابيب المخططة كفرق حسب الله، لتشارك في زفة الحزب الحاكم؟!
أم هي تلك الأحزاب الأرضية التي يمكن عد أفرادها علي طريقة جحا في عدّ غنمه، والتي لا تتعدي عدتها: صحيفة تصدر في المناسبات السعيدة، ومقهي يفتح في المناسبات التعيسة؟
أم هي تلك الأحزاب السماوية التي لا علاقة لها بالدنيا، وكل علاقتها بالأرض مستمدة من استنباطها حكمة الحياة من رميم الموتي الغابرين؟
إن تلك الأحزاب كلها، وعلي تنوع جعجعاتها، هي صور مزورة عن صورة السلطة: قادتها مومياءات نسي الأثريون اكتشافها، وأهدافها المغلّفة بطبقة رقيقة من السكر، هي في النهاية استبدادية خالصة تحاول نقل الحكم الأبدي من اليمين إلي اليسار أو إلي الوراء أو إلي أسفل سافلين.
أما الشعب المهمش برغم كونه جوهر المسألة، فيبدو أنه قد استدار بعيداً جداً عن ضجة هذه الكرنفالات الخاوية.
لقد تعود هذا الشعب، دائماً، علي الخروج من المر إلي الأمر منه، ولذلك فإنه لم يعد في طاقته ولا في رغبته أن يراوح أو يصفّق من جديد بين دواليب المرارات.
لا توجد أدلة!
قال الطبيب الشرعي: لم نتوصل حتي الآن إلي دليل واحد علي أن ابنك مات نتيجة التعذيب. تساءل والد الضحية: كيف مات إذن؟
قال الطبيب: هذا ما يحيرني .. المشكلة، يا سيد، هي أن من المستحيل علينا أن نعثر علي أي دليل بغياب الجثة.
تساءل الوالد مذهولاً: لكن الجثة عندكم!
قال الطبيب بلهجة قاطعة: كلا يا سيد .. ليس لدينا سوي الرأس.
صرخ الوالد: أليس هذا دليلاً مؤكداً علي أنه مات تحت التعذيب؟!
قال الطبيب: مَن يدرينا؟ ربما كانت الجثة سليمة .. لو وجدنا جثته لأمكننا بفحصها أن نعرف ما إذا كان قد مات تحت التعذيب أم لا.
صاح الوالد: افحصوا الرأس.
قال الطبيب ببرود علمي خالص: فحصناه يا سيد، لكننا لم نتوصل إلي أية نتيجة. من الصعب جداً أن يظهر فيه أي دليل .. إنه مهشم تماماً.
الشيخ عبد يؤبن!
مات القصاب عبدالباري بن مزبان صبيحة يوم الجمعة الموافق ... الحق أن كل إنسان وكل شيء في منطقتنا موافق حتي الأيام.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان عن عمر يناهز الخامسة والأربعين، قضاه في البر والتقوي، كما يزعم الإعلان المنشور في الجريدة التي أطلعنا عليها المعلم أيوب.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان ولا أحد يدري من دفع ثمن إعلان وفاته، ولا أحد يعلم لماذا أعلنوا عن وفاته. إن بقاء المرء حياً في بلادنا هو وحده الشيء العجيب الموجب لتنبيه الغافلين.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان وترك موته حسرة عظيمة في قلوب عدد كبير من عارفيه ومحبيه، ذلك أن منطقتنا تكاد تكون الأولي بين المناطق في قدرتها علي استيعاب الكلاب السائبة.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان لكي لا يكون له أي دور فاعل في هذه الحكاية، فها هو يظهر فيها ساعة موته .. كأي مشروع حكومي، وها نحن نحتفل بسيرته بعد وفاته .. كأي رجل عظيم. وللمناسبة فإننا لا نجانب الواقع كثيراً، فإن لم يكن عبدالباري من الرجال العظام حقاً، فإن كلاب المنطقة تشهد له بأنه كان من رجال العظام بلا منازع.
مات عبدالباري بن مزبان وإشارة شك كبيرة تدور حول حقيقة انتمائه إلي منطقتنا، فمجرد نظرة عابرة إلي اسمه تؤكد أن جده لم يستشر الشيخ عبد في شأن تسمية أبيه، مثلما تؤكد أن ذلك الجد الذي لا نعرف اسمه لم يكن ذا موهبة في اختيار الأسماء، و لولا ذلك لتغير شيء ما في التاريخ .. شيء ليس مهماً كثيراً، لكنه كان كفيلاً بأن يساعدنا علي قراءة العبارة، مثلاً، علي النحو التالي:
مات القصاب عبدالباري بن لؤي!
وتبقي المسألة، علي أية حالة، مسألة تجميل لا أكثر، فعبدالباري مات، ومزبان لن يستفيد من ذلك التغيير التاريخي قطعاً، لأنه مات قبل عبدالباري بزمن بعيد. أما الشيخ عبد الذي ينبغي أن يموت ذات يوم، فقد عوض وقفته المفترضة عند ميلاد مزبان، بوقفته المؤكدة الآن لتأبين عبدالباري.
أول مظهر للصنعة اقتضي أن يقف الشيخ عبد صامتاً محتقن الوجه، قبل أن يغافل الحاضرين فينسف اسماعهم بصرخة جزع حادة:
- لا ااااا.
واشرأبت الأعناق إليه، فواصل صراخه كالمجنون:
- عبدالباري مات؟ لا ااااا، عبدالباري ما مات.
والتمعت الدموع في حدقتيه الفاغرتين:
- هيهات. مستحيل. لا يمكن. لا أصدق. من قال إنه مات؟ هاه؟ من قال؟ كلا ثم كلا .. عبدالباري ما مات.
لم يكن ما يقوله الشيخ صحيحاً أبداً، لكن كان علي الحاضرين أن يهزوا رؤوسهم مؤمنين علي قوله، تأميماً للكذب المقدس المفترض احترامه في مثل هذه المناسبة الجليلة. غير أن أحداً لا يستطيع التحكم في آلية العطار حميد ذي الأسنان الغاربة، فبعد الصمت العميق الذي أعقب الصرخة العميقة، تطوع العطار بتصحيح المعلومة. قال ببرود تام:
- والله العظيم مات. الطبيب الشرعي أكد ذلك. وإذا لم يكن قد فطس فعلاً فلماذا نحن هنا؟ إذا كنت في شك من الأمر فاسأل زوجته بدرية.
صرخ الشيخ بأعلي ما يستطيع:
- لا اااا .. مثل عبدالباري لا يموت.
قال العطار محتداً:
- بل يموت ويشبع موتاً. يموت ورجله علي رقبته .. لماذا لا يموت؟ يموت غصباً عن الذين خلفوه. هل هو أحسن من الأنبياء؟!.
صرخ الشيخ:
- مستحيل. لا يمكن.
قال العطار بتسليم اليائس:
- حسناً يا شيخ عبد، كما تحب. لكن تولَّ وحدك مهمة إرجاعه الليلة إلي مخدع الزوجية. إن بدرية لن تغفر له ولا لك.
جذبه الحاج عبدالعزيز، وطلب منه أن يسكت، موضحاً له بالإشارة أن هذه ليست ساعة الحقائق.
عندئذ استرسل الشيخ عبد في رثائه:
- يقولون إنك مت يا حبيبنا .. وهل يموت مثلك؟ أنت الورع التقي الطيب الصادق الشريف المحسن، كيف تموت؟!.
ردد الحاضرون ببكائية مفرطة:
- إي والله .. إي والله.
قال الشيخ:
- هب أنك كنت تسكر وتعربد .. وماذا في ذلك؟ الله غفور رحيم. وهل كنت تسكر إلا بسبب العذاب النفسي الذي كنت تعانيه وأنت تري ابتعاد الناس عن دينهم؟ آه وألف آه .. كم كنت تأسي لذنبك، ولا تنجو من سوء الظنون بك حتي وأنت تقوم بالإحسان. أتذكر عندما أوقفك الشرطي ماهود قبل سنتين، وأنت خارج من بيت العاهرات؟ ماذا كنت تعمل هناك يا عبدالباري؟ آه من وساوس الشيطان ومن لؤم الإنسان .. ماذا كان يعتقد الشرطي؟ لكن مصير الحق أن يظهر، وإن الباطل كان زهوقاً. لقداقتنع ماهود بأنك كنت توزع الصدقات هناك فأطلقك واعتذر منك. هل شملته هو أيضاً بصدقاتك يا عبدالباري؟! ألا رحمة الله عليك، كم كنت عطوفاً وكريماً!
ماذا أقول فيك؟ ماذا أقول عنك؟ قالوا، وبئس ما قالوا، إنك كنت تذبح، في بعض الأيام، كلاباً. أشهد. إي والله أشهد .. لكن آه من لؤم البشر، لماذا لم يصدقوك عندما أعلنت أنك تذبحها لإطعام الكلاب المسكينة الضالة التي ليس لها معيل؟ مازال صدي حكمتك يرن في أذني .. كأني أسمع صوتك الآن. هل تذكر؟ هل تذكر؟
اندفع العطار من جديد:
- يذكر ماذا؟ قلنا لك إنه ميت يا شيخ.
صاح الجميع:
- هش.
وواصل الشيخ:
- هل تذكر يوم قلت: الكلاب للكلاب والخراف للخراف؟ أنت وربك يا عبدالباري. إذا أراد الله أن يرحمك فماذا يطلع في أيدينا؟ ربما كنت من الصادقين. نعم يا عزيزنا .. الكلاب للكلاب والخراف للزبائن.
صاح النجار سبتي.
- لا .. لقد قال إن الخراف للخراف.
قاطعه المعلم أيوب:
- كان ابن نكتة.
قلت:
- هذا افتراء. أبوه مزبان لم يكن نكتة .. مزبان القبيح الكئيب كان نكبة.
قال المعلم أيوب:
- لم أقصد هذا.
قلت:
- أدري .. لكنني أنكت ..
وَلولَ الشيخ عبد متوعداً:
- أتنكتون في هذا الموقف العصيب؟ أتنكتون وجثة الميت لم تبرد بعد؟!.
قاطعه العطار متهللاً:
- نشكر الله علي أنك صدقت أخيراً أنه قد مات. لكن من قال إن جثته لم تبرد؟ صدقني .. إنها الآن قالب ثلج. أنا شاهدتهم بعينيَّ هاتين وهم يضعونه في ثلاجة المستشفي.
هز الشيخ يده واستطرد:
- رحمة الله عليك، كم ظلمناك. لقد اتهمناك بسرقة لحاف أم جوني، ولم يخطر في بال أحد منا أنك كنت تنوي تجديده لدي النداف .. آه من لؤم البشر. لك الجنة يا عبد الباري، ولأم جوني العوض في لحافها، ولا أقول فيك إلا كما قال الشاعر:
مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل.
همس المعلم أيوب في أذني ونحن خارجان من مجلس التأبين:
- لقد كانت تلك أروع خطبة تأنيب سمعتها في حياتي!
استطلاعات
نستورد كل شيء من الغرب، وعلي رغم ارتفاع الكلفة وطول الاستعمال، فإننا لا نحسن، إطلاقاً، تنمية أو تطوير أو إصلاح ما نستورده، لكننا نستطيع تخريبه بكل جدارة .. وهل في الدنياة أمة أقدر منا علي التخريب أو علي الاحتفاء بالخراب؟
من ذلك ظاهرة استطلاعات الرأي في وسائل الإعلام العربية.
إن استطلاع الرأي و حده يعد أمراً غريباً في عالم لم يتعود أهله علي أن يُسألوا عن ر أيهم، ولم يملكوا منذ ألف وخمسمائة عام فرصة التفكير وإنتاج الآراء، لكن الأغرب من هذا هو أن مَن يجرون الاستطلاعات - في هذه الحفلة التنكرية- هم في الأغلب أغبياء بالفطرة الطبيعية، أو متغابون بالفطرة الحكومية،. الأمر الذي ينتج عنه ما يحرق قلب الضحك من الحزن، ويجري دموع الحزن من شدة الضحك.
المسألة في هذا الشأن- و في كل شأن- أننا بتقليدنا الأعمي أو المتعامي، نبدو كطفل يلبس حذاء أبيه، فهو في الظاهر يبدو مرتدياً الحذاء، لكن منظره المثير للضحك يقول إن الحذاء هو الذي يرتديه. وأياً كان اللابس، فإن كلاًمنهما يعطل فاعلية الآخر.
مرة قرأت استطلاعاً في جريدة سلطوية، لمناسبة البدء بمفاوضات سلام بين السلطة والمعارضة المتهمة باستنادها إلي دعم غربي. وكان الاستطلاع علي النحو التالي: بمناسبة بدء الحوار بين الحكومة والجبهة الفلانية العميلة، هل تري أن الجبهة: مستندة إلي ضغوط غربية مشبوهة، أم مدفوعة بتكتيك خياني؟
إن الجريدة، بعد أن عبأت القاريء سلفاً بالعداوة للمعارضة، وأبدت رأيها العدواني قبل أن تسأله، وضعته أمام إجابتين هما في الواقع إجابة واحدة، وهي إجابة ستنزل بالمعارضة إلي الحضيض، حتي لو كان المشاركون في الاستطلاع قارئاً واحداً فقط!
وفي صحيفة أخري كان الاستطلاع ثقافياً أنصح القاريء الحصيف أن يغطي دماغه في هذه المناسبة لكي لا يخجل إذا تذكر أننا أمة أميةحتي النخاع، وهو استطلاع يسأل القراء عن أعظم كاتب عربي، لكنه لم يضع لهم للاختيار سوي اسمي كاتبين اثنين فقط فلان .. أم علان؟ .. وهناك خانة يتيمة مرمية بعيداً مثل برميل قمامة، تقول لهم: أم لا أحد منهما؟.
وقد جاءت النتيجة بالطبع: لا أحد منهما.
والسؤال المهم هنا: من الأعظم إذن؟!
إن صيغة الاستطلاع غبية أو متغابية، وهي لا تُحمد في الحالتين، ووجودها مثل عدمها تماماً، إذ لم تستفد الصحيفة ولم يستفد القاريء ولم تستفد الثقافة .. فعلام كان الاستطلاع؟!
وحتي لو أن الصحيفة تركت الأمر مشاعاً ليختار كل قاريء الكاتب الذي يراه عظيماً، فإن استطلاعاً كهذا أبعد ما يكون عن الثقافة وأقرب ما يكون إلي لعبة اللوتو. إذ ماذا تستفيد الثقافة إذا اختار سبعة من اثني عشر قارئاً، كاتباً ما واعتبروه الأعظم؟
وفي الصحيفة نفسها ظهر استطلاع جديد فرضته سطوة الإرهاب، وهو برغم ما يوحيه موضوعه من رعب، صالح لأن يُؤتي من بلاد بعيدة ليُضحك ربات الحداد البواكيا كما قال المتنبي.
يقول الاستطلاع: هل تعتبر الإرهاب عملاً سيئاً إذا: وقع عليك .. أم إذا وقع علي غيرك؟
إن هذا هو أغبي استطلاع رأيته في حياتي، ولو لم أكن موقناً بأن الصحيفة ضد الإرهابيين لقر في يقيني أن الذهنية المنتجة له هي ذهنية إرهابي خالص.
مثل هذا الأمر، وبصيغته الآنفة، لا يُسأل عنه عامة الناس، لأن الغالبية العظمي منهم هي علي فطرتها السوية، وهم بأغلبيتهم يرفضون الارهاب جملة وتفصيلاً، سواء أوقع عليهم أم و قع علي غيرهم، وأن اختيارهم لأحد الجوابين لا يتيح لهم أبداً أن يكونوا بشراً أسوياء، فهم إما أن يكونوا أدنياء أنانيين، وإما أن يكونوا متوحشين كارهين لحياتهم.
ولو أن الصحيفة طلبت رأيي، لنصحتها بتوجيه ذلك السؤال إلي مكائن فتاوي الإرهاب وحدهم .. لأن واقع الحال قد أرانا من قبيح أفعالهم ما ينم عن بهجتهم للاختيار بين السيئين.
ومن نماذج هؤلاء واحد دعاه انفجار بعض أصابع الألعاب النارية في بلده إلي تركيب مكبر صوت لحنجرته المكبرة أصلاً، من أجل تصعيد استنكاره للسماء السابعة، لكن سقوط عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين الأبرياء ضحايا للتفجيرات الحقيقية التي يقوم بها مجرمون حقيقيون، لم يحرك شعرة واحدة من هدبه!
وواحد آخر جرف مئات الشبان الأغرار في غفلة من ذويهم، لكي يقتلوا الأبرياء في العراق ويقتلوا أنفسهم، لكنه ما أن سمع أن ولده سيذهب في ركابهم- وكان الولد يمزح- حتي رمي دفتر فتاواه، وركض نحو رجال أمن بلاده لاهثاً، متوسلاً إليهم أن يعتقلوا الولد العاق الذي يريد أن يثكله بارتكاب الجهاد في سبيل الله.
مثل هذا الاستطلاع يجب أن يوجه إلي أمثال هؤلاء وحدهم فقط .. فالسؤال الوحشي المتلفح بثوب الاستطلاع لا يليق إلا بالوحوش المتسترة بثوب الدين.
ولعل الاستطلاع الأمثل الذي يليق بالقاريء السوي، والذي ينسجم مع نمط الاستطلاعات العربية، هو التالي:
هل تري أن الإعلام العربي الدميم اللئيم المستعير من الببغاء تقليده للأصوات، ومن القرد تقليده للحركات: كذاب .. أم مزيف للحقائق .. أم كلاهما؟!
أين هي القِربة؟!
المؤتمر القطري العاثر للحزب القائد بلا توقف نحو الهاوية، أعلن عن توقفه الاضطراري عند محطة التغيير، بعد رحلة استغرقت أكثر من أربعين عاماً علي طريق الصمود والتصدي.
وفي هذه المناسبة التاريخية، بشرنا بأنه قد أعطي الركاب كامل الحرية في أن يتزودوا من المكاسب التي طال انتظارهم للحصول عليها، وعلي رأسها: دخول قفص الزوجية، ودخول ساحة المدرسة، ودخول صالون الحلاقة .. دون حاجة إلي الخروج من الدنيا إذا لم يستأذنوا المخابرات قبل ذلك!
كل من تابع الأخبار وغص بها يعلم أنني لا أسخر، بل أنقل القرارات الجادة التي تمخط عنها المؤتمر، كما هي. وهو أمر يعني أن الحزب القائد قد تغير فعلاً، فها هو، لأول مرة في تاريخه المجيد، يسخر من نفسه علناً نيابة عن جميع الساخرين!
ومثلما مارس، قبل التغيير، نظرية خميس كمش خشم حبش فأغلق صحيفة الدومري، ها هو الآن، وبكل شجاعة، يمارس بالعكس منها نظرية حبش كمش خشم خميس فيغلق صحيفة المبكي!
وربما يتبادر إلي ظن ذوي النيات الحسنة أن الحزب القائد لا يحب أن يبكي الناس في محطة التغيير الزاهرة، وأنه قد عزم جدياً علي السماح للركاب بأن يتزودوا حتي من الضحك دون إذن المخابرات .. لكن هذا ظن كله
إثم، فقد علمنا أن أخاه شهاب الدين القائد الأبدي في الناحية الأخري، قد أغلق من قبل صحيفة أضحك للدنيا، مما يعني أن الضحك في جميع أدبيات الإصلاحات الداخلية الشفافة هو عيب وقلة أدب .. لسبب أو لغير سبب.
وعليه فلماذا ينزعج الحزب ممن يساعده علي إبكاء الناس تطوعاً لوجه الله و علي حسابه الخاص؟
الجواب علي ذلك، كما أعتقد، متضمن في السؤال نفسه .. وهو أن المبكي قاتله الله، قد انتحل، مع سبق الإصرار صفة هي من صلب اختصاص الحزب القائد وحده لا شريك له!
كل هذا وصاحبي الطيب يعاتبني قائلاً: كُفّ عما أنت فيه. إنها أمة موات، و أنت يا صاحبي تنفخ في قربة مثقوبة.
أية قربة مثقوبة؟!
لقد ذابت منذ زمان بعيد .. وأنا، الآن، إنما أنفخ في ثقبها الذي لم يبق منها سواه!
أرزقنا مقاومة غير شريفة!
أحمد مطر عندما استُخرج صدام من الكنيف الذي كان يختبئ فيه، جري وصف حفرته في التقارير الإعلامية بأنها (حفرة العنكبوت) . وعلي الرغم مما يحمله هذا الوصف من تحقير للقائد الضرورة، فإن بعض مؤرخي الحروب قد احتجوا علي تحقير الحفرة بإقرانها بذلك الجبان، وقالوا إنّ تعبير (حفرة العنكبوت) قد برز خلال حرب فيتنام، وقد كانت الحفرة عبارة عن كمين ضيق يختبئ فيه مقاتل فيتنامي شجاع، ليباغت الجنود الأمريكيين فيطلق النار عليهم ثم يلقي مصرعه. أي أن الحفرة جزء من ميدان معركة يقيم فيها جندي انتحاري لمواجهة جنود معتدين. وذلك منتهي الشرف للمقاتل وللحفرة، وهو ما لم يكن متحققاً إطلاقاً في حالة (سيف العرب) !.
وفي أعقاب تلك الاحتجاجات، تصاعدت أصوات علماء الحشرات دفاعاً عن كرامة العنكبوت، فقالوا إن أهم ما تمتاز به حفرة العنكبوت هو انها بالغة النظافة، وهو ما لم يكن متحققا في حفرة صدام، فهي قذرة أصلاً، وهي أكثر قذارة لوجوده فيها!
نحن الآن في مأزق جديد - وهذه ال نحن عائدة إلي العربان المترعين بالمقاومة الشريفة علي طريقة الفاضلتين حسنة ملص وزهرة الطويلة! (مع استبعاد المحامية بشري وجوقتها المشغولين بالنضال علي جبهة تنظيف سجل القائد الأسود، وهي مقاومة من نوع يصعب علي الكلمات وصفه!) - فها هي وكالة الانباء الفرنسية تطرح تقريراً من اليابان يبدي فيه الأحياء اليابانيون من انتحاريي الحرب العالمية الثانية (الكاميكاز) احتجاجهم الشديد وشعورهم بالإهانة وغضبهم العارم، لتلويث مبادئهم القتالية بتشبيههم بالانتحاريين السفلة الذين يستهدفون المدنيين الأبرياء في العراق خصوصاً وفي غيره من الأقطار عموماً، بدعوي كونهم مقاومة ضد قوات الاحتلال!
الكاميكاز (هيروشي شينجو) ، البالغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، والذي انتهت الحرب قبل أن ينفذ مهمته الانتحارية، يعبر عن غضبه في هذا الصدد قائلاً: انني أشعر بالإهانة عندما توصف مهماتنا وكأنها شيء يشبه الاعتداءات الانتحارية التي تنفذ باسم الإسلام .. إن ما قمنا به كان في غمار الحرب، وكنا مقاتلين في مواجهة مقاتلين، أما ما يقوم به هؤلاء المتشددون فهو هجمات عمياء ترمي إلي قتل الأبرياء!.
أما نظيره (شيغي يوشي) البالغ من العمر واحداً وثمانين عاماً فيقول لا يحق لأحد أن يقتل الأبرياء، وخصوصاً الأطفال .. والفرق هائل بين ما كنا نفعله وما يفعله الإرهابيون في هذه الأيام، ذلك أن مهماتنا قد انتهت مع انتهاء الحرب، لكن الإرهاب لا نهاية له.
مشكلة اليابانيين انهم لا يعرفون لغتنا، ولم يدرسوا في عشرات الآلاف من المدارس (الدينية) في باكستان، ولم يتمولوا من الفكر المظلم كأقرانهم هؤلاء مصحوباً بمليارات الدولارات المنزوعة من جلود الفقراء المضطهدين في (سفينة الصحراء البرمائية) . ولو كانوا كذلك لاستطاعوا ببساطة أن يعرفوا طريقتنا العجيبة في تشطير معاني المفردات وتحويلها - بعمامة ولحية ساحر - إلي تشكيلة واسعة من الألوان السوداء. إذ يصبح الشرف قريناًَ للجبن والجريمة، و الأمن دائرة لفنون التعذيب، و التنمية تأميماً للجوع، و الإصلاح تأبيداً للحاكم، وحيث تصبح الديمقراطية بلفظها الأصلي Democracy - حسب تفسير عميد الحكماء - ديمومة الجلوس علي الكراسي .. وهلم جرا وزحفاً وانبطاحاً.
قرأت قبل عامين خبراً عن رجل ياباني يعمل دفاناً للموتي، كان قد التقط مضرباً للغولف وانهال به ضرباً علي رأس عمته حتي ماتت .. وعند القبض عليه أفاد بأنه قد فعل ذلك لأنه كان بحاجة إلي عمل!
مسكين هذا الدّفان، لأنه ياباني من سلالة (الساموراي) الذين يعتبر الشرف عندهم كعود الكبريت لا كولاعة كارتيير مثلما هو عندنا، وإلا لحظي بدعاء مكائن الفتاوي في طول و عرض البلاد العربية، وبتصفيق فضائيات ريّا وسكينة، وبتطبيل مرتادي أحزاب العصر الحجري، لأن ما فعله - بقياسات كل هؤلاء - لا يمكن أن يوصف إلا بكونه (مقاومة شريفة) !
الرّجل الموسوعة!
بعد تخرّجه في الجامعة، عمل الأمريكي (أي. جي. جيكوب) محرّراً في مجلّة فنيّة تعني بشؤون السينما والتليفزيون والموسيقي. وعلي مرّ السنوات اكتظّ ذهنه بكلّ شاردة وواردة من أخبار الفنانين والفنّانات، إلي حدّ دعاه إلي التوقّف ومساءلة نفسه عمّا آل إليه من طالب مثقّف وذكي إلي مجرّد كيس ممتليء بالقَش.
وإذ تنبّه، وهو في منتصف الثلاثينات، إلي أنّه بات يعرف عن (هومر سيمبسون) بطل المسلسل الكارتوني الشهير أكثر ممّا يعرف عن (هومر) الشاعر الأغريقي المعروف، أدرك أنّه ماض إلي وهدة الجهل المطلق.
وعند هذه النقطة قرّر بحسم أن يشرع بعملية تنظيف لدماغه من تفاهات عمله، وأن يعيد تأثيثه بأكبر قدر من الحقائق والمعلومات في هذا العالم.
ماذا فعل؟
قرّر أن يقرأ (دائرة المعارف البريطانية) كلّها من الألف إلي الياء!
وبعناد عجيب أمكنه، فعلاً، أن يختمها في غضون عام واحد .. أي أنّه، في هذه المدّة، قرأ بعناية وتركيز اثنين وثلاثين مجلّداً، تضمّ ثلاثة وثلاثين ألف صفحة، وخمسة وستين ألف مادّة، وأربعة وعشرين ألف لوحة، وأربعة وأربعين مليون كلمة!
ولمّا كانت الأمم المتّحدة قد عرّفت (الكتاب) بكونه النَصّ الذي يتألف من تسعة وأربعين صفحة علي الأقل، فإنّ (جيكوب) وفقاً لهذا التعريف قد قرأ 673 كتاباً في ذلك العام، أي بواقع كتابين تقريباً في اليوم الواحد!
عن تجربته المدهشة هذه، ألّف (جيكوب) كتاباً بعنوان (العارف بكلّ شيء) ذيّله بعنوان فرعي يقول: (مطلب متواضع لرجل يريد أن يكون أذكي شخص في العالم) .
وكما يوحي عنوان الكتاب الذي صدر هذا العام، فقد تضمّن قدراً كبيراً من المعلومات المدهشة التي ستجعله، دون شك، واحداً من أكثر الكتب مبيعاً، وتقدّم لنا مؤلفه كاتباً جديداً من نمط (بيل برايسون) صاحب الكتب
الغرائبية المشهورة مثل (صنع في أمريكا) و (تاريخ كلّ شيء تقريباً) .. لكنّ روح الفكاهة والسخرية التي عرض بها قصّته وعلّق بها علي المعلومات التي أوردها في الكتاب، تكشف -بعيداً عن المعارف المكتسبة- عن موهبة (جيكوب) الأصيلة والعالية في ميدان الكتابة الساخرة.
علي مرّ صفحات الكتاب يسخر (جيكوب) من كلّ شيء ومن كلّ شخص، وبخاصة من نفسه، حيث ينبئنا بأنّه منذ بدئه بقراءة مادة الحرف الأوّل من (الإنسيكلوبيديا) ، صار يغتنم أيّة فرصة للمباهاة بمعلوماته، وإذا لم يجد مثل هذه الفرصة فإنّه يخترعها. وهو إذ يروي لنا قصص انتصاراته في بعض المناسبات، لا يتورّع عن ذكر انتكاساته وخيباته وهزائمه المذلّة في مناسبات أخري.
وفي هذا السياق نعلم أنّ (جيكوب) ليس نسيج وحده في الغرائبية، فهناك أبوه المهندس المتقاعد الذي ألّف سبعة وعشرين كتاباً في مجال اختصاصه، وهي كلّها تمتاز بأنّ المتن فيها لا يتعدّي ربع الصفحة، فيما يلتهم الهامش ثلاثة أرباعها، الأمر الذي يستغرب معه (جيكوب) من عدم دخول كتب أبيه موسوعة (غينيس)للأرقام القياسية، باعتبارها الكتب ذات الهوامش الأطول في التاريخ! وهناك أيضاً ابن أخته (دوغلاس) الذي لا يتعدّي الحادية عشرة من عمره، والذي يحتفظ في جيبه دائماً بكتيّب لشوارد القواعد اللغوية، بحيث يقف في بلعوم أيّ شخص وفي أيّة مناسبة، مصحّحاً له العبارات الخارجة عن القواعد، ولم تنج من تصحيحاته حتي أستاذته في المدرسة!
وبين هذين القوسين (الأب وابن الأخت) كثيراً ما وقع (جيكوب) في حرج الهزيمة من غير احتساب، برغم تدرّعه بكلّ معلومات الدّنيا!
ففي إحدي الجلسات العائلية التي حضرها هذا (الولد النحو) حاول (جيكوب) أن يقوم بضربة استباقية، تلجم ابن أخته عن أيّ هجوم، فقال إنّ ( gh) في كلمة ( Light) في الإنجليزية القديمة لم تكن صامتة، بل كانت تنطق، وما زال بعض أهالي اسكتلندا ينطقونها ( Licht) .
غير أنّ أحداً من الجالسين لم يُبد دهشة من هذه المعلومة، وخاصّة ابن الأخت الذي انبري لسؤال خاله:
- ما أطول كلمة في اللّغة الإنجليزية؟
ابتهج (جيكوب) بهذا السؤال، وأجاب بسرعة:
- إنها ( Smiles) .. ذلك لأنّ هناك ( Mile) أي (ميل) بين الحرفين الأول والأخير.
لكنّ (دوغلاس) لم يتراجع أمام هذه الإجابة الذكّية، بل قال متململاً:
- ما رأيك بهذه الكلمة؟
وتهجّي له كلمة من خمسة وأربعين حرفاً، مع أنّ من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل نطقها.
ثم شرحها قائلاً إنّها اسم المرض الذي يسبّبه غبار ثاني أكسيد السليكون الناشيء عن انفجار البراكين!
وعلي ذلك علّق (جيكوب) بأنّ المعركة انتهت في بدايتها، وهو يعني أنّه انهزم هزيمة ساحقة.
وفي أحد الأعياد، التأم شمل العائلة في بيت أبوي (جيكوب) ، وكان من بين الحاضرين أخته وزوجها (بيريل)الذي يطابق اسمه اسم أحد الأحجار الكريمة.
وعند تبادل الهدايا، قدّم (جيكوب) هدية لزوج أخته مرفقة ببطاقة كتب فيها: (إلي عزيزي: ( Be3 Al2 (sio3) 6.
وعندما قرأها الرّجل تساءل: أهذه البطاقة لي؟! أجاب (جيكوب) مزهواً: نعم .. والمكتوب فيها هو الرّمز الكيمياوي لحجر البيريل الكريم!
ثمّ واصل قائلاً: إنّ واحدة من أكبر قطع هذا المعدن النفّيس وجدت في البرازيل، وكان وزنها مئتي طن .. وعلي هذا فإنَك بالمقارنة معها .. مجرّد شيء ضئيل جدّاً! ولم يكد (جيكوب) يستكمل ارتشاف حلاوة زهوه بمعلوماته، حتّي عاجله أبوه قائلاً:
- عندي لك معلومة جيّدة .. أنت تعرف سرعة الضوء، أليس كذلك؟
أجاب (جيكوب) بلا تردد:
- نعم .. إنها 186 ألف ميل في الثانية.
لكنّ أباه قاطعه: نعم هذا صحيح. لكن هل تعرف كم سرعة الضوء بالقامة في مدّة نصف شهر؟
وقبل أن يخرج (جيكوب) من ذهوله أخبره أبوه بأنه قد حسب هذه السرعة بالقامة في هذه المدّة، وعلي هذا فإنّه يعتبر نفسه الشخص الوحيد في العالم الذي يعرف هذه المعلومة.
ثمّ حدّدها له قائلاً: (إنّها: (1.98 x1014!
لقد تقبّل (جيكوب) هذه النكبة صاغراً، متذرّعاً بما تفرضه روح السّماحة في الأعياد المقدّسة!
ولعلّه أراد بذلك أن يقول لنا بأنّ الحقائق والمعلومات أضخم من أن تستوعبها أكبر دائرة للمعارف، وأنّ المرء مهما تدرّع بالعلم، يظلّ بحاجة إلي التعلّم دائماً.
ليست ضخامة المعلومات هي كلّ شيء في الحياة، بل العبرة تكمن في الاستفادة بأيّ قدر منها عند وضعه في المكان المناسب.
وربّما أمكننا استخلاص هذه الحكمة من المعلومة التالية التي وردت في الكتاب:
إنَ أكبر جرس في العالم قد تمّ بناؤه في موسكو عام،1733 ويقدَر وزنه بحوالي مئتي ألف كيلوغرام.
لكنّ ذلك الجرس لم تصدر عنه حتي رنّة واحدة .. فقد تكسّر، خلال صنعه، بفعل حرارة النّار!
كلّ تلك الجهود والتكاليف والتخطيطات والآمال، تحوّلت في لحظة إلي لا شيء .. وغدت مجرّد كومة من السكراب تنتصب في روسيا كرمز للفشل.
إنّ ذلك الجرس الضخم بقي مجرّد عملاق كسيح وأخرس، لكنّ الرّشاقة وفصاحة (الرّنين) كانتا من نصيب الأجراس الأصغر.
ألا تقول لنا هذه الحكاية شيئاً
منهج في الانتحال!
في روايته الغريبة والممتعة (أوبابا كواك) يمارس الكاتب الباسكي المشاغب (برناردو أتشاغا) هواية اقتطاف القصص من حقول الآخرين، مُستخدماً ما يقطفه عضاداتٍ لحبكته، معتذراً في أثناء ذلك بأنّ تلك القصص المقتطفة هي نفسها منتحلة في الأصل أيضاً، حيث يري أنّ الحكايات تتكاثر بالانتحال، وأنّ وجود المنتحلين المبدعين هو سبب غزارة القصص علي مرّ الأزمان .. والأعجب من هذا أنّه لا يتورّع، في هذا السبيل، عن تخصيص فصل كامل يؤسّس فيه أحد شخوص الرواية (منهجاً في الانتحال) .. فلا يعود الانتحال عند ذلك أمراً مشروعاً فقط، بل ينتصب كعلم له قواعده وأصوله!
إنّ ما يقصده (أتشاغا) بالانتحال هو ليس المفهوم المستقر في أذهاننا كمعادل للسطو الفاقع والوقح، بل هو البناء علي الأصل وتوجيهه وجهة أخري مختلفة تماماً، وهو في النهاية أمر لا ينجح فيه إلاّ مبدع حقيقي.
ومن أمثلة ما يرد في هذا السّياق قصّة (الخادم والتاجر الثري) .. وهي القصّة التي كثر مُتبنّوها حتي لم يعد أحد يعرف أباها الأصلي. فالإيرانيون يروونها علي أنّها حكمة فارسية، والهنود يتداولونها باعتبارها تراثاً هندياً، وهي بالطبع قصّة عربية أصلية بالنسبة لنا نحن العرب. وبرغم الانتحال الفجّ الذي لايغيّر سوي أسماء الأماكن والأشخاص، فإنّ القصّة بكلّ هوّياتها القومية، تبقي ممتعة ومؤثرة، لارتكازها علي فكرة (استحالة فرار الإنسان من قدره) .
تقول القصّة:
(كان يا ما كان، في مدينة بغداد، خادم يعمل في خدمة تاجر غني. وفي أحد الأيّام توجّه الخادم منذ الصباح الباكر إلي السّوق لشراء لوازم البيت. ولكنّ ذلك الصباح لم يكن مثل غيره من الصباحات الأخري، لأنّه رأي في ذلك الصباح الموت، ولأنّ الموت أومأ إليه، فقد رجع الخادم مذعوراً إلي بيت التاجر وقال له:
- سيّدي، أعطني أسرع حصان في البيت. أريد أن أبتعد عن بغداد هذه اللّيلة. أريد الذّهاب إلي مدينة أصفهان البعيدة.
- ولماذا تريد الهرب؟
- لأنّي رأيت الموت في السّوق وأومأ لي متوعّداً.
أشفق التاجر عليه وأعطاه الحصان، فانطلق الخادم آملاً في الوصول إلي أصفهان في الليل.
وفي المساء خرج التاجر نفسه إلي السوق، ورأي الموت هو أيضاً، فقال له وهو يدنو منه:
- أيّها الموت .. لماذا أومأت إلي خادمي متوعّداً؟
فردّ عليه الموت:
- أتقول إنّي أومأت متوعّداً؟ لا، لم تكن إيماءة توعّد، وإنما إيماءة استغراب ودهشة، فقد فوجئت برؤيته هنا، بعيداً عن أصفهان، لأنّه يتوجّب عليّ أن أقبض روح خادمك هذه الليلة في أصفهان)!
هكذا تنتهي القصّة بجميع أزيائها وألسنتها، غير أنّ بطل رواية أتشاغا المؤمن بضرورة أن يكون المنتحل مبدعاً، يبدو غير مؤمن علي الإطلاق بقدرية القصّة، فهو يراها قدرّية لا ترحم، بتصويرها الحياة مثل رمية (نرد) ، وكأنها تريد أن تقول بأنّ مصير المرء محسوم منذ الولادة، وأنّ إرادته لا تفيد في شيء.
وبناءً علي هذا فإنّه لم يقتنع بأنّ نهاية القصّة هي النهاية الوحيدة الممكنة.
ماذا فعل ذلك البطل (أو أتشاغا .. بالأحري) ؟
لم يفعل سوي أن يثني القصّة من طرفها ثنية صغيرة، فكان أن انتحلها بجدارة وجعلها قصّة أخري، إذ بدلاً من أن يكون القدر ماحقاً، أصبح من الممكن أن تتدخّل إرادة الإنسان في تغييره. وشتّان ما بين نهاية أبوابها مؤدية للاستسلام لقبضة الموت، ونهاية أبوابها مفتوحة علي أشواق الحياة.
في الثنية الصغيرة نري أنّ الخادم يصل إلي أصفهان، وهناك يخبّئه رجل في دكانه قائلاً له:
- لا تيأس .. إذا استطعت البقاء حيّاً حتي شروق الشمس فسوف تنجو. إذا كان الموت قد صمّم علي أخذك هذه الليلة ولم يتوصّل إلي تحقيق هدفه، فإنّه لن يستطيع ذلك مطلقاً. هذا هو القانون.
شَمَّ الموت آلاف الرّوائح، وفي الحال اكتشف مخبأ الخادم، ففتح باب الدكّان بالقوّة .. لكنّ الدهشة ملأت عينيه، لأنّه رأي أكثر من عشرة خدم يشبهون ذلك الذي يبحث عنه!
كانت أولي خيوط الشمس قد بدأت تلمع، ولم يبق أمام الموت وقت للاستقصاء، فقبض علي واحد من أولئك الخدم وخرج إلي الشارع.
وفي الصّباح نعلم أنّ الموت لم يحمل معه عند خروجه سوي (مرآة) ، وذلك لأنّ مخبأ الخادم كان دكّاناً للمرايا، وأنّ صورته كانت منطبعة عليها كلّها.
قبض الموت علي المرآة .. ونجا الخادم!
ها هو ذا باسكيّ عفريت قد وَلَّدَ لنا من رحم القصّة الحبلي المتعسّرة قصّة جديدة. وهو ما كان له أن يفعل ذلك لولا أنه منتحل حقيقي .. منتحل عظيم الموهبة.
المسيسبّي!
تقدّمت إلي الامتحان ولم أنجح.
صبرت حتّي نما شاربي فسوّيته بالمقصّ، ثمّ بعت المقصّ ومكواة الفحم لقاء مبلغ زهيد اشتريت به من محلّ الخردة نفسه قميصاً رثّاً تنبيء رائحته عن أنّ كميّة النفثالين فيه أكبر كثيراً من كميّة خيوط القطن.
كان البرد قارساً في الخارج، فحرصت قبل مغادرة المحلّ علي ارتداء القميص ذي النفحة التّاريخية فوق قميصي الميّت. ثمّ انطلقت إلي الشركة للمرّة الثانية.
قال لي الموظّف البدين:
- لقد جئت إلينا قبل هذا، وفشلت في المقابلة.
قلت له بحدّة مؤدّبة:
- أنت مخطيء يا سيّد. لم يسبق لي أن وطئت عتبة شركتكم الموقرة أبداً. ألا تري شاربي وقميصي؟
قال باسماً:
- أراهما بالطبع .. وفي المرّة
السابقة أيضاً رأيت قميصك ولو جئت ألف مرّة لأمكنني أن أري قميصك. النّاس لا يأتون إلينا عراة.
استبدّ بي غيظ مسعور، وأنا أشهد بأمّ عيني ضياع كلّ ما تكلّفته من أجل إتقان التزوير.
بادلته ابتسامة باهتة، ونهرته بلهجة مستجدية:
- يا سبحان اللّه! إنني لم أشترِ هذا القميص إلاّ اليوم.
كيف أمكنك أن تري ما في الغيب؟ انظر، انظر، إنّه. قاطعني قائلاً ببرود:
- لم أكن أقصد هذا.
هجمت عليه ثانية:
- دَقّقْ في وجهي يا سيّد. دقّق جيّداً ..
لا تقل لي إنّك قد رأيت هذا الشّارب من قبل أيضاً.
حدّق بي، ثمّ ما لبث أن انقلب علي ظهره في الكرسيّ الدوّار، ومَدّ إصبعه نحو شاربي، وهو يقهقه:
- أتظنّ أنّ عصارة تمر الهند هذه كافية لتغيير خلقتك؟!
ثمّ اعتدل، وجذب أنفاسه، وربّت علي كتفي مواسياً، ومَدّ يده نحو سمّاعه الهاتف قائلاً:
- انتظر لحظة .. ربما كان بمستطاعي أن أجد لك فرصة جديدة.
أدار القرص، وتحدّث هامساً، ثم أقفل الخطّ، والتفت إليّ ووجهه طافح بالبشاشة:
- لقد أعطاك الأستاذ فرصة .. هل أنت مستعد؟
ابتسمت ممتنّاً:
- ولماذا تظنّني جئت؟
طلب منّي أن أجلس علي كرسيّ قبالته، ثمّ سألني:
- ما طول نهر المسيسبّي؟
شعرت كأننّي تلقّيت صفعة عنيفة، فلم أملك إلاّ أن أصرخ به محتجّاً:
- ماذا تريدون أن تصنعوا بالمسيسبّي؟! ماذا يفيدكم إذا كان طوله مليون ميل أو أربعة أشبار؟
لقد سُئلت هذا السؤال عندما كنت حليق الشارب، وقلت لا أعرف .. فأيّ ضرر سيحيق بشركتكم إذا لم أعرف؟ أنتم تبيعون أدوات كهربائية لا أكثر، وأنا أطلب وظيفة فرّاش لا أكثر .. وحتّي لو كنتم تريدون منّي تحضير الشاي بماء المسيسبّي فإنّ تقدير طوله لن يشكّل أيّة عقبة .. يمكنكم أن تسحبوا المياه من أيّة نقطة فيه ..
قاطعني محتّداً وهو يكفكف رُشاش كلماتي بيديه:
- رجاءً، رجاءً، رجاءً .. إننّي أتّبع قواعد الشركة. أجب عن السؤال أو اترك الفرصة لغيرك. هل تعرف ما طول المسيسبّي؟
قلت مسلّماً بالفشل:
- لا أعرف.
قال بلطف:
- انتهت المقابلة.
في اللحظة ذاتها نزل من الطابق الأعلي شاب أنيق، بدا لي أننّي رأيته من قبل. وفيما هو يتقدّم نحونا، أعملت ذهني بضراوة، وسرعان ما تذكّرته .. لقد كان أغبي تلميذ في صفّنا الابتدائي.
وبسرعة ومضت في ذهني واقعة إجابته في امتحان التّاريخ عن سؤال يتعلّق بجيوش الحلفاء، إذ كان الوحيد من بيننا الذي انفرد بالقول إنّ الحلفاء الرّاشدين أربعة، وعدّد أسماءهم بكل دقة! وجدتني أندفع نحوه مأخوذاً بمفاجأة لقائه، وابتسمت وأنا أبسط ذراعيّ إليه تهيئة لاحتضانه.
- عدنان؟!
ارتدّ خطوة كالجافل، فيما هبّ الموظّف البدين قائماً، ورفع يده إلي رأسه بالتحّية، وقد ملأ الذّعر وجهه.
سدّد عدنان إليّ نظرة استنكار، وقال باقتضاب:
- نعم؟
- أنا ماجد .. ألا تذكرني؟
اغتصب من نفسه ردّاً كالصّدقة:
- آسف .. لا أتذكرّ.
ألحفت وقد شعرت بالمهانة:
- مدرسة الأشبال .. ألا تذكر؟!
قطع الموضوع بكلمة باردة كالثلج:
- المعذرة. لا أعتقد أنني رأيتك من قبل.
تطوّع الموظّف لاستنقاذه من براثن إلحاحي:
- كُفَّ عن مضايقة الأستاذ .. الأستاذ لا يعرفك، وقد أعطاك فرصة ثانية ولم تنجح. توكّل علي اللّه.
الأستاذ؟!
صعقت لما قاله الموظّف، وأحسست بالأرض تميد من تحتي. لكنني اجتهدت ما وسعتني الطّاقة أن أحتفظ بتوازني، ووجدتني أنقضّ عليه انقضاضاً. جذبته من جانبي سترته ورحت أهزه بعنف:
- أنا ماجد الشاوي يا أستاذ عدنان .. ماجد الذي لم ينجح بالفرصة. كيف لا تتذكّرني؟ قاتل اللّه النسيان. يبدو أنّ آفته اللئيمة قد أكلتك تماماً فلم تعد تذكر حتّي الحلفاء الرّاشدين!
تداعي الموظفون والسعاة، فجأة، من كلّ ناحية، وجرّوني بمساعدة الموظّف البدين كالخرقة البالية خارج مبني الشركة. وكنت في تلك الأثناء أتلفّت فأري عدنان يعدّل سترته، مرسلاً نحوي نظرة تحمل مزيجاً من الغضب والاحتقار والاستغراب.
ابتعدت عن مبني الشركة بخطي حثيثة، وأنا مفعم بالكرامة. كان لي من شفاء الغليل ما أنساني الإهانة، وكان لي من فوران دمي مدفأة حامية أنستني البرد القارس.
بعد ساعة من التسكّع اللاهث في متاهات الدروب الملتوية، خلوت إلي زقاق ضيّق غارق في العتمة، فتوقّفت، ومددت يدي في جيب بنطلوني، وأخرجت محفظة عدنان.
استندت إلي الجدار، ورحت اتفحّص محتوياتها:
بطاقتان شخصيتان، عدد من بطاقات الائتمان، صور فتيات لا أمل لهنّ بالجنّة، رزمة كبيرة من الأوراق النقدية.
التقطت رزمة النقود بعناية ووضعتها في جيبي، ثمّ انطلقت إلي ضوء النهار، ومشيت علي رصيف الشارع العام.
هطل المطر بغزارة، لكنّني واصلت المشي تحت وابله ببطء شديد وكأننّي في نزهة.
نبّهني أحد مجارير الشارع بخريره الهادر، فتوقّفت، وألقيت المحفظة بكلّ حمولتها الفارغة فيه. وفيما هي تصطرع مندفعة في فمه تحت وطأة التّيار، همستّ للمجرور بلطف بالغ أن يحملها معه إلي المسيسبّي!
المحروم!
في غضارة الثمانينات من عمره، يرحل (رينيه الثالث) أمير موناكو، وهو جاهل تماماً بكلّ ما فاته من أطايب الحكم ومُقبّلاته.
أكاد أري أرواح حكّامنا الغابرين والقابرين (أعندهم أرواح؟) تتلاطم فوق جثمانه مُعنِّفة ومُشفقة في الوقت نفسه.
بعد ستة وخمسين عاماً في الحكم .. يرحل رينيه المسكين دون أن تكحّل ناظريه، يوماً، عبارة في صحيفة، ودون أن تُشنّف أذنيه عبارة من بوق تذكّره بأنّه (قيادة تاريخية) !
يرحل (الرّجل الأمير) دون أن يتذوّق في حياته طعم القضاء علي أيّة (مؤامرة دنيئة) ، ودون أن يتلذّذ في عمره كلّه حتّي بوجبة إعدام واحدة لخائن واحد من عملاء الإمبريالية .. فيما يستطيع أتفه واحد من أولاد الشوّارع عندنا أن يُنشيء جيشاً مليونيّاً في نصف مدّة حكمه، وأن يقتل مليونين في ربع تلك المدّة!
يرحل رينيه المنكود دون أن يخطر في سمعه أبداً النشيد القومي الذي يردّده الموتي عندنا للقتلة الأحياء، والمقبورين أيضاً: (بالرّوح بالدّم نفديك يا رينيه) .. ربّما لأنّ نشيداً كهذا كان سيبدو نكتة أو فضيحة، لأنّ شعب موناكو كلّه (بروحه ودمه) لا يكاد يملأ نصف ملعب كرة قدم، فكيف إذا ضحّي بنفسه فداءً لرينيه؟!
يرحل رينيه المغبون دون أن يسمح له عدد مواطنيه الذي لا يزيد كثيراً عن ثلاثين ألفاً، بأن يتلمّظ، ولو مرّة، بكونه (حبيب الملايين) ، مع أنّ إمارته التي بحجم الكفِ هي حبيبة الملايين فعلاً (باليورو والدولار) .
وبرغم خلّو إمارته من أيّة ثروة طبيعية أو ثورة اصطناعية، فإنّه لم يتنعّم قَط بثمار أية (خطّة خمسية) أو ببركات أيّ (تقشّف) ، ولم يخطر في ذهنه اطلاقاً أنّ (ربط الأحزمة) و (تأميم المجاعة) هما توأمان سياميان!.
إمارة رينيه بشعبها ليست أكبر من شركة بموظّفيها، وهي لا تحتاج لأكثر من مجلس إدارة لتصريف شؤونها لكنّه، واحسرتاه، أتي إلي الدنيا وعاش في الدّنيا، وها هو يغادر الدنيا، وتلك الإمارة تُدار بواسطة حكومة منتخبة!
وهنا أيضاً أكاد ألمح حكّامنا الصالحين يُنشبون نواجذهم في جثّته التي لم تبرد، زاعقين بكلّ ما في أوتارهم الصوتية من (عنف ثوريّ) : حكومة مُنتخبة؟ لماذا يا ناقص العقل والدّين؟ ألا تعرف شيئاً اسمه (الإصلاح من الدّاخل) ؟!
يرحل رينيه وإمارته التي بحجم الكف بقيت عصيّة علي الترويض في محيط الأقوياء، دون مارشات عسكرية في الإذاعة، وظلّت مستقلة دون شعارات ثورية علي الجدران، وحجزت لمؤخرتها مقعداً في الأمم المتّحدةبحجم مقعد الصين بالضبط، وكلّ ذلك دون أن يقدّم كوبون نفط لهذا أو كوبون دم لذاك.
يرحل رينيه، دون أن يمتّع قلبه أبداً بلعبة (تمديد فترة الحكم) لأنّها، واأسفاه، ممتدة أصلاً بحكم الدستور، ودون أن يترك من بعده (مجلس خيّاطين)
منتخباً بالتعيين، لكي يقصقص الدستور ويفصّل منه بذلة علي مقاس ابنه المحروس .. ذلك لأنّ ميراث الابن محفوظ هو أيضاً بحكم الدستور، بل الأنكي من ذلك أنّ الدستور نفسه محفوظ من كلّ فنون التّفصيل والخياطة.
وأخيراً، وليس آخراً، يرحل رينيه المسكين بحسرته دون أن تسعده الأقدار بضمّ (موناكو) إلي (جامعة الدول المونيكيّة) ، بشفاعة القيادات التاريخيّة التي طالما وضعت دماءنا علي موائد القمار في إمارته .. فيمضي بغفلة حظّه ويقظة منيّته، حارماً شعبه (المجيد) من قمم التخت الشرقي، وحارماً نفسه (الضّرورة) من فكاهات عميده الأخضر!
أيّها المرحوم رينيه .. لَكَم كنتَ محروماً!
دور المُخيَّلة
في إحدي مقالاته النقدية تحدّث الفيلسوف والرّوائي الإيطالي أمبرتو إيكو صاحب (اسم الوردة) عن العلاقة الصحيّة المفترضة بين القاريء والنصّ الأدبي، فمنح القاريء مكانة مميّزة علي قدر المسؤولية التي حمّله إيّاها .. وهي مسؤولية تتطلب منه ألاّ يكون مجرّد تابع أو مسافر منقاد، بل أن يكون جزءاً من النَصّ، وشرط ذلك هو أن يكون ذا مُخيَّلة واسعة. فبهذه المُخيَّلة وحدها يستطيع القاريء أن يكون جزءاً من النّص الذي يقرؤه.
ولفرط ثقته بهذا القاريء المفترض، لا يكتفي (إيكو) باعتباره جزءاً من النّص، بل إنّه يكافئه، نظير سعة خياله، باعتباره شريكاً في التأليف أيضاً!
ويضرب مثلاً علي ذلك بقوله إنّنا عند النظر إلي الخريطة يمكننا أن نتخيّل رحلات خارقة ومغامرات عظيمة بين بحار وجزر مجهولة، لكن الخريطة في هذه الحالة هي مجرّد محرّض أو ملهم، بينما قاريء الخريطة هو الرّاوي الحقيقي لتلك المغامرات.
يبدو هذا المثل عويصاً ومبهماً مثل متاهة المكتبة في رواية (اسم الوردة) . ذلك لأنّ الفرق شاسع جداً بين خطوط الخريطة الصمّاء وبين العوالم اللّصيقة بالواقع والشخصيات الحيّة التي نكاد نسمع أصواتها في الأعمال القصصيّة.
قد يمكن القول، مثلاً، إنّ صور الأماكن والشخصيّات التي يرسمها الرّاوي، تكتسب لدي القاريء ألواناً وأشكالاًوملامح وطبائع إضافية مستقاة من تجربته الحياتية الخاصّة، لكنّه لا يمكن أن يتعدّي حدود هذه المشاركة الرمزية التي تجعله كمن يملأ الرّسوم المخطوطة بألوانه الأثيرة، وبخلاف هذا ليس له إلاّ أن يكون تابعاً طائعاً علي قدر سطوة سيّد الحبكة.
وفي تركيزه علي أهمية المُخيَّلة يقول (إيكو) : كلّما سُئلتُ عن الكتاب الذي سأختار أن أحمله معي إذا ما رمتني الأقدار إلي جزيرة نائية، فإن إجابتي هي .. (دليل الهاتف) ذلك لأنني، مع كلّ هذه الشخصيات التي يضمّها الدليل، سيمكنني اختلاق عدد لا نهائي من القصص.
إنّ هذا الجواب هو آخر ما يتوقع المرء سماعه من كاتب كبير مثل (أمبرتو إيكو) ، وهو لابُدّ أن يدفع المرء لأن يتساءل متعجّباً: هل يحتاج كاتب موهوب واسع الخيال إلي أسماء دليل الهاتف لكي يمكنه أن يتخيّل قصص أصحابها؟ أليس من الأسهل علي مَن سيبتدع عدداً غير نهائي من القصص، أن يختلق قبل هذا عدداً غير نهائي من الأسماء؟
إنّ الكاتب الموهوب لا يحتاج في جزيرته النائية إلاّ إلي قلم وأوراق .. ما دام رأسه معه.
نطاق الشَّفَق
في أوائل ستّينات القرن الماضي، ابتكر الأمريكي (رود سيرلنغ) سلسلة من القصص الغرائبيّة، قدّمها التلفزيون علي شكل حلقات تمثيليّة، كان (سيرلنغ) يشارك في التعليق عليها شخصيّاً، من خلال ظهوره المفاجيء والسريع في واحد من مَشاهد كلّ حلقة.
وقد استقطبت تلك الحلقات التي تجاوزت المائة والخمسين، جمهوراً عريضاً سواء من الأمريكيين أو غيرهم من سكّان المعمورة، وذلك لأنّها كانت تقدّم بحِرفية عالية قصصاً جميلة وقصيرة وفائقة الغرابة، يؤديها عدد كبير من نجوم هوليوود.
وقد اشتهرت تلك الحلقات بعنوان (توايلايت زون) أو ما يمكن ترجمته إلي (نطاق الشّفق) . والدلالة المتضمنة في العنوان هي أنّ أحداث القصص تقع في ذلك النطاق الغامض المبهم الذي تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة علي نحو غير معقول، وكأنّه نطاق سادس يضاف إلي أقاليم الأرض المعروفة، شأنه شأن الحاسّة السادسة بالنسبة لحواسّ الإنسان الخمس.
إنّ غرائبية (توايلايت زون) غير مجانيّة، فهي ليست مؤلّفة لإبهار المتفرجين فقط، ولكنّها تترك وراءها سلسلة من التساؤلات حول حقيقة ومقاصد الوجود الإنساني، وحول موقع الإنسان في كوكب الأرض من هذا الكون الفسيح الغامض .. وتترك في نهاية كلٍّ منها مغزي حيّاً وعميقاً، يتمثّله المرء ببساطة في مجري حياته البسيطة، دون حاجة منه إلي اللّهاث في صحاري الفلسفة الجافّة.
تبدو قصص (توايلايت زون) سهلة المأخذ، أليفة وممتعة، لكنّها في ألفتها تقود المتفرّج المطمئن خطوة خطوة، حتّي تدخله بوّابة الغرابة والحيرة. وهي في ذلك تشبه - علي وجه ما - لوحات سلفادور دالي، فكلَ جزء من تلك اللوحات يبدو طبيعياً ومألوفاً، لكنه يتحوّل إلي غرائبي عند اتصّاله بالأجزاء الأخري التي تبدو، هي أيضاً، طبيعية ومعقولة إذا فُصلت عن اللوحة الكليّة!
وهذه القصص تذكّر أيضاً-مع اختلافها الواضح في التوجّه والبناء - بقصص الفرنسي (هنري تروايا) الذي يأخذ القاريء إلي عالم قصّته بسهولة ويسر، فيدخله، علي سبيل المثال، إلي مدينة ما، حيث الناس هم الناس الذين يعرفهم، وحيث الشوارع هي نفسها التي يألفها، والقضايا الحياتية هي ذاتها التي يعيشها، لكنّه في نهاية المطاف، ودون سابق إنذار، يكتشف في السطر الأخير، مثلاً، أنّ أرجل جميع الناس هي حوافر ماعز!
في واحدة من حلقات (توايلايت زون) يضعنا (سيرلنغ) أمام محنة عجوز يحبّ القراءة جّداً، لكنّ كلّ من حوله يمنعه من ممارسة هذا الحبّ. ففي البيت تحرص زوجته المتسلّطة علي إخفاء أيّ كتاب أو صحيفة، وتنقِّب عن أيّ كتاب يخفيه لكي تلطّخ صفحاته بالحبر .. وفي عمله كمحاسب في أحد المصارف، يهدّده رئيسه بالطّرد كلّما
رأي في يده كتاباً أو مجلّة. ولذلك فهو يحاول دائماً أن يضع كتاباً صغيراً مفتوحاً فوق ركبتيه، ليسترق إليه نظرة، من وراء نظارته السميكة، كلّما خلا من خدمة زبون .. الأمر الذي يكتشفه رئيسه فينذره، لآخر مرّة، بالطّرد.
وفي بليّته المركّبة هذه، يغتنم الرّجل فرصة الغداء، فيحمل جريدته ويختبيء في خزانة المصرف الكبري المدّرعة، مستغنياً عن الأكل بالقراءة. وفي تلك الجريدة يقرأ خبراً عن احتمال هجوم نووّي .. وبعد ذلك بلحظات يشعر بهزّة عنيفة ترتجّ لها الخزانة الثقيلة المدرّعة.
وعند انتهاء فرصة الغداء، يخرج صاحبنا من الخزانة، فيري أنّ كلّ ما حوله خراب في خراب. ويأخذ طريقه بين الأنقاض، ليكتشف، مذعوراً، أنّ المدينة كلّها ركام مَبانٍ، وأنّها خالية من البشر، فيسعي كالغريب التّائه بين حطام المتاجر التي تناثرت فيها كميّات هائلة من علب الطعام المحفوظ، فيطمئن إلي أنّه سيكون بمنأي عن الجوع مدّة طويلة، لكنّ اطمئنانه هذا لا يعود شيئاً مذكوراً إزاء بهجته برؤية أبواب الجنة مفتوحة أمامه .. ذلك لأنّه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام ذخائر المكتبات الملقاة أكداساً من الكتب التي طالما تمنّي قراءتها!
يجلس العجوز بين الكتب متصفّحاً بعضها ومستعرضاً عناوينها علي مهل. ولم العجلة؟ جميع الكتب طوع يده، وكلّ الوقت ملكه، ولا أحد هناك ليمنعه من القراءة.
يمدّ الرّجل أصابعه لالتقاط نظّارته، لكنّها تسقط فوق ركام الكونكريت فتتكسّر!
عندئذ يحتقن وجه العجوز ببؤس الدّنيا كلّه، ويحدّق في الفراغ بعينين زائغتين، ولا نسمع منه سوي عبارة واحدة، يطلقها بزفرة كأنها آخر أنفاسه: (هذا ليس عدلاً) !
القصّة طريفة وممتعة ومؤلمة في الوقت ذاته، لكنّ أعظم ما فيها هو المغزي الذي تنطوي عليه. دعك من الأثر الموجع الذي تتركه في نفس القاريء المدمن، فليس جميع الناس قرّاءً شرهين. لكنّ المغزي هنا يمكن أن ينطلق علي مختلف الموجات: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، حيث ينشطر إلي عدد غير محدود من التساؤلات، مثل: ما معني أن يكون الإنسان حرّاً إذا كان شاهداً علي فناء كلّ النّاس؟ وما جدوي امتلاك المرء للطعام بعد تهتّك معدته وسقوط أسنانه؟ وأيَة فائدة ترجي من حصول المريض علي دوائه في ساعة موته:؟!
لنستعرض، علي عجالة، مثلاً آخر: قصّة امرأة دخلت المستشفي لإجراء جراحة تجميل لوجهها، ولكنّ الطبيب الجّراح وطاقمه، وهم كلّهم يعملون في مكان شبه معتم، يدركون أنّ العمليّة لم تنجح، ولذلك فإنّ الطبيب يُمضي وقتاً لتهيئة المرأة لمواجهة هذا الأمر، ويدرّبها علي التعايش مع قبحها.
عند نزع الأربطة عن وجه المرأة يتأكدّ للطبيب فشل العملية، فيردّد مع نفسه بمرارة أنّه كان يعلم ذلك. لكنّنا بعد اكتمال نزع الأربطة نري أنّ وجه المرأة باهر الجمال، فنعجب من رأي الطبيب، وندهش أكثر من صرخة الفزع التي تطلقها المرأة حين تري صورتها في المرآة.
بعد هذه اللقطة .. نري، لأوّل مرّة، وجه الطبيب ووجوه طاقمه، ووجوه العاملين والمرضي، ووجوه النّاس في الشوارع، فإذا نحن أمام مسوخ يبدو وجه كلٍّ منهم خلطة من ملامح القرد والخنزير والإنسان!
أهذه غرابة مجانّية؟ ماذا لو وضعناها في سياق آخر؟ لنقل مثلاً .. ماذا لو وضعنا إنساناً حرّاً وسط قطعان من العبيد؟ أو عاقلاً وسط أمّة من المغفّلين؟ أو مبصراً بين شعب من العميان؟
إنّ مغزي القصّة يمكن أن يُحمل علي ألف محمل، وسيبدو ثميناً في كلّ الأحوال. وتلك هي لمسة السحّر التي تتصّف بها أعمال (سيرلنغ) ، وذلك هو سرّ نجاحه. والدليل علي ذلك هو أنّ حلقات كثيرة جداً من (توايلايت زون) انتجت بالألوان، بعد وفاة سيرلنغ، لكنّها بأجمعها لا تضارع عملاً واحداً من أعماله التي صُوّرت بالأبيض والأسود .. الأمر الذي يقنعنا تماماً بصواب المثل القائل بإعطاء الخبز لخبّازه، وهذا مغزي كلّي آخر تقررّه أعمال (سيرلنغ) بالجملة.
مشكلة .. في جميع أحواله!
هذا القائد الضّرورة مخزن أضرار .. ويبدو أنّنا سنظل نواجه بسببه موجات لا تنتهي من الإحراجات، حتي وهو معتقل.
فبعد أن أعرب أحد رجال الفاتيكان عن حزنه وهو يري مهيبنا يُعامَل كالبقرة بين يَدَي البيطري، وضعت يدي علي قلبي .. إذ توقّعت نشوب أزمة بين هولندا والفاتيكان .. فلمّا مَرّ الأمر بسلام تذكرّت، فوراً، صورة البقرة الضاحكة فأرجعت هدوء الأوضاع إلي أنّ الأبقار بطبيعتها مسالمة ومتسامحة.
لكن سرعان ما اكتشفت أن توقّعاتي انتظرت البلاء من الشرق، فإذا به يجيء من الغرب!
فها هو ليبي كوبلاند محَرر الواشنطن بوست يمضي قُدماً في استقصاء التعبيرات العسكرية الملتبسة، مدفوعاً بعبارة حفرة العنكبوت التي استخدمها المتحدّث العسكري الأميركي في وصف الحفرة التي انتشل منها صّدام.
وفي بدء حملته الاستقصائية ينبّهنا كوبلاند إلي أنّ عبارة حفرة العنكبوت لم تُفصّل خصيصاً من أجل صدّام، بل هي قديمة، وتعود إلي فترة الحرب العالمية الثانية، وقد استخدمتها، لأوّل مرّة، قوّات مشاة البحرية الأميركية أثناء القتال في المحيط الهادي.
وبناء علي ذلك يشرع في مساءلة المؤرخين عن المعني المحدّد لهذه العبارة، فيرّر وليام بريست وهو مؤلف كتاب قاموس العبارات العسكرية، أنّه كان من عادة الجنود اليابانيين أن يحفروا حُفراً صغيرة جداً لا تتّسع الواحدة منها إلاّ لرجل واحد، ليختبيء فيها المقاتل حتي يظهر جنود العدو، فيخرج لهم بشكل مفاجيء، ويطلق النّار ليقتل أكبر عدد منهم قبل أن يصرعوه. وعلي هذا فإنّ حفرة العنكبوت اليابانية هي حفرة انتحارية.
وطبقاً لمعلومات معهد التاريخ العسكري الأميركي، فإنّ عبارة حفرة العنكبوت كانت تستعمل أيضاً في فيتنام، لوصف مكامن القنّاصة الفيتناميين.
وعلي ذلك فإنّ استخدام هذه العبارة في حالة صّدام يعتبر مُجافياً للدقّة .. فالأخير كان يستخدم حفرته للاختباء وليس للقنص، كما أنّه استسلم دون مقاومة .. ولذلك فلا مجال لوصفه هنا بكونه عنكبوتاً في حفرة، ولعلّ الوصف الأمثل لحالته هو أنّه دجاجة في سلّة!.
ولا يخفت احتجاج المؤرخين العسكريين حتي يُدّوي احتجاج علماء الحشرات!.
تقول ليندا رايور الأستاذ المساعد في علم الحشرات بجامعة كورنيل: إنّ حفر العناكب باردة ومدثّرة بالحرير ونظيفة جداً، علي عكس حفرة صّدام القذرة.
وأعربت رايور عن أنها أحسّت بالانزعاج عند سماعها لعبارة حفرة العنكبوت بعد اعتقال صّدام، واعتبرت هذا الوصف إساءة للعناكب!.
وإذا كنّا قد عرفنا رأي علماء الحشرات في هذه القضيّة، فإننا ننتظر أن نعرف رأي علماء الدواجن بالنسبة لوصف أخينا بالدّجاجة!.
وفي الوقت الذي تدور هذه الاستقصاءات في أميركا مُتزامنة مع استقصاءات العراقيين عن قوائم الإعدامات لدي مراكز التوثيق، وعن عظام قتلاهم في المقابر الجماعية، يدور الحديث أيضاً عن عزم اتّحاد المحامين العرب إرسال فريق من أعضائه للدفاع عن صّدام الرّجيم خلال محاكمته المرتقبة!.
وما دام لدينا مثل هذا الفريق الرّكن من حماة العدالة الذين يهبّون تطوّعا للدفاع عن أكبر مجرم عرفه زماننا، فإنّ علينا أن نتوقّع المزيد من الحفر، والمزيد المزيد من احتجاجات المدافعين عن كرامة الحشرات والزواحف!.
الهاربان!
جلسا علي مقعد في الحديقة القريبة من شارع السّفارات.
كان الأوّل طويل القامة وضّاء الوجه ذا لحية مُهذّبة بيضاء، وكان الثاني مربوع القامة وضّاح السّحنة ذا لحية مهذّبة غرّاء.
علي المقعد القائم قبالتهما كان يجلس رجل مكوّر ذو لحية كثّة مستطيلة تكاد ترتطم بكرشه، فيما جلبابه يكاد يرتفع حتي ركبتيه.
قال الأوّل لصاحبه: بَشِّرْ؟
قال الثاني: الحمد للّه. لقد وافقوا علي لجوئي إنسانياً إلي هولندا .. وأنت؟
قال الأوّل: هذا خبر طيّب. سنكون قريبين من بعضنا، وسيمكننا أن نتزاور بين وقت وآخر، فقد حصلت أنا علي حق اللجوء إلي السّويد.
ثمّ أردف مازحاً: من الآن فصاعداً سأسميك (أخي في هولندا) !
زفر الثاني مبتئساً: ألا تري أنّنا كان يمكن أن نمكث هنا بسلام لو أننا التزمنا بأدب الصحوة ولم نفعل ما فعلنا؟
قال الأوّل متذمّراً: لقد فات أوان الندم. ونحمد اللّه علي أنّنا وجدنا من يُلجئنا، وإلاّ فلا أمل لنا بالنّجاة إذا بقينا هنا.
قال الثاني: آه لو أنّك كبحتَ حِدّتك قليلاً يا أبا عبداللّه .. هل كان من الضروري أن تقول للرّجل إنّ زهده مضحك لأنّ جلبابه قصير وسيّارته طويلة؟
هتف الأول بحدّة: اسكت يا أبا حسن.
أنت آخر من يعاتبني. أنسيت ما فعلته أنت؟
هل كان ضرورياً أن (تبتسم) ونحن خارجان من المسجد؟ لقد عكّرتَ عبوس القوم وكدت توردنا التهّلكة!
اندفع الرّجل الجالس قبالتهما إلي القول دون استئذان: ألا تستحيان أن تفعلا ذلك وأنتما إسلاميان؟
قال الرّجل الطويل: نحن لسنا إسلاميين .. نحن مسلمان.
صرخ الغريب مغضباً: أعوذ باللّه.
تساءل الرّجل الطويل: ما الذي دعاك إلي الاستعاذة باللّه؟!
قال الغريب: فعلكما الشّنيع. إنكما لم تكتفيا، ونحن في زمن الصحوة المباركة، بممارسة الابتسام أمام المسجد، أو إهانة سيّارة أخيكم في اللّه، بل لبستما لباس المشركين، وطلبتما اللّجوء إلي فسطاط الكفر، وفوق هذا كلّه يستنكر كلّ منكما أن يكون إسلامياً، ويكتفي بأن يكون مجرّد مسلم!
قال الرّجل الطويل: لباسنا هو لباس عصرنا .. ولا علاقة لهيئة الثوب بجوهر المعتقد. ثم أنّ الإسلام عقيدة تستقر في القلب، وتتبدّي مظاهرها في فعل الخير والرّْحمة. إنّه ليس بطاقة انتساب حزبيّ يشبكها المرء علي صدره بدبّوس (ياء النَّسَب) .
وَلوَلَ الرّجل المكوّر بحدّة: أستغفر اللّه ... هذا انحراف صريح عن سنّة السّلف رضي اللّه عنهم. توبا إلي اللّه .. توبا إلي اللّه.
التفت الرّجل الطويل وهمس في أذن صاحبه: عن أيّ سَلَف يتحدث هذا القنفذ؟! أأقول له مَن نحن؟
ردّ صاحبه هامساً: كلاّ. أرجوك. ربّما ستحيق بنا الكارثة حقّاً إذا تفوّهت بهذا. دعنا نغادر هذا المكان بأسرع ما نستطيع. كفانا ما لقيناه من عَنَت حتّي هذه اللحظة.
ودون أدني التفاته نحو الرّجل المكوّر، قام عمربن الخطّاب وعلي بن أبي طالب .. وتوجّها بخطي حثيثة نحو باب الحديقة!
قَها .. قَها!
منذ ثلاثة أعوام تقريباً، تبدّي أوّل وآخر مظهر للإصلاح الدّاخلي في سوريا، من خلال الترخيص بإصدار جريدة (الدّومري) الساخرة المستقلة، بقرار خاص من رئيس الجمهورية المنتخب بالوراثة.
و (الدومري) كلمة شاعت في العهد العثماني، وكانت تطلق علي الشخص المكلّف بإيقاد مصابيح الشوارع .. ولعلّ رسام الكاريكاتير المعروف (علي فرزات) ورفاقه المشاركين معه في إصدار الجريدة قد اختاروا هذا العنوان للدّلالة علي إشاعة نور الوعي والنقد الصّريح بين الناس، إضافة إلي إعادة الضوء إلي هذا النوع المنقرض من المطبوعات التي تختلف تماماً عن مطبوعات الزّي الموحّد الرسمية.
لكنّ هذا (الدومري) نفسه قد تمّ إطفاؤه في بدء شروعه بإشعال المصابيح. إذ سُحبت رخصته في زمن الإصلاح السعيد، قبل إتمام سنته الثالثة في الوظيفة، علي الرّغم من أنّه كان يؤدّي هذه الوظيفة وهو يمشي علي حبل مشدود. وكانت التهمة الموجّهة للمطبوعة هي أنّها قد خالفت (قانون المطبوعات) .. وهي تهمة لا تعني في التّفسير النهائي إلاّ أنّ المطبوعة قد خالفت قانون التَّعتيم!
غلطة (الدّومري) هي أنّه لم يدرك أنّ مهنته قد ولّت مع أهلها، وأنّ أنظمة الحداثة عندنا لم تعد تعترف علي الإطلاق إلاّ بالإضاءة الحديثة، وهي إضاءة لا تستطيع صنعها أو التفنّن في إشاعتها إلاّ صواريخ الغزو الأمريكي!
ومع ذلك، فإنّ لدينا ما يواسيه .. فإذا كان هذا (الدّومري) لا يزال حيّاً، وإذا كان يملك شمعة لكي يوقدها (بدلاً من أن يلعن الظلام المديد) .. فإنه سيستطيع أن يقرأ في ضوئها خبر بكاء شقيقته المصرية (اضحك للدّنيا).. فيضحك من أعماقه، شاكراً ربّه علي حسن الحظّ الذي أمهله حتّي يُضيء أكثر من مائة مصباح (هي أعداد الدومري التي صدرت) قبل أن تُطفئه ظلمة الإصلاح الداخلي الباهرة .. في حين أن صحيفة (اضحك للدّنيا) التي صدر عددها الأول في مطلع ربيع هذا العام، قد ماتت بالسكتة القلميّة في نفس الرّبيع والجوّ البديع. إذ قررّت إدارة الرّقابة علي المطبوعات إعدام جميع نسخ العدد الثاني وهو في المطبعة.
وقيل إنّ سبب (الإعدام) هو أنّ الصحيفة نشرت تحقيقاً حول تشابه الأسماء بين بعض المواطنين المصريين البسطاء والرئيس المصري ونجله، وهو تحقيق رجع مُعدّهُ إلي (دليل الهاتف) ليجد أنّ هناك موظفاً بسيطاً وبائع خبز يحملان اسم نجل الرئيس جمال مبارك (رضي اللّه عنهما) !
ينبغي القول، في السّياق، انّ هذا التحقيق ليس أصليّ المنشأ، بل هو منسوخ حرفيّاً (كعادتنا في كلّ شيء) من تحقيق تلفزيوني مماثل قام به الصحفي البريطاني (نيك نايجل) قبل عدّة أشهر، وقد سبق لي في حينه أن استعرضت تفاصيله الطريفة في مقالة بعنوان (أصل وصورة) ضمّنتها عاصفة (نايجل) الصحفية التي لم توفّر رئيساً أو أميراً أو خفيراً .. غير أنّ النّاس في بريطانيا -بمختلف طبقاتهم- قد استقبلوا تلك العاصفة بعاصفة من الضحك، وذلك لأنّ البريطانيين -وياللغرابة- ينظرون إلي الأشخاص البارزين، مهما علت مقاماتهم، باعتبارهم بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، لا باعتبارهم آلهة، مثلما تنظر إليهم عندنا أحزاب السّلف الصّالح أو أنظمة الخلف الطّالح!
أتذكّر نكتة جرت علي لسان الفنّان الراحل (يوسف وهبي) في أحد الأفلام، عن مسافر نسي اسم المحطّة التي يريد الوصول إليها، وبعد أن فرك رأسه مفكراً استطاع أن يقول لرفيقه في السّفر: (هيّ زي ما بتكون نصّ ضحكة) .
فردّ عليه رفيقه: (قصدك تقول محطّة .. قها) !
وما دام الضّحك للدنيا 0بمقاييس الإصلاح الداخلي -لا يعني سوي عدد واحد، فإنني أقترح علي ناشر الصحيفة السيّد عادل المصري، أن يتواضع فيسمّيها (قها) .. وحَسْبُه أنّ نصف الضّحكة أفضل كثيراً من الحسرة الكاملة!
ترام بجنيهين!
نضحك كثيراً من طرفة القروي المصري الذي اشتري الترام، ونعجب كثيراً من فرط حمقه وغفلته. ومشكلة هذا الكروي هي أنّه وُجد في بيئة ووقت يساعدان بغلظتهما علي تجريده من نقوده وعقله ..
لكن لو أن خللاً بسيطاً اعتري حركة الزمان والمكان، فألقي بهذا الكروي في الريف البريطاني خلال ثلاثينات القرن الماضي، لأمكنه، بكلّ بساطة، أن يشتري ذلك الترام، بل لأمكنه، فوق ذلك، ان يشتريه بجنيهين لا أكثر!
نعم. ليس في الأمر أيّة مبالغة .. أو هذا في الأقل ما يؤكده لنا الكاتب البريطاني (وليم نيوتن) في روايته الجميلة (ترام بجنيهين) !
ما نعرفه عن (وليم نيوتين) هو أنّه طبيب متقاعد من (أكسفورد شاير) ، وأنّ هذه هي روايته الأولي التي نال بها عند صدورها قبل عامين، جائزة (ساجترياس) التي تمنح لأوّل عمل روائي لمؤلف فوق الستّين.
لكن لأنّ بطل الرّواية الذي يتولّي سرد أحداثها ينتهي إلي أن يكون طبيباً، فإنّ (نيوتن) يتوصّل إلي إثارة شكّنا في أنّه هو البطل، وأنّ تلك الأحداث لا تعدو كونها ذكرياته الخاصّة عن مرحلتي الطفولة والصّبا .. فعلي الرّغم من احتواء الرّواية علي وقائع تبدو غير مألوفة، فإنّ الحميميّة والصدق والبساطة في السّرد، تنبيء بأنها في جوهرها حكايته الشخصية التي سكنت أعماقه طيلة العمر، وأنّه قرّر، بعد اختمارها، أن يطرحها كتعويذة في وجه الشيخوخة، وأن يقيم بواسطتها معادلاً نفسياً بين عالم العشرينات والثلاثينات الذي عاشه بكلّ بساطته وبراءته، وبين عالم المتغيّرات الفظّ الذي يحياه اليوم.
تتحدث الرواية عن شقيقين من الرّيف البريطاني هما (ويلفريد) و (دانكن) ولدا في العشرينات وترعرعا في الثلاثينات، في كنف والدين لم تكن صلتهما بهما تتعدّي مشاركتهما الطعام في بعض الأحيان، في حين كانا يقضيان معظم أوقاتهما، بعد المدرسة، في التجوّل خلال الحقول لاصطياد الطيور والحيوانات البريّة، أو لاصطياد الفراشات من أجل تحنيطها.
وفي أثناء ممارستهما لهوايتهما الأخيرة، يسوقهما الجري وراء فراشة نادرة إلي اجتياز ممتلكات ثريّ ألماني مقيم في الجوار هرباً من النّازي، فيقبض عليهما مدبّر المنزل، ويحاولان جاهدين إقناع ذلك الثريّ بأنّهما جامعا فراشات وليسا لصّين.
وتنتهي المشكلة بعد ان يهدياه الفراشة النادرة، حين يعلمان أنّه جامع فراشات محترف وأنّ له اتصّالات دوليّة في هذا المجال .. فتنشأ بينه وبينهما صداقة متينة تكون ملاذاً لهما في سنوات محنتهما التي تبدأ في أوّل بلوغهما، إذ يضطرب عالمهما الهاديء المعهود باختفاء أمّهما من حياتهما فجأة والي الأبد، بعد انفصالها عن أبيهما الذي يكدّر أيّامهما، بعدها، بسلسلة من النساء القاسيات، ثم ينتهي في واحدة من ثورات غضبه إلي طردهما نهائياً من المنزل.
وممّا زاد في قسوة تشردهما المبكّر أنّ الأخ الأكبر (دانكن) الذي كان قد أصيب بالتهاب السّحايا ونجا منه بأعجوبة، لم يعد بعد شفائه قادراً علي النطق، الأمر الذي اضطّر الأخوين إلي اختراع لغة خاصة يتفاهمان بها بواسطة الإشارات.
منذ بدء الرّواية نعلم أن الأخوين كان يحتفظان بقصاصة إعلان اقتطعاها من إحدي الصحف، تحتوي علي صورة ترام قديم خارج الخدمة، معروض للبيع، في محطّة بادنغتون، بجنيهين استرلينيين.
وقدكان هذا الإعلان حلمهما الذي يتعلقان به في ساعات النوم واليقظة، ويدّخران من أجله كلّ بنس ينالانه، حتّي تجمّع لهما، بعد طول توفير، جنيهان وبضعة شلنات.
وفي اللحظة التي طردا فيها من المنزل، انطلقا نحو الحلم، قاطعين عشرات الأميال من مقاطعة ساسكس إلي محطة بادنغتون في لندن، سيراً علي الأقدام.
وعند وصولهما وجدا الترام المعروض في الإعلان، رابضاً ضمن مجموعة أخري من العربات القديمة، لكنهما اكتشفا حالاً أنّ من المستحيل نقله من مكانه، لأنّ الأمر يحتاج إلي سكّة والي شريط كهربائي .. فقنعا بالاستعاضة عنه بترام آخر من جيل سابق ممّا تجره الخيول علي عجلات فوق كلّ الطرق، وبالشلنات الباقية استطاعا ان يشتريا حصاناً عجوزاً، فربطاه بالعربة وعادا إلي مقاطعتهما عبر خطوط الترام القديمة المهملة .. ليتخّذا من الترام مركبةً ومصدر رزق ومأوي لهما.
ذلك ليس كلّ الحكاية، بل هو في الحقيقة بداية فصول تتلاطم فيها المغامرات العجيبة والحوادث المضحكة المبكية في عالم يصفه المؤلف بأنّه (عالم قد صار إلي زوال) .. لكنه برغم زواله يبدو حاضراً وحيّاً وبهيّاً بكلّ تفاصيله التي قد يصعب تصديق بعضها، لكنّها تظلّ قابلة للتصّديق بفعل براعة القصّ التي تطّرز الوقائع بتخييل قادر علي لجم أيّ تكذيب.
وسواء أكانت الرّواية ذكريات حقيقية أم خيالاً محضاً، فإن مؤلّفها الستيني (وليم نيوتن) يرسل إلينا من خلالها إشارة مهمّة مفادها أنّ التقاعد عن العمل لا يعني التقاعد عن الحياة، وأنّ لدي كلّ إنسان قصّة والسعيد هو من يستطيع أن يرويها، وأنّ مراحل العمر علي اختلافها صالحة لتحقيق رغبات الذّات العميقة، إذا ترك المرء وراء ظهره كلّ احتمالات الإخفاق، ومضي إلي هدفه بعزيمة وجدّ، مؤمناً من كلّ قلبه بأنّ شراء الترام ليس من الحتم أن يكون نكتة دائماً، بل يمكن، مع بذل الجهد، أن يكون رواية ممتازة.
مَشارط وأقلام
هناك مشهدان مستقران في نفسي للعلاقة بين الطبيب والمريض، رسمهما كاتبان خلال سردهما لتجاربهما العملية الأولي في العقد الثاني من القرن العشرين، عندما وضعتهما الظروف كشاهدين علي تلك العلاقة.
وعلي الرّغم من أنّ الكاتبين لم يكونا غير شاهدَين محايدين لا يملكان سوي نظرة العين وخفقة القلب الحسّاس، فإنّهما بتسجيلهما للمشهدين قد أثبتا أنّ قلم الكاتب أقوي أثراً من مشرط الطبيب، وأنّ لشهادتهما المجرّدة حكماً أمضي من كلّ أحكام القضاء، وأبقي من عمر الكاتب والطبيب والمريض علي السّواء.
يروي الأديب العظيم (يحيي حقّي) رحمه اللَّه، في كتابه (خلّيها علي اللَّه) تجربة لقائه، خلال فترة عمله كوكيل إدارة في الأرياف، بطبيب مركز كان كلّ همّه الإثراء العاجل بأيّ ثمن .. فيقول:
(لا تبرح ذهني ذكري جلسة لي مع هذا الطبيب فوق مقعدين علي الجسر عند القرية، ننتظر إصلاح السّيارة. تلفّنا ليلة غطيسة غابت نجومها .. وجري بيننا -دفعاً للانقباض- سمر لذيذ، تتخلّله الضحكات العالية، ثم إذا بأذني تسمع من تحت الجسر صوتاً خفيضاً يهمس بتوسّل ذليل:
- يا دكتور، سايق عليك النبي، أنا في عرضك إعمل معروف ..
قطع الدكتور كلامه لي والتفت الي مصدر الصوت -وأنا لا أري صاحبه- وصرخ:
- هات الرّيال وتعال ..
- ما عنديش الليلة دي، ما احكمش علي قرش واحد، من فضلك وإحسانك .. أنا تعبان بالحيل .. حاتفرتك.
- ذنبك علي جنبك.
سألت الدكتور عن الذي يطلبه منه الرّجل، والعجيب أنّه أجابني بلا خجل وهو يضحك .. انّه فلاّح عنده حصوة في المثانة، تتحرّك أحياناً فتمنعه من التبوّل، فإذا حدث له هذا جري اليه في المركز فسلك له مجري البول بالقسطرة لقاء ريال كلّ مرة.
- والقسطرة مش معاك دلوقتي؟
- أيوه ..
- وفيها إيه لو تريّحه، حرام عليك.
- سيبه ده ابن كلب، الرّيال أحسن من عينه.
وقمنا الي السّيارة ولا يزال الشبح تحت الجسر ينادي:
- يا دكتور سايق عليك النبي، أنا ح اتفرتك)! وفي الفترة ذاتها علي الجانب الآخر من المحيط، كانت هناك تجربة أخري جمعت الرّوائي الأمريكي الشهير (أرسكين كالدويل) صاحب (طريق التّبغ) بطبيب محلّي من الجنوب، وهو يرويها عرضاً في كتاب سيرته المهنية ككاتب (سَمّها خبرة) . يقول كالدويل:
(في فترة مبكرّة من صيف 1919 بدأت أقوم بجولات يوميّة خلال الأرياف، بصحبة طبيب محلّي، كان مرضاه منتشرين في أماكن متباعدة قد تفصل الواحد منهم والآخر عدّة أميال.
كانت مهمّتي هي أن أقود السيّارة دون مقابل، ودون أن أتقاضي حتي تكاليف الإصلاحات الصغيرة التي كانت تحتاجها السيّارة. كما لم أكن أتوقّع أيّة مكافأة من وراء ذلك، فقد كان محلّ اهتمامي منحصراً في رؤية كيف يعيش النّاس في الأرياف، وقد كنت سعيداً بأن تُتاح لي فرصة كهذه.
في بعض المرّات كان الطبيب يتنقّل بين بيوت المرضي طول اللّيل، وكان ينام نوماً عميقاً خلال انشغالي بتبديل إحدي العجلات المعطوبة، أو في أثناء قيادتي للسيّارة من منزل الي آخر.
ولم يكن ذلك الطبيب ليميّز بين أولئك الذين يستطيعون دفع ثمن خدمته أو أولئك الذين لا يستطيعون. فإضافة إلي عدم تقاضيه أجراً عن فحص المرضي المعوزين، كان كثيراً ما يوفّر لهم الأدوية الضرورية كذلك، وغالباً ما رأيته يضع دولاراً أو دولارين علي كرسي أو منضدة قبل أن يغادر بيتاً من بيوت هؤلاء)!.
وبعيداً عن هذين المشهدين المتنافرين لوقوف الكاتب بين الطبيب والمريض، تلوح في الذهن ذكري لقاء آخر بين هذه الأطراف الثلاثة، تم في فترة سابقة قليلاً علي اللقاءين السّالفين، في صقيع بعيد من أصقاع شرق أوروبا.
المفارقة في هذا اللقاء هي أنّ جميع أطرافه كانوا شخصاً واحداً، وأنّ كل طرف منهم كان شديد الحسّاسية!
فالكاتب، في هذا المشهد، إنسان عظيم الموهبة بالغ النّبل، يُجري الكلمات علي الورق لحناً إنسانياً خالد الأثر في جميع النّاس قرّاءً وكتّاباً .. والطبيب كذلك إنسان كبير القلب فائض الرّقة، يُطفيء صحته من أجل رعاية مرضاه، وغالباً ما يأخذ سمت ذلك الطبيب الأمريكي في تجربة (كالدويل) .
أمّا المريض فهو إنسان رقيق جداً وحسّاس جداً، وعلي معرفة دقيقة بتفاصيل مرضه، ولعلّه لذلك لم يستطع مقاومة المرض، الأمر الذي جعله يرحل شهيداً، ويجرّ معه الي بارئه الكاتب الشاهد والطبيب المشهود!
وربّما بسبب من هذا التوحّد، لم يستطع القلم في هذه الحالة أن يكتب شهادته علي المشرط والعلّة. لكن آثار الفيض الإنساني لكلّ هذه الأطراف الموحَّدة جعلت الكثيرين، في مشارق الأرض ومغاربها، يتطوّعون لكتابة هذه الشهادة في صفحات لا انقطاع لها ملؤها الحبّ والتقدير.
إنّه الكاتب الروسي الفذّ (أنطون تشيخوف) .
ولو في الصّين ... !
هناك، بعيداً، في أقاصي شرقنا السّارب في سعادته اللاّنهائية .. فوجئت بحضوره دون أن أطلبه أو أتمنّاه أو أتوقعّه.
كنت بعد فراغي من قراءة كتاب (بجعات بريّة) للكاتبة الصينية (يونغ تشانغ) الذي تناول محنة ثلاثة أجيال من أسرتها، وبعده كتب (آنتشي مين) الخمسة التي تناولت أحوال الصين منذ غروب امبراطورية أبناء السّماء حتي قيام امبراطورية أولاد الشوارع .. قد بدأتُ، بإصرار، رحلة جديدة إلي ربوع الأوجاع المركّبة، عبر كتاب (ورقة في الرّيح القارسة) للكاتبة (تنغ- هسنغ يي) .
ولم يكن يدفعني إلي استطلاع كُلّ هذه العذابات الصينيّة إلاّ الطمع في العثور علي السلوي، تبعاً للمأثور القائل بأنّ مَن رأي مصائب غيره هانت مصيبته.
ومع أنّ مصيبتي لم تهن - لا في عهد سلالة الهان ولا في عهد رفاق الهوان - فإنني كنت أواسي النفس، خلال رحلتي المؤلمة، بأننّي لا أري في ما أري إلاّ مآتم الغرباء، وحسبي من ذلك أن أتشاغل، ولو إلي حين، عن مآتمي الشخصيّة التي عشت عمري كُلّه وأنا أراها منصوبة في طول وعرض (بلاد العُرب أوطاني) بفضل عدد من قُطّاع الطرق الأميّين المدجّجين بالنياشين والأوسمة!
غير أنني لم أنعم حتي بهذه المواساة المصطنعة التي وطّنت نفسي علي إغماض عينيّ وبلعها .. إذ أنني وجدته أمامي، بكلّ حصافته ولطفه وثقافته ولياقته، وقدرته الهائلة علي إشعاري بالخجل من نفسي، وبأثر رجعي، لا لشيء إلاّ لانتسابي إلي الأرض نفسها التي ابتليت به وبأمثاله.
ولأنّ (السَّيّءَ بالسَّيّءَ) يُذكر، دعني أقل أوّلاً إنّ مآسي المواطنين الصّينيين في عهد ماوتسي تونغ، لا يمكن حصرها في كتاب واحد، فعلي الرّغم من تشابه سِيَر هؤلاء المواطنين، فإنّ باستطاعة المرء أن يعثر في تجربة كُلًّ منهم علي مشاهد جديدة توسّع الجرح وتعمّق الألم. وذلك بالضبط ما وجدته في كتاب (تنغ- هسنغ يي) ، برغم أنّ تخمتي بالآلام التي صبّتها (يونغ تشانغ) و (آنتشي مين) في نفسي قد جعلتني أعتقد أنني قد أحطت بالمأساة الصينية كلّها ولم أعد بحاجة إلي مزيد.
لن أستعرض هذا الكتاب، لأنني إذا شئت ذلك فسأحتاج إلي تأليف كتاب جديد، لكنّني سأكتفي بعبرة ونموذج .. فأمّا العبرة فهي أنّ ما نلقاه من عنت وعذاب تحت أيدي قطّاع طرق الإصلاح الداخلي عندنا هو ليس إلاّ ترجمات عربية رديئة، مزيدة أحياناً، ومكبّرة أحياناً أخري، وغير منقحّة دائماً، للنسخة الصينية المترجمة بدورها عن أسوأ نسخ الشموليات البغيضة في الشرق أو في الغرب.
وأمّا النموذج فهو ظاهرة هيام الطغاة بالألوان، علي الرّغم من كونهم أبناء الظلام وحارسيه!
في تجربة الصين المُرّة، قام اللّون الأحمر بديلاً لبوذا، وانتصب الكتاب الأحمر بديلاً لكونفوشيوس. الأحمر هو اللّون المقدّس الذي انتظم أسماء البشر، والمعاني، والمباني، وجميع المناسبات.
وبأثر من هذا الولع المرَضَي الخارج علي المنطق والذّوق، نجد أنّ بعض القادة العقائديين جداً في صين ماو، قد اقترحوا بحماسة ثوريّة منقطعة النظير، تصحيح عمل إشارات المرور، لتستقيم وفق النهج الثوري، وذلك بجعل اللّون الأحمر إشارة للانطلاق، واللّون الأخضر اشارة للتوقّف، علي نقيض ما يجري في جميع أنحاء العالم!
ولأعد، الآن، إلي ذكر البلاء الذي فاجأني بطلَّته فيما كنت أحاول التشاغل عنه بمواجهة بلاء الآخرين: لقد انتهت (تنغ- هسنغ يي) في أواخر تجربتها المريرة، إلي العمل مترجمة للوفود الرسميّة الزّائرة للصين. وهو عمل كانت تقوم به تحت سطوة رقباء عليهم هم أيضاً رقباء لا يغفلون!
تروي الكاتبة بعض وقائع مرافقتها لمسؤولين أجانب كبار، وشخصيات ملكيّة من الشرق والغرب، فتدهشنا بذكر بساطة هؤلاء النّاس وعفويتهم وتواضعهم، وتميّز زياراتهم باللّطف والهدوء، وانصرافهم كمقدمهم مثل نسمات عذبة.
ومن أمثلة ذلك أنّ ملكة إسبانيا شكرت كاتب مخزن لأنّه لفت نظرها إلي تنسيل في جواربها، وأنّ السيدة شولتز. زوجة وزير خارجية أمريكا كانت امرأة لطيفة وودودة، وأنّ إيد كوغ عمدة نيويورك، لم يتورّع عن مغافلة حرّاسه، ليجرّب كنس أحد شوارع شنغهاي بمكنسة من صنع صيني، لتجربتها من أجل عقد صفقة لشراء عدد منها لمدينته!
لكنّ الكاتبة - سامحها اللّه- لا تلبث أن تنصرف عن هذا كلّه، لتوجّه صفعة عنيفة إلي وجهي.
تقول: (أمّا القائد اللّيبي العقيد القذّافي، فقد كان يمثّل نوعاً آخر من المشاكل .. كنت أتطلّع إلي رؤية رجل سمعت عنه كثيراً، ووصفته البلدان الغربية بأنّه مجنون، بينما اعتبرته الصّين صديقاً عظيماً (قرين الشيء منجذب إليه) .. ففي خريف 1982 تلقّي ترحيباً حارّاً عندما زار بكّين. وقبل عودته إلي ليبيا أقيمت وليمة كبري علي شرفه في شنغهاي بدعوة من عمدة المدينة. وعندما وصلت إلي قاعة الولائم علمت أنّ القذّافي رفض الحضور. كان غير راضٍ عن المحادثات في بكّين. وكان رفضه حالة غير مسبوقة في خرق البروتوكول .. وقد حاول أناس مختلفون ثنيه عن قراره، ففشل الجميع، واختصر القذّافي زيارته وغادر في اليوم التالي، وفي المطار كان جلّ ما رأيت منه هو حركة عباءته السوداء الملتفّة وهو يركب الطائرة)!
أمّا عن خرقه البروتوكول فذلك أمر لا يدهشني، لأنني وجميع العرب الكرام نعلم أنّه من أصحاب السوابق واللواحق في خرق كلّ شيء .. لكنني أتساءل عمّا جري حقّاً في محادثاته مع المسؤولين الصينيين في بكين، حتّي بلغ به الأمر هذا الحدّ من عدم الرّضا، ولا أستطيع منع نفسي من التفكير في مسألة الألوان .. فهل يكون قد نمي إلي علمه تفكير القيادة الصّينية بالإصلاح الدّاخلي لإشارات المرور، فشعر من جرّاء ذلك بالإهانة الشاملة التي تنسف كلّ المكاسب الثوريّة التي بذل الغالي والنفيس من أجل أن يحيا اللّيبيون في نعمها الخضراء .. من الثورة إلي السّاحة إلي الزّحف إلي الكتاب إلي تفسيرات الكتاب؟!
كلّ شيء في ليبيا كان ولا يزال أخضر .. إلاّ ليبيا، وسبب ذلك بالتأكيد هو أنّ حظّها العاثر الذي جعلها من مكاسبه، لم يجعله في يوم من الأيّام واحداً من مكاسبها!
للكتب أرواح!
في صباي المبكر كان يداخلني دائماً إحساس غريب ولذيذ بأن الكتب مُدنٌُ حية حافلة بأنواع الأماكن وأصناف الناس، وكنت أتخيل أن انطباق أغلفتها لا يوقف علي الإطلاق ما فيها من ضجة الأصوات وحركة الناس والمركبات، أوإيناع النبات وذبوله، بل أن الأغلفة لا تعدو كونها أبواباً تخفت بإغلاقها الضجة وتختفي من ورائها الصور.
كان الأمر بالنسبة لي سراً شخصياً، إذ كنت من خلال الحروف السوداء الصماء أري الصور بكل الألوان، وأسمع الأصوات بكل النبرات. لكنني، في الوقت نفسه، كنت أضمر أن كل قاريء شغف ربما كان ينطوي هو أيضاً علي سره الشخصي المماثل، لكنه يري ألوانه الخاصة ويسمع أصواته المميزة.
وقد صدق اعتقادي هذا بعد أعوام طويلة، عندما قرأت كلمات لأحد النقاد، علق فيها علي أول فيلم للأطفال مأخوذ من قصص المغامرات المصورة التي برع بانجازها الرسام البلجيكي العبقري هيرجيه وجعل بطلها صحفياً شاباً اسمه تان تان .. وهي القصص التي قرأتها بكاملها في صباي وأوائل شبابي، ومازلت إلي اليوم أعود إليها بين الحين والآخر بدافع الحنين.
أتذكر مما ورد في تعليق ذلك الناقد أن أحد الأطفال الذين شاهدوا الفيلم، خرج من صالة العرض متعلقاً بيد أبيه، وقد بدا ساهماً وحزيناً وممتلئاً بالخيبة.
وعندما سأله أبوه عن سبب حزنه قال: لقد خُدعنا .. إن صوت ذلك الشخص في الفيلم لا يشبه صوت تان تان!
واختتم الناقد تعليقه بالقول: إنه إذا لم يكن هيرجيه قدحظي بأي نوع من التقدير علي أعماله، فإن كلام هذا الصغير هو جائزته الكبري التي تغنيه عن كل جوائز التقدير وكلمات الثناء .. لأنه بخطوط ريشته وبكلماته المكتوبة قد استطاع أن يسمع ذلك الصغير صوت شخصيته القصصية!
الواقع أن شخصيات الكتب ليست وحدها التي تبدو حية للقاريء الولوع، بل إن الكتب بحد ذاتها تبدو للمتعلقين بها كائنات حية يستمدون منها الحياة، بالقدر الذي يمدونها فيه بالحياة.
ولعل أصدق تعبير وأدق تصوير لهذه الحالة هو ما نجده في مفتتح رواية ظل الريح للكاتب الاسباني كارلوس رويث ثافون الذي يضع علي لسان الراوي حديثاً عن كيفية عثوره علي نص تلك الرواية، يخبرنا فيه أنه في طفولته عاش مع أبيه بعد وفاة أمه في شقة تعلو محلاً لبيع الكتب المستعملة يملكه الأب .. وعند بلوغه العاشرة أخذه أبوه ذات يوم، قبل بزوغ الفجر، لزيارة مكان خاص، من أجل أن يضع خطواته الأولي علي طريق وراثته
في المهنة، قائلاً له: إنه يريد أن يريه مقبرة الكتب المنسية .. وبعد مسيرة طويلة عبر دروب وأزقة ضيقة، يقفان أمام باب خشبي ضخم منحوت، فيقرع الأب الباب ويفتح له .. وما يكادان يعبران ممراً فخماً ومديداً حتي يفاجأ الطفل بوصولهما إلي باحة واسعة تطرزها الممرات، وتنعقد علي جدرانها العالية رفوف طويلة غاصة بالكتب ترتفع حتي تلامس السقوف البعيدة جداً.
عندئذ يبتسم الأب قائلاً لولده: أهلاً بك يا دانيال في مقبرة الكتب المنسية.
ثم يبدأ في تلقينه ما تعلمه هو نفسه من أبيه، موضحاً له أن هذا المكان هو موضع الأسرار، وهو علي ذلك موضع مقدس: إن كل كتاب تراه هنا له روح .. هي روح الشخص الذي كتبه، ومعها أرواح أولئك الذين قرؤوه وعاشوا معه وحلموا به .. وفي كل مرة تتبادل فيها الأيدي كتاباً، أو تجري فوق صفحاته نظرات شخص ما، فإن روح الكتاب تزداد نمواً وقوة.
ويضيف إلي ذلك قائلاً: سأخبرك بما أخبرني به أبي: عندما تختفي مكتبة عامة، أو يُغلق محل كتب، وعندما يودع كتاب في مخزن ما ليطويه النسيان، فإننا نحن الذين نعرف هذا المكان- نحن رعاته وحراسه- علينا واجب التأكد من أن تلك الكتب سوف تنتهي إلي هنا.
في هذا المكان كتب لم تعد في ذاكرة أحد، وكتب فقدت مع الزمن، تعيش هنا إلي الأبد في انتظار اليوم الذي تصل فيه إلي أيدي قراء جدد.
وينبهه إلي حقيقة مهمة، تغرب برغم بساطتها عن أذهان جميع الناس: إننا في المكتبة نبيع الكتب ونشتريها، لكن الحقيقة هي أن الكتب لا مالك لها. فكل كتاب هنا كان ذات يوم أفضل صديق لشخص ما، لكنها، الآن، ليس لها سوانا .. أتعرف ما أفضل شيء نصنعه بها؟ طبقاً للتقاليد فإن أي شخص يزور هذا المكان لأول مرة، عليه أن يختار كتاباً ثم يتبناه، وأن يكون واثقاً من قدرته علي حمايته من الاختفاء، فذلك ما سيبقيه حياً. إنه تعهد في غاية الأهمية ينبغي للمرء أن يلتزم به مدي الحياة .. وعليك اليوم أن تؤدي هذا الدور.
وعن سعيه لتأدية دوره الذي قد حان، يقول الراوي: أخذت أتجول بين تلال الكتب المرصوفة بحثاً عن كتاب أتبناه أو يتبناني، فيما كان الناس خارج جدران هذا المكان يسمحون للحياة بأن تتبدد عبر مشاهدة مباريات كرة القدم أو الاستماع إلي التمثيليات الإذاعية، وهم لا يفعلون شيئاً سوي التحديق إلي مواضع حبل السرة في بطونهم!
وبعد نصف ساعة من التجوال، ظهر لي العنوان بالأحرف المذهبة: ظل الريح .. بقلم جوليان كاركاس .. ولم أكن قد سمعت بهذا العنوان ولا بمؤلفه من قبل، لكنني لم أهتم، فقد اتخذت قراري وأنزلت الكتاب بكل عناية وحذر، وحالما حررته من سجن الرف ومن سحابة الغبار، شعرت بالغبطة لاختياري، فوضعته تحت ذراعي وانقلبت علي أعقابي خلال ممرات المكتبة والابتسامة تعلو شفتي .. لقد كنت واثقاً من أن ظل الريح كان ينتظرني هنا منذ أعوام، ومن المحتمل أنه كان ينتظرني من قبل أن أولد!
إن ما مر بنا في مفتتح رواية كارلوس ثافون، ينتهك في أذهاننا غشاوة العادة التي فرضت علينا رؤية الكتاب باعتباره مجرد ورق و حبر، وينقل إلينا عدوي اليقين بأن الكتاب كائن حي يعيش حراً برغم تعدد مالكيه، وأنه معرض للنسيان أو المرض أو الموت، وأنه قابل للتبني و الرعاية والحماية.
قد يبدو هذا مجرد خيال، أو لعباً في ساحة المجازات، لكن تجربة الكاتبة البريطانية مارغريت فورستر خلال كتابتها لسيرة دافني دومورييه مؤلفة الرواية الشهيرة ربيكا .. تضعنا أمام حقائق واقعية مذهلة من هذه الناحية، لا نملك معها سوي التسليم بأن الكتب، علي نحو ما، هي كائنات حية بالفعل!
وتلك حكاية أخري تستحق أن تُروي.
رواية تنعي كاتبتها!
قال بائع الكتب المستعملة لولده الصغير: إن كل كتاب تراه هنا له روح .. هي روح الشخص الذي كتبه وأرواح القراء الذين تداولوه وعاشوا معه وحلموا به.
ذلك ما ورد في مفتتح رواية ظل الريح للاسباني كارلوس ثافون .. ومثل هذا التعبير عن أرواح الكتب كثيراً ما يلوح لنا علي صفحات العديد من المؤلفات، وعلي ألسنة العديد من المشتغلين بالكتابة أو القراء المدمنين، ولا ريب أن كل واحد منا، مهما بلغت درجة اقتناعه بصدق التعبير، سيسارع إلي إدخاله في درج المقاربة المجازية، إذ ليس من المعقول أن يبلغ الاقتناع بالمرء حد التصديق، واقعياً، بأن الكتاب كائن حي بالفعل يمكنه مثلاً أن يحمل للآخرين رسالة من صاحبه، أو ينعيه لهم وهو علي فراش الموت مذكراً إياهم بأن الوقت قد حان لتأبينه.
لكن ماذا نقول إذا علمنا أن كتاب ربيكا لدافني دومورييه قد فعل ذلك بالضبط؟!
لنبدأ الحكاية من أولها:
تضمن كتاب حيوان للبيع لمارك بوستريدج، حكاية الكاتبة مارغريت فورستر عن تجربتها في كتابة سيرة دافني دومورييه وهي روائية بريطانية معروفة لها كثير من الأعمال المميزة التي تحول معظمها إلي أفلام سينمائية، مثل: الطيور، نزل جامايكا، بيت علي الشاطيء، ربيكا .. وغيرها.
لكن ربيكا تظل أشهر رواياتها وأبقاها أثراً، وقد نال الفيلم الذي اقتبس منها بالعنوان نفسه وأخرجه الفريد هيتشكوك جائزة الأوسكار كأفضل فيلم لعام 1940.
تقول فورستر إنها في يوم الأحد 16 أبريل 1989 كانت تحاول أن تتناول كتاباً من علي رف المكتبة، عندما سقط كتاب آخر علي الأرض، وحين التقطت ذلك الكتاب وجدت أنه رواية ربيكا .. التي سبق أن قرأتها وهي في نحو الثالثة عشرة من عمرها، ولم تعاود قراءتها بعد ذلك.
وقفت في مكانها، وبدأت تقرأ الرواية من جديد، مستعيدة الإثارة التي اعترتها أثناء قراءتها أول مرة .. ثم وجدت نفسها تتساءل عما إذا كانت دافني دومورييه لاتزال علي قيد الحياة، وما إذا كان هناك أي كتاب سيرة عنها.
ولأن لها تجارب في كتابة السير، فقد رغبت فورستر أن تستطلع هذا الأمر، مؤملة بأن تكون أول من يحظي بإذن كتابة سيرتها لكي يكون لها الحق الحصري بالاطلاع علي كل أوراق الكاتبة.
وفي الحال كتبت بطاقة إلي ناشرة كتبها تبدي لها فيها رغبتها في كتابة سيرة دافني، وتسألها عما إذا كان ذلك سيروق لدار النشر.
في صباح اليوم التالي وضعت البطاقة في البريد، ثم عكفت علي إعادة قراءة أعمال دافني .. وفي يوم الثلاثاء تلقت رداً من الناشرة أبدت فيه ترحيبها بالفكرة، وأنبأتها بأن دافني لاتزال حية، وأنها تعرف وكيل أعمالها، وستتصل به لترتيب الأمر.
تقول مارغريت فورستر:
الصدفة الغريبة هي أن سقوط رواية ربيكا من رف المكتبة بدا كما لو أنه إشارة إلي أن دافني كانت قد بدأت تستعد لموتها!
ففي يوم الأحد 16 أبريل نفسه، عندما استيقظت دافني من النوم قالت إنها تريد أن تذهب إلي الشاطيء حيث كانت ربيكا بطلة الرواية قد واجهت منيتها.
وبالرغم من أن الوقت كان ربيعاً، فإن الطقس كان متوحشاً في ذلك اليوم كما في الرواية، حيث هبت الرياح هوجاء، وهطل المطر بغزارة وشدة.
وقفت دافني هناك لفترة تحدق في البحر كشاخص تراجيدي ضئيل وصامت، ثم عادت لزيارة عدد من الصديقات من أجل توديعهن.
وفي اليوم نفسه الذي و صلتها فيه بطاقة الناشرة، تلقت فورستر اتصالين من راديو 4 وصحيفة صاندي تايمز يطلبان منها فيهما كتابة نعي لدافني دمورييه التي ماتت للتو!
تلك ثلاث مصادفت غريبة تتصل بنفس الروائية منذ سقطت روايتها من علي الرف .. وبفورستر التي فكرت بكتابة سيرتها!
تقول فورستر: لم أكن، بالطبع، أعرف أي شيء عن هذا، عندما طلبت أن أكون الكاتبة المخولة لسيرة دافني، لكنني أحببت الاحساس بأن القدر قد تدخل، بطريقة ما، في هذا الأمر .. فاحتفظت ببطاقة الناشرة بطوابعها المؤرخة بوضوح، وذلك خوفاً من أن يداخلني الاعتقاد بأنني أنا من اختلقت هذه البداية.
بعد أربعة أعوام، حين نشرت سيرة دافني كان علي مارغريت فورستر أن تهيئ نفسها للظهور في المناسبات الخاصة بترويج الكتاب. وقد حملها ذلك علي أن تتجول بين المحلات لشراء ثياب جديدة لارتدائها في زياراتها لتسع مدن كان مقرراً أن تتحدث فيها عن كتابها.
وبعد جولة طويلة علي محلات الألبسة وقع اختيارها علي سترة أعجبتها لكنها لم تكن تحمل بطاقة توضح ثمنها، فتوجهت فورستر إلي البائعة وسألتها عن الثمن، فقالت لها إنه موجود علي الرقعة الخاصة بالمقاييس وهي داخل جيب السترة، ثم سحبتها من الجيب لكي تريها إياها.
رأت فورستر الثمن علي جانب من الرقعة، لكن الغريب أن الجانب الآخر من الرقعة الخاص باسم مصممة الأزياء، كان يحمل اسم .. ربيكا!
تقول فورستر عن هذه المصادفة المذهلة أنها لاتزال تود الاعتقاد بأنها لم تكن مصادفة إطلاقاً. إن هذا يذكرني بفلسفة الروائي الأمريكي المميز بول أوستر التي تقول بأن أحداث الحياة الواقعية هي ليست إلا سلسلة من المصادفات.
وعلي أساس هذه النظرة، فإن ترادف المصادفات في حكاية فورستر إنما يشكل حقائق واقعية خالصة، الأمر الذي قد يقنعنا بأن للكتب أرواحاً بالفعل!
يا خالق الجرادة!
هناك حكاية شعبية عراقية عن رجل أمّي بليد متبطّل لا يحسن أيّة صنعة وليس له أدني حظّ من المعرفة. وكانت له زوجة اسمها (جرادة) هي علي النقيض منه تماماً، راجحة العقل سريعة الفهم.
ولكي تخرجه من بطالته أشارت (جرادة) علي بعلها بأن يمتهن السّحر وقراءة الطالع، فهي مهنة لا تحتاج إلي كفاءة، إذ ليس عليه سوي أن يجلس في السّوق ويعلن للناس أنّه يطرد الحسد ويشفي الأمراض ويجلب الحظّ بواسطة التمائم. وليس مهّماً إذا كان لا يعرف الكتابة، لأنّ النّاس سُذّج، وأيّة خربشة علي الورق ستبدو لهم طلسماً سريّاً!.
وانصاع البليد لمشورة جرادة فكسب كثيراً من المال، وذاعت شهرته في الآفاق.
ولأنّ الحكايات الشعبية أوسع ذمّة من الأفلام الهندية، فقد تهيّأت للبليد سلسلة من المصادفات التي جعلته يكشف عن خاتم الخليفة الضائع، وعن صندوق مجوهراته المسروق، فأمر له بمنزل جميل وراتب ثابت، وقرّبه، وصار يباهي به بين الأمراء، فرغب أحدهم مرّة في أن يشهد بعض خوارقه، فاستدعاه الخليفة، ولمّا مثل بين يديه مَدّ له قبضته مضمومةً وسأله: (ماذا في يدي؟) .
عندئذ ارتمي البليد علي الأرض منهاراً جزعاً يندب سوء حظّه الّذي أوصله إلي هذا المأزق، وصار يبكي قائلاً: (لقد وقعنا في الفخّ أخيراً يا جرادة) .
وهنا أيضاً يطيب للحكاية أن تمسح الأرض بجميع أفلام الهند، إذ أنّ الخليفة ما أن فتح قبضته حتّي طارت منها جرادة كان يُخفيها!.
وبعد هذه المحنة، طلب البليد من (جرادة) أن تجد له مخرجاً من المآزق الآتية، فأشارت عليه بأن يَدّعي الجنون .. وبهذا تمّ له أن ينعم بالمنزل والما بعيداً عن أيّ خطر.
علي هامش تلك الحكاية، نستعيد حكاية غبيّنا العاطل عن أيّة قيمة، فيبدو لنا أنّ حظّنا العاثر قد وهبه حظّاً لم يحلم به غبي الحكاية الشعبية علي الإطلاق.
غبيّنا هذا تيسّرت له جرادة أمريكية بدينة، تضع وترفع وتبلع ولا تبشع، وكلّ الفرق بينها وبين جرادة الحكاية هو أنّها لم تستند الي سذاجة الناس، لأنها تعلم أنّ بليدها الفذّ ليس سوي نفاية في مقلب زبالة مهد الحضارة الإنسانية، ولذلك فإنها بدلاً من أن تعطيه قلماً ليخربش، وضعت في قبضته مسدّساً، فكان كفيلاً بأن يُحدث أثراً أقوي من جميع طلاسم البشر، ومن كلّ خوارق الجنّ.
في جميع خطبه النحاسيّة، لم يستطع هذا الجاهل أن يقيم جملة مفيدة واحدة. لكنّ عشرات الكتب والأطروحات الجامعية تناولت شرح فكره الثاقب وفلسفته العميقة!.
ولم يخدم هذا البليد الرّعديد يوماً واحداً في الجيش، إذ كان هارباً أبديّاً من التجنيد، لكنّه حمل فجأة أرفع رتبة عسكرية في العالم، توجب علي (رومل) و (مونتغمري) لو قاما من قبريهما أن يؤدّيا له التحيّة!.
وعندما احتاج، مضطرّاً، إلي ارتداء قناع الدّين، لم يكن قادراً علي أداء أبسط مقتضياته، فقد كان يسجد دون ركوع، ويردّد خاشعاً (نريد أن نكون عند حسن ظنّ اللّه) .. أي أنّ هذا الفدم يظنّ أنّ اللّه يظنّ .. وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم!.
بل حتّي عندما تمادي في التدثّر بعباءة الدِّين لكي ينجو من مآزق حمقه، فقرّر أن يكتب بخطّه علي علم البلاد عبارة (اللّه أكبر) .. جعل همزة لفظ الجلاة همزة قطع.
ومع ذلك فقد جاءته وفود القنافذ الإسلاحيين (بإلحاء لا بالميم رجاءً) لتبايعه خليفة للمسلمين، وسُمّي (عبداللّه المؤمن) ، وحمل تسعة وتسعين اسماً لا تنقص عن أسماء الله الحسني. ولم يجرؤ أيّ واحد من أولئك القنافذ الذين يُكفّرون عباد اللّه حتي علي شرب الماء، أن يشير علي خليفته بالرّكوع قبل السجود، أو أن يصحّح له همزة لفظ الجلالة علي العلم، فظلّت همزة القطع كما هي يكرّرها الخطاطون بكل تقديس حتّي بعدما قطع اللّه دابره، وأكرمنا بوصول (غير المحافظين الجدد) إلي سدّة الخلافة!.
هل أضمرت (جرادة) الأمريكية، كعادتها مع سحرتها الآفلين، أن تدعه ينجو؟ وهل فكّرت، من أجل ذلك، في صياغة دعوي جنونه بسلسلة من المضحكات المبكيات؟
كلّ شيء ممكن .. ففي البداية أخرجته من الكنيف بما هو أسوأ من هيئة المجنون.
ثمّ أجّلت محاكمته ما يزيد علي عامين، بدعوي جمع الأدلَة .. وكأنّ النهار يحتاج إلي دليل!.
ثمّ عرضته علينا مربوطاً بالسلاسل، وهو يضحك لحارس المحكمة (نعم يضحك) وكأنّ أحداً يدغدغه!.
ثمّ جاءت إلينا به عارياً إلا من لباسه الدّاخلي (ربّما إكراماً للخصاونة) ، ثمّ لم تلبث أن نشرت أخيراً حديثه إلي سجّانيه وهو يعدهم فيه بدعوتهم إلي القصر عندما يعود إلي السّلطة!.
نحن لا نحتاج إلي كلّ هذا لنعلم أنّه مجنون. نحن لم نعش في عذاب مقيم إلاّ لأننا كنّا نؤمن إيماناً قاطعاً بأنّ تحت قحف رأسه كومة تبن، وإلاّ لأننا أردنا أن يكون عصف جنونه علي أهله وحدهم لا علينا.
وإذا كان غبيّ الحكاية قد نجا بجنونه فهنيئاً له .. لأنّه، فوق كونه خياليّاً، لم يقتل أحداً، ولم يسرق مال أحد، ولم يهتك عرض أحد .. لكنّ مجنوننا هذا قد زرع البلاد كلّها بالمقابر الجماعيّة، حتي أصبحت القبور المفردة المعلومة نوعاً من البدع الدّاعية إلي التعجّب والاستغراب.
وحتّي إذا عددناه كلباً شرساً، فإنّ جميع قوانين السماء والأرض، لا تبيح أبداً الإبقاء علي حياة الكلب المسعور.
في القول العراقي الشائع: (لك بها إرادة يا خالق الجرادة) .. ونحن نحمداللّه علي أنّ (إرادته بها) قد خلّصتنا من صنيعتها الجاهل الأفّاق .. لكن حاشي لها أن تبقيه علي قيد الحياة، لأنّ من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً .. فكيف بمن قتل الناس جميعاً؟!.
العهد الزّاهر!
تناقشت مع المدير، هذا الصباح، حول خرائط المبني الجديد .. لم يعجبه الشكل الهندسي الذي و ضعته للكافتيريا الملحقة بالمبني.
سألني بازدراء: ما هذا؟!
قلت له موضحاً: قدرت أن تصميم الكافتيريا علي شكل شبه منحرف سيوفر في مادة البناء من ناحية، وسيجعلها أكثر حميمية ودفئاً من ناحية أخري. صاح محتجاً: اخرس يا وغد .. لا مكان، في هذا العهد الزاهر، للانحراف أو شبه الانحراف .. إن هذه المباني لا توجد إلا في عهد الاستعمار. اذهب ونظف أفكارك، واحذر أن تلوث الخريطة ثانية بأي شكل من أشكال العمالة والرجعية .. اخرج.
خرجت مكفهراً .. لاحظ رئيس القسم علامات الضيق علي وجهي.
سألني: ماذا حصل؟
قلت له: يبدو أن المدير منحرف المزاج هذا اليوم.
صرخ في وجهي: اخرس يا وغد .. لا تصف المدير بمثل هذا الوصف القبيح .. لقد ولي الانحراف مع عهد الاستعمار البغيض. مديرنا رجل وطني مخلص وأمين. قلت مدافعاً عن نفسي: إنني أصف مزاجه فقط .. لقد عاملني بمنتهي العنف لأتفه سبب.
قال رئيس القسم: بإمكانك، إذن، أن تقول إنه عنيف .. خليق بمدير وطني مثله أن يكون عنيفاً في زمن العنف الثوري.
أستأذنت لمراجعة الطبيب .. طلبت سيارة أجرة، قلت للسائق، وأنا أشير إلي مدخل العمارة التي تقع فيها العيادة:
انحرف إلي اليمين رجاء.
أوقف السائق سيارته فجأة، والتفت إلي معنفاً: أخرس يا وغد .. انني سائق وطني مخلص من زمن الاستقلال. إنني قد أستدير ألف مرة، لكنني لن أنحرف ولو ذقت الموت. لقد ولي زمان الانحراف مع أسيادك المستعمرين. أنزل هنا. لقد لوثت سيارتي.
قطعت المسافة المتبقية سيراً علي قدمي .. وصلت إلي العيادة وأنا ألهث. لبس الطبيب ابتسامته، وسألني: مم تشكو؟
قلت: أشكو من انحراف في الصحة يا دكتور.
نزع الطبيب ابتسامته فوراً، وضرب الطاولة بجمع كفه: اخرس يا وغد .. الصحة لا تنحرف في هذا العهد الزاهر .. الصحة قد تمرض، قد تسوء، قد تنعدم، لكن أن تنحرف فلا وكلا ولن .. لقد ولي الانحراف مع جلاوزة الاستعمار. اخرج من عندي. أنا لا أعالج العملاء أمثالك.
خرجت من العيادة مثقلاً .. مشيت كالنائم. كانت شاحنة مسرعة قد انحرفت عن الخط، واندفعت قاطعة الرصيف في اتجاهي .. قفزت مبتعداً عن طريقها بكل ما أستطيع من سرعة، ونجوت باعجوبة.
خرج بائع الخضار الذي ارتطمت بصناديق دكانه.
سألني بهلع: ماذا حصل؟
فكرت هذه المرة قبل أن أجيب.
قلت له: لقد أستقامت الشاحنة عن الطريق، وكادت تدهسني.
قطب البائع حاجبيه: استقامت عن الطريق؟ ماذا تعني؟!
قلت وأنا أنهض مبتعداً: كما قلت لك .. لا تجرجرني بالكلام. كل شيء مستقيم في هذا العهد الزاهر. الشاحنات لا تنحرف عن طريقها .. افهم هذا جيداً.
صفق البائع بكفيه، ثم رفعهما عالياً:
اللهم اكفنا شر الجنون.
لامسني علي الرصيف المقابل طن من الأصباغ متنكر بهيئة امرأة .. كانت شفتاها تؤرجحان العلكة ببطء واتساع. غمزتني، وشقت حلقها ضاحكة.
تجاهلتها، لكنها لم تتجاهلني .. مشت بإزائي وهي تصفر، ثم لم تلبث أن قرصتني بلطف، وسألتني بلهجة مذيعة فضائية: ما رأي بعض الناس في الحب؟
رددت بسأم: ماذا تريدين مني؟
قهقهت برقاعة وصفعت كتفي: أريدك كلك.
ابتسمت بمرارة: هذه ارادة مكلفة.
قالت: أقبل بأي مبلغ تدفعه.
شعرت بالحرارة تشوي وجهي: ماذا تقولين؟!
قالت: بأي مبلغ.
صرخت بوجهها: أنت عديمة الأدب.
ضحكت بلا مبالاة: هذا صحيح .. أنا منحرفة.
استوقفتها محققاً: ماذا؟
قالت بكل ثقة: أنا منحرفة.
صرخت بكل قوتي: اخرسي يا وغدة .. لا تنطقي بمثل هذا الكلام القبيح. قولي إنك عاهرة .. عاهرة وطنية مخلصة من زمن الاستقلال .. لا توجد عاهرة منحرفة في هذا العهد الزاهر. الانحراف ولي مع الاستعمار.
بالمشمش (1 - 3) (رجل الأمن)
التفت أحدهما فجأة، وصرخ في وجه الرجل الغامض الذي كان يتبعهما:
- مكانك. من أنت؟ وما هدفك من السير وراءنا منذ تركنا المقهي؟
قال الرجل بهدوء وثقة:
- أنا رجل أمن يا سيد. وهدفي واضح جداً. أريد أن أعرف بالضبط ما هي وجهتكما، وماذا تنويان أن تفعلا.
- ما الذي دعاك إلي هذا؟
- أنتما دعوتماني. صوتكما كان خافتاً للغاية. لم أستطع أن أفهم من كلامكما شيئاً. كل ما سمعته منكما هو .. لابد من فعل شيء ما. حسناً. أنا وراءكما لكي أعرف هذا الشيء ألما. أعتقد أني معذور يا سيد. لو لم أتبعكما علي الفور لضحك مني حتي الأطفال.
- معك حق .. في الواقع يا أخ .. نحن لدينا مؤامرة. نريد أن نسقط نظام الحكم بأية طريقة. أرجوك ألا تلاحقنا، فالطريق طويل وسوف تتعب. مكان اجتماعنا مع قادة المجموعة يقع علي أطراف البساتين.
تنهد رجل الأمن:
- أخزي الله شيطانك. أما كان بإمكانكما أن تتحدثا بصوت أكثر ارتفاعاً؟ لو فعلتما ذلك لما داخلني سوء الظن، ولما تورمت قدماي من طول المشي وراءكما. لقد حسبتكما تدبران لعملية سطو أو قتل. سامحكما الله. الآن فقط طمأنتني. مع السلامة.
- مهلاً .. ألا يهمك أن نتآمر لإسقاط النظام؟!
- كلا. لا يهمني علي الاطلاق. واجبي هو أن أحفظ أمن الناس لا أمن النظام. النظام كفيل بالحفاظ علي نفسه، ثم أنكم لن تستطيعوا إسقاطه إذا كان مستنداً إلي تأييد الناس وحبهم، لأن الناس سيسقطونكم في الحال. أما إذا استطعتم أن تسقطوه بسهولة، ولم يفكر الناس بإسقاطكم، فذلك يعني أن النظام متهريء وبغيض وجدير بالسقوط. وفي هذه الحالة .. ألف مبروك لكم، وشكر الله سعيكم!
بالمشمش (2/ 3)
(رجل الرّقابة)
قال مدير الرّقابة:
- آسف. لا يمكننا السّماح بنشر كتابك.
قال الكاتب متعجّباً:
- هل وجدتم فيه شيئاً لا يُعجبكم؟!
- كلاّ .. لم نجد فيه شيئاً.
- لماذا لا تسمحون بنشره إذن؟!
- لأننا لم نجد فيه شيئاً. بصراحة يا أخ، كتابك تافه. وإذا شئت الدقّة .. كتابك نوع من الزّبالة النظيفة.
- زبالة؟! كتابي زبالة؟! أنت تقول ذلك؟!
لقد سكبت فيه عصارة قلبي من أجل إبراز منجزات الثورة العظيمة.
- آسف. لم نجد فيه عصارة قلب، بل وجدنا فيه ما يشبه عصارة شيء آخر!
إنّ ما يهمّنا قبل كلّ شيء يا أخ هو منجزات أسلوبك ولغتك وفنّك وصدقك. دع منجزات الثورة تتحدّث عن نفسها، وتحدّث عن منجزاتك أنت.
- هذا فظيع .. لقد سمحتم منذ أيّام بنشر ديوان شعر يسفّه الدّولة، فكيف تمنعون كتاباً يمجّد الدولة؟!
- أنت مخطيء يا أخ. ذلك الديوان، في الواقع، كان يمجّد الدّولة، ولكن بطريقته الخاصّة. إنّ كلّ سطر فيه يشير إلي موهبة فذّة. فأيّ مجد يمكن أن تحصل عليه الدولة سيكون أكبر من كون صاحب هذه الموهبة واحداً من مواطنيها؟
- أيّ زمن هذا؟ وأيّة رقابة هذه؟
سأنشر كتابي في الخارج.
- انشره.
- لكنكم ستمنعون دخوله.
- كلاّ .. ليس هذا من عاداتنا.
- لماذا، إذن، تمنعون نشره هنا؟!
- لكي نبريء ذمّتنا فقط. لكي لا يقالَ إنّنا دولة سيّئة الذوق إلي درجة تجعلها تسمح بنشر كتاب متخم بالنّفاق وساقط من الناحية الفنيّة!
بالمشمش 3/ 3 (رجل السّلطة)
قفز الشّاب الأنيق، فجأة، إلي مقدمة الطابور الطويل أمام مخزن التموين.
ارتفعت أصوات الواقفين بالاحتجاج، وحاولوا دفعه إلي الوراء دون جدوي.
من منتصف الطابور اشرأب عجوز وقور وناداه بلطف:
- بالدّور يا ولدي. نحن واقفون هنا منذ ساعتين، وليس من العدل أن تتخطّانا إلي المقدّمة وقد جئت لتوّك.
قهقه الشاب ساخراً:
- العدل في وزارة العدل يا جدّي.
صاح العجوز:
- أعلم ذلك .. وينبغي أن يكون العدل في الطابور أيضاً.
عفط الشاب، ولزم مكانه.
عندئذ ترك العجوز موضعه، ومشي نحو الشّاب بتؤدة، حتّي إذا حاذاه قال بصوت خفيض:
- خذ محلّك في آخر الطابور. نحن جميعاً غير راضين عمّا فعلت.
نفر الشّاب وأمسك بياقة العجوز:
- وصلتنا رسالتك. والآن عد إلي مكانك، وإلاّ فسأمسح بك الأرض. هل تعرف مَن أنا؟
- لا أعرف مَن أنت، لكنني أعرف أنّ ما فعلته خطأ.
- اقفل فمك، وعد إلي مكانك قبل أن تندم.
- لن أندم علي قول الحقّ أبداً.
- أنصحك لوجه اللَّه أن تغرب عن وجهي، وإلاّ فإنَك ستبول بملابسك إذا عرفت مَن أنا.
- سامحك اللَّه. ليس فعلك وحده القبيح .. أقوالك أقبح. للمناسبة .. مَن أنت؟
- أنا ابن وزير الدّاخلية؟!
- ابن وزير الدّاخلية؟!
- نعم .. وزير الدّاخلية.
- يا للويل. لم يخطر في بالي شيء من هذا علي الإطلاق .. يا للويل.
- ألم أقل لك إنّك ستندم؟
- صدقت. ليس في الدنيا من هو أكثر ندماً منّي.
استدر يا ولدي وطأطئ؟!
- نعم .. تطأطئ، لكي استطيع أن أركلك بقوّة تكفي لإرسالك إلي أحضان أبيك الذي لم يعرف كيف يربيّك.
احتقن وجه الشّاب غضباً، وتطاير الشّرر من عينيه:
- ضيّعتَ عمرك .. ضيّعتَ عمرك.
- نعم. ضيّعته مع أمثالكم.
- أيّها العجوز الخرف، كيف تواتيك الجرأة علي مخاطبتي بهذه الطريقة؟ مَن تظنّ نفسك؟!
- إنّني لا أظنّ نفسي. إننّي أعرفها حقّ المعرفة ..
أنا رئيس الجمهورية!
تمّت الموافقة
قالوا يا عبد المجيد أحضر صورتين للوجه. أحضرت. وصورتين للقَفا. من فوق أم من تحت؟ من فوق يا قليل الأدب. فعلت يا أخي. تنفع. ألا تنفع؟ منعاً للالتباس. علي الأقل إذا أرادوا صفعي، ذات مرّات، فستكون الصّفعات علي حجم قفاي.
حوّلوني إلي قسم البصمات. رفعوا بصمات أصابع يديّ. حسناً، ارفعوها. قالوا ارفعْ رجليك. قلت لهم هذا لا يحدث في بلد متحضّر. مغطوا أُذنيّ، مع أنهما غير مشمولتين برفع البصمات. لا بأس. تنفع ألا تنفع؟ علي الأقل صرت أسمع وأطيع بشكل أفضل. رفعت رجليّ فرفعوا بصماتهما، وعرفت حينئذٍ أنّه رفع من أجل الرّفع.
استخرج شهادة حُسن السلوك يا عبد المجيد. لا بأس. وإن كنت سأدفع ربع دينار للمختار من أجل ذلك. يا مختار ما رأيك بسلوكي؟ سلوكك جيّد يا عبد المجيد. إذن، أشهد أنّه جيّد. حاضر .. الناس للناس. وربع الدينار لك يا مختار. ماذا تقول يا وسخ؟ أنا آخذ منك ربع دينار؟ ليس أقل من خمسة دنانير. كيف تظن يا مختار أنني أملك خمسة دنانير، مع أنك تشهد بأنّ سلوكي جيّد؟ إذن سلوكك سيّء يا عبد المجيد. وستري أنّه سيّئ حتي لو شهدت لك مجاناً. الآخرون سيطلبون أكثر. آخرون؟ هل هناك آخرون؟ طبعاً يا عبد المجيد، كأنّك لست من هذا البلد. وراءك مركز الشرطة، وبيت الحزب، ودائرة الأمن، وشعبة العمل الوطني، وقسم الهجرة، والاتحاد النسائي. سامحك اللَّه يا مختار .. أنا لست امرأة.
ما لها المرأة يا ولد؟ المواطنون سواسية مثل أسنان الرئيس. لكنّ المرأة يا مختار ناقصة عقل ودين. وهل عندك أنت عقل ودين؟ إيّاك أن تبوح بهذا لأحد. إياك. نصيحة لوجه اللَّه. سوف تضيع يا ولد.
بماذا سيشهد الاتحاد النسائي يا مختار؟ من باب الاحتياط يا بني. سيعرضون صورتك علي جميع نساء البلاد من يدري .. ربما كنت قد تحرشت بواحدة. أيّ الصورتين يا مختار؟ كلاهما يا حمار. فإذا كانت ثيابك قُدّت من قُبُل فقد صدقت وأنت من الكاذبين. وما شأن قفاي؟ ربما تكون قد غازلتها وأنت مُدبر عنها. أأنا مجنون؟ طبعاً مجنون يا عبد المجيد. تغازل امرأة وأنت مُعطيها ظهرك .. ماذا تكون سوي مجنون؟ علي رسلك يا مختار. أنا لم أفعل شيئاً كهذا. فقط أنبهك يا بُني. كلّ نساء البلاد يا مختار؟ طبعاً.
متي ستنتهي الشهادة إذن؟ تنتهي وقتما تنتهي، لماذا العجلة؟ قوانين الدولة أكبر من رأس الذي خلفك.
بعتُ سريرنا يا أخي. وعندئذ اقتنع المختار بحسن سلوكي. قلت لنفسي وأنا أتخيل القائمة: ماذا أبيع أكثر؟ لم أحتج إلي بيع أي شيء. تبين أن المختار سيء السلوك. لم يُطالبني الآخرون بشيء. كذّاب. كادوا يحبسونني حين هممت بفتح الموضوع. لا يقبلون الرشوة. موظفون عقائديون. كل ما طلبوه مني هو أن أكون (متعاوناً).. قلت لهم أنا مؤمن جداً بالتعاون .. (قوم تعاونوا ماذلّوا) . قالوا بارك اللَّه فيك. وانهالت البركة أكثر مما يجب. كان عليّ أن أكتب تقريراً يومياً لكل دائرة علي حدة. عمّن؟ عن الخونة أعداء الجماهير. كيف أعرف الخونة يا جماعة؟ الخونة معروفون يا عبد المجيد. المواطن الجيد يعرف الخائن من نظرات عينيه. ما علامة ذلك؟ العلامة تدركها بضميرك اليقظ الصّافي.
وكان علي ضميري أن يُدرك. المسألة يا أخي مثل التنّور. حطب، حطب، حطب. لابد أن تلقي حطباً كُلّ يوم. ثلاثمائة وخمسة وستون خائناً في السنة، بخلاف السنوات الكبيسة. للمناسبة دعني أنظر في عينيك.
قالوا في مركز الشرطة أأنت مجنون يا عبد المجيد؟ تجاوزت الثلاثين ولم تستخرج حتي الآن شهادة الجنسيّة.
قلت معي الجنسية. قالوا لا تنفع. يجب أن تكون لديك شهادة للجنسية والشهادة من يشهد لها؟ قالوا لا تتصنع خفة الدّم.
أربعة أشهر يا أخي. بحثوا في كشوف المواليد من حمورابي وفرعون الأكبر مروراً بقطز. للمناسبة مَن قُطز هذا؟ أربعة أشهر ومائة دينار حتي شهدوا أنّ جنسيّتي هي جنسيتي، مع أنّ الامبرياليين أعداء الجماهير يكتفون ببطاقة الهوية.
أملأ هذه الاستمارة يا عبد المجيد. هذه عشر استمارات كلاّ إنهّا واحدة يا عبد المجيد. استمارة واحدة من عشر صفحات. وملأتُ عبد المجيد. الاسم الكامل حتي الجد السابع والثلاثين. اسم أبيك وجميع إخوانه. إنه وحيد أبويه. اذكر أولاد عمّه وخاله، ولا تنس أشقاءك وأولاد عمك وخالك. وأمي؟ وأمك وجميع أقاربها. اذكر انتماءات الجميع، وميولهم، واتجاهاتهم عنوانك الحالي والسابق والذي قبله. أين كان يسكن أهلك قبل أن تولد؟ ولماذا؟ ماذا كان يطبخ جيرانكم في ساعة مولدك؟ حدّد نوعية الزفر. أين بدأت الدراسة؟ وأين أنهيتها؟ إذا كنت لم تبدأ الدراسة اذكر أين لم تبدأها؟ ماذا كان يفعل المدرس إذا انقطع رباط حذائه؟ ولماذا؟ اذكر سبعة أبيات للشنفري. لم أعرف يا أخي أنّ لعائلتي كلّ هذا التاريخ العريق إلا بعدما انتهيت من ملء الاستمارة. استحق الدكتوراه بامتياز علي الجهد الذي بذلته. ومع ذلك كدت ارتكب الخيانة العظمي. نسيت، وجل من لا ينسي. سامحوني بعد أن دبغوا جلدي، وأضافوا المعلومة الناقصة عن قطتنا التي أنجبت قبل ثلاث سنوات وماتت لها هرّة بعد أيام من الولادة. نسيتُ اسم الهرّة، لكنهم مازالوا يتذكرونه. قلت لهم إنها (قطقوطة) . قالوا كلاّ إنها (قطّوطة) . قلت لنفسي: آه يا قُطز. إذن هم الذين بلّعوك القاف. كنت أظنها قاف التّشبيه. ويلك يا (طُزّ) .. إنها قاف هرّتنا المرحومة. قالوا لي في بيت الحزب إنّ كل مواطن شريف هو عضو في الحزب وإن لم ينتم. طعنوني في شرفي يا أخي جعلوني (عضواً) !
لم تشهد لي شعبة العمل الوطني حتي تطوعت في مصنع النسيج، وفي هيئة المجاري، وفي مصلحة الألبان لمدة ثلاثة أشهر.
أصبح عندي طن من الورق. حملته في شاحنة إلي المؤسسة العامة للأجهزة الدقيقة. قلت لهم: ها هي الموافقة. قالوا نفدت الكمية. انتظر دورك يا عبد المجيد. وانتظرت يا عبد المجيد. تسعة أشهر يا عبد المجيد، وحين جاء دوري يا عبد المجيد، عطوني (الآلة الطابعة) ولم يعطوني الشريط!
كيف أطبع يا جماعة؟ ماذا تريد أن تطبع يا عبد المجيد؟ الحقيقة نسيت. يا جماعة لكنّ الشريط ينفع. ألا ينفع؟ علي الأقلّ سأطبع به تقاريري اليوميّة عن الخونة. عيب يا عبد المجيد. الاعتماد علي النفس فضيلة. لماذا خلق اللَّه الأصابع يا عبد المجيد؟
خلقها لرفع البصمات يا جماعة!
كتب مشاكسة!
أحمد مطر
من الظواهر الغريبة في عالم التأليف، أنّ بعض الكتب تمارس علي مؤلفيها نوعاً غليظاً من المشاكسة، وتستحيل أحياناً إلي شِراك يصعب التخلّص منها، أو إلي عُقد مستحكمة ترافق الكاتب طول حياته دون أن يفلح في حلّها برغم كثرة المحاولات.
وأطرف ما في هذه الظاهرة هو أنها تختص بالكتب الناجحة جداً. والمفارقة هنا هي أنّ فرحة الكاتب بنجاحه تشبه إلي حدٍ بعيد شعوره بغصّة الفشل، ذلك لأنّ نجاح الكتاب يقوم كحائط سميك من الكونكريت يحجب وراءه جميع الإبداعات التالية للكاتب، أو ربّما يتطاول حتي يحجب الكاتب نفسه.
وتلك الظاهرة قد تتعلّق بروعة مضمون الكتاب بأكمله، أو بروعة بناء إحدي شخصياته.
خذ مثلاً علي ذلك أنّ السير آرثر كونان دويل مبتكر شخصيّة شرلوك هولمز قد بلغ من النجاح حداً جعله أسيراً بالفعل لهذا المفتش الخاص المختلق، ذلك أنّه بعد سلسلة طويلة من القصص حاول أن يستريح، فدبّر محاولة لقتل هولمز، لكنّه لم يدرك عقم محاولته هذه إلاّ عندما وجد أن جمهور القرّاء قد حاصر بيته في مظاهرة احتجاج مندداً فيها، بجدية بالغة، بدويل المجرم الذي قتل هولمز، ولم ينجُ دويل من غضب الجمهور إلا حين ابتكر، برغم أنفه، حيلة أدبية، أعاد فيها شخصية هولمز إلي الحياة، وربط رقبته في حبلها إلي آخر حياته!.
ومن أمثلة هذا، عندنا، تلك العقدة الحادة التي عاناها الأديب العظيم يحيي حقّي، بسبب قصّته (قنديل أم هاشم) .. فعلي رغم كونه أحد أبرز روّاد القصّة القصيرة في العالم العربي، وله منها رصيد ضخم ومهم، وعلي رغم إبداعه للعديد من القصص الطويلة المهمّة الأخري، وعلي رغم إتحافه المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تضمّنت مئات المقالات في شتّي النواحي التاريخية والأدبية والفنيّة، فإنّه عاش ومات وهو مدموغ بهذه القصّة، ولا يشار إليه إلاّ بأنّه (صاحب القنديل) !.
وأحسب أنني قرأت له في أكثر من موضع تعبيره عن الضيق والنفور من هذا الوصف الخانق الذي لا يريد أن يتزحزح قليلاً ليفسح المجال لبروز إبداعاته الأخري. ومن طريف ما قرأت، في هذا المجال، كتاب (فرنسا والفرنسيون .. علي لسان الرائد طومسون) للكاتب الفرنسي بيير دانينوس .. فهذا الكتاب الذي نقله إلي العربية الدكتور ثروت عكاشة، يقف في مثابة واحدة مع تلك الكتب التي شكّل نجاحها مقلباً لأصحابها!.
كان دانينوس قد نشر فصول هذا الكتاب عام 1954 كمقالات متتابعة في صحيفة فيجارو الباريسية، ثمّ ما لبث أن أصدرها في كتاب في السنة ذاتها، فإذا به ينجح نجاحاً مذهلاً، ويترجم إلي العديد من اللغات، ويباع من طبعته الفرنسية وحدها، في ذلك الوقت، أكثر من أربعة ملايين نسخة.
وأعجب ما في أمر هذا الكتاب هو أنّه ليس عملاً روائياً، بل مجرد مقالات تستقصي بالنقد الساخر جميع ما وقع للمؤلف عن فرنسا والفرنسيين، لكنّه، مع ذلك، أُعِدَّ ليصبح مسرحية، ثمّ سُجّل علي اسطوانات، وتحوّل بعد ذلك إلي فيلم سينمائي!.
ولأنّ دانينوس قد خشي من غضبة الجمهور الفرنسي عليه إذا هو صارحه بآرائه، فإنه ابتكر شخصية ضابط انجليزي متقاعد اسمه (طومسون وليام مارماديوك) ، وزوّجه من امرأة فرنسية، وجعله يعيش في باريس، ثمّ وضع علي لسانه جميع الآراء الساخرة في الحياة الاجتماعية الفرنسية، واكتفي بأن يكون مساعداً للضابط المتقاعد ومترجماً لمذكّراته!.
ولأنّه نجح جداً في بناء شخصيّة طومسون، ونجح إلي حد بعيد في رصد تفاصيل الحياة الفرنسية وتناولها بالنقد بأسلوب ساخر بالغ الروعة، فإنّ شخصيّة ذلك الرائد الإنجليزي قد طغت علي شخصيته جداً، بل استطاعت أن تمحوه تماماً، علي الرغم من كونه قد حاول، من خلال شخصيته كمساعد ومترجم فرنسي، أن يرصد حياة الإنجليز وسلوكهم بالنقد الساخر في موازاة نقده للفرنسيين.
وبلغ من طغيان شخصية الرائد طومسون، أنّ الناس باتوا يذكرونه وينسون المؤلف، حتي أنّ سفير بريطانيا في باريس قد كتب إليه بعد صدور الكتاب قائلاً: (كم أنا شاكر لو أبلغت تهنئتي للرائد طومسون، وكم كنت سأكون سعيداً لو أنّي رأيت توقيعه علي الإهداء) !.
بل إن إحدي القارئات الفرنسيات ضاقت ذرعاً بعبارات النقد الساخرة التي وجهها ذلك الضابط الإنجليزي (الخيالي) إلي الفرنسيين، فعابت علي دانينوس اهتمامه بترجمة ذلك الكتاب الذي لا يُقبل فرنسي علي ترجمته إلاّ إذا كان مرتشياً!.
ومن الطبيعي، بعد ذلك، أن تصبح شخصية طومسون المختلقة مثيرة لغيرة دانينوس لأنّها استأثرت بالشهرة من دونه .. وهذا ما عبّر عنه في كلمته أمام إحدي الجمعيات البريطانية التي استضافته في ذلك الوقت .. إذ قال: (ما أشدّ حُمقي حين استضفت إنجليزياً في كتابي، فإذا هو ينحّيني جانباً ليأخذ مكانه في الكتاب، وإذا أنا لا مكان لي فيه، حتي بتُّ أتساءل عن دعوتكم: هل كانت لي أم للرائد طومسون؟) !.
وكلمة دانينوس هذه تذكّرنا بكلمة مماثلة للكاتب الكبير الطيّب صالح، المُبتلي هو أيضاً بنجاح روايته (موسم الهجرة إلي الشمال) التي حجبت بشهرتها رواياته وكتبه الرائعة الأخري.
ففي منتصف الثمانينيات كان الطيّب صالح قد دعي إلي تونس، وكان حينذاك موظفاً في اليونسكو، فروي في كلمته أمام مضيفيه أنّ رجلاً عربياً استوقفه ذات يوم ليسأله: أأنت أبوصالح الطيّب؟
وتجاوز الطيّب عن ذلك التصحيف الذي لحق باسمه، وأجاب: نعم .. أية خدمة؟
فإذا بذلك الرجل يسرف في إبداء حفاوته بالكاتب قائلاً إنّه من أشدّ المعجبين به وإنّه قرأ له ديوان شعر اسمه (هجرة الشمال إلي الجنوب) وقد أُعجب به كثيراً!.
وبعد هذه اللخبطة التي سببتها شهرة روايته حتي جعلت رجلاً لم يقرأه يحوّلها إلي ديوان شعر بعنوان مختلف ولمؤلف مختلف، خلص كاتبنا إلي مخاطبة مضيفيه قائلاً: إن هناك موظفاً في اليونسكو اسمه الطيّب صالح، كما إنّ هناك رجلاً آخر يحمل الاسم ذاته يكتب القصص وما إلي ذلك .. وإنه يخشي أن يكونوا قد وجّهوا الدعوة إلي الأول فجاءهم الثاني!.
البطّة التي ماتت من الضحك
عثر رجل فقير على (بيضة) ، وعلى الرغم من كونه جائعاً جداً، فإنه امتنع عن أكلها، واستخدم الذرّة الوحيدة الباقية من عقله لاستعادة الحكمة الصينية القائلة بتعلم الصيد بدلاً من ابتلاع السمكة المهداة من الصياد.
قال لنفسه: ليس عندي أكثر من وقت الفراغ، ولذلك سأجلس فوق هذه البيضة الى أن تفقس، وكل ما سيأتي منها سأتبناه.
وفكر في الأمر على النحو التالي: إذا كان الوليد فرخ دجاج فسأطعمه أفخر انواع الديدان ليكبر ويصبح دجاجة سمينة تبيض لي بيضاً كثيراً آكل بعضه وأبيع بعضه الآخر للملحنين ليسلقوه ويقدموه أغاني شبابية.
وإذا تبيّن انه ديك فسأبيعه لأحد احزاب المعارضة ليتخذه رمزاً له، كأن يضعه فوق مزبلة لكي يصيح، فالديك مثل تلك الاحزاب تماماً، يؤمن بأن الشمس لا تشرق إلا استجابة لصياحه.
وإذا تبيّن ان الوليد أوزّة، فسأهديها لأحد معسكرات الحركات التصحيحية من أجل ان يتدرب القادة على (مشية الأوزة) .. أمّا إذا كانت من تلك الأوزات التي تبيض ذهباً، فستصادرها السلطة مني، وستعطيني بدلاً منها وساماً من النحاس، وهو كل ما ينقصني في هذه الحياة.
وإذا تبيّن أن الوليد أفعى، فستلدغني قبل ان أتبنّاها، وعندئذ سأدخل الجنة باعتباري من شهداء العمليات الجهادية (المتترّسة) كأيِّ واحد من أطفال العراق السعداء.
أمّا إذا كان الوليد سلحفاة، فسأهديها الى وزارة الاقتصاد، من أجل دفع عجلة التنمية، وبذلك سأكسب الأجر والثواب، اضافة الى تنمية ثوبي برقعة جديدة.
بعد أسابيع من جلوسه فوق البيضة، فقست عن بطّة صغيرة جداً، وبرغم مرور أشهر على خروجها من القشرة، بقيت البطّة ضامرة وبائسة مثل كرة مضرب. وتبيّن للفقير أنها معاقة وعاقر وحولاء أيضاً ولا تعرف السباحة على الاطلاق، لكنّها، والحقّ يُقال، كانت تستطيع أن تقول: (واك) .
رضي الرجل بقسمته صاغراً، وقال في نفسه: إنها ابنتي على كل حال، وإذا أنكرت بنوّتها فإنني لن أهنأ بأكلها لأنها أقلّ من لقمة. وعليه فإنني سأبقيها معي لكي تؤنسني.
ولم يدر الرجل ذو النية الطيبة بما تخبئه له الأقدار، فما أن سمعت وسائل الاعلام بخبر البطّة المعاقة الحولاء، حتى هبّت جميعها في منافسة حامية من أجل توقيع عقود عمل معها.
وفي النهاية فازت فضائية (آكلك منين يابطة) بتوقيع عقد مع الرجل تدفع له بمقتضاه مبلغاً ضخماً من المال، مقابل ان تحتكر طلّة البطلة المعجزة على شاشتها (حصرياً) كقائدة للتغيير، من خلال تقديمها للبرنامج الاجتماعي الهادف (أكاديمية البطّ) .
لكن المحطة نبّهت الرجل الى أنه ليس بالـ (واك) وحده يحيا البطّ، وأنّ شرط المذيعة الناجحة هو أن تضحك عند إطلالتها على الجمهور .. حتّى لو كانت تذيع خبراً عن مصرع مائة طفل بانفجار سيارة مفخخة. وأبلغته بأنَّ القناة تضع مسألة الضحك، في هذه الحالة، ضمن بند (شر البليّة) .
وأمام هذا الشرط اضطرّ الرجل إلى تدريب البطّة على الضحك، لكي تستكمل المؤهلات الضرورية للنجاح الفني، خاصة أنها جاءت إلى الدنيا وكلّ مؤهلاتها الاصلية معها: عارية .. وتهزّ.
ظل يكرّر عليها صبح مساء: (قاه قاه قاه) .. وبعد وقت طويل وجهد جهيد تعلمت كيف تضحك. لكن لأنها معاقة وغبية وحولاء، فقد تعلّمت أن تضحك بالمقلوب: (هاق .. هاق) .
وقد كان هذا نذير كارثة لم تكن في الحسبان، إذ لم يمض زمن حتّى سمعتها إحدى الحركات الجهادية، فاختطفتها على الفور، وحكمت باعدامها لأنها سكرانة!
وفي مفاوضة يائسة حاول الرجل اقناع هيئة عملاء المسلحين - التي كانت تتوسط بينه وبين المجاهدين - بأنّ بطته عندما قالت (هاق هاق) لم تكن سكرانة، لكنها غبية تضحك بالمقلوب.
ولم تصل المفاوضات الى نهاية طيبة، ذلك لأن الضحك في مفهوم المجاهدين لم يكن أقل إثماً من السكر!
وعلى الفور قامت المجموعة الخاطفة بذبح البطّة، وأرسلت شريط ذبحها إلى فضائية (الذئب الوديع) .. لكن الأخيرة امتنعت عن عرض الشريط، لأنه، حسب تصريح الناطق باسمها، يصدم المشاعر الانسانية، ويحرّض على قتل البطّ، الأمر الذي يعتبر خروجاً على القواعد المهنية!
الموت لنا
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
تأتي الانقلابات لها بقادة من رحم المجهول فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق، وتذهب الانقلابات المضادة بالمجهولين، فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق للمجهولين الجدد .. وهكذا دواليك، حتى تضجر البنادق، وتسأم الدّبابات، وتملّ البلاغات الأولي، وتبقى الأمّة النشطة وحدها صامدة ضدّ الملل والضجر والسأم. ولفرط إخلاصها للهتاف العتيد، لا تنتبه للموت وهو يلملم وفاتها المعتّقة، فتموت وهي تهتف: يعيش .. يعيش!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة. الحياة ليست عملة نقدية صغيرة ترمى للشحّاذين، ولا هي بضاعة رخيصة تباع في سوق السلع المستعملة.
الحياة قيمة كبرى لا يستأهل امتلاكها إلاّ من يستطيع دفع ثمنها.
ومَن لا يملك الكرامة لا يملك ثمن الحياة ولو امتلك أموال قارون.
وحتّى لو ابتاع أحد الكرام المحسنين هذه القيمة بغية توزيعها على المعوزين، لوجه اللّه، فإنها ستركن في حوزة هؤلاء حتى تصدأ، إذ لا يعرفون كيفية تشغيلها، ولا يعرفون ما إذا كانت تصلح للتبريد أم للتدفئة.
الحياة خسارة في هؤلاء، لأنّ مَن لا يتقنون استخدام الحطب للطبخ، من العسير عليهم أن يستخدموا شيئاً يسمّى (المايكروويف) ، وكلّ ما سيمكنهم فعله عندما يمتلكونه هو أنهم سيباهون أمام الجيران بأنّ لديهم جهاز تلفزيون بلا هوائي!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنها تحلف بالطلاق على طغاتها بألاّ يموتوا وألاّ يمرضوا وألاّ ينهزموا، لكي لا تقع الطامّة عليها بالاحتلال الأجنبي.
هي أمّة منزلية .. تفلفل على الاحتلال الداخلي، وتنتشي لمن يهتك عرضها إذا كان منها، وتتفجّر احتراماً وتوقيراً لمن يسرق لقمتها الوحيدة من بين أسنانها إذا كان من العائلة، وتفرفح لمن يحبسها في صندوق زبالة ويساقيها العصيّ في مؤخراتها، بشرط أن يكون واحداً من أبنائها البررة!.
هي أمّة ترى الاغتصاب الوطني عفّة، والسرقة الوطنية مجرّد اقتباس، والتعذيب الوطني شأن داخلي من العيب أن تشكو منه للغرباء. كلّه عسل .. إلاّ الاحتلال الأجنبي.
مليون طاغية .. ولا محتّل غريب واحد!.
وتنسى هذه الأمة الممحونة المفلفلة أنّ الطغيان الداخلي كان دائماً البوابة العريضة التي يدخل منها المحتل الخارجي. وتنسى هذه الأمّة المهتوكة العرض ذاتياً أنّ معظم الاحتلالات الأجنبية كانت رحمة من الله على عباده، مقابل نقمة الاستقلال الوطني المستبد.
لأنّ ذلك الاحتلال ينشغل عن النفوس بابتلاع الخيرات، فيما ينهض هذا الاستقلال علىبتلاع الأنفاس والنفوس والخيرات معاً.
وتنسى هذه الأمّة الفاجرة بالمجّان أنّ مَن يمّد نحره لكي يُذبح بسيف أخيه، ليس من حقه أن يتأوّه من سطوة سيف الغريب، إذ لا فرق بين السيوف في اللغة والعمل.
ومَن يستنكر الذبح العدواني ويستمرىء الذبح الأخوي هو ليس فيلسوفاً ولا حكيماً ولا وطنياً. بل هو كائن ساقط تماماً من سجلّ الحياء والحياة.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنّها تباهي بفضلها على العالم، وهي قاعدة تشحذ الصّدقات على أرصفته.
أسلافها الذين تفضّلوا ماتوا وماتت مآثرهم، وهي لا تزال منذ ذلك الوقت تأكل وتشرب وتلبس وترى وتسمع وتتداوى وتسافر بفضل كرم الأجنبي الذي استفاد من فضل أسلافها ونمّاه وطوّره وجَمّل به حياته.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنّ أمتن وأجمل الأبنية التي نراها في بلادنا، وأفضل مشروعات العمران والزراعة والرّي، وأدقّ النظم الإدارية التي نطبعها (بالكوبيا) عاماً بعد عام، بل وحتى نظم التسلّح والتدريب التي تعلفها بؤر تفقيس الانقلابات التصحيحية والتخطيئية المباركة لدينا .. بل وحتي أزياء ضبّاطنا وجنودنا، هي كلّها من مخلّفات الاحتلال الأجنبي البغيض الذي بذلنا الغالي والنفيس للخلاص منه، ثم استبدلناه بمومياءات لا تعرف حتى كتابة أسمائها!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنها تغرف من الغرب كلّ سيّئاته، ولا تغلط مرّة واحدة بأخذ شيء مفيد منه، وما أكثر الأشياء المفيدة لديه.
ما إن تظهر صرعة عري أو شذوذ أو تهتك أو عبادة شيطان في الغرب، حتى تجد ترجمتها الفورية لدينا، وبأسوأ وأبشع ممّا لدى الغرب نفسه.
في الوقت الذي ظهر برنامج (بوب آيدل) في بريطانيا، طلع لدينا (سوبرستار) ، وزدنا عليه القبعة الأكاديمية فأصبح لدينا (ستار أكاديمي) ، وقلّدنا حتى برنامج العهر الصريح (بلايند ديت) أو ما يمكن ترجمته إلي (موعد أعمى) ، فلم نقصّر في أن نكون أكثر تخلّعاً من أهله.
حسناً .. إنّها عولمة، ولا بُدّ لنا أن نلحق بالرّكب (ولو بكشف ما فوق الرُّكب) .. لكن ألم يسمع أحد عن البرنامج الكبير ذي الضجّة العارمة الذي نظمته محطة BBC تحت عنوان The Big Read أو (القراءة الكبرى) ؟
لقد كان القوم يتنطّطون ويتراقصون على جانب، لكنهم في الوقت ذاته كانوا منهمكين في شأن أدمغتهم على الجانب الآخر، وكانوا يلهثون بنفس الطريقة في سباق ترشيح الكتب التي طالعوها وأثّرت فيهم.
على مدى عدّة أسابيع، تمّ اختيار آلاف العناوين، وتمّ خضوعها للتصفيات ليتفوّق منها مائة عنوان، وليفوز من بينها عنوان واحد بكونه الكتاب الأكثر قراءة.
على مدى عدّة أسابيع، والمكتبات التي بعدد محّلات أشرطة الكاسيت لدينا، تعرض في واجهاتها الكتب المرشحة، وتجري حسماً على أثمانها الرخيصة أصلاً، لتكون في متناول القراء.
على مدى عدّة أسابيع والدنيا قائمة وقاعدة في بريطانيا، وموضوع قيامها وقعودها هو الكتاب ولا شيء غيره!.
ألم تسمع عروبتنا بذلك؟
بل سمعت. لأنّ الضجيج كان أقوى مِن صوت المتنبي الذي أسمعتْ كلماته مَن به صمم.
لكنّ المشكلة هي أننا أمّة بدأ الوحي لديها بكلمة (إقرأ) وكأنه يلهب ظهرها بالسوط آمراً إيّاها بأن تكون أمّة أميّة حتى النخاع. إنّ أمّة (إقرأ) التي لا تقرأ .. لا تستحق الحياة.
إنّ أمّةً نسبة الأميّة فيها 43 بالمائة، بعد عشرات الأعوام من النفط والاستقلال الوطني والقومية العربية والشرعية الثورية والصحوة الإظلامية هي أمّة لا تستحق الحياة.
نحن أمّة لا تستحق الحياة ... لأنّنا أنهينا الخلافة الرّاشدة بالاغتيال، ووضعنا الإسلام بعدها في صندوق ربطناه بمليون سلسلة ورميناه في بحر الظلمات، وجعلنا القرآن العظيم مجّرد آيات تتلى في المآتم، ووضعناه على منصّة الشهود ليحلفوا في المحاكم على أن يقولوا الحقّ، وهو الشيء الذي لم نعرفه قط، منذ قتلنا الإسلام غيلة واستبدلناه بشيء لا علاقة له بالسماء ولا بالأرض، إكراماً لعيون السفلة المستبدين المستحوذين علي خير الناس ورقاب الناس.
واحد من أبطالنا الميامين الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن نسف مئات الأبرياء في قطار مدريد، أعلن بعد حمد اللّه والثناء عليه، عن وقف العمليات حتى حين في بلاد الأندلس.
بلاد الأندلس؟!
أكانت ملك الذين خلّفوكم؟!
لماذا لا يصرّ الصهاينة المجرمون علي تسمية أرض فلسطين بإسرائيل، إذا كنّا لا نزال، حتى بعد خيبتنا التي طولها سبعمائة سنة، ندّعي ملكية أرض ليست لنا، احتللناها ظلماً وعدواناً باسم الإسلام البريء الذي اغتلناه، ومضينا نوقّع ببصمة إبهامه كلّ فعل قبيح لا تصدر فتواه إلاّ من شيطان؟
علي مدي سبعة قرون، لم نترك في أرض الناس تلك علماً ولا عدالة ولا لغة ولا ديناً، بل انهمكنا في امتصاص خيراتها قطرة قطرة، واستعباد أبنائها، واستحياء نسائها، وتبادلهن إماءً بيعاً وإهداءً للتسرية عن أمير المؤمنين المثقل بالجهاد الليلي الوثير، والمتحلّي من الدين كلّه بمجرد ختم على رقعة يلعلع دون حاجة أو مناسبة: لا غالب إلاّ اللّه.
وقد صدق اللّه وعده، فكنسنا بكلّ قبائحنا وفجورنا وأمّيتنا عن وجه تلك الأرض، فثابت إلى نفسها، وكأنّنا لم نكن قد أثقلناها بوجودنا لسبعة قرون!.
البطل الميمون الذي أجزم أنّه لم يقرأ في حياته أكثر من ثلاثة كتب تكفيرية، يرفع يده متفضّلاً عن بلاد الأندلس!.
وهي بلاد ستكون متفضّلة لو بصقت في وجهه احتقاراً، لأنّ بصقتها نفحة حياة لا يستحقها ميّت مثله، يمشي ليوزّع الموت بين الأحياء.
تقول تقارير صندوق الأمم المتحدة للتنمية، وتزمّر لها مؤيدةً تقارير الصندوق العربي للتنمية إنّ ما ترجمته إسبانيا من الكتب خلال عام واحد يعادل عدد الكتب التي ترجمتها الدول العربية كلّها في ألف عام!.
هذا في إسبانيا وحدها .. فماذا إذن عن أمريكا وبريطانيا وفرنسا .. ودول الغرب الأخرى ومع ذلك فإننا نخرج ألسنتنا بكل وقاحة في وجوه هؤلاء الكفّار، ونحرمهم من بركة رضانا ونتركهم كاليتامى في فسطاطهم البائس، مستفيدين لوحدنا بنعمة فسطاط الإيمان!.
نحن الجثث المكدّسة التي لم تجد مُحسناً يكرمها بالدفن، تتباهى على الأحياء بعفنها، وتعتدي على رب السماوات والأرض بحيازة رحمته بأيديها، لتوزّعها بمعرفتها وبمزاجها على من تشاء وتحرم منها من تشاء.
مَن إذن للموتى بامتلاك مقادير الحياة؟!
لغة الأضداد!
الاوروبيّون ليسوا جادّين حقا في مسألة الوحدة. كلاّ. إنّهم فقط يفعلون ذلك نكاية بي. دول مثل سوق الخردة، كلّ دولة لها في رقبة الاخرى طوفان من الدّم، خلطة متنافرة من الألسن مثل بهارات كالكوتا .. ومع ذلك، يتسمّت هؤلاء الخبثاء حول الطاولة، ويتصنّعون المودّة والألفة، وينفقون الوقت والمال والجهد، ولاهدف لهم من وراء ذلك إلاّ أن يجعلوني أتسمّم من الغيظ.
هراء. لن اترك لهم فرصة للفتك بي. لن اشاهد التلفزيون، ولن أقرأ الصّحف، ولن اسمح بدخول (اليورو) الي مطبخنا حتّى لومتنا من الجوع. دعهم يكملوا وحدتهم. دعهم يخسروا الوقت والمال والجهد، ليكتشفوا في النهاية انني لم أرَ ولم اسمع ولم أتسمّم من الغيظ، وأن مؤامرتهم لم تنجح.
ثمّ تعالوا .. لماذا اغتاظ؟
ماذا عندهم احسن ممّا عندنا؟
عندهم (بطاطا) ؟ عندنا (بتاتاً) ، واحذية (باتا) ايضا! عندهم شبكات مواصلات متلاحمة؟ عندنا شبكات كلمات متقاطعة: كلّ ثلاث او اربع خانات تقف في بلعومها خانة سوداء: (الموت للخونة) !
- أفقيا: يحاول زيارة بلد شقيق (ملحوظة: اسمك على الكومبيوتر. هل تودّ الرّجوع من حيث جئت، ام تُفضّل الدّخول في هذه الخانة الناصعة السّواد؟) :
أربعة حروف: (يُحَبس) !
- عموديا: يطمح إلى المعالي: اربعة حروف: (يُشنق) !
ماذا عندهم؟ هاه؟ قوس (الرّخام؟ عندنا قوس قزح، ونجوم الظهر ايضا. عندهم (انتخابات) ؟ عندنا (انتحابات) . عندهم بيتزا؟ عندنا خارطة الوطن العربي! هل عندهم (لغة ضاد) ؟ هيهات. نحن فقط عندنا، ومرفق طيّها شاعر أشعث أيضاً ينطّ في وجهك كلّما فتحت الاطلس:
فلا حَدٌّ يُباعدُنا
ولا دينٌ يُفرّقُنا
لِسانُ الضّادِ يجمعنا
بعدنانِ وقحطانِ
أمّا الدّين الذي لا يفرّقنا فمعلوم!
وأمّا (الضّاد) فنحن بفضل الباري ننطق به مثل الكناري: في الخليج والعراق نٌدلّله فنجعله (ظاءً) . وفي مصر والشام ندلّلهُ أيضاً فنجعله (طاءً) . أمّا في المغارب المزيانة ف .. (إشنو يعني الدّاد؟) .
هذا ليس مُمهّاً. المهم أن الضاد يجمعنا بعدنان وقحطان. ولأننا اسريّون جدا، فنحن لا نجتمع في العادة الا في (بيت خالتنا) !
قل لي .. هل عند الاوروبيين اسماء اضداد؟
مستحيل. ليس على وجه الارض أمّة عندها اسماء (زهيرية) أكثر منّا.
مثلاً: مولى: سيّد مطاع، وأيضا عبد مملوك.
مثلاً: سليم: صحيح البدن، وايضا ملدوغ.
مثلاً: جُونه أبيض خالص، وايضا اسود خالص.
مثلا: مهيب: رتبة عليا للعسكري الاصيل المخضرم في الجندية، وايضا لابن الشوارع الهارب من التجنيد .. وهَلمجّرا ..
وعلى فكرة، ليس لدى الاوروبيين (هَلُمَّ جَرّاً) . المواطن عندهم لا يأتي جَرّاً حتى لو أرادت اجهزة المخابرات ان تطمئن على صحّته!
كلّ هذا، والمرحوم عبدالله القصيمي ظل يردد حتى آخر حياته ان العرب ظاهرة صوتية!
غفرالله لك يا رجل. هذا افتراء فمتى كان لنا صوت حتى يكون ظاهرة؟!
الصوت الوحيد الذي امكن للعرب ان يطلقوه خلال اربعة عشر قرناً هو .. (صوت السهارى) !
البحث عن الذات
- أيها العصفور الجميل .. أريد أن أصدح بالغناء مثلك، وأن أتنقّل بحرية مثلك.
قال العصفور:
- لكي تفعل كل هذا، ينبغي أن تكون عصفوراً مثلي .. أأنت عصفور؟
- لا أدري .. ما رأيك أنت؟
- إني أراك مخلوقاً مختلفاً. حاول أن تغني وأن تتنقل على طريقة جنسك.
- وما هو جنسي؟
- إذا كنت لا تعرف ما جنسك، فأنت، بلا ريب، حمار.
***
- أيها الحمار الطيب .. أريد أن انهق بحرية مثلك، وأن أتنقّل دون هوية أو جواز سفر، مثلك.
قال الحمار:
- لكي تفعل هذا .. يجب أن تكون حماراً مثلي. هل أنت حمار؟
- ماذا تعتقد؟
- قل عني حماراً يا ولدي، لكن صدّقني .. هيئتك لا تدلُّ على أنك حمار.
- فماذا أكون؟
- إذا كنت لا تعرف ماذا تكون .. فأنت أكثر حموريّةً مني! لعلك بغل.
***
- أيها البغل الصنديد .. أريد أن أكون قوياً مثلك، لكي أستطيع أن أتحمّل كل هذا القهر،
وأريد أن أكون بليداً مثلك، لكي لا أتألم ممّا أراه في هذا الوطن.
قال البغل:
- كُنْ .. مَن يمنعك؟
- تمنعني ذلَّتي وشدّة طاعتي.
- إذن أنت لست بغلاً.
- وماذا أكون؟
- أعتقد أنك كلب.
***
- أيها الكلب الهُمام .. أريد أن اطلق عقيرتي بالنباح مثلك، وأن اعقر مَن يُغضبني مثلك.
- هل أنت كلب؟
- لا أدري .. طول عمري أسمع المسؤولين ينادونني بهذا الاسم، لكنني لا أستطيع النباح أو العقر.
- لماذا لا تستطيع؟
- لا أملك الشجاعة لذلك .. إنهم هم الذين يبادرون إلى عقري دائماً.
- ما دمت لا تملك الشجاعة فأنت لست كلباً.
- إذَن فماذا أكون؟
- هذا ليس شغلي .. إعرف نفسك بنفسك .. قم وابحث عن ذاتك.
- بحثت كثيراً دون جدوى.
- ما دمتَ تافهاً إلى هذا الحد .. فلا بُدَّ أنك من جنس زَبَد البحر.
***
- أيُّها البحر العظيم .. إنني تافه إلى هذا الحد .. إنفِني من هذه الأرض أيها البحر العظيم.
إحملني فوق ظهرك واقذفني بعيداً كما تقذف الزَّبَد.
قال البحر:
- أأنت زَبَد؟
- لا أدري .. ماذا تعتقد؟
- لحظةً واحدة .. دعني أبسط موجتي لكي أستطيع أن أراك في مرآتها .. هه .. حسناً، أدنُ قليلاً.
أوووه .. اللعنة .. أنت مواطن عربي!
- وما العمل؟
- تسألني ما العمل؟! أنت إذن مواطن عربي جداً. بصراحة .. لو كنت مكانك لانتحرت.
- إبلعني، إذن، أيها البحر العظيم.
- آسف .. لا أستطيع هضم مواطن مثلك.
- كيف أنتحر إذن؟
- أسهل طريقة هي أن تضع إصبعك في مجرى الكهرباء.
- ليس في بيتي كهرباء.
- ألقِ بنفسك من فوق بيتك.
- وهل أموت إذا ألقيت بنفسي من فوق الرصيف؟!
- مشرَّد إلى هذه الدرجة؟! لماذا لا تشنق نفسك؟
- ومن يعطيني ثمن الحبل؟
- لا تملك حتى حبلاً؟ أخنق نفسك بثيابك.
- ألا تراني عارياً أيها البحر العظيم؟!
- إسمع .. لم تبقَ إلاّ طريقة واحدة. إنها طريقة مجانية وسهلة، لكنها ستجعل انتحارك مُدويّاً.
- أرجوك أيها البحر العظيم .. قل لي بسرعة .. ماهي هذه الطريقة؟
- إبقَ حَيّاً!
فيلم واقعي
قرّر كاتب السيناريو أن يصنع فيلماً واقعياً حقاً. وقرر الناقد السينمائي أن ينقد السيناريو نقداً واقعياً حقاً.
جلس الكاتب، وجلس الناقد.
الكاتب: (منظر خارجي - نهار: الموظف يحمل أكياس فاكهة، واقف يقرع باب بيته)
الناقد: بداية سيئة. في الواقع، ليس هناك موظف يعود إلى بيته نهاراً. لا بد له أن يدوخ الدوخات السبع بين طوابير الجمعيات ومواقف الباصات، فإذا هبط المساء وعاد إلى بيته - إذا عاد في هذا الزمن المكتظ بالمؤامرات والخونة - فليس إلاّ مجنوناً ذلك الذي يصدّق أنه يحمل أكياس فاكهة!
الواقع انّه مفلس على الدوام. وإذا تصادف انه أخذ رشوة في ذلك اليوم، فالواقع أن الفاكهة غير موجودة في السوق.
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يقف ليقرع باب بيته) .
الناقد: هذا أحسن .. وإذا أردت رأيي فالأفضل أن تُزوّدهُ بمفتاح. لا داعي لقرع الباب في هذا الوقت. انت تعرف أن قرع الباب - في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة - يرعب أهل الدار ويجعل قلوبهم في بلاعيمهم. الموظف نفسه لن يكون واقعياً إذا فعل ذلك بأهله كلّ يوم. نعم .. يمكنك التمسّك بمسألة قرع الباب، على شرط أن تبدل الموظف بشرطي أو مخبر.
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يضع المفتاح في قفل باب بيته ويدخل .. ) لكن يا صديقي الناقد، ما ضرورة هذا المنظر؟ إنه يستهلك ثلاثين متراً من الفيلم الخام بلا فائدة. لماذا لا أضع الموظف في البيت منذ البداية؟
الناقد: هذا ممكن، لكن الأفضل أن تُبقي على هذا المنظر. فالواقع ان جاره يراقب أوقات خروجه وعودته، وإذا لم يظهر عائداً، وفي نفس موعد عودته كل يوم، فإنك تفترض أن تقرير الجار سيكون ناقصاً. وهذا في الواقع أمر غير واقعي، بل ربما سيدعو الجار إلى اختلاق معلومات لا أصل لها.
الكاتب: (منظر داخلي - متوسط: الموظف يخطو داخل الممر ... )
الناقد: خطأ، خطأ .. ينبغي أن يدخل مباشرة إلى غرفة النوم.
الكاتب: لكنَّ هذا غير واقعي على الإطلاق!
الناقد: بل واقعي على الإطلاق. أنت غير الواقعي. إنك تفترض دخول الموظف إلى بيت، وهنا وجه الخطأ. الموظف عادةً يدخل إلى وجر كلاب. نعم. هذا هو الواقع. البيت غرفة واحدة تبدأ من الشارع .. دعك من أدونيس، البيت ثابت لكنّه متحوّل. فهو غرفة النوم وهو المطبخ وهو حجرة الجلوس وهو الحوش.
الكاتب: (منظر داخلي - قريب: الموظف يخطو على أجساد أولاده النائمين - تنتقل الكاميرا إلى وجه الزوجة وهي تبدو واقفة وسط البيت "كلوزآب" تبدو الزوجة مبتسمة، وعلى وجهها امارات الطيبة ...
الزوجة: أهلاً .. أهلاً .. مساء الورد)
الناقد: إقطع .. بدأت بداية حسنة لكنك طيَّنتها. في الواقع ليس هناك زوجات طيبات، والزوجات أصلاً لا يبتسمن، خاصّة زوجات الموظفين .. ثم ماهذا الحوار الذي مثل قلّته؟ مَن هذه التي تقول لزوجها أهلاً ثم تكرر الأهلاً ثم تشفع كل هذا بمساء الورد؟!
أيّة واقعيّة في هذا؟ دعها تنهض من بين أولادها نصف مغمضة، مشعثة الشعر، بالعة نصف كلامها ضمن وجبة كاملة من التثاؤب .. ثم اتركها تولول كالمعتاد ..
(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا بلا عشاء، وأنت آتٍ في هذه الساعة ويداك فارغتان. مصيبتك بألف ياسنيّة .. )
الكاتب: انظر ماذا فعلت .. لو تركتني أزوّده بكيس واحد من الفاكهة على الأقل، لما اضطرَّ إلى مواجهة أناشيد سنيّة.
الناقد: زوّده يا أخي. لكنك لن تكون واقعياً. ثم أن أناشيد سنيّة لن تنقص حرفاً واحداً .. بل ستزيد. إن كيس الفاكهة ليس حذاءً جديداً لابنته التي تهرّأ حذاؤها، ولا هو مصروفات الجامعة لابنه الأكبر، ولا أجرة الرحلة المدرسية التي عجز ابنه الأوسط عن دفعها حتى الآن.
الكاتب: يصعب بناء الحبكة المشوّقة بوجود مثل هذه المشاكل التي لا حلَّ لها في الواقع.
الناقد: اجتهدْ .. حاول أن تتخلّص من أولاده قبل مجيئه.
الكاتب: إنهم نائمون أصلاً. ماذا أفعل بهم أكثر من ذلك؟
الناقد: دعهم نائمين .. ولكن في مكان آخر. في السجن مثلاً. هذا منتهى الواقعيّة. لا يمكن أن يكونوا في هذا العمر ولم ينطقوا حتى الآن بكلمة معكّرة لأمن الدولة!
الكاتب: وماذا أفعل بسنيّة؟ إنَّ اناشيدها ستكون أشدَّ حماسةً في هذه الحالة.
الناقد: اقتلْها بالسكتة القلبية .. من الواقعي أن تموت الأم الرؤوم مصدومةً باعتقال جميع أبنائها دفعةً واحدة.
الكاتب: ماذا يبقى من الفيلم إذن؟!
الناقد: عندك الموظف.
الكاتب: ماذا أفعل بالموظف؟
الناقد: لا تفعلْ أنت .. دَعْ جاره يفعل. تخلّصْ من الجميع بضربة واحدة. الزوجة في ذمّة الله، والموظف وأولاده في ذمّة الدولة. ونصيحتي أن تقف عند هذا الحد. فإذا فكّرتَ أن تذهب أبعد من هذا فستلحق بهم.
الكاتب: كأنّك تقول لي ضع كلمة (النهاية) في بداية الفيلم. أيُّ فيلم هذا؟ لا يا أخي، دعنا نواصل حبكتنا كما كنا، وبعيداً عن السياسة.
الناقد: كما تشاء. واصل.
الكاتب: (كلوز - وجه الزوجة وهي غاضبة)
(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا جائعين، وأنت آتٍ كالبغل في مثل هذه الساعة ويداك فارغتان كقلب أمِّ موسى. مصيبتك سوداء يا سنيّة)
(قطع - الكاميرا على وجه الزوج - يبدو هادئاً)
(الموظف: ماذا أفعل يا عزيزتي؟ هذا قدرنا. الصبر طيّب. نامي يا عزيزتي. الصباح رباح)
الناقد: هراء .. هذا ليس موظفاً. هذا نبي! بشرفك هل بإمكانك أن تتحلّى بمثل هذه الرقّة حين تختتم يومك الشاق بوجه سنيّة؟ إنقل الكاميرا إلى وجه الموظف. كلوز رجاءً، حتى أريك كيف تكون الواقعيّة ...
(الموظف حانقاً يكاد وجهه يتفجّر بالدّم: عُدنا يا سنيّة يا بنت ال .. ؟ أكلّ ليلة تفتحين لي باب جهنم؟ ألا يكفيني يوم كامل من العذاب؟ تعبت يا بنت السعالي. تعبت. إذهبي إلى الجحيم (يصفعها) إذهبي .. أنتِ طالق طالق طالق. طالق بالألف. طالق بالمليون .. هه)
(الزوجة تتسع عيناها كمصائب الوطن العربي، أو كذمّة الحكومات. وتصرخ: وآآآآي .. وآآآآي)
(الكاميرا تنتقل إلى الأولاد. يستيقظون مذعورين على صوت امهم الحنون. يصرخ الأولاد. يزداد صراخ الموظف. قرع على الباب ولغط وراءه. تنتقل الكاميرا إلى الباب لكنها لا تلحق، الباب ينهدم تحت ضغط الجيران، وتمتلئ الغرفة بهم، ويتعلّق بعضهم بالمروحة لضيق المكان. ضجة الجيران تعلو. أحد الجيران - ولعلّه الذي يكتب التقارير - يحاول تهدئة الموقف)
(الجار: ماذا حصل؟ ماذا حصل يا أخي؟ ماذا حصل يا أختي؟
الموظف: لعنة الله عليها.
الجار: تعوّذ من الشيطان .. ماالحكاية؟
الزوجة: هووووء. طلَّقَني .. بعد كلِّ المرّ الذي تحمّلته منه، طلّقني.
الجار: لا. انت عاقل يا أخي. ليس الطلاق أمراً بسيطاً.
الموظف: أبسط من مقابلتها كلّ يوم. لعنة الله عليها.
الزوجة: إسألوه يا ناس .. ماذا فعلتُ له؟
الموظف: انقبري.
الجار: لكل مشكلة حل يا جماعة.
الموظف: لا حل.
الزوجة: يا ناس. يابني آدم. هل هي جريمة أن اقول له لا تشتم الرئيس؟!
(الجار فاغر الفم والعينين .. يحدّق في وجه الموظف .. إظلام)
الكاتب: وبعد؟!
الناقد: ليست هناك مشكلة .. بعد إعدام الزوج، سيمكن الزوجة أن تعمل خادمةً لتعيل أولادها قبل إلقاء القبض عليهم في المستقبل. تصرَّفْ يا أخي. دع أحداً من الأولاد يترك الدراسة ليعمل سمكريّاً. أدخله في النقابة وعلّمه كتابة التقارير. أو دعه يواصل دراسته، لكن اجعل اخته تنخرط في الإتّحاد النسائي. بحبحها يا أخي. كل هذه الأمور واقعية.
الكاتب: واقعية تُوقع المصائب على رأسي .. أيّة رقابة ستجيز هذا السيناريو؟!
الناقد: إذا أردت الواقع .. أعترف لك بأنَّ الرقابة لن توافق.
الكاتب: ما العمل إذن؟
الناقد: الواقعيّة المأمونة هي ألاّ يعود الموظف، ولا توجد سنيّة وأولادها، ولا يوجد البيت.
الكاتب: هذا أفضل.
يرفع الكاتب يده عن الدفتر .. ويرفع الناقد لسانه عن النقد.
***
في اليوم التالي .. يرفع الكاتب رجليه على الفلقة، ويرفع الناقد رجليه على المروحة.
في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة .. كلُّ شيء مُراقَب!
وجه
في ليلة من الليالي ...
لحظة واحدة .. كان بمستطاعنا - في الحقيقة - أن نقول (في ليلة من الصباحات) ، فالكلام ملك أيدينا، ولا سلطة لأحد علينا، إذا أردنا تفجير اللغة قرباناً للتفاؤل. لكنَّ المشكلة - في الحقيقة - هي أن الصباحات لدينا لا تختلف عن الليالي.
نعود إلى القول إنه في ليلة من الليالي، خرج ثلاثة رجال للبحث عن الحقيقة.
وإنصافاً للحقيقة، نقول إنهم خرجوا للبحث عن الحقيقة في بلادنا بالذات، لأنها البلاد الوحيدة التي لم تكن تعرف الحقيقة.
ولمّا كان الظلام حالكاً، فقد تاه الرجال الثلاثة:
واحد منهم سقط في بئر، وذلك لأنه -في الحقيقة- لم يكن يحمل فانوساً. ويحسن بنا الإنتباه إلى أن الرجل كان يملك فانوساً، لكنه لم يكن يملك نفطاً وسبب ذلك هو أزمة النفط في بلادنا!
أمّا الرجل الثاني فقد زلق في طين أحد البساتين، فوقع على وجهه، وحين تمالك نفسه واستطاع أن يقف من جديد، لم ينسَ أن يقتلع معه شيئاً مكوّراً وبارداً، كان يستقر بين بطنه وبين الطين.
هو - في الحقيقة - لم يكن يعرف أين وقع، لأنه، هو أيضاً، لم يكن يحمل فانوساً، لغلاء النفط كما ذكرنا، ولأنه، من شدة جوعه لم يكن يحمل رأساً، وذلك - في الحقيقة - لغلاء الطعام، كما لم نذكر.
وعندما طلع الصباح، كان الرجل الأول قد وصل إلى مبنى البلدية يقطر زفتاً .. أما الرجل الثاني فقد وصل بعده وهو يحمل بطيخة.
لكنَّ الرجل الثالث لم يصل إلاّ بعد ساعات من انعقاد المجلس البلدي.
لم يكن يقطر زفتاً، ولم يكن يحمل بطيخة.
سأله رئيس البلدية: ماذا وجدت؟
أطبق عينيه من فرط التعب، وزفر قائلاً: (لا شيء) .
عندئذ أطرق رئيس البلدية قليلاً، ثم رفع رأسه ببطء، وأعلن بمنتهى الهدوء والحسم: معنى هذا، أيها الأخوة، أن للحقيقة أكثر من وجه. ومنذ ذلك الوقت، نشأت في بلادنا ظاهرة التحزب.
المؤمنون بحقيقة الأول شكّلوا حزباً للزفت .. ومنهم تكوّنت الحكومة.
والمؤمنون بحقيقة الثاني شكّلوا حزباً للبطيخ .. ومنهم تكونت المعارضة.
أمّا المؤمنون بحقيقة الثالث فقد شكّلوا حزباً محايداً، جيبه يستعطي الزفت، وقلبه يتعاطى البطيخ، ورأسه يعطي (اللاشيء) .
ومن هؤلاء تكونت (الحداثة) !
يحدث في بلادنا
* ضبط إيقاع:
تعلّمتْ أختي العزف على الكمان، وتعلّمتُ أنا العزف على العود. كانت أمّي تعزف على الرِّق بمهارة، وكان أبي طبالاً مرموقاً.
توسّلت إلينا المعارضة أن ننضم إلى صفوفها، حيث أن مواهبنا ضرورية جداً لمواكبة الرّقص على الحبال.
وفي الوقت نفسه توسلت إلينا الحكومة أن ننضم إلى صفوفها، حيث أن مواهبنا ضرورية جداً لمواكبة القانون.
ولا نزال في حيرة شديدة ..
ما أشد حيرة أصحاب المواهب في هذا البلد المحب للفن!
* مجاملة:
دعاني صديقي إلى العشاء، امس، وقدّم لي طبقاً فارغاً.
ولمّا كانت الأصول في بلادنا تقضي بردِّ الدعوة، فإنني دعوته إلى الغداء عندنا، هذا اليوم، دون أن يكون في نيّتي أن أقدّم له طبقاً فارغاً كما فعل .. ذلك لأن تراثنا العائلي لا يسمح لنا باقتناء الأطباق!
لم أدر ماذا أصنع .. كان الموقف محرجاً جداً .. ولكي أحفظ ماء وجهي، استقبلت صديقي عند الباب بابتسامة عريضة، وصافحته بحرارة .. ثم طردته فوراً.
أغلقت الباب وراءه، ثم ازدردتُ، بشهيّة، حلاوة ابتسامتي، ورحت ألعق من أصابعي حرارة المصافحة!
* ما نتعلّمه من الدنيا:
في إحصاء السكان الماضي كانت أسرتنا تتكوّن من عشرة أشخاص.
وفي الإحصاء الأخير قامت الدولة بحذف الصِّفر من العشرة!
أنا الواحد المتبقّي سأعدم بعد يومين، أمّا الصفر المحذوف فقد أُعدموا لأنهم، قبل القبض عليَّ، لم يُبلّغوا السلطة بأني خائن.
حتى الآن أستطيع القول انَّ العمر لم يذهب دون فائدة .. لقد تعلّمت من الدنيا أنَّ الصفر في بلادنا يُساوي تسعة.
ولا ريب عندي في أن الناس، بعد إعدامي، سيتعلّمون من الدنيا أنَّ العشرة في بلادنا تساوي صفراً.
قضيّة دعبول
استلقى "دعبول" على الأرض، وشرع في تقويس ظهره ببراعة لاعب "يوغا" .. وظل يتدرج في تقوّسه شيئاً فشيئاً، حتى تم له في النهاية أن يُطبق رجليه على فمه.
وحالما استكمل شكله الدائري، فتح شدقيه بشهية بالغة، ثم ابتلع نفسه.
***
ولأن العالم أصبح قرية صغيرة، فإن الخبر وصل إلى القطب الشمالي، حتى قبل أن يصل إلى "دعبول" نفسه!
جاءت، على الفور، وفود من شتى أنحاء العالم، واكتظ بيت دعبول على اتساعه بالصحافيين وعدسات التصوير وكاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعات ولجان الحقوق المختلفة، حتى دعت الحاجة إلى تعطيل حركة المرور .. ذلك لأن بيت دعبول هو رصيف الشارع العام.
كانت أنظار العالم كلها مصوبة إلى دعبول .. وكان دعبول كلّه عبارة عن كرة مبهمة راقدة بسكون وسط الضجة العارمة.
***
صرخت مندوبة الجمعية العالمية للدفاع عن حقوق الأحذية:
من حق هذا المتوحش أن يفعل بنفسه مايريد، لكن ليس من حقه أن يبتلع الأحذية المسكينة .. إنني أطالبه، باسم جمعيتنا الموقرة، بأن يطلق سراح الفردتين حالاً .. من غير نقصان نعل أو مسمار.
***
وفي تلك الأثناء أصدر صندوق النقد الدولي احتجاجاً شديد اللهجة على هذا العمل الوحشي الجبان .. وقال ناطق طلب عدم ذكر اسمه أن وراء احتجاج الصندوق أسباباً تنافسية، لكنه لم يُعطِ توضيحات أكثر.
***
وأصدر رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الأزرار بياناً استنكر فيه العمل البربري الذي قام به دعبول، وركز على ضرورة إنقاذ الأزرار بأسرع وقت ممكن، كما ناشد الضمير العالمي الوقوف وقفة حازمة بوجه مثل هذه الأعمال اللا مسؤولة. وختم بيانه بالقول: إننا نحترم رغبة هذا الدعبول في ابتلاع قميصه وبنطلونه، بل وحتى حذائه .. لكن ما ذنب هذه الأزرار الصغيرة المغلوبة على أمرها، والتي لا تستطيع النطق أو الدفاع عن نفسها بأية وسيلة؟!
***
وفي كوالالمبور .. أعدمت السلطات رجلاً حاول أن يقلِّد دعبول .. وقال مسؤولون إنَّ هذا العمل يُعطي صورة بشعة للغربيين عن تخلّف سكان آسيا، وذلك حين يشاهدون واحداً منا وهو يأكل نفسه دون استعمال الشوكة والسكّين!
***
وأدلى مندوب جمعية الدفاع عن المصارين بحديث لإذاعة مونت كارلو، قال فيه إن جمعيته تندد بهذا العمل الآثم .. وتطالب دعبول بالخروج حالاً من مصارينه الدقيقة والغليظة على حد سواء.
ومما جاء في الحديث قوله: إنني لم أرَ في حياتي كلها مثل هذه القسوة .. ولا أدري كيف تأتّى لهذا البغل أن يخنق هذه المصارين الرقيقة بحشر نفسه فيها! هل يظن نفسه قالباً من "الآيس كريم" ؟!
***
وناقش البيت الأبيض، في جلسات مطوّلة ما سمّاه ب "دابولز سيتيويشن" .. وحذّر من احتمالات أن تعطل هذه المسألة مسيرة السلام في الشرق الأوسط .. وأنحى باللاّئمة على بكين، كما حذّر إيران من مغبّة اللعب بالنار.
وفي الوقت نفسه أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بياناً أكّد فيه أن "بلعة دعبول" تعتبر تهديداً صارخاً لأمن إسرائيل.
***
وارتفع سعر الدولار إلى أعلى معدّل له منذ سبع سنوات، فيما انخفضت أسهم نفط بحر الشمال إلى أدنى معدل لها، ولم تتوفر على الفور أية معلومات عمّا إذا كان لقضية دعبول تأثير مباشر في هذا الشأن.
***
وأدلى مندوب لجنة الدفاع عن حقوق الأقمشة بتصريح قال فيه: لا يهمنا نوع قماش قميصه أو بنطلونه .. إنها مسألة مبدأ بالنسبة لنا، لا فرق إن كان قميصه من الحرير أو من الخيش .. كلُّها في النهاية، أقمشة بكماء ضعيفة لا تحسن الدفاع عن نفسها .. وعليه فإننا نطالب هذا الدعبول الأجرب بالإفراج عن قميصه وبنطلونه فوراً.
إن أنظار العالم تراقب معنا، بقلق شديد، معاناة هذه الأقمشة المرتهنة في جوف هذا الأحمق.
***
وأعلن أكثر من فصيل عربي معارض مسؤوليته عن بلع دعبول لنفسه، دون أن يتعرّض أيٌّ منها إلى مسألة بلع الأموال من أيّة جهة كانت .. فيما نفت جميع الحكومات العربية أن يكون لها أي دور في مثل هذه (البلعة) .
وعززَّ هذا النفيَ تصريح لدبلوماسي غربي (رفض فقدان عمولاته) حيث قال أن خبرته الطويلة في الشؤون العربية تجعله يعتقد بأن هذا النوع من البلع غير متعارف عليه رسمياً لدى جميع حكومات المنطقة.
***
وأعربت الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق (البنكرياس) عن قلقها البالغ على مصير الغدّة المسكينة، واتخذت بالتعاون مع حركة الدفاع عن حقوق (الأنزيمات) إجراءات فورية لتقديم شكوى عاجلة إلى منظمة (الفيفا) على اعتبار أن دعبول في شكله الكروي الراهن، يدخل ضمن مسؤوليتها.
***
وفيما كان العالم يتابع هذه القضية بذهول وترقّب وقلق .. بدا فجأة، أن كرة دعبول قد أخذت تتمدّد ..
وعلى حين غرّة، انطلق منها صوت صاعق أقرب ما يكون إلى (تفوووو) .. ثم استوى دعبول قائماً على قدميه حافياً عارياً!
بهت الجمهور الغفير .. ولمعت فلاشات أجهزة التصوير، وتراكض مندوبو وسائل الإعلام لتسجيل صورة إفراج دعبول عن نفسه .. لحظة بلحظة.
زمجر دعبول: يا أولاد الكلب المحترمين ... ما أنا إلاّ جائع، عارٍ، مشرّد، عاطل عن العمل .. فماذا أفعل سوى أن آكل نفسي، لأكون أنا طعامي وأنا بيتي؟!
إنني ضحيّة كل هذه الجهات التي أنكرت واستنكرت واحتجت ونددّت ونفت وأعلنت وادّعت وحذّرت، في الوقت الذي كان فمي مغلقاً بجسمي، ولا قدرة لي على الشكوى أو نفي الإتهامات.
لقد تشرّفت، هذا اليوم، برؤية منظمات للدفاع عن حقوق كل شيء في هذه القرية الصغيرة .. وها أنتم ترون أن الأحذية بخير، والأقمشة بخير، والمصارين بخير، والبنكرياس بخير، وإسرائيل بخير .. وأنا الوحيد الذي ليس بخير .. فلماذا لا أرى، وسط كل هذه القيامة، منظمة واحدة للدفاع عن حقوق دعبول؟!
ستقولون، يا أولاد الكلب المحترمين، إنَّ الضغط الدولي قد أجبرني على الإفراج عن جسمي.
لا والله .. إنني، ببساطة شديدة، تقيّأت نفسي قَرَفاً من هذا العالم!
***
تقول أنباء غير مؤكّدة إن السلطات أجبرت دعبول على ابتلاع نفسه .. عقوبة له لوقوفه عارياً وسط الشارع .. الأمر الذي يعتبر خدشاً للحياء العام!
ما بعد الزوال
كان بين الأنقاض ثلاثة رجال، هم كلُّ من تبقّى بعد المذبحة الأرضية. التراب تحت أرجلهم رماد، والسماء فوق رؤوسهم دخان.
الأول: فعلها الأشرار. طمعوا بها فدمّروها. لم يعيشوا ولم يتركوا الأبرياء يعيشون. ها نحن أولاء وحدنا على هذه الأرض. دعونا نفكّر في طريقة للحياة.
الثاني: أشتهي أن أدخّن.
الأول: دخّن كما تشاء .. الهواء كلُّه تحت أمرك.
الثاني: كلاّ. أريد سيجارة. حبّذا لو كانت سيجارة أجنبية.
الثالث: ليس في الأرض أجانب يصنعون السجاير. نحن وحدنا الأحياء، وليس بيننا أجنبي.
الأول: كفاكما جدلاً. ليس هذا وقته. المهم الآن أن نجد ما نأكله.
الثالث: هذا صحيح. يجب أن نجد ما نأكله.
الثاني: أنا جائع في الحقيقة، لكن لا تظنّا أنني سأنسى رغبتي إذا ما شبعت. التدخين يكون أشهى بعد الطعام. ثم إنني أرغب في كوب من الشاي بعد أن آكل.
الأول: أيّها الطيبان، هذه كماليات. الأمر الضروري هو أن نجد ما نأكله. لاحظا أننا سيمكننا مواصلة العيش بلا تبغ أو شاي، لكننا لن نعيش بلا طعام.
الثالث: السجاير أصلاً اختراع هولندي. هي أصل الشر. ليست سوى وسيلة من وسائل الإستعمار.
الأول: والشاي كذلك. صحيح انه اختراع صيني، إلاّ أن الإنجليز برعوا في جعله وسيلة من وسائل الإستعمار.
الثاني: يسقط الإستعمار.
الأول: لقد سقط فعلاً، لكنّه واأسفاه أسقط الدنيا كلَّها معه.
الثاني: لندخّن إذَن على شرف سقوط الإستعمار.
الأول: حاول أن تصبر يا صديقي، ودعنا الآن نفكّر في طريقة لاستعمار الأرض.
الثاني: فكّر وحدك. لن أسلك طريق الإمبريالية حتى لو مِتُّ جوعاً.
الأول: أنت مخطئ يا عزيزي. الإستعمار عمل عظيم. الإستعمار هو أصل وجود آدم على هذه الأرض، لكنَّ قراصنة الغرب هم الذين شوّهوا سمعته.
الثاني: إذن فهو مشوّه السمعة.
الأول: لنبدأ سمعته من جديد. دعونا نحسّنها على أيدينا.
الثالث: نعم. إنه مشوّه السمعة. نعم .. دعونا نحسّن سمعته على أيدينا.
الثاني: إرفع قدمك عن أعصابي. إنك تؤلمني. أأنت معي أم معه؟
الثالث: أنا معكما.
الأول: وأنا أيضاً معكما.
الثاني: أنا أكره وجهة نظرك، لكنني أحترمها. أمّا هذا فليس لديه وجهة نظر .. ولذلك فأنا مضطر لأن أكرهه.
الأول: ينبغي ألاّ يكره أحدنا الآخر. ألا ترون أن الكراهية هي التي أوصلت الأرض إلى هذه النتيجة؟
الثاني: إذن، أنا مضطر لأن لا أكرهه، وأحسب أن هذا الأمر سيجعلني محتاجاً إلى التدخين.
الثالث: التدخين مضر بالصحة.
الثاني: صحّتك أم صحّتي؟
الثالث: صحّتك طبعاً. لكنني أتضايق أيضاً من رائحة التبغ.
الثاني: إبتعد عنّي حين أدخّن. بإمكانك مثلاً أن تخرج إلى القطب الشمالي.
الأول: في الواقع نحن لا نعرف موقعنا على الأرض بالضبط. ربّما نحن في القطب الشمالي فعلاً!
الثاني: ليذهب إلى خط الإستواء. هناك سعة لمن لا يحب رائحة التبغ.
الأول: أووه .. لا يعنيني تدخينك، ولا كراهيته للتدخين. إنني مهتم الآن بتحديد موقعنا على هذه الأرض.
الثاني: هل أنت متأكّد من أننا فوق الأرض حقّاً؟
الأول: وأين يمكن أن نكون؟!
الثاني: على المرّيخ مثلاً.
الثالث: لا يمكن. ليس على المريخ حياة.
الثاني: اسكت أنت. ماذا نعرف عن المريخ؟ كلُّ ما نعرفه الآن هو أن ليس على الأرض حياة.
الثالث: عليها .. نحن الثلاثة لا نزال أحياء.
الثاني: أيها الغبي، لم نتحقق بعد من أننا فوق الأرض. ثم مَن يستطيع أن يؤكد أننا أحياء؟!
الأول: أعتقد أننا أحياء. فالموتى لا يتكلمون.
الثاني: هل مِتَّ من قبل لتعرف أن الموتى لا يتكلمون؟ ربّما لم نكن نفهم كلام الموتى لأننا كنا أحياء. وها نحن أولاء يفهم بعضنا بعضاً لأننا ميتون!
هل تتذكرون؟ عندما كنا نحيا في الوطن العربي لم نكن نتكلم إطلاقاً.
الثالث: هذا صحيح، أذكر ذلك جيداً.
الثاني: إذن فليس الموتى وحدهم الذين لا يتكلمون. كلُّ المسائل نسبيّة يا جماعة.
الثالث: لا أتفق معك. فنحن مازلنا عرباً .. ومع ذلك فنحن نتكلّم.
الثاني: طبعاً لا تتفق معي، لأنّك مصّر على أن تظلَّ عربياً. إسمع يا رجل، ينبغي أن تدرك أنك تتكلم الآن لأنك لم تعد عربياً. أنت الآن عالمي. إذا أردت الدقّة أنت الآن ثلث نفوس العالم.
الثالث: أيُّ عالم؟
الثاني: إذا لم نكن على المريخ، وإذا كنّا أحياء، فليس عندي شك في أنك العالم الثالث!
الأول: نحن جميعاً في موقع واحد.
الثاني: في اللحظة الراهنة نعم. لكنني أعتقد أنه جاءنا لاجئاً. ألا ترى أنه بلا رأي؟
الأول: لقد عبَّر عن رأيه بكل وضوح.
الثاني: أيُّ رأي؟ إنه يردّد ما أقوله أو ما تقوله. لم يقل شيئاً سوى أن التدخين مضر بالصحّة.
الثالث: وبالبيئة أيضاً.
الثاني: البيئة؟!
الأول: اسكتا .. البيئة نفسها تدخّن الآن. ينبغي أن نفكّر ريثما يزول هذا الدخان.
الثاني: لا أستطيع التفكير وهذا (الأخضر) مغروز في خاصرتي. قل له أن يشفق على أعصابي بقدر إشفاقه على البيئة.
الأول: إذا واصلنا الجدال فسنهلك.
الثاني: لا بأس، إذا كان الهلاك سيخلصني من هذا الببغاء.
الأول: الجدل مفيد إذا كان مفيداً.
الثالث: حكمة والله!
الأول: علينا أن ننظّم تفكيرنا وحوارنا.
الثاني: الإختلاف قائم لا محالة.
الثالث: نعم نحن نختلف لا محالة. علينا أن ننظّم تفكيرنا.
الثاني: وحوارنا كما قال.
الثالث: وحوارنا.
الثاني: ألم أقل إنك ببغاء؟!
الأول: إننا ندور في حلقة مفرغة. لماذا لا ننتخب واحداً منّا ليكون هو القائد، ويكون على الآخَرين احترام رأيه؟
الثاني: مَن يضمن لي أن يجري الإنتخاب دون تزوير؟
الأول: أنا أضمن ذلك. إننا لم نعد في الوطن العربي، كما اننا جميعاً سنراقب العملية عن كثب.
الثالث: نحتاج إلى صندوق.
الثاني: ما حاجتنا للصندوق؟!
الثالث: هه .. كيف يجري الإنتخاب دون صندوق للاقتراع؟
االثاني: إذا عثرنا على صندوق فأول ما سأفعله هو أن أضعك فيه وأشيّعك إلى مثواك الأخير.
الثالث: أنت دكتاتور.
الأول: كلاّ .. هو ديمقراطي.
الثالث: لماذا يقف ضدَّ فكرة صندوق الاقتراع؟
الثاني: يا كائن. ألا ترى أنه لا يوجد صندوق؟
الثالث: نبحث عن صندوق.
الأول: حسناً .. لننتخب أحدنا ليقود عملية البحث.
الثالث: هذا أحسن حل.
الثاني: كيف ننتخب؟!
الأول: بالاقتراع.
الثالث: نحتاج إلى صندوق.
الأول: نحن نحاول انتخاب أحدنا ليقود عملية البحث عن صندوق.
الثالث: حل جيّد.
الثاني: سأقتل هذا الببغاء.
الأول: لا تشتبكا. بإمكاننا في هذه المرّة أن نجري الانتخاب بالتصويت المباشر.
الثالث: في هذه المرحلة فقط.
الثاني: أنا أرشّح نفسي.
الأول: وأنا ارشّح نفسي.
الثالث: وأنا أرشّح نفسي.
الثاني: أنت لا.
الثالث: لماذا؟ أأنتما أحسن منّي؟!
الثاني: إذا رشّحنا جميعاً فمن سيراقب سير الانتخاب؟ لابدَّ أن يتولّى أحدنا مهمة الرقابة.
الثالث: لننتخب أحدنا لهذه المهمة.
الثاني: أنا أرشّحك وأصوّت لصالحك.
الأول: سأصوّت ضدّه.
الثاني: إذن، أعيّنك أنت رئيساً للجنة الرقابية.
الثالث: مَن أنت حتى تعيّنه؟ كلاّ .. يجب أن يجرى انتخاب.
الأول: لا شأن لي بانتخابات رئاسة اللجنة الرقابية، أنا مرشّح قيادة للبحث عن صندوق اقتراع لانتخابات القيادة العامة.
الثاني: أنا منسحب.
الأول: في هذه الحالة رشّح نفسك لانتخابات اللجنة الرقابية.
الثاني: لن أرشّح في أي انتخاب.
الثالث: إذن إدلِ بصوتك كمواطن عادي.
الثاني: لا ثقة لي بأي مرشّح. أنت مثلاً .. ما هو برنامجك الانتخابي؟
الثالث: برنامجي؟!
الأول: ... ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الطيبَين. وأعد بشرفي انني إذا تمّ انتخابي، سأعمل بكل طاقاتي وبتفانٍ وإخلاص لتحقيق المكاسب التالية: أولاً: العثور على صندوق للاقتراع، ثانياً: إجراء انتخابات حرة مستندة إلى صندوق الاقتراع، ثالثاً: توحيد الصّف ومحاربة الأميّة وتوفير الوظائف وإطلاق حرية الرأي.
الثالث: ماذا يقول؟!
الثاني: أحسن منك. رجل عنده برنامج.
الثالث: أهذا هو البرنامج؟
الثاني: نعم. هذا هو. أم كنت تظنه برنامج (ما يطلبه المستمعون) ؟
الثالث: ويحي. هذا سهل. أنا أيضاً أستطيع أن أقول مثل هذا البرنامج.
الثاني: هات ما عندك.
الثالث: .. ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الثلاثة. وأقسم بشرفي أن أحقق المنجزات التالية: أولاً: العثور على صندوق، ثانياً: العثور على طعام، ثالثاً: توحيد الصف ومحاربة الإمبريالية.
الأول: حسناً .. أمامك برنامجان.
الثاني: ليس في البرنامجين ما يغريني بانتخاب أحدكما. لم يتطرق أيّ منكما إلى ضرورة توفير السجاير لي.
الأول: الطعام أوّلاً.
الثالث: السجاير مضيعة للمال والصحّة.
الثاني: انتخبا لوحدكما.
الأول: وماذا ستفعل أنت؟
الثاني: مقاطعة الانتخابات.
الأول: موقف غير حضاري. لا يجوز للمواطن الأصيل أن يتخذ موقفاً سلبيّاً من قضيّة الانتخابات.
الثاني: لست سلبياً. أنا على الحياد. الحياد الإيجابي.
الأول: أعتقد أن لا مفر من القيادة الجماعية.
الثالث: كنا هكذا منذ البداية!
الأول: نعم. لكن بطريقة بدائية. أمّا الآن وقد تبلورت القضيّة، فإننا نستطيع أن نسمّي أنفسنا مجلس قيادة.
الثاني: نقود مَن؟!
الأول: أنفسنا.
الثاني: هذه بدعة عربية. نحن الآن عالميون.
الأول: ماذا نفعل إذن؟
الثاني: احسن شيء هو أن يمضي كل واحد منا في اتجاه.
الثالث: فكرة جيدة .. لكنها أيضاً فكرة عربية.
الأول: لماذا انتما معقّدان من العروبة؟ لماذا لا نكون عرباً وعالميين في الوقت نفسه؟ ألا يكفي العرب كرامة عند الله أن يكون منهم الثلاثة الوحيدون الذين بقوا على قيد الحياة فوق الأرض؟!
الثاني: على قيد الحياة؟ من قال إننا أحياء حقاً؟ فوق الأرض؟ من قال إن هذه هي الأرض حقاً؟ كرامة؟ أينبغي أن يزول جميع البشر لكي يستطيع ثلاثة من العرب أن يشعروا بكرامتهم؟!
الثالث: إثنان فقط. أنا لا أشعر بالكرامة. كيف أشعر بها وأنت عاكف على إهانتي؟
الثاني: إذا كانت كلمتي ثقيلة عليك فبإمكانك أن تطلب حقَّ اللجوء من هذا ..
الأول: لا تحرجني. أنت تعلم أنني لا أستطيع البتَّ في طلبات اللجوء قبل الانتخابات.
الثاني: أقترح في هذه الحالة أن تجرى انتخابات مبكّرة.
الثالث: سنحتاج إلى صندوق ..
الأول: وإلى ناخبين ..
الثاني: وإلى لجنة رقابية ...
مكان شاغر على القمة
تلقّى الكاتب الشهير رسالة من كاتب ناشىء، يشكو فيها بمرارة من ثقل شعوره بالإخفاق على الرغم من بذله غاية الجهد، قائلاً إنه قد أرسل العديد من قصصه القصيرة إلى جميع المجلات المعروفة، لكنّه، مع طول انتظاره، لم يحظ بنشر أيّة واحدة منها، الأمر الذي جعله يفقد الثقة في نفسه. ولأنه لا يعرف ماذا يصنع، فقد توجّه إليه طالباً منه النصيحة.
وقد ردّ عليه الكاتب الشهير قائلاً: هناك دائماً مكان شاغر على القمّة لكاتب جيّد جديد. والطريقة المُثلى للوصول إلى هناك هي أن تبدأ من أسفل السفح. وإذا لم تكن ممن يروق لهم الابتداء من الأسفل، فهذا يعني أنّك لست ممن يروق لهم اتّخاذ الكتابة مهنة. وعلى أيّة حال، فإن هناك آلافاً من الصحف الأسبوعية، والمطبوعات التجارية، والمجلاّت الصغيرة، والمنشورات الإعلانية، ولابدّ لمن كانت لديه درجة معقولة من القدرة على الكتابة، أن يجد، ذات يوم، فرصة للنشر في واحدة منها.
وإذا كان أهمّ شيء في حياتك هو أن يظهر عملك بالأحرف المطبعية، فإن الأمر سيبدو لك جيداً، مهما كان المكان الذي يظهر فيه. وإذا بدا ذلك العمل جيداً للقارىء أيضاً، فإنك لابُدّ أن تجد كثيراً من المحرّرين والناشرين الذين يرغبون في مساعدتك على الصعود قُدُماً إلى القمّة.
تلك هي نصيحة الروائي الأمريكي الكبير (أرسكين كالدويل) لواحد من قراّئه المتطلّعين لأن يكونوا كُتّاباً، وقد جاءت في سياق ردّه على مجموعة من الأسئلة الشائعة التي تجمّعت لديه عبر سنوات عمله، فأفرد لها فصلاً ختاميّاً في كتابه (سمِّها خبرة) ، الذي روى فيه تفاصيل تجربته الشخصيّة في تعلّم الكتابة.
والواقع أنّ تلك الإجابات هي ليست سوى خلاصات لوقائع تجربته المريرة التي حفر خلالها الصخر بأظافره، من أجل أن يستوي أخيراً على مقعد الشهرة والاكتفاء المالي.
إنّه لا يطرح المواعظ الجوفاء من برجه العاجيّ، لتطمين أبناء الشقاء المتزاحمين في أسفل المبنى. ولكنّه يخبرهم بتواضع خالص، بأنه كان واقفاً، ذات يوم، في مثابتهم، وقد اقتضاه الوصول إلى موقعه الحالي أن يدفع كل الضرائب المترتّبة على من يبتغي الوصول .. وهي كما يرويها كانت ضرائب فادحة. أي أنه يقول لهم باختصار: "من الممكن أن تصبحوا مثلي اليوم، إذا استطعتم أن تكونوا مثلي بالأمس" .
لقد عاش هذا الرجل أعواماً طويلة وهو جالس وراء آلته الكاتبة، كلّ يوم، في البرد أو في الحر، لينتج مئات القصص ويرسلها إلى مئات المطبوعات، لتلقى نهايتها في سلال المهملات، دون أن يداخله اليأس أو الملل. وكان، عاماً بعد عام، يختصر نفقات الطعام، ليزيد في نفقات الطوابع التي يحتاجها لإرسال قصصه.
والعمل الوحيد الذي استطاع أن يحصل عليه، من أجل أن يعيش، هو كتابة عروض سريعة للكتب الجديدة، لحساب إحدى المجلاّت التي كانت ترسل إليه رزماً منها كلّ شهر، غير أنّها بدلاً من أن تدفع له مالاً نظير ما يكتبه، كانت تسمح له بأن يحتفظ بالكتب المرسلة إليه، فكان بدوره يبيع بعضها لتجّار الكتب المستعملة مقابل بضعة سنتات لكلّ كتاب.
وللمرء أن يتخيّل بشاعة ما كان يعانيه من فاقة، حين يقرأ البهجة العارمة في السطور التي يصف فيها ذكرى نشر أول قصّة له، وتلقّيه ثلاثة دولارات مكافأة عنها من المجلّة التي نشرتها، إذ يقول: "لقد أُتيح لنا في ذلك اليوم أن نتذوّق طعم اللحم، بعد زمن طويل من الحرمان" !
والكتاب بجملته درس لكلّ كاتب، فهو يقرّر أنّ على من يريد أن يكون كاتباً، أن يكون مخلصاً للكتابة حتى الرمق الأخير، على الرغم من كل العوائق والمحبطات.
ولعلّ جوابه القصير على سؤال حول مقدار المال الذي يكسبه من عمله، يبيّن لنا بإيجاز المعنى الكبير للرسالة التي تضمنها كتابه.
يقول أرسكين كالدويل: "ليس لي دخل منتظم، لأن ما أكسبه يعتمد على المكافآت التي أتقاضاها لقاء ما أكتبه. فأحياناً أكسب عشرة دولارات في عام كامل، وأحياناً أكسب ثلاثة آلاف دولار في أسبوع" !
والمعنى الكامن وراء هذه الإجابة هو أنه ليس مهمّاً أن يكون النشر منتظراً لدى الباب، وليس مهماً أن يكون المكسب في متناول اليد .. بل المهم هو أن تكتب وتكتب وتكتب، مضمراً في قرارة نفسك أنّ الكتابة، بحدّ ذاتها، هي الوسيلة والغاية معاً.
نوع العقوبة
في عام 1973 قام الجنرال الشيلي السفاح (أوغستو بينوشيه) بانقلاب عسكري، بدأه بإطلاق نيران المدفعية علي بيت الرئيس المنتخب (سلفادور ألليندي) .. مما ادي الي مصرع الاخير وغرق شيلي في مستنقع الرعب والقتل الجماعي طيلة اعوام لم تنته إلا في وقت قريب، بعد ان كنست عواصف التغيير شيخوخة الجنرال ونظامه الي مزبلة التاريخ.
وقد كاد هذا الوحش يواجه العقاب في لندن مؤخرا، بعد احتجازه للمحاكمة بدعاوي اهل ضحاياه وانصارهم، لولا ان شفعت له عمالته القديمة، يوم ان سخر ارض بلاده للبريطانيين في (حرب الفوكلاند) .. فتم تهريبه من العقاب، تحت جنح ظلام العدالة!
والمرء يتساءل عن العبرة من محاكمته في بريطانيا؟ ان عدالتها لن تعدمه، لأن عقوبة الاعدام ملغاة فيها. وحتي اذا اعدمته فما الفائدة؟ انه في ارذل العمر، وموته راحة له. وفي الحالين لن يكون في عقوبته ما يطفيء غلّ ضحاياه.
الروائية الشيلية الفذة (إيزابيل ألليندي) ، وهي ابنة عم الرئيس المغدور سلفادور، وواحدة من ضحايا بينوشيه، قررت عقوبة للدكتاتور علي طريقتها، ففي مقابلة لها مع صحيفة (التايمز) البريطانية قالت: لقد سُئلت في شيلي مؤخرا عن النهاية التي أود كتابتها للجنرال بينوشيه، فأجبت بأنني اتمني له ان يصبح عجوزا جدا جدا، حتي يتجاوز عمره المائة عام، وان يكون طيلة هذا الوقت محاطا بأشباح ضحاياه ممن خانهم اوأرهبهم او قتلهم، ومحاطا ايضا بأبناء هؤلاء حتي آخر لحظة من حياته الطويلة.
وقاطعها المحرر قائلا: انت تفترضين ان السفاح يمتلك نوعا من الضمير.
فردت: لو كان يملك ضميرا حقا، لما كانت هناك حاجة لإحاطته بالاشباح!
أتأمل كلامها، ويخطر في ذهني رئيسنا المناضل، الذي اخرجه الاميركان من جحره علي هيئة نشال، وبصحبته مسدسه ورشاشاته التي كان يدخرها لوقت الشدة الذي لم يأت ابدا!!
وأتساءل في نفسي: بأية اشباح سنخيف هذا الأشعث الاغبر الذي كان نائما في حفرة ضب بصحبة الجرذان؟ انه برغم ذلته وهوانه ما زال يسمي ضحاياه من الاهل والجيران لصوصا وخونة وغوغاء.
ثم ماذا سيفيدنا عذابه بهذه الطريقة الرومانسية، اذا كنا لا نزال غارقين في توابع زلزاله من المرتزقة الانذال الذين يرقصون علي دمائنا في وسائل الاعلام، ومن الجهلة الذين ما زالوا يصدقونهم برغم ظهور كل محتويات جحيمنا للقاصي والداني؟ بالنسبة لي .. اتمني انا ايضا لهذا السفاح ان يعيش مائة عام فوق عمره، بشرط ان يوزع علي جميع الدول العربية، ليحكمها دوريا (علي طريقة مجلس حكمنا الانتقالي) .. لكن بواقع خمس سنوات لكل دولة، علي ان يوظف يتاماه الطبالون اعضاء في مجلس قيادته.
أخمن ان سنة واحدة ستكون كافية ووافية تماما، لكي يعرف شعب كل دولة ان الله حق، وان الشعب العراقي (معجزة) بالتأكيد .. حين استطاع ان يبقي حيا، وهو علي قيد الوفاة طيلة ستة وثلاثين عاما!
أما اعضاء مجلس قيادته، فانهم سوف لن يعرفوا اطلاقا ما ستعرفه الشعوب، وذلك لأن الصورة ستخلو منهم تدريجيا بارسالهم الي السماء -بنظام الشفتات- حسب (حسابات الحاضر والماضي) كما كان يقول مهيبنا الهارب من الخدمة العسكرية!
فاذا اكمل القائد دورات حكمه، وامكن ان يجدوا فيه نفسا يتردد، بعد استخراجه من الحفرة العشرين، فلا بأس، عندئذ، من البدء بمحاكمته.
مابين خفقٍ في الفؤاد .. وكلمة فوق اللسان ..
في أول هدأة للمرض كنت أنوي أن أنفض الليل المطبق على الأوراق وأشرع في الكتابة، مهما كلفني ذلك من جهد، أنا الذي وجدتني أخوض صراعات شاقة من أجل القيام بأمور معتادة وبسيطة كالصلاة، أو القراءة أو حتى مشاهدة فيلم مسلٍّ لتخفيف حمّى الوقت.
كنت سأقول: أليس من الغريب أن يصطفي المرض من عمري سنواته الأقسى والأكثر ألماً ويدسّ سمّه فيها؟
أن يتسلّل على أطراف أصابعه ويعبث بكريات دمي فيما أنا واقف على أطراف أصابعي أتأمل من نافذة غربتي "عراقي" الحزين، وقد آل إلى ضياع جديد، وأفكر في جدوى أن أعرق كلما ارتفعت حرارة الوطن فيما العصابات هناك تعيث في روحه فساداً وتسرق الحياة من شرايينه؟
كنت سأقول: أليس من المؤلم جداً، ولم تمض أربعة أشهر بعد، على كتابتي قصيدة (ثلاثون) ، تلك السيرة القصيرة الطويلة التي ضبطت نفسي وأنا أغالب عبرتي أثناء كتابتها، أن يؤمّن المرض على رحلة السندباد ويهديني زوبعة جديدة بغرض التلهّي عن الزوبعة الأولى ربما؟
هل يملك من يحمل في داخله وطناً كالعراق طاقة إضافية للصراع مع مرض آخر، وهل يستطيع حقاً أن ينشغل بعلاج بدنه عن علاج روحه؟
كنت سأقول وأسهب عن موسم واحدٍ فقط يعرفه سرير المرض وهو موسم الشتاء، فلا صيف ولا ربيع ولا حتى خريف وإنما برودة ضارية تتخلل الأغطية البيضاء وتوسع قاموس الأدوية والمضادات وتحيل حتى كأس الماء إلى قطعة جليد.
كنت سأقول أنّ (سبتمبر) ، الذي وعيت فيه على مرضي، هو أقسى الشهور وليس (أبريل) ، وإنّ "إليوت"مات قبل أن يرى الأرض الخراب الحقيقية.
كنت سأضحك من شرّ البلية وأنا في البرزخ بين جرعة علاج وأخرى وقد رجتني الطبيبة أن أغمض عينيّ وأسترخي قليلاً كأن ألوذ بالتفكير في شيء جميل "فكر مثلاً في بلدك .." قالت ذلك قبل أن تستدرك وهي ترى معالم الدهشة على وجهي وتتذكر أنني من البلد الذي يلعب الآن دور البطولة التراجيدية على شاشات التلفزيون "لا لا .. بل فكّر في أي شيء آخر عدا بلدك!" ثم تتحول الضحكة إلى نوبة نشيج مكتوم عندما يعيد ابني الأكبر على إخوته رواية الحادثة مرة واثنتين وثلاثاً!
كنت سأقول ألست أنا من أردّد - صادقاً - أنني لم أعتد على الإستسلام، منذ كنت طفلاً غرّاً، وأنني أستطيع الوقوف وحيداً في وجه أقسى الهزائم لأحيلها إلى انتصارات تشبه إرادتي، وأنني لم أتخلّ يوماً عن إيماني العميق برحمة الله التي أنجتني أيضاً، منذ كنت يافعاً، من شرّ خلق الله، وأنّ هذه الأشهر هي اختبار لا مفرّ منه لصلابة نفسي؟
كنت سأقول إنه لو كان للمرض من حسنة فهي أنه أبعدني - قسراً- عن الاستماع إلى نشرات الأخبار وعن قراءة الصحف وعن كل ما له صلة بالموت هناك، سواء بوجهه الفيزيائي من خلال المجازر التي ترتكب بشكل يومي أو بوجهه الآخر المتبدي جلياً في الضمائر الملوثة التي تبيع وتشتري باسم الوطن والوطنية، لولا أنّ الأخبار تتسلل، رغم حيطة المقربين، عن طريق ملاحظة عابرة أو هامش صغير أو تداع لكلمة من هنا وصوت من هناك أو عنوان رئيسي لصحيفة مهملة، وأن كل ذلك كاف لأيقاظ الآلام التي تتصنّع الغفوة داخلي وعودة
أبنائي إلى التوسّل إليّ أن أضرب عرض الحائط بكل شيء وأفكر فقط في نفسي "على الأقل في فترة مرضك، حاول أن تنسى كل ما من شأنه أن يثير انفعالك وأساك" !
كنت سأقول أشياء كثيرة عن خطورة المرض والشروط القاسية التي يمليها على أبسط طقوس الحياة وعن جبهته الواسعة والمفتوحة على معارك شتى، وعن الوطن الذي يبتعد كلما اقتربت وعن اللصوص المتنفذين بداخله والمحيطين به من كلّ جانب، وعن الإرادة والوقت وأشياء أخرى مصطفة بأدب جم في انتظار أن أفضح صمتها، غير أن كلّ هذه الأشياء، كلها دون استثناء، يمكن تأجيلها، أو بالأحرى يجب عليها أن تجلس على كراسي الصفّ الثاني وتشخص بأعينٍ ممتلئة بالامتنان لأصحاب الصفّ الأول، أولئك الذين رافقوني مع أسرتي طيلة الرحلة الصعبة، فكانوا وطناً آمناً وشفاءً، وكانوا كل ما يجب أن يقال الآن في هذه اللحظة: صحيفة الراية ورئيس تحريرها الصديق الأستاذ يوسف درويش، الذي لم يكفّ عن السؤال والاطمئنان، والذي احتوى فترة مرضي وانقطاعي الطويل عن الكتابة بكثير من النُبل والأريحية وأصرّ على أن أبقى بينهم حاضراً في الغياب وكأنّ قلمي لم يتوقف عن النبض لحظة وكأنّ صوتي لم يتحشرج لثانية.
ثم ثلّة الأصدقاء والصديقات الذين تركوا العواصم المتباعدة خلفهم وطووا المسافات الطويلة لكي يغتالوا وحشتي بحضورهم ويمدوا أيديهم، ولو لبضع ساعات، إلى كتفي ويهمسوا في أذني لعلّ المرض يسمعهم فينكمش خجلاً: إننا هنا يا أحمد.
ومثلهم ذلك الجيش الملائكي الذي أسميه مجازاً (قرائي) ، وهم شعب من الأجناس المختلفة والأعمار المختلفة والمستويات المختلفة وربما القلوب المختلفة أيضاً، الذين بلغني أنهم يتابعون أخباري بكل الوسائل المتاحة لديهم، وهي أكثر صدقاً ونقاء من جميع وسائل الإعلام العربية، ويتبادلون الدعاء من أجلي عبر رسائلهم الهاتفية، ويلاحقون أنباء صحتي في مواقعهم الشخصية على الإنترنت، والذين اجتمعوا على أن يوصلوا إليّ حبّهم وكلماتهم ودعواتهم التي كان لها فعل السحر عند رجلٍ يعلمون جيداً أنه أعزل!
أنتم جميعاً، أيها الأعزاء، سندي وقرّة عيني، وأنتم الرهان الذي لا يخيب، وأنتم الوطن الخافق في الفؤاد والساكن تحت المداد.
هذا تماماً ما أريد قوله في أول هدأة للمرض، ومن دفء هذا الإحساس يمكنني أن أقتبس النور في بلدٍ لا تزوره الشمس إلا بشكلٍ عابر.
من كل قلبي: شكراً لكم.
أحمد مطر
إهداء الى اسرة الساخر وجميع الاعضاء
مع تحيات محبكم "لست بساخر!"
المجلد (1)
الصفحة (6)
عبد الذات
بنينا من ضحايا أمسنا جسرا ،
وقدمنا ضحايا يومنا نذرا ،
لنلقى في غد نصرا ،
ويممنا إلى المسرى،
وكدنا نبلغ المسرى ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر قتلانا ،
وقلنا إنه أدرى ،
وبعد الصبر ألفينا العدى قد حطموا الجسرا ،
فقمنا نطلب الثأرا ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر آلافا من القتلى،
وآلافا من الجرحى ،
وآلافا من الأسرى ،
وهد الحمل رحم الصبر حتى لم يطق صبرا ،
فأنجب صبرنا صبرا ،
وعبدالذات لم يرجع لنا من أرضنا شبرا،
ولم يضمن لقتلانا بها قبرا ،
ولم يلق العدا في البحر، بل ألقى دمانا وامتطى البحرا،
فسبحان الذي أسرى بعبدالذات من صبرا إلى مصرا،
. وما أسرى به للضفة الأخرى
Email: ahmedmatar@usa.net
أحمَد مَطَر
إنّى المشنوق أعْلاه
المُوجزْ
ليسَ فى النّاسِ أمانْ .
ليسَ للنّاسِ أمانْ .
نِصفُهم يَعْملُ شرطّياً لدى الحاكمِ
. . و النصفُ مُدانْ !
أحمد مطر
ما قبل البدَاية
كنتُ فى (الرَحْمِ) حزيناً
دونَ أن أعرفَ للأحزانِ أدنى سببِ !
لَمْ أكنْ أعرفُ جنسيَّةَ أُمّى
لَمْ أكنْ أعرفُ ما دينُ أبى
لَمْ أكنْ أعلمُ أنّى عَرَبى !
آهِ .. لو كنتُ على عِلْمٍ بأمرى
كُنْتُ قَطَّعْتُ بنفسى (حَبْلَ سِرّى)
كُنتُ نَفَّسْتُ بنفسى و بأُمّى غَضَبى
خَوفَ أن تَمْخُضَ بى
خَوفَ أن تقذفَ بى فى الوطنِ المغتربِ
خَوفَ أن تحبلَ من بَعْدى بغيرى
ثُمَّ يغدو - دونَ ذنبٍ -
عربيّاً .. فى بلادِ العَرَبِ !
علامة الموت
يَومَ ميلادى
تَعَلَّقْتُ بأجراسِ البُكاءْ
فأفاقَتْ حُزَمُ الوردِ , على صوتى ,
وفَزَّتْ فى ظَلامِ البيتِ أسرابُ الضِياءْ
وتداعى الأصدقاءْ
يَتَقَصَّونَ الخَبْر .
ثُمَّ لَّما عَلِموا أنّى ذَكَرْ
أجهشوا .. بالضحك ,
قالوا لأبى ساعةَ تقديمِ التهانى :
يا لها من كبرياء
صوتُهُ جاوزَ أعنان السَماءْ .
عَظَّمَ اللهُ لكَ الأجر
على قَدْرِ البَلاءْ !
الختان
ألبسونى بُردَةً شَفّافَةً
يَومَ الخِتانْ .
ثُمَّ كانْ
بَدءُ تاريخ الهَوانْ !
شَفَّتِ البُرْدَةُ عن سِرّى ,
وفى بِضْعِ ثوانْ
ذَبَحوا سِرّى .
و سالَ الدَمُ فى حِجْرى
فقامَ الصوتُ من كُلِّ مكانْ :
ألفَ مبروكٍ
. . وعُقبى لِلِّسانْ !
توبَة
صاحبى كانَ يُصَلِّى
- دونَ ترخيصٍ -
و يتلو بعضَ آياتِ الكتابْ .
كان طفلاً
و لذا لم يَتعرَّضْ للعقابْ .
فلقد عَزَّرَهُ القاضى
. . وَ تابْ !
مرسُوم
نحنُ لسنا فُقَراءْ .
بَلَغَتْ ثَروتُنا مليونَ فَقْرِ
وغدا الفَقْرُ لدى أمثالِنا
وصفاً جديداً للثَّراءْ !
وَحْدَهُ الفقرُ لدينا
كانَ أغنى الأغنياءْ !
* *
بَيتُنا كانَ عراءْ .
و الشبابيكُ هواءٌ قارسٌ
و السقفُ ماءْ !
فشكونا أمرَنا عندَ ولىِّ الأمرِ
فاغتنمَّ
و نادى الخبراءْ
و جميعَ الوزراءْ
و أُقيمت نَدوةٌ واسعةٌ
نُوقِشَ فيها وَضْعُ (إيرْلَندا)
و أنفُ (الجيوكندا)
و فَساتينُ (أميلدا)
و قضايا (هونو لولو)
و بطولاتُ جيوش الحُلفاء !
ثُمَّ بَعدَ الأخذِ و الرّدِّ
صباحاً و مساءْ
أصدر الحاكمُ مرسوماً
بإلغاءِ الشتاءْ !
ملحوظَة
تَركَ اللّصُ لنا ملحوظةً
فوقَ الَحصير
جاءَ فيها :
لَعَن الله الأمير
لم يَدَع شيئاً لنا نَسرقهُ
. .. إلاّ الشَخيرْ !
الرّحمة فوق القَانونْ
ذاتَ يومٍ
رقَصَ الشعبُ وغَنّى
واحتسى بَهجَتَهُ حتّى الثمالَةْ
إذ رأى أوَّل حالَة
تَنْعم ُالبلدةُ فيها بالعدالَةْ :
زَعَموا أنَّ فتًى سبَّ نِعالَهْ
فأحالوهُ إلى القاضى
ولم يُعْدَمْ
بدعوى شَتْمِ أصحابِ الجلالَةْ !
تبْليط !
رَصَفوا البَلْدةَ ، يوماً ،
بالبَلاط
ثُمَّ لمّا وضعوا فيهِ الِملاط
مَنَعوا أىَّ نَشاطْ
فالتزمْنا الدورَ
حتّى يتأتّى للمُلاطْ
زمَنٌ كافٍ لكى يَلصُقَ جِدّاً
بالبِلاطْ!
مجهُود حَربى
لأبى كانَ مَعاشٌ
هو أدنى من معاشِ المَيِّتيْن !
نِصفُهُ يَذهَبُ للدَّينِ
وما يَبقى
لِغوثِ اللاّجئينْ
ولتحريرِ فلسطينَ من المُغتَصبِين .
وعلى مَرِّ السنين
كانَ يزدادُ ثَراءُ الثائرينْ !
والثرى ينقصُ من حينٍ لحينْ
وسُيوفُ الفتحِ تَندقُّ إلى المقبضِ
فى أدبارِ جيشِ ( الفاتحينْ )
فَتَلِين
ثُمَّ تَنحَلُّ إلى أغصانِ زيتونٍ
وتَنحَلُّ إلى أوراقِ تينْ
تتدلّى أسفلَ البطنِ
وفى أعلى الجبَينْ !
وأخيراً قَبِلَ الناقِصُ بالتقسيمِ
فانشقَّتْ فَلَسطينُ إلى شقّينِ :
للثوّارِ : فَلْسٌ
ولإسرائيلَ : طِينْ !
وأبى الحافى المَدينْ
أبىَ المغصوبُ من أخمصِ رجليهِ
إلى حبل الوَتينْ
ظَلَّ - لايدرى لماذا -
وَحْدَهُ
يَقبضُ باليُسرى ويُلْقى باليَمين ْ
نفقاتِ الحربِ والغوثِ
بأيدى الخلفاءِ الشاردينْ !
بَدائل
فَتَحَتْ شُبّاكَها جارَتُنا .
فَتَحَتْ قلبى أنا
لمَحْةٌ ..
واندلعتْ نافورةُ الشمسِ
وغاصَ الغدُ فى الأمسِ
وقامتْ ضجّةٌ صامتةٌ ما بينَنا !
لَمْ نَقُلْ شيئاً..
وقُلنا كُلَّ شئٍ عِندنا !
* *
- يا أباها المؤمنا
سالتِ النارُ من الشُبّاكِ
فافتحْ جَنَّةَ البابِ لَنا
يا أباها إنّنا ..
لَستُم على مذهبِنا .
- لكنّنا ...
- لَستُم ذوى جاهٍ
ولا أهلَ غِنَى .
- لكنّنا ...
- لَستُم تَليقونَ بِنا .
- لكنّنا ..
- شَرَّفتنَا !
* * *
أُغلقَ البابُ ..
وظَلَّتْ فتحةُ الشُبَّاكِ جُرْحاً فاغِراً
يَنزفُ أشلاءَ مُنى
وخيالاتِ انتحارٍ
ومواعيدَ زِنى !
جَدليَّة
كانَ جارى
مُلْحداً
لكنَّهُ يُؤمِنُ جداً
بأبى ذَرِّ الغِفارى .
ويَرى أنَّ الغِفارى
"بروليتارىْ" !
رائدٌ للاشتراكيَّةِ فى هذى
الصحارى !
كانَ جارى
يَضَعُ الراكِبَ من تحتِ الحمارِ !
قُلتُ : هذا رَجُلٌ آمَنَ باللهِ
وقد جاهَدَ فى اللِه
بأمرِ اللهِ
فى عَصْرِ الغُبارِ
قَبلَ تدليكِ "الديالتكتيكِ"
أو عَصْرِ البخارِ !
قالَ : إنْ صَحَّ وجودُ اللهِ ،
فاللهُ إذَنْ ..
أوَّلُ موجودٍ يَسارى !
العهْد الجَديد
كان حتَّى الإكتِئابْ
غارقاً في الإكتئابْ
فَجميعُ الناسِ في بلدتِنا
بينَ قَتيلٍ ومُصابْ
والّذي ليسَ على جُثَّتهِ بصمةُ ظُفْرٍ
فعلى جُثّتهِ بَصمةُ نابْ
كُلُّنا يحملُ خَتْمَ الدولةِ الرسمىِّ
من تحتِ الثيابْ !
ذاتَ فَجرٍ
مادتِ الأرضُ
وسَادَ الإضطرابْ
واستفزَّ الناسَ من مَرْقَدِهمْ
صوتٌ مُجَنْزَرْ:
( تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ
تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ)
إنقلاب.
تُمْ تِرَمْ تَمْ . . .
وانتهىعَهْدُ الكِلابْ !
بَعْدَ شَهْرٍ
لَمْ نَعُدنخرجُ للشارعِ لَيْلاً .
لَمْ نَعُدْ نَحْمِلُ ظِلاً .
لَمْ نَعُدْ نَمْشي فُرادى .
لَمْ نَعُدْ نَمْلِكُ زادا .
لَمْ نَعُدْ نَفْرحُ بالضيفِ
إذا ما دُقَّ عندَ الفجرِ بابْ
لَمْ يَعُدْ للفجرِ بابْ !
فُصُّ مِلْحِ الصُبحِ
في مُسْتَنقَع الظُلْمةِ ذابْ .
هذهِ الأنجمُ أحْداقٌ
وهذا البَدرُ كَشَّافٌ
وهذي الريحُ سَوطٌ
والسماواتُ نِقابْ !
تُمْ
تِرَمْ
تَمْ
كُلَّنا من آدمٍ نحنُ
وما آدمُ إلاَّ من تُرابْ
فَوقَهُ تَسرحُ .. قِطعانُ الذئابْ!
حَبيبُ الشَعبْ
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ
أينَما سِرْنا نراهْ !
في المقاهي
في الملاهي
في الوزاراتِ
وفي الحاراتِ
وا لبارا تِ
وا لأسوا قِ
وا لتلفازِ
والمسرحِ
والمبغى
وفي ظاهرِ جدران المصحّاتِ
وفي داخلِ دوراتِ المياهْ .
أيَنما سِرْنا نَراهْ !
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتجّاهْ
باسِمٌ
في بَلَدٍ يبكي من القهرِ بُكاهْ !
مُشرقٌ
في بَلدٍ تلهوالليالي في ضُحاهْ !
ناعِمٌ
في بَلدٍ حتى بَلاياهُ
بأنواعِ البلايا مبتلاهْ !
صادحٌ
فى بَلدٍ مُعتَقلِ الصَوتِ .
ومنزوعِ الشِّفَاهْ !
سالمٌ
في بَلدٍ يُعْدَمُ فيهِ الناسُ
بالآلا فِ ، يوميّاً
بدعوى الإشتباهْ .
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ ؟
نِعمةٌ منهُ عَلَينا
إذْ نَرى ، حين نراهْ ،
أنَّهُ لَمَّا يَزَلْ حَيَّاً
. . وما زِلنا على قيدِ الَحياهْ !
إصلاح زراعى !
قرَّرَ الحاكِمُ إصلاحَ الزراعَةْ .
عُيِّنَ الفَلاَّحُ شُرطيَ مُرورٍ ،
وابنةُ الفلاَّحِ بيّاعةَ فولٍ ،
وابنهُ نادِلَ مقهى
في نقاباتِ الصناعَةْ !
وأخيرأ
عُيِّنَ المحراثُ في القِسمِ الفُولوكْلوريِّ
والثورُ. . مُديرأ للإذاعَهْ !
قَفْزةٌ نَوعيَّةٌ في الإقتصادْ
أصبحتْ بَلدتُنا الأولى
بتصديرِ الجَرادْ
وبإنتاجِ المجاعةْ !
صَاحِبَة الجهَالة
مَرَّةً ، فَكَّرتُ في نَشْرِ مَقالْ
عن مآسي الإحتلالْ
عن دفاعِ الحجرِ الأعزلِ ،
عن مِدفَعِ أربابِ النِضالْ !
وعن الطِفل الذي يُحرَقُ في الثورةِ
كي يَغرَقَ في الثروةِ ، أشباهُ الرّجالْ !
قَلَّبِ المسؤولُ أوراقي ، وقالْ :
إجتَنِبْ أىَّ عباراتٍ تُثيرُ الإنفعالْ .
مَثَلاً:
خَفِّفْ (ماسي )
لِمَ لا تَكْتُبُ ( ماسي ) ؟
أو ( مُوا سي ) ؟
أو ( أ ما سي ) ؟
شَكْلُها الحاضِرُ إحراجٌ لأصحابِ الكراسي !
إحْذِفْ ( الأعْزَلَ ) . .
فالأعْزَلَ تحريضٌ على عَزْلِ السلاطيِن
وتعريضٌ بِخَطِّ الإنعزالْ !
إحْذِ فِ ( المِد فعَ ) . .
كي تدفعَ عنكَ الاعتقالْ .
نحنُ في مرحلةِ السِّلمِ
وَقَدْ حُرِّمَ فى السِّلْمِ القِتالْ
إحْذِفِ ( الأربا بَ )
لا ربَّ سوى اللهِ العظيم المُتَعالْ !
إحذِفِ (ا لطِفلَ ) . .
فلا يحَسُنُ خَلْطُ الجِدِّ في لُعْبِ العِيالْ !
إحذ فِ ( الثورةَ )
فالأوطانُ في افضلِ حالْ !
إحذفِ ( الثروةَ ) و ( الأ شباهَ )
ما كُلُّ الذي يُعْرفُ ، يا هذا ، يُقالْ !
قُلتُ : إنيِّ لَستُ إبليسَ
وأنتمْ لا يُجاريكم سوى إبليس
في هذا المجالْ .
قالَ لي : كانَ هُنا . .
لكنّهُ لم يتأقلَمْ
فاستقالْ !
المُعْجِزَة
ماتَ خالي !
هكذا ! !
دونَ اغتيالِ !
دونَ أن يُشنَقَ سهواً !
دونَ أن يسقطَ ، بالصدفةِ ، مسموماً
خلالَ الإِعتقالِ !
ماتَ خالي
ميتةً أغربَ مِمّا في الخيالِ !
أسْلَمَ الروحَ لعزرائيلَ سِرّاً
ومضى حُرّاً . . محاطاً بالأمانِ !
فدفنّاهُ
وعُدْنا نَتَلقّى فيهِ من أصحابِنا
. . أسمى التهاني !
المُنشَقّ!
أكثرُ الأشياءِ في بَلدتِنا
الأحزا بُ
والفقرُ
وحالاتُ الطلاقِ .
عِندَنا عَشْرةُ أحزابٍ وَنِصفُ الحِزبِ
فى كُلِّ زُقاقِ !
كلُّها يَسعى الى نَبْذِ الشِّقاقِ !
كلُّها يَنشَقُّ في الساعةِ شَقّينِ
وَيَنشقُّ على الشَّقّينِ شقّانِ
وَيَنشقّانِ عن شَقَّيْهما . .
من أجلِ تحقيقِ الوفاقِ !
جَمَراتٌ تتهاوى شَرَراً
وَالبَردُ باقِ
ثُمَّ لايبقى لها
إلاَّ رَمَادُ الإحتراقِ !
* *
لم يَعُدْ عندي رفيقٌ
رُغْمَ أنَّ البلدَةَ اكتظَّتْ
بآلافِ الرفاقِ !
وَلِذ ا
شَكَّلتُ من نَفسيَ حِزباً
ثُمّ انيّ
- مثلَ كلِّ الناسِ -
أعلنتُ عن الحزبِ انشقاقي !
الجريمة وَالعِقْاب
مَرَّةً ، قالَ أبي :
إنَّ الذُباب
لا يُعابْ .
إنَّهُ أفضَلُ مِنَّا
فَهوَ لا يقبَلُ مَنَّا
وهوَ لا ينكِصُ جُبْنا
وهوَ إنْ لم يلقَ ما يأكُلُ
يَستَوفِ الحسابْ
يُنشِبُ الأرجُلَ في الأرجُلِ
والأعيُنِ
والأيدي
وَيجتاحُ الرِّقَابْ .
فَلَهُ الجِلْدُ سِماطٌ
وَدَمُ الناسِ شَرابْ !
* *
مَرَّةً قالَ أبي . . .
لكنَّهُ قالَ وغابْ .
وَلقد طالَ الغيابْ !
* *
قيلَ لي انَّ أبي ماتَ غريقاً
في السَرابْ !
قيلَ : بلْ ماتَ بداءِ ( التراخوما ) !
قيلَ : جَرَّاءَ اصطدامٍ
بالضبابْ !
قيلَ ما قيلَ ، وما اكثرَما قيلَ
فراجَعنا أطبّاءَ الحكومَة
فأفادوا أنّها ليستْ ملومَة
ورأوا أنَّ أبى
أهلكَهُ "حَبُ الشَبابْ" !
الغَريبْ
كّلُّ ما في بلدتي
يَملأُ قلبي بالكَمَدْ .
بَلدتي غُربةُ روحٍ وجَسَدْ
غربةٌ من غيِر حَدّْ
غربةٌ فيها الملايينُ
وما فيها أحَدْ .
غربةٌ موصولةٌ
تبدأُ في المهْدِ
ولا عودةَ منها . . للأبدْ !
شِئتُ أن أغتالَ مَوتى
فَتسلّحتُ بِصوتي :
أيُّها الشِعرُ لقد طالَ الأمَدْ
أهلَكَتنْي غُربتي ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فكُنْ أنتَ البَلَدْ .
نَجِّني من بلدةٍ لا صوتَ يَغشاها
سوى صوتَ السكوتْ !
أهلُها موتى يخافونَ المنايا
والقبورُ انتشرتْ فيها على شَكْلِ بُيوتْ
ماتَ حتّى الموتُ
. . والحاكمُ فيها لا يموتْ !
ذُرَّ صوتي ، أيُّها الشِعرُ ، بُروقاً
في مفازات ِالرَمَدْ .
صُبَّهُ رعداً على الصمتِ
ونارأ فى شرايينِ الَبَرْد .
ألقِهِ أفعى
الى أفئدةِ الحُكّاِم تسعى
وافلِقِ البحرَ
وأطبِقْةُ على نَحْرِ الأساطيلِ
وأعناقِ المساطيلِ
وَطَهِّرْ من بقاياهُم قَذاراتِ الزَبَذْ .
إنَّ فرعونَ طغى ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فأيقِظْ من رَقَدْ .
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ .
قالَها الشِعرُ
وَمَدَّ الصوتَ ، والصوتُ نَفَذْ
وأتى من بَعْد بَعدْ
واهنَ الروحِ مُحاطأ بالرَصَدْ
فوقَ أشداقِ دراويشٍ
يَمُدُّونَ صدى صوتى على نحريَ
حبلاًمن مَسَدْ
ويصيحونَ "مَدَ ْد"
مَا بَعد النهَاية
إنَّني المشنوقُ أعلاهُ
على حبلِ القوافى
خُنتُ خوفي وارتجافي
وتَعرَّيتُ من الزيفِ
وأعلنتُ عن العهْرِ انحرافى .
وأرتكبتُ الصِدقَ كيْ أكتُبَ شِعرا
واقترفتُ الشِعرَكَيْ أكتُبَ فجرا
وَتَمَرَّدتُ على أنظمةِ خَرفى
وحُكامٍ خِرافِ .
وعلى ذلِكَ . .
وَقَّعْتُ اعترافى!
حين وقفت بباب الشعر ،
فتش أحلامي الحراس ،
أمروني أن أخلع رأسي،
وأريق بقايا الإحساس ،
ثم دعوني أن أكتب شعرا للناس ،
فخلعت نعالي بالباب وقلت خلعت الأخطر ياحراس ،
. هذا النعل يدوس ولكن هذا الرأس يداس
Email: ahmedmatar@usa.net
ياقدس معذرة ومثلي ليس يعتذر،
مالي يد في ما جرى فالأمر ما أمروا ،
وأنا ضعيف ليس لي أثر ،
عار علي السمع والبصر ،
وأنا بسيف الحرف أنتحر ،
وأنا اللهيب وقادتي المطر ،
فمتى سأستعر ؟
لو أن أرباب الحمى حجر ،
لحملت فأسا فوقها القدر ،
هوجاء لا تبقي ولا تذر ؛
لكنما أصنامنا بشر ،
الغدر منهم خائف حذر ،
والمكر يشكو الضعف إن مكروا ؛
فالحرب أغنية يجن بلحنها الوتر ،
والسلم مختصر ،
ساق على ساق ، وأقداح يعرش فوقها الخدر ،
وموائد من حولها بقر ،
ويكون مؤتمر ؛
هزي إليك بجذع مؤتمر يساقط حولك الهذر ،
. عاش اللهيب ويسقط المطر
Email: ahmedmatar@usa.net
يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه ،
يلطمني ويدعي أن فمي قام بلطم كفه ،
يطعنني ويدعي أن دمي لوث حد سيفه ،
فأخرج القانون من متحفه ،
وأمسح الغبار عن جبينه ،
أطلب بعض عطفه ،
لكنه يهرب نحو قاتلي وينحني في صفه ،
يقول حبري ودمي : "لا تندهش ،"
".من يملك القانون في أوطاننا ، هو الذي يملك حق عزفه"
Email: ahmedmatar@usa.net
أسرتنا بالغة الكرم ،
تحت ثراها غنم حلوبة، وفوقه غنم ،
تأكل من أثدائها وتشرب الألم ،
لكي تفوز بالرضى من عمنا صنم ،
أسرتنا فريدة القيم ،
وجودها عدم ،
جحورها قمم ،
لاآتها نعم ،
والكل فيها سادة لكنهم خدم ،
أسرنا مؤمنة تطيل من ركوعها، تطيل من سجودها ،
وتطلب النصر على عدوها من هيئة الأمم ،
أسرتنا واحدة تجمعها أصالة، ولهجة، ودم ،
وبيتنا عشرون غرفة به ، لكن كل غرفة من فوقها علم ،
يقول إن دخلت في غرفتنا فأنت متهم ،
. أسرتنا كبيرة ، وليس من عافية أن يكبر الورم
Email: ahmedmatar@usa.net
بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب ،
نبذة عن وطن مغترب ،
تاه في ارض الحضارات من المشرق حتى المغرب ،
باحثا عن دوحة الصدق ولكن عندما كاد يراها حية مدفونة وسط بحار اللهب ،
قرب جثمان النبي ،
مات مشنوقا عليها بحبال الكذب ،
وطن لم يبق من آثاره غير جدار خرب ،
لم تزل لاصقة فيه بقايا من نفايات الشعارات وروث الخطب ،
عاش حزب الـ...، يسقط الخا...، عائدو...، والموت للمغتصب ،
وعلى الهامش سطر ،
أثر ليس له اسم ،
. إنما كان اسمه يوما بلاد العرب
Email: ahmedmatar@usa.net
وقفت مابين يدي مفسر الأحلام ،
قلت له : "ياسيدي رأيت في المنام ،"
أني أعيش كالبشر ،
وأن من حولي بشر ،
وأن صوتي بفمي، وفي يدي الطعام ،
وأنني أمشي ولا يتبع من خلفي أثر "،"
فصاح بي مرتعدا : "ياولدي حرام ،"
لقد هزئت بالقدر ،
ياولدي ، نم عندما تنام "؛"
وقبل أن أتركه تسللت من أذني أصابع النظام ،
. واهتز رأسي وانفجر
Email: ahmedmatar@usa.net
حي على الجهاد ؛
كنا وكانت خيمة تدور في المزاد،
تدور ثم إنها تدور ثم إنها يبتاعها الكساد ؛
حي على الجهاد ؛
تفكيرنا مؤمم وصوتنا مباد ،
مرصوصة صفوفنا كلا على انفراد ،
مشرعة نوافذ الفساد ،
مقفلة مخازن العتاد ،
والوضع في صالحنا والخير في ازدياد ؛
حي على الجهاد ؛
رمادنا من تحته رماد ،
أموالنا سنابل مودعة في مصرف الجراد ،
ونفطنا يجري على الحياد ،
والوضع في صالحنا فجاهدوا ياأيها العباد ،
رمادنا من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
. حي على الجماد
Email: ahmedmatar@usa.net
كلب والينا المعظم عظني اليوم ومات ،
فدعاني حارس الأمن لأعدم ،
بعدما أثبت تقرير الوفاة
. أن كلب السيد الوالي تسمم
Email: ahmedmatar@usa.net
قفوا حول بيروت صلو على روحها واندبوها ،
وشدوا اللحى وانتفوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
وسلو سيوف السباب لمن قيدوها ،
ومن ضاجعوها ،
ومن أحرقوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
ورصو الصكوك
على النار كي تطفؤوها ،
ولكن خيط الدخان سيصرخ فيكم : "دعوها" ،
ويكتب فوق الخرائب
. "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها"
Email: ahmedmatar@usa.net
لافتات 2
البَيانُ الأولْ
قلمي وَسْطَ دُواةِ الحبرِ غاصْ
ثُمَّ غاصْ
ثُمَّ غاصْ.
قلمي في لُجَّةِ الحبرِ اختَنق
وَطَفتْ جُثَّتُهُ هامِدةً فوقَ الورق.
روحُهُ في زَبَدِ الأحرفِ ضاعتْ في المَدَى
ودمى في دمه ضاع سُدى
ومضى العُمرُ ولم يأتِ الخلاصْ.
آهِ يا عصرَ القماصْ
بَلْطةُ الجزّارِ لا يذبحُها قَطْرُ الندى
لا مَنَاصْ
آنَ لي أن أتركَ الحِبرَ
وأنْ أكتُبَ شعري بالرصاصْ!
======================
إنجيل بوليس!
في البدء كانَ الكلمةْ
ويومَ كانتْ أصبحتْ مُتَّهمَهْ
فطورِدَتْ
وحوصِرَتْ
واعتُقِلَتْ
. . وأَعْدمَتْهَا الأنظمهْ
. .. * *
في البدءِ كانَ الخاتمهْ !
=====================
العِلَّة
قالَ ليَ الطبيبْ :
خُذْ نَفَساً .
فكِدتُ - مِن فَرْطِ اختناقي
بالأسى والقهْرِ - أَستجيبْ
لكنَّني
خَشيتُ أن يلمحَني الرَّقيبْ .
وقالَ : مِمَّ تشتكي ؟
أردتُ أن أُجيب
لكنَّني
خشيتُ أن يسمعَني الرقيبْ .
وعندما حيَّرتُهُ بصمتيَ الرهيبْ
وَجَّهَ ضَوءاً باهِراً لمقلتي
حاولَ رفْعَ هامتي
لكنَّني خَفضتُها
وَلُذتُ بالنحيبْ
قلتُ لَهُ : معذرةً يا سيِّدي الطبيبْ
أوَدُّ أن أرفَعَ رأسي عالياً
لكنَّني
أخافُ أن .. يحذِفَهُ الرَّقيبْ !
======================
صندوق العجائب
في صِغَرى
فتحتُ صندوقَ اللُّعَبْ .
أخرجتُ كرسيّاً مُوَشَّى بالذَّهبْ
قامتْ عليهِ دُميةٌ من الخشب
في يدها سيفُ قَصَبْ .
خَفضتُ رأسَ دُميتي
رفعت رأس دميتي
خلَعتُها.
نصبتُها.
خَلعتُها .. نَصبتُها
حتى شَعَرتُ بالتعبْ
فما اشتكتْ من اختلافِ رغبتي
ولا أحسَّت بالغضبْ !
ومثلُها الكُرسيُّ تحتَ راحتي
مُزَوَّقٌ بالمجدِ . . وَهُوَ مُستَلبْ.
فإنْ نَصبْتُهُ انتصبْ
وإن قَلبْتُهُ انقلبْ !
أَمتعني المشهَدُ ،
لكنَّ أبي
حين رأى المشهَدَ خافَ واضطرَبْ
وخبَّأَ اللعبةَ في صُندوقِها
وَشَدَّ أُذْنِي . . وانسحَبْ !
. .. * *
وعِشْتُ عُمري غارقاً في دَهْشَتي.
وعندما كَبِرتُ أدركتُ السّبَبْ
أدركتُ أنَّ لُعبتي
قد جَسَّدَتْ
كلَّ سلاطينِ العَربْ !
======================
التقرير
كلبُ وَالينَا المُعَظَّمْ
عضَّني ، اليومَ ، وماتْ !
فدعاني حارسُ الأمنِ لأُعدَمْ
بعدما أثبتَ تقريرُ الوفاةْ
أنّ كلبَ السيِّدِ الوالي
تسمَّمْ !
=====================
قيصريةْ
في البلادِ العربيَّهْ
عندما ترفضُ أن تُولدَ عبداً
يَسْحَبُ الجرَّاحُ رِجليكَ
فتأتى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ.
حاملاً حُريَّةً في يَدِكَ اليمنى
وفى اليُسرى . . وَصِيَّهْ.
فإذا عِشْتَ . .تَموتْ
حَسْبَ قانونِ السُّكوتْ
وكما جِئْتَ تُوافيكَ المَنيَّهْ :
يَسْحَبُ (الجرَّاحُ) رِجليكَ
إلى القبرِ
فتمضى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ !
======================
التكفِير والثورة
كَفَرْتُ بالأقلامِ والدفاتِرْ .
كفرتُ بالفصحى التي
تحبَلُ وهْيَ عاقِرْ .
كفرتُ بالشِّعر الذي
لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّك الضمائرْ
لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ
لم تنطلِقْ من بعدِها مسيرَهْ.
ولم يَخُطَّ الشعبُ في آثارِها مَصِيرَهْ .
لَعَنتُ كُلَّ شاعِرْ
ينامُ فوق الجُمَلِ النديَّةِ الوثيرهْ
وشعبُهُ ينامُ في المقابرْ .
لَعَنتُ كلَّ شاعِرْ
يستلهمُ الدمعةَ خمرأً
والأسى صَبَابَةً
والموتُ قُشْعَرِيرَهْ .
لَعَنتُ كلّ شاعِرْ
يُغازلُ الشِّفاهَ والأثداءَ و الضفائِرْ
في زمنِ الكلابِ و المخافرْ
ولا يرى فوهةَ بُندقيةٍ
حين يرى الشِّفاهَ مستجيرهْ !
ولا يرى رُمَّانةً ناسِفةً
حين يرى الأثداء مُستديرَهْ!
ولا يرى مشنقةً
حينَ يرى الضفيرهْ !
. .. * *
في زمن الآتينَ للحكمِ
على دبَّابَةٍ أجيرهْ
أو ناقةِ العشيرهْ
لَعَنتُ كلّ شاعرٍ
لا يقْتني قنبلةً
كي يكتُبَ القصيدة الأخيرهْ !
======================
هذِه الأرضُ لنا
قُوتُ عِيالنا هُنا
يُهدِرُهُ جلالةُ الحِمارْ
في صالةِ القُمارْ
وكلُّ حقِّهِ بهِ
أنَّ بعيرَ جدِّهِ
قد مَرَّ قبلَ غيرهِ
بهذهِ الآبارْ !
. .. * * *
يا شُرفاء
هذِه الأرضُ لَنا.
والزرعُ فوقَها لنا
والنِفطُ تَحتها لنا
وكُلُّ ما فيها بماضيها وآتيها لنا .
فما لَنا
في البردِ لا نلبسُ إلاَّ عُرْيَنا ؟
وما لَنا
في الجوعِ لا نأكُلُ إلاّ جوعَنا ؟
وما لنا نغرقُ وَسْطَ القارْ
في هذهِ الآبارْ
لكي نصوغَ فَقْرنا
دِفئاً ، وزاداً ، وغِنى
من أجلِ أولادِ الزِّنى ؟!
========================
الطبُّ يضرُّ بصحتكْ
لي صاحبٌ
يَدرسُ في الكُلِّية الطبيَّهْ
تأكَّدَ المُخبِرُ من ميولِهِ الحزبيَّهْ
وقام باعتقالِهِ
حينَ رآهُ مَرَّةً
يَقرأُ عن تَكَوُّنِ (الخليَّهْ) !
. .. * *
وبعدَ يومٍ واحدٍ
أُفرجَ عن جُثَّتِهِ
بحالةٍ أمْنِيَّهْ :
في رأسِهِ رَفْسَةُ بُندقيَّهْ
في صدرِه قُبلةُ بُندقيَّهْ !
في ظَهْرِهِ صورةُ بُندقيَّهْ
لكنَّني
حينَ سألتُ حارِسَ الرَّعيَّهْ
عن أَمرِهِ
أخبرني
أنَّ وفاةَ صاحبي قد حَدَثتْ
بالسكتةِ القلبيَّهْ !
========================
حالات
بِالتَّمادى
يُصبِحُ اللصُّ بأورُوبّا
مديراً للنوادي .
وبأمريكا
زَعيماً للعصاباتِ وأوكارِ الفسادِ .
وبأوطاني التي
من شَرعِها قَطْعُ الأيادي
يُصْبِحُ اللصُّ
. . رئيساً للبلادِ !
========================
المُتَّهمْ
كنتُ أمشى في سلامْ
عازفاً عن كُلِّ ما يخدِشُ
إحساسَ النظامْ .
لاَ أصيخُ السمعَ
لا أنظرُ
لا أبلعُ ريقي .
لا أرومُ الكَشفَ عن حُزني
وعن شِدَّةِ ضيقي .
لا أُميطُ الجفنَ عن دمعي
ولا أرمِى قِناعَ الابتسامْ .
كُنتُ أمشى . . والسلامْ .
فإذا بالجُندِ قد سدُّوا طريقي
ثُمّ قادوني إلى الحَبْسِ
وكان الاتهامْ :
أنّ شَخصاً مرَّ بالقصرِ
وقد سَبَّ الظلامْ
قبلَ عامْ .
ثُم بعدَ البَحثِ والفحصِ الدَّقيقِ
عَلِمَ الجُندُ بأنَّ الشخصَ هذَا
كان قد سلَّمَ في يومٍ
على جارِ صَديقي !
========================
الجِدَار
وقفتُ في زنزانتى
أُقلِّبُ الأفكارْ :
أنا السّجينُ ها هُنا
أم ذلك الحارسُ بالجوارْ ؟
فكلُّ ما يفصلنا جدارْ
وفي الجدارِ فتحةٌ
يرى الظلامَ من ورائها
وألمحُ النهارْ !
. .. * * *
لحارسى ، ولي أنا . . صِغارْ
وزوجةٌ ودارْ
لكنَّهُ مثلى هُنا
جاءَ بِهِ وجاءَ بى قَرارْ
وبيننا الجدارْ
يوشِكُ أن ينهارْ !
. .. * *
حدَّثنى الجدارْ
فقالَ لى : إنَّ الذى ترثي لهُ
قد جاءَ باختيارهِ
وجئتَ بالإجبارْ .
وقبل أن ينهارَ فيما بيننا
حدَّثنى عن أسدٍ
سجَّانُهُ حمار !
========================
إضرابْ
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ ، طريَّةُ الجدرانْ
تيجانُها تسبحُ في بَرْدِ الندى
والنورِ و العطورْ
في ساعةِ البكورْ
وتستوي كَسْلى على عُروشِها .
وتحتَ ظُلْمةِ الثرى
والبؤسِ والهوانْ
تسافِرُ الجذور في أحزانِها
كى تضحكَ التيجانْ !
. .. * *
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ تسبحُ في الغُرورْ
بذكرِها تُسَبِّحُ الطيورْ
ويسبحُ الفراشُ في رحيقها
وتسبحُ الجذورْ
في ظُلمةِ النَّسيانْ
. .. * *
الوردُ في البستانْ
أصبحَ . . ثُمَّ كانْ
في غَفلةٍ تهدَّلتْ رؤوسُهُ
وخرَّت السَّيقانْ
إلى الثَّرى
ثُمَّ هَوَتْ من فوقِها التيجانْ !
. .. * *
مرّت فراشتانْ
وردَّدت إحداهُما :
قدْ أعلنتْ إضرابَها الجذورْ !
. .. * *
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ !
======================
سلاحٌ بَارد
يا أيُّها الإنسانْ
يا أيُّها المُجوَّعُ، المخوَّفُ، المهانْ
يا أيُّها المدفونُ فى ثيابهِ
يا أيُّها المشنوقُ من أهدابهِ
يا أيُّها الراقِصُ مذبوحاً
على أعصابِهِ .
يا أيُّها المنفىُّ من ذاكرةِ الزمانْ
شبعتَ موتاً فانتفضْ
آن النشورُ الآنْ
بأغلظِ الايمانِ واجِهْ أغلظَ المآسى
بقبضتيكَ حَطِّم الكراسى
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فَجَرِّدِ اللسانْ
قُل : يسقطُ السلطانْ.
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فلا تدعْ قلبك فى مكانِهِ
لأنَّهُ مُدان
فدَقَّةُ القلبِ سلاحٌ باردٌ
يتركهُ الشجاعُ بعد موتِهِ
تحت يَدِ الجبانْ
لكى يدارى ضَعْفَهُ
بأضعفِ الايمانْ !
========================
إذا الضحايا سُئِلت
طالعتُ فى صحيفةِ الرحيلْ
قافلةً تائهةٌ
دليلُها يسترُ قُبْحَ فِعلِهِ
بصبرِها الجميلْ .
رأيتُها تغرقُ فى دمائِها
والدّمعِ و العويلْ
لكنّها
رغمَ الضياعِ و الرَّدى
تُعِدُّ من نُعوشِها سفينةً
تَخيطُ من أكفانِها أَشرِعةً
كَى تُنقِذَ الدليل !
وقيل إنَّ الدَّمَ لا يُصبِحُ ماءً ،
هُزِلَتْ
فالدمُ أصبحَ ماءَ نِيلْ
والدمُ قد أصبحَ ماءَ زمْزمٍ
وكأسَ زَنْجَبيلْ
في صِحَّةِ الأمواتِ مِنْ أَحيائِنا
يَشربُهُ القاتِلُ ما بينَ يَدَيْ
مُمثِّلِ القتيلْ !
. .. * *
إذا الضحايا سُئلَتْ
بأَيِّ ذَنبٍ قُتِلتْ ؟
لانتفضتْ أشلاؤها وجَلْجَلَتْ :
بِذَنبِ شَعْبٍ مُخْلِصٍ
لِقائدٍ عَمِيلْ !
========================
الرمادُ والعواصف
مَضى عَقْدٌ على قَطْعِ الجذورِ
ولم يزلْ رأسي
يصارعُ بالرمادِ عواصفَ اليأسِ !
ومازالتْ حبالُ الشوقِ تشنُقني
على بَوَّابةِ الزمنِ
فَأَلمحُ في الأسى نفسي
خيوطاً من دَمٍ تنثالُ في كأْسِي
وألمحُها بأيدِيكُمْ .. بأيدِيكُمْ
تُجرِّعُني
فِراقَ الأُمِّ مُزْدَوَجاً
. . فِراقَ الأُمِّ و الوطنِ !
. .. * *
على أبوابِ حَضْرتِكُمْ
جَلالَتِكُمْ
سِيادَتِكم
مَعَالِيكُم
سأَطرحُ رأسيَ الذاوي
وأُطلِقُ صوتيَ الدَّاوي :
) أَريد اللهْ يِبَيِّنْ حوبِتي بيكُمْ
أَريد اللهْ على الفَرْقَهْ يِجازيكُمْ )* !
* أغنية من الفولكلور العراقي معناها : أريد من الله أن يأخذ منكم بثأري ويعاقبكم لأنكم سبب الفراق.
========================
النبات
أنا ليسَ لى عِلْمُ الحواةْ
كَىْ أُخرج الجبَلَ العظيمَ من الحصاةْ
وأَجُرُّ آلافَ الفوارسِ كالأرانِبِ
من بُطونِ القبَّعاتْ .
أنا ليسَ لى عِلْمٌ
بتعبئةِ الشجاعةِ في القناني
أو فنِّ تحويل الخروفِ إلى حصانِ !
أنا لستُ إلاّ شاعراً
أبْصرتُ نار العار
ناشِبةً بأرديةِ الغُفاهْ
فصرختُ .. هُبُّوا للنجاهْ .
فإذا أفاقوا للحياةِ
ستحتفى بِهمُ الحياةْ
وإذا تلاشَتْ صرختى
وسْطَ الحرائقِ كالدُّخانِ
فَلأنَّ صرخةَ شاعرٍ
لاتَبعثُ الرُّوحَ الطّليقةَ فى الرُّفاتْ !
. .. * *
أنا شاعرٌ حُرٌّ أُعانى
من حُرقةِ الآباءِ أَقتبسُ المعانى
ومِدادُ أَشْعاري تَقاطَرَ
من دُموعِ الأمهاتْ .
فمَتى ستُوحى بالهوى شَفَةُ الهوانِ ؟
ومتى ستطلعُ وردةُ الآمالِ
فى تلكَ الدّواةْ ؟
. .. * *
شِعرى عُصارةُ عصرِنا
لاتطلبوا منِّى اصطناع المعجزاتْ .
أوطانُنا رَهْنَ المنيَّةِ . .
والبقيَّةُ فى حياةِ الصولجانِ .
ورَقابُنا تحتَ السيوفِ
وحتْفُنا فوق اللسانِ
ودِماؤنا .. تجرى دراهِمَ
فوقَ أفخاذِ الغوانى .
وذَواتُنا سجَّادةٌ
لِنعالِ أبناءِ الذّواتْ .
هذى بُذورُ حياتِنا
واللافِتاتُ هى النّباتْ .
لاسُوقَ عندىَ للأمانى
روحوا اشتروا تلك البِضاعةَ
من دكاكينِ الولاهْ
أنا لا أبيعُ مخدِّراتْ !
==============
لن أُنافقْ
نافقْ
ونافقْ
ثُمَّ نافقْ , ثُمَّ نافقْ .
لا يَسلَمُ الجسدُ النحيلُ من الأذى
إنْ لم تُنافقْ .
نافقْ
فماذا فى النفاقِ
إذا كَذَبْتَ وأنتَ صادِقْ ؟
نافقْ
فإنَّ الجهل أن تَهوِى
ليرقى فوق جُثَّتِكَ المنافقْ .
لكَ مَبدأٌ ؟ لا تَبْتئِسْ
كُن ثابتاً
لكنْ .. بمُختلِفِ المناطِقْ !
واسبِق سِواكَ بكلِّ سابِقةٍ
فإنَّ الحكمَ محجوزٌ
لأربابِ السَّوابقْ !
. .. * *
هَذي مقالةُ خائِفٍ
مُتملِّقٍ , متسلِّقٍ
ومقالتي : أنا لنْ أُنافقْ
حتَّى ولو وضعوا بِكَفَّيَّ
المغارِبَ والمشارقْ .
يا دافنينَ رؤسَكُم مثل النَّعامِ
تَنعَّموا .
وتنقَّلُوا بين المبادئِ كاللقالِقْ
ودَعُوا البطولةَ لى أَنا
حيثُ البطولةُ باطلٌ
والحقُّ زاهِقْ !
هذا أنا
أُجرى مع الموتِ السِّباقَ
وإنَّنى أدرِى بأنَّ الموتَ سابِقْ
لكنَّما سَيظلُّ نعلى عالياً أبداً
وحسْبى أنّني فى الخفضِ شاهقْ !
فإذا انتهى الشوطُ الأخيرُ
وصفَّقَ الجمْعُ المُنافقْ
سَيَظلُّ نعْلى عالياً
فوق الرُّؤوسِ
أذا علا رأسِي
على عُقَدِ المشانقْ !
========================
إعتذار
صِحْتُ من قَسْوةِ حالى :
فوقَ نَعْلِى
كُلُّ أصحابِ المعالى !
قِيلَ لى : عَيبٌ
فكرَّرتُ مقالى .
قِيلَ لى : عَيبٌ
وكرَّرتُ مقالى .
ثُمّ لمَّا قِيل لى : عَيبٌ
تَنبَّهْتُ إلى سوءِ عِباراتى
وَخَفَّفْتُ انفعالى .
ثُمّ قدَّمتُ اعتذاراً
. . لِنِعالى !
======================== رُبَّما
رُبَّما الزَّانى يتوبْ !
رُبَّما الماءُ يرُوبْ !
رُبَّما يُحْمَلُ زيتٌ فى الثُّقوبْ !
رُبَّما شمسُ الضحى
تُشرقُ من صَوبِ الغروبْ !
رُبَّما يبرأُ إبليسُ من الذنب
فيعفو عنهُ غَفَّار الذُّنوبْ !
إنَّما لا يَبرأُ الحُكَّامُ
فى كُلِّ بلادِ العُرْبِ
من ذنبِ الشُّعوبْ !
========================
المنتحرون
إسْكُتوا
لا صوتَ يعْلُو
فوقَ صوتِ النائحهْ
نحنُ أمواتٌ
وليستْ هذِه الأوطانُ إلاَّ أضرحهْ
قُسِّمتْ أشلاؤها
بين دِبابٍ و نِسورْ
وأُقيمت فى زواياها القُصورْ
لكلابِ المشرحهْ !
. .. * *
نحنُ أمواتٌ
ولكنَّ اتَّهامَ القاتِلِ المأجورِ
بُهتانٌ وزورْ
هو فردٌ عاجزٌ
لكننا نحن وَضَعْنَا بيديهِ الأسلحهْ
ووَضَعْنَا تحت رجليهِ النُّحورْ
وتواضَعنا على تكليفِهِ بالمذبحَهْ !
. .. * *
أيها الماشون ما بين القُبورْ
أيها الآتُون من آتى العُصورْ
لعَنَ اللهُ الذى يتلو علينا الفاتحهْ !
=======================
بلاد الكتمان
أكَل الصَّمتُ فَمِى
لكنَّنِى
أشكو من الصَّمتِ بصَمتْ
خوفَ أن يأكُلَنى
لو أنا بالصَّوتِ شكوتْ
رَبِّ إنّ الصّوتَ مَوْتْ
رَبِّ إنّ الصّمتَ مَوْتْ
كيف أحيا فى بلادٍ
تكتُمُ الصوتَ بإطلاقةِ إسكاتٍ
وحتَّى كاتِمُ الصوتِ بها
فى فمِهِ .. (كاتمُ صوتْ) !
=======================
مصادرة
من بعدِ طول الضَّربِ والحبْسِ
والفحص ، والتدقيقِ ، والجَسِّ
والبحثِ فى أمتِعتى
والبحث فى جسمى
وفى نفسى
لم يَعثُرِ الجُندُ على قصيدتى
فَغادَروا من شِدّةِ اليأسِ .
لكنّ كَلْباً ماكراً
أَخبرهم بأنَّنى
أحمِلُ أشعارىَ فى ذاكرتى
فأطْلقَ الجُندُ سَراحَ جُثَّتى
وصادروا رأسِى !
. .. * *
تقولُ لى والدتى :
يا وَلَدى
إن شِئتَ أن تنجو من النَّحْسِ
وأن تكونَ شاعراً مُحتَرَمَ الحِسِّ
سبِّحْ لربَّ ( العَرشِ )
. . واقرأ آية (الكُرسى) !
=======================
مأساةُ أعواد الثقاب
أوطانى عُلْبةُ كِبريتٍ
والعلبةُ مُحكمةُ الغلقْ
وأنا فى داخِلها
عُودٌ محكومٌ بالخنقْ .
فإذا ما فَتَحتْها الأيدى
فَلِكَىْ تُحرِقَ جِلدى
فالعلبةُ لا تُفتحُ دَوْمَا
إلاّ للغرب أو الشرقِ
أَمّا لِلحرقِ، أو الحرقْ !
. .. * *
يا فاتحَ عُلبتِنا الآتى
حاول أن تأتىَ بالفرقْ .
الفتحُ الراهِنُ لا يُجدي
الفتحُ الراهِنُ مرسومٌ ضِدِّي
مادامَ لحرقٍ أو حَرقْ .
إسحقْ عُلبتَنَا ، وانثُرْنا
لا تأبَهْ لَوْ ماتَ قليلٌ مِنَّا
عِندَ السحقِ .
يكفي أن يحيا أغلبُنا حُراًّ
في أرضٍ بالغةِ الرِّفقْ .
الأسوارُ عليها عُشْبٌ
. . والأبوابُ هَواءٌ طَلقْ !
======================
مكسبٌ شعبى
آبارُنا الشَّهيدهْ
تنزف ناراً ودماً
للأُمَمِ البعيدهْ .
ونحنُ فى جوارِها
نُطعِمَ جوعَ نارِها
لكنّنا نجوعْ !
ونَحمِلُ البرد على جُلودِنا
ونَحمِلُ الضُّلوعْ
ونَسْتَضِىءُ فى الدُّجى
بالبدرِ والشُّموعْ
كى نقرأَ القرآنَ
والجريدةَ الوَحيدهْ !
حملتُ شكوى الشعبِ
فى قصيدتى
لحارسِ العقيدهْ
وصاحِبِ الجلالةِ الأكيده .
قُلتُ لهُ :
شعبُكَ يا سيِّدَنا
صار ( على الحديدَهْ )
شعبُكَ يا سيِّدَنا
تهرَّأتْ من تَحتِه الحديدَهْ .
شعبُك يا سيِّدَنا
قد أَكَلَ الحديدَه !
وقبلَ أن أفرُغَ
من تلاوةِ القصيدَهْ
رأيتُهُ يغْرقْ فى أحزانِهِ
ويذرِفُ الدُّموعْ .
وبعدَ يومٍ
صدَر القرارُ فى الجريدَهْ :
أن تصْرِفَ الحكومةُ الرَّشيدهْ
لكلَّ ربِّ أسرةٍ
. . حديدةٌ جديدهْ !
========================
الهارب
فى يقظتى يقفِزُ حوْلى الرُّعبْ
فى غفوتى يصحو بقلبى الرعبْ
يُحيطُ بى فى منزلى
يرصدُنى فى عملى
يتبعُنى فى الدَّربْ !
ففى بلاد العُربْ
كلُّ خيالٍ بدْعةٌ
وكل فِكْرٍ جُنْحةٌ
وكُلُّ صوتٍ ذنبْ !
. .. * * *
هَربتُ للصحراءِ من مدينتى
وفى الفضاء الرَّحبْ
صرختُ مِلءُ القلبْ :
إلطُفْ بنا يا ربَّنا من عُملاءِ الغربْ
إلطُفْ بنا يا ربْ
سَكَتُّ .. فارتدَّ الصَّدى :
خَسَأْتَ يابنَ الكلبْ !
=========================
حادث مرتقب
إنى أرى سيّارةٌ
تسيرُ فى اضطرابْ .
قائدها مُسْتهتِرٌ
أفْرَط فى الشرابْ .
والدّربُ طينٌ تحتَها
وحولها ضبابْ .
مُسرِعةٌ
مُسرِعةٌ
السِكْرُ لَنْ يَلْجِمَها
والطينُ لنْ يَرحمها
والنّارُ والحديدُ إن تحدَّرا
طاحا
ولم يُمسكْهما (الضبابْ)
. . . . . . . . . . . . . . .
سَيَحْدثُ انقلابْ !
=========================
حكمة الغاب
تَعدو حميرُ الوحشِ فى غاباتِها
مُسَوَّمَهْ .
قويَّةً منتقِمهْ
لا تقبلُ الترويضَ والمسالمهْ .
فالغابُ قد علَّمها
أن تركلَ السِّلمَ وراء ظهرِها
لكى تظلُ سالِمهْ !
. .. * * *
وفى زَرائب القُرى .. المُنظَّمهْ
تغفو الحميرُ الخادمهْ
ذليلةً مُسْتَسلِمه
لأنها قد نَزَعت جُلودها المُقلَّمهْ
وعافتِ المُقاومهْ
وأصبحتْ مُطيعَةً ..
تسيرُ حَسْبَ الأنظمَهْ !
========================
واعظ السلطان
حدَّثنا الإمامْ
فى خُطبةِ الجُمْعةِ
عن فضائل النظامْ
والصبرِ والطّاعةِ والصيامْ .
وقالَ ما معناهْ :
إذا أرادَ ربُّنا
مُصيبةً بعبدِهِ ابتلاهُ
بكثرةِ الكلامْ .
لكنَّهُ لم يَذْكُرِ الجِهادَ فى خُطْبتهِ
وحينَ ذَكَّرناهْ
قال لنا : عليكم السلامْ !
وبعدَها قامَ مُصلِّياً بِنَا
وعندما أُذِّن للصلاهْ
قال :
نَعَمْ .. إلهَ إلاَّ الله !
=========================
الطفل الأعمى
وَطنى طِفلٌ كَفِيفْ
وضَعِيفْ .
كان يمشى آخِرَ الليلِ
وفى حَوْزَتِهِ
ماءٌ ، وزَيْتٌ ، ورَغِيفْ
فَرآهُ اللصُّ وانهَالَ بسكِّينٍ عليهْ
وتَوارى
بعدما استوْلى على ما فى يَدَيْهْ
. .. * * *
وَطَنى مازالَ مُلْقى
مُهْملاً فوق الرَّصيفْ
غارقاً فى سَكَراتِ الموْتِ
والوالى هو السِّكِّينْ
. . والشَّعبُ نَزِيفْ !
========================
أنشوده
شَعبُنا يومَ الكِفاحْ
رأسُهُ .. يَتبعُ قَولَهْ !
لا تَقُلْ : هَاتِ السِّلاحْ .
إنَّ للبَاطِلِ دَوْلهْ .
ولنا خصْرٌ ، ومِزمارٌ ، وطَبلَهْ
ولنا أنظِمَةٌ
لولا العِدا
ما بَقِيَتْ فى الحُكمِ لَيلَهْ !
========================
آه لو يُجدى الكلام
الملايينُ على الجُوعِ تَنامْ
وعلى الخَوفِ تنامْ
وعلى الصَّمتِ تنامْ .
والملايينُ التى تُسرقُ من جَيبِ النيامْ
تتهاوَى فوقَهم سيلَ بنادِقْ
ومَشانِقْ
وقَرراراتِ اتِّهامْ
كُلَّما نادَوا بتقطِيعِ ذراعَى
كُلِّ سارقْ
وبتوفير الطَّعامْ !
. .. * * *
عِرضُنا يُهتَكُ فوقَ الطُّرقاتْ
وحُماةُ العِرْضِ .. أولادُ حَرامْ
نهضوا بعدَ السُّباتْ
يفرشون البُسُطَ الحَمْرَاءَ
مِن فَيْضِ دِمانا
تحتَ أقدامِ السَّلامْ !
. .. * * *
أرضُنا تصغُرُ عاماً بعدَ عامْ
وحُماةُ الأَرْضِ .. أبناءُ السَّماءْ
عُمَلاءْ
لا بِهم زَلزَلةُ الأرضِ
ولا فى وَجهِهِم قَطْرةُ ماءْ .
كُلَّما ضاقَتْ بِنا الأرضُ
أفَادُونا بتوسِيعِ الكَلامْ
حَول جَدْوى القُرْفُصَاءْ
وأبادُوا بَعْضَنا
من أجلِ تَخْفيفِ الزِّحامْ !
. .. * * *
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
هذِهِ الأُمَّةُ ماتتْ
. . والسَّلام !
========================
هَوِيَّه
فى مَطارٍ أجنبى
حدَّقَ الشُّرطِىُّ بى
- قَبْلَ أن يطلُبَ أوراقى -
ولمَّا لم يجِدْ عِندى لساناً أو شَفَهْ
زمَّ عَيْنيْهِ وأبْدى أسَفَهْ
قائلاً أهلاً وسهْلاً
. . يا صديقى العربِى !
========================
الرَّجُلُ المُناسِبْ
باسم وَالِينَا المُبجَّلْ
قرَّرُوا شنْقَ الذى اغتَالَ أخِى
لكنَّهُ كانَ قصيراً
فمضى الجلاَّدُ يسألْ :
رأسُهُ لا يصلُ الحبْلَ
فماذا سوفَ أفعَلْ ؟
بعد تفكِيرٍ عميقْ
أمَرَ الوالى بشنقى بدلاً مِنهُ
لأنِّى كنتُ أَطْوَلْ !
=========================
البُؤَساء
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى
مَنْ أكُونْ .
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
لَدَعُوا لى بالبقَاءْ
كُلَّ صُبْحٍ و مساءْ .
أنا مَجنُونٌ ؟
أَجَلْ أدْرِى ،
وأدْرِى أنَّ أشْعارِى جُنُونْ .
لكِنِ الحُكَّامُ لَوْلاىَ
ولوْلا هذهِ الأشعَارِ ماذا يعمَلونْ ؟
فإذا لم أكْتُبِ الشِّعرَ أنا
كيفَ يَعيشُ المُخْبِرونْ ؟
وإذا لم أَشْتمِ الحُكَّامَ
مَنْ يعْتَقِلونْ ؟
وإذا لَم أُعْتقَلْ حَيّاً
فمَن يسْتجْوِبُون ؟
وبماذا يُطْلِقُ الصَّوتَ وكِيلُ الإدِّعَاءْ ؟
وبماذا ياتُرَى
يعملُ أَرْبَابَ القضاءْ ؟
وعلى مَن يحكُمونْ ؟
وإذا لم يَسجِنُونى
فلِمَنْ تُفْتَحُ أبوابَ السجونْ ؟
هؤلاءِ البُؤساءْ
هُمْ يَدُ الحُكمِ
ولولا أننى حَىٌّ لطَاروا فى الهواءْ !
فَأنا أَرْكُضُ ..
والمُخْبِرُ ، والشُّرطِىُّ ، والسَّجَّانُ ،
والجلاَّدُ ، والفرَّاشُ ، والكَاتِبُ ،
والحاجِبُ ، والقَاضى
ورَائى يركُضُونْ !
كلُّهُم باسمِى أنا يشْتَغِلونْ .
كلُّهُم من خيرِ شِعرِى يأكُلونْ !
. .. * * *
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى العُقَلاءْ
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
أنَّهُم لولا جُنونِى .. عاطِلونْ
لَرَمُوا تِيجَانَهُم تحتَ الحِذاءْ
وأتَوْا من تُهمَتِى
=========================
القضيّه
زَعمُوا أنَّ لنا
أرضاً ، وعِرْضاً ، وحَمِيَّهْ
وسُيوفاً لا تُبارِيها المَنِيَّهْ .
زَعمُوا ..
فالأرضُ زَالتْ
ودِماءُ العِرضِ سالتْ
ووُلاةِ الأمرِ لا أمْرَ لَهُمْ
خارِجَ نَصِّ المسرحيَّهْ
كُلُّهُم راعٍ ومسْئُولٌ
عنِ التَّفرِيطِ فى حَقِّ الرَّعِيَّهْ !
وعن الإرهابِ والكَبْتِ
وتقْطيعِ أيادى النَّاسِ
من أجلِ القضيَّهْ !
. .. * * *
القضيَّهْ
سَاعةَ الميلادِ ، كانت بُندُقِيّهْ
ثمَّ صارت وتداً فى خَيمةٍ
أَغْرَقَهُ (الزَّيتُ)
فأضحى غُصنَ زَيْتُونٍ
. . وأمسَى مِزْهَرِيَّهْ
تُنعِشُ المائدَةَالخضراءَ
صُبْحاً و عَشِيَّهْ
فى القُصورِ المَلَكِيَّهْ
. .. * * *
ويقولون لى :اضْحَكْ !
حَسَناً
ها إنَّنى أضحكُ من شَرَّ البَلِيَّهْ !
==========================حِكْمَهْ
قالَ أبى :
فى أىَّ قُطْرٍ عرَبى
إن أعلَنَ الذَّكِىُّ عن ذَكَائهِ
فَهُوَ غَبِى !
========================
المثلُ المشْهُورْ
من قسوة الأصداف،
من ظلمتها
تنبلج الدُّرَّةْ.
من رحم الهجير يولد الندى
وفى انتهاء الصوت يبدأ الصدى
لك الحياة في الردى
أيتها الزهرة
أيتها الفكرة
أيتها الأرض التي
تؤمن دوما أنها حرّة.
. .. ... أحمد مطر
===================
كم على السيف مشيتْ
كم بجمر الظلم و الجور اكتويتْ
كم تحملت من القهر
وكم من ثقل البلوى حويتْ
غير أنى ما انحنيتْ.
كم هوى السّوط على ظهري
وكم حاولَ أن أُنكر صبري
فأبيتْ
وهوى، ثم هوى، ثم هوى..
حتى هويت
غير أنى عندما طاوعني دمعي .. عصيتْ.
مذهبي أنى كريمٌ بدمائي،
وبخيلٌ ببكائي
غير أنى يا حبيبهْ
حينما سرتُ إلى طائرة النفيِ
إلى الأرض الغريبةْ
عامداَ طأطأتُ رأسي،
ولعينيكِ انحنيتْ.
وعلى صدركِ علّقتُ بقايا كبريائي،
وبكيتْ.
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ،
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ!
كنتُ من فرطِ بكائي
دمعَةٌ حيرى على خدِّكِ تمشى
يا كويتْ !
. .. ... أحمد مطر
===================
===============================================================
وثنٌ تضيقُ برجسهِ الأوثانُ ...
. .. ... وفريسةٌ تبكى لها العقْبانُ!
ودمٌ يضمِّدُ للسيوف جراحَتها ...
. .. ... ويعيذُها من شرِّهِ الشريانُ!
هي فتنةٌ عصفتْ بكيدِكَ كُلَّهُ
. .. ... فانفذ بجلدكَ أيُّها الشيطانُ!
ماذا لديكَ؟ غِوايةٌ؟ صُنْهَا ...
. .. ... فقد أغوى الغوايةَ نفسها السُّلطان!
مكرٌ؟ وهل حلَّفتَ بالقرآن
. .. ... قرآناً ليُنكِرَ أنَّهُ قرآنُ!
كُفْرٌ؟ بماذا ؟ دينُنا أمسى بلا
. .. ... دينٍ، وأعلنَ كُفرَهُ الإيمانُ!
كَذِبٌ؟ ألا تدرى بأنَّ وجوهَنا
. .. ... زورٌ ، وأَنَّ نفوسَنا بُهتان؟
قَرنانِ؟ ويْلكَ، عندنا عشرونَ
. .. ... شيطانًا، وفوقَ قُرونِهم تيجانُ!
. .. ... ... * * *
يا أيُّها الشيطانُ إنَّك لم تزلْ
. .. ... غِرًّا، وليس لِمثلِكَ الميدانُ
قفْ جانبًا للإنسِ أو للجِنِّ
. .. ... واترُكنَا، فلا إنسٌ هُنا أو جانُ
قفْ جانبًا كي لا تبوءَ بِذَنبِنا
. .. ... أو أن يَدِينَكَ باسْمِنا الديَّانُ
إنْ يصْفحِ الغفَّارُ عنكَ فإنَّنَا
. .. ... لا يحتوينا الصَّفْحُ و الغُفْرانُ!
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَمَةٌ
. .. ... تُبَاعُ وتُشْترى ونصيبُها الحرمانُ.
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَسْيادُهَا
. .. ... خَدَمٌ، وخيرُ فُحولهِم خِصيانُ
قِطَعٌ منَ الكَذِبِ الصَّقِيلِ، فليسَ في
. .. ... تاريخِهِم رَوْحٌ ولا ريْحانُ
أُسْدٌ، ولكن يُحْدِثُونَ بِثَوبِهم
. .. ... لو حرَّكتْ أذْنابَها الفِئْرانُ!
مُتعفِّفُونَ، وصُبْحُهُم سَطْوٌ على
. .. ... قُوتِ العبادِ، وليلُهُم غِلْمانُ
متديِّنُونَ، ودِينُهم بِدِنَانِهمْ
. .. ... ومُسهَّدُونَ، وسُكْرُهمْ سَكرانُ
عربٌ، ولكنْ لو نزعْتَ قُشُورَهُم
. .. ... لَوَجدْتَ أنّ اللُّبَّ أمْريكانُ!
. .. ... ... * * *
جِيلانِ مَرَّا، لمْ يكُنْ في ظلِّهِم
. .. ... ظِلُّ، ولا بِوُجُودِهِمْ وِجدَانُ
حتَّى المرَارةُ أَقْلعَتْ عَن نفْسِها
. .. ... ولنا على إدْمانِها إدمانُ
نأتي إلى الدُّنيا وفى أعْناقِنا
. .. ... نيرٌ، وفى أعْماقِنا نِيرانُ
تخصي لنا الأسْماعُ منذُ مَجِيئِنا،
. .. ... شرْعاً، ويُعملُ للشِّفاهِ خِتانُ
ونسيرُ مقْلوبينَ حتَّى لا ترى
. .. ... مقْلوبَةً بِعيُونِنَا البُلْدانُ
والدَّرْبُ متَّضِحٌ لنا فَورَاءنَا
. .. ... مُتعقِّبٌ، وأمامَنا سَجَّانُ
فَيخافُ من فَرْطِ السُّكوتِ سُكوتُنا
. .. ... من أن تَمُرَّ بذِهْنِنَا الأذْهانُ
ونَخافُ أنْ يشيَ السُّكوتُ بِصَمْتِنا
. .. ... فكأنَّما لسُكوتِنَا آذَانُ
لو قِيلَ للحيوانِ: كُنْ بَشَراً هنا،
. .. ... لبَكَى وأعْلنَ رفْضَهُ الحيوانُ !
. .. ... ... * * *
كم باسْمِنَا نَشَبَ النِّزاعُ ولم يكُنْ
. .. ... رأىٌ لنَا بِنُشُوبِهِ أو شَانُ
وعَدَتْ عليْنا العَادِياتُ، فليْلُنا
. .. ... ثوبُ الحِدَادِ، وصُبْحُنا الأكْفَانُ
وهواؤُنا آهاتُنا، وتُرابنَا
. .. ... دمْعٌ دمُ، وسماؤنَا أجْفَانُ
صِحْنا فلم يُشفِقْ علينا عقْربٌ
. .. ... نُحْنَا ولم يرفُقْ بِنا ثُعبانُ
ومَنِ المُجيرُ وقدْ جرتْ أقْدارُنا
. .. ... في أن يَجُورَ الأهلُ والجِيرانُ؟
قُلنا، ومِطرقَةُ العذابِ تدُقٌنا:
. .. ... سَيجِيءُ دَوْرُكَ أيُّها السِّنْدانُ
وسيأكُلُ السِّرْحانُ لحْم صِغَارِهِ
. .. ... إن لم يجِدْ ما يأكُلُ السِّرحانُ
فَتَمرَّتِ الضَّحكاتُ في دمَعاتِنا
. .. ... وتكدَّرت من صحونا الكِيزانُ
حتّى إذا ما سكْرةٌ راحتْ
. .. ... وجاءتْ فِكرةٌ، وتثاءبَ النَّعسانُ
غَفَلتْ زوايا الحَانِ عن ألحانِها
. .. ... وانحطَّت الشُّرفاتُ و الحيطانُ
وهوى الهوى مُتضرِّجاً بهَوَانِهِ
. .. ... وانهدَّ من نَدمٍ بها النُّدْمانُ
لكنَّنا في الحالتينِ سفينةٌ
. .. ... غَرَقتْ، فقامَ يلُومُهَا الرُّبَّان!
أَمِنَ العَدَالةِ أن نُشَكَّ ونُشْتكى؟
. .. ... أو أن نُبَاعَ وجلدُنا الأثمانُ؟!
. .. ... ... * * *
في لحظةٍ .. لعَنتْ مصَانِعَها الدُّمَى
. .. ... وتبرَّأتْ من نفسِها الأدرانُ!
وانساب ( سيركُ) المعجِزاتِ، فها هُنا
. .. ... قَدمٌ فَمٌ، وفصاحةٌ هَذَيانُ
يُلقى بها الإعلامُ فوقَ رؤوسِنَا
. .. ... صُحُفاً يقيئُ لِعُهْرِها الغَثَيانُ!
فزِبالةٌ واستُبدِلتْ بزبالةٍ
. .. ... أخرى، ولم تُستَبْدلِ الجُرْذانُ!
وهُنَا مَلِيكٌ مُغرمٌ بتُراثِهِ
. .. ... يَحسُو الخُمورَ وكأسُهُ فِنجانُ!
وهُناكَ ثوريٌ يؤسِّسُ دَولةً
. .. ... في كَرْشِهِ، فتصفِّقُ الثيرانُ
وهُنا مَلِيكٌ ليسَ يملكُ نفسَهُ
. .. ... فَمُهُ صدىً ، وضَميرُهُ دُكَّانُ
ومُفكِّرٌ مُتَخصِّصٌ بعلومِ فَرْكِ
. .. ... الخِصيَتينِ ، ففِكرُهُ سَيَلانُ
وشَواعرٌ ، كي لا أُسَمِّى واحداً،
. .. ... يتستَّرُونَ وسِترُهُمْ عُريانُ!
يَزِنُونَ بالقَبَّانِ أبيَاتاً لهمْ
. .. ... فَيمِيلُ من أوزارِهِ القَبَّانُ
في كِفَّةٍ تَسبيلةٌ ودَراهِم
. .. ... وبكِفَّةٍ تفعيلةٌ وبَيانُ
مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُهُ
. .. ... مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُ
وتُفَرْقِعُ الأوزَانُ دونَ مبادئٍ
. .. ... لمبادئٍ ليسَت لها أوزانُ
فالحاكمُ المُغتالُ طِفلٌ وادِعٌ
. .. ... والمُودَعُونَ بسِجْنهِ .. غِيلانُ!
وابنُ الشوارعِ فارسٌ في ساعةٍ
. .. ... وبساعةٍ هو غادِرٌ وجبانُ!
هل يَنثنى الجزَّارُ عن جُرْمٍ ؟ وهل
. .. ... ترتدُّ عن أخلاقِها الفرسانُ؟!
كَلاَّ، ولكنَّ (الأنَا) ورمٌ ، وإنْ
. .. ... زادتْ فكلُّ زيادةٍ نُقصانُ
يبدو التناقُضُ عندها متناسِقاً
. .. ... واللونُ في صفحاتِها ألوانُ
هو فَارسٌ ما دامَ يَفترِسُ الورى
. .. ... فإذا قُرِصْتُ فإنَّهُ قُرصانُ!
وحدي .. ولو ذهبَ الأنامُ جميعُهم
. .. ... وإذا ذهبتُ فبعديَ الطوفانُ!
. .. ... ... * * *
يا آيةَ الله الجديد، ومن لقي
. .. ... آياتِهِ الحشراتُ والديدانُ
آمنتُ أنَّكَ آيَةٌ، فبحدِّكَ
. .. ... اتَّحدَ الهوى وتفرَّقَ الفُرقانُ
طُوبى لِنُبْلِكَ في الجِهادِ، فمَرَّةٌ
. .. ... أرضُ الكويتِ، ومَرَّةٌ إيرانُ
وكأنَّ خارطةَ الجهادِ أعَدَّها
. .. ... (ميخا) وأكَّدَ رسمَها (المعْدانُ) !
القُدسُ ليستْ من هُنا تُؤتى
. .. ... ونعلمُ أنَّها من دونِها عَمَّانُ
والفَقرُ ليسَ بأرضِنا، فمياهُنا
. .. ... تُروِى المياهُ، ونَفطُنا غُدرانُ
وبوارجُ الغُرباءِ قد كانتْ هُنا
. .. ... تحمى حماكَ، وهُم هُنا قد كانوا
إن كنتَ تنسى أنَّهم نَصَبُوكَ
. .. ... محرقةً لنا، فسيذكرُ النسيانُ
لكنَّما قَضَتِ الروايةُ أن يُبدَّل
. .. ... مشهدٌ، فتبدَّلَ البُنيانُ
مهما تخلَّى، في الروايةِ، بعضُكم
. .. ... عن بعضِكم، فجميعكُم خلاَّنُ!
. .. ... ... * * *
قيلَ الهوى. فالضمُّ ضَمُّ حبيبةٍ
. .. ... عجباً، أتَنبُتُ للهوى أسنانُ؟!
أتُعِدُّ قُنبُلةً فتُدعى قُبلةً
. .. ... ويُعَدُّ عيداً ذلك العُدوانُ؟!
وأسيرةٌ قد حُرَّرَتْ. وعَجِبتُ من
. .. ... حرَّيةٍ نَسَماتُها قُضْبَانُ!
وشريدةٌ رَجَعتْ لمنزلِ أهلِهَا
. .. ... أيَنالها الإعراضُ والنكرانُ؟
أيموتُ دونَ عفافِها إخوانُها
. .. ... أم يستبِيحُ عفافَها الإخوانُ؟!
هي سُنَّةٌ قد سَنَّها وثنٌ فماذا
. .. ... لو قَفَتْ آثارُهُ الأوثَانُ!
إنَّ اللواحِقَ للسوابقِ تنتمي
. .. ... وصُنانِ أتباعِ العدا صُنوانُ!
قُلْ للجزيرةِ: كيفَ حالتْ حائلٌ؟
. .. ... وبمَنْ جَرَتْ لخَرابِها نَجرانُ؟
وبِكفَّ مَنْ كفُّ القَطَيفِ تَقَطَّفَتْ؟
. .. ... وبمَنْ تَعَسَّرَ في عَسيرَ أَمانُ؟
ومَن احتسى الإحساءَ؟ أو من ذا الذي
. .. ... حَجَزَ الحجازَ، وجُندُهُ رُهبانُ؟
هل عِندَنا شيخٌ يُسمّى (شِكْسِبيرَ) ؟
. .. ... وهل تطيرُ وتقصِفُ البُعْرانُ؟!
لا. بل قضى شرعُ الأهِلَّةِ أن
. .. ... تخوضَ جهادَها وسيوفُها الصُّلبانُ
كَرَمُ الضيافةِ دائماً يقضى بأنْ
. .. ... تُطوى الجفونُ. وتُفتحُ السيقانُ!
معنى الجهادِ بعصرنا، إجهادُنا
. .. ... أو عصرُنا، وثوابُنا خُسرانُ
عثمانُ يُقتلُ كلَّ يومٍ باسمِنا
. .. ... وتُخاطُ من أطمَارِنا القُمصانُ!
. .. ... ... * * *
أنا ضِدَّ أمريكا إلى أن تنقضي
. .. ... هذى الحياةُ ويوضعَ الميزانُ
أنا ضِدَّها حتَّى وإن رقَّ الحَصى،
. .. ... يوماً، وسالَ الجَلْمَدُ الصَّوانُ!
بغضي لأمريكا لو الأكوانُ
. .. ... ضَمَّتْ بَعضَهُ لانهارتِ الأكوانُ
هيَ جَذْرُ دَوحِ الموبقاتِ، وكلُّ ما
. .. ... في الأرضِ من شَرٍّ هو الأغصانُ!
مَنْ غَيرُها زَرَعَ الطغاةَ بأرضِنا؟
. .. ... وبِمنْ سِواها أثمرَ الطُغيانُ؟
حَبَكَتْ فصولَ المسرحيّةِ حَبْكةً
. .. ... يَعْيَا بها المُتمرِّسُ الفنَّانُ
هذا يَكِرُّ، وذا يفِرُّ، وذا بهذا
. .. ... يستَجيرُ، ويبدأُ الغَليانُ
حتَّى إذا انقشَعَ الدُّخان، مضَى لنا
. .. ... جُرحٌ، وحلَّ محلَّهُ سَرَطانُ!
وإذا ذئابُ الغربِ راعِيةٌ لنا
. .. ... وإذا جميعُ رُعاتِنا خِرفانُ!
وإذا بأصنامِ الأجانبِ قد رَبَتْ
. .. ... وإذا الكويتُ وأهلُها القُربانُ!
. .. ... ... * * *
أنا يا كويتُ قد اكتويتُ، ورُبَّما
. .. ... بشُواظِ ناري تكتوي النيرانُ
صَحراءُ همي ما لَها من آخِرٍ
. .. ... و بحارُ حزني ما لها شُطآنُ
تبكى شراييني دماً في مَدْمَعِى
. .. ... وبأدمُعى تتضاحكُ الأحزانُ
أنتِ القريبَةُ في اللقاءِ وفى النَّوى
. .. ... وأنا بحبي الغَارقُ الظَّمآنُ
لي مِنكِ ما للقلبِ من خفقَاتِهِ
. .. ... ولديكِ مِنِّى الوجهُ والعُنوانُ
فلقدْ حَمَلتُكِ في الجُفونِ مُسَهَّداً
. .. ... كي لا يُسهَّدَ جَفنُكِ الوسْنانُ
وملأتُ روحي منكِ حتَّى لم يَعُدْ
. .. ... منِّى لروحي موضعٌ و مكانُ!
ما ذابَ مِن فَرْطِ الهوى بِكِ عاشِقٌ
. .. ... مثلى، ولا عرَفَ الأسى إنسانُ
. .. ... ... * * *
قالوا هَجَرْتِ، فقُلتُ إنَّا واحدٌ
. .. ... وكفى وِصالاً ذَلكَ الهِجرانُ
هي موطني، ولها فؤادي موطنٌ
. .. ... أَتَفِرُّ مِن أوطانها الأوطانُ
ماذا على شَجَرٍ إذا طَرَدَ الخريفُ
. .. ... هَزارَها لتُغرِّدَ الغِربانُ
في الكُحلِ لا تجدُ الأذى إلاّ إذا
. .. ... عَمِلتْ على تكحيلِك العُميانُ
. .. ... ... * * *
أنا لاَ أزالُ أدُقُّ قلبي خائفاً
. .. ... ويكادُ يُخفى دقتي الخَفقَانُ
لاَ تنكري تعبي، ولا تستنكري
. .. ... غضَبى، فإني العاشقُ الولهانُ
نُبِّئْتُ أنَّكِ قدْ هَرِمْتِ، وغاضَ
. .. ... مِن غَيظِ الخطوبِ شبابُكِ الرَّيانُ
وَعَلِمْتُ أنَّ الدارعينَ تَدرَّعوا
. .. ... بطنينهم، وسلاحُهم أطنانُ
وأقُول كلُّ بلادنا مُحتلَّةٌ
. .. ... لاَ فرقَ إن رَحَلَ العِدا أو رانوا!
ماذا نَفيدُ إذا استقلَّتْ أرضُنا
. .. ... واحتُلَّتِ الأرواحُ والأبدانُ؟!
ستعودُ أوطانى إلى أوطانِها
. .. ... إن عادَ إنساناً بها الإنسانُ!
. .. ... ... ... ... ... أحمد مطر
. .. لندن 20/9/1990
===============================================================
لافتات 2
البَيانُ الأولْ
قلمي وَسْطَ دُواةِ الحبرِ غاصْ
ثُمَّ غاصْ
ثُمَّ غاصْ.
قلمي في لُجَّةِ الحبرِ اختَنق
وَطَفتْ جُثَّتُهُ هامِدةً فوقَ الورق.
روحُهُ في زَبَدِ الأحرفِ ضاعتْ في المَدَى
ودمى في دمه ضاع سُدى
ومضى العُمرُ ولم يأتِ الخلاصْ.
آهِ يا عصرَ القماصْ
بَلْطةُ الجزّارِ لا يذبحُها قَطْرُ الندى
لا مَنَاصْ
آنَ لي أن أتركَ الحِبرَ
وأنْ أكتُبَ شعري بالرصاصْ!
======================
إنجيل بوليس!
في البدء كانَ الكلمةْ
ويومَ كانتْ أصبحتْ مُتَّهمَهْ
فطورِدَتْ
وحوصِرَتْ
واعتُقِلَتْ
. . وأَعْدمَتْهَا الأنظمهْ
. .. * *
في البدءِ كانَ الخاتمهْ !
=====================
العِلَّة
قالَ ليَ الطبيبْ :
خُذْ نَفَساً .
فكِدتُ - مِن فَرْطِ اختناقي
بالأسى والقهْرِ - أَستجيبْ
لكنَّني
خَشيتُ أن يلمحَني الرَّقيبْ .
وقالَ : مِمَّ تشتكي ؟
أردتُ أن أُجيب
لكنَّني
خشيتُ أن يسمعَني الرقيبْ .
وعندما حيَّرتُهُ بصمتيَ الرهيبْ
وَجَّهَ ضَوءاً باهِراً لمقلتي
حاولَ رفْعَ هامتي
لكنَّني خَفضتُها
وَلُذتُ بالنحيبْ
قلتُ لَهُ : معذرةً يا سيِّدي الطبيبْ
أوَدُّ أن أرفَعَ رأسي عالياً
لكنَّني
أخافُ أن .. يحذِفَهُ الرَّقيبْ !
======================
صندوق العجائب
في صِغَرى
فتحتُ صندوقَ اللُّعَبْ .
أخرجتُ كرسيّاً مُوَشَّى بالذَّهبْ
قامتْ عليهِ دُميةٌ من الخشب
في يدها سيفُ قَصَبْ .
خَفضتُ رأسَ دُميتي
رفعت رأس دميتي
خلَعتُها.
نصبتُها.
خَلعتُها .. نَصبتُها
حتى شَعَرتُ بالتعبْ
فما اشتكتْ من اختلافِ رغبتي
ولا أحسَّت بالغضبْ !
ومثلُها الكُرسيُّ تحتَ راحتي
مُزَوَّقٌ بالمجدِ . . وَهُوَ مُستَلبْ.
فإنْ نَصبْتُهُ انتصبْ
وإن قَلبْتُهُ انقلبْ !
أَمتعني المشهَدُ ،
لكنَّ أبي
حين رأى المشهَدَ خافَ واضطرَبْ
وخبَّأَ اللعبةَ في صُندوقِها
وَشَدَّ أُذْنِي . . وانسحَبْ !
. .. * *
وعِشْتُ عُمري غارقاً في دَهْشَتي.
وعندما كَبِرتُ أدركتُ السّبَبْ
أدركتُ أنَّ لُعبتي
قد جَسَّدَتْ
كلَّ سلاطينِ العَربْ !
======================
التقرير
كلبُ وَالينَا المُعَظَّمْ
عضَّني ، اليومَ ، وماتْ !
فدعاني حارسُ الأمنِ لأُعدَمْ
بعدما أثبتَ تقريرُ الوفاةْ
أنّ كلبَ السيِّدِ الوالي
تسمَّمْ !
=====================
قيصريةْ
في البلادِ العربيَّهْ
عندما ترفضُ أن تُولدَ عبداً
يَسْحَبُ الجرَّاحُ رِجليكَ
فتأتى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ.
حاملاً حُريَّةً في يَدِكَ اليمنى
وفى اليُسرى . . وَصِيَّهْ.
فإذا عِشْتَ . .تَموتْ
حَسْبَ قانونِ السُّكوتْ
وكما جِئْتَ تُوافيكَ المَنيَّهْ :
يَسْحَبُ (الجرَّاحُ) رِجليكَ
إلى القبرِ
فتمضى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ !
======================
التكفِير والثورة
كَفَرْتُ بالأقلامِ والدفاتِرْ .
كفرتُ بالفصحى التي
تحبَلُ وهْيَ عاقِرْ .
كفرتُ بالشِّعر الذي
لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّك الضمائرْ
لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ
لم تنطلِقْ من بعدِها مسيرَهْ.
ولم يَخُطَّ الشعبُ في آثارِها مَصِيرَهْ .
لَعَنتُ كُلَّ شاعِرْ
ينامُ فوق الجُمَلِ النديَّةِ الوثيرهْ
وشعبُهُ ينامُ في المقابرْ .
لَعَنتُ كلَّ شاعِرْ
يستلهمُ الدمعةَ خمرأً
والأسى صَبَابَةً
والموتُ قُشْعَرِيرَهْ .
لَعَنتُ كلّ شاعِرْ
يُغازلُ الشِّفاهَ والأثداءَ و الضفائِرْ
في زمنِ الكلابِ و المخافرْ
ولا يرى فوهةَ بُندقيةٍ
حين يرى الشِّفاهَ مستجيرهْ !
ولا يرى رُمَّانةً ناسِفةً
حين يرى الأثداء مُستديرَهْ!
ولا يرى مشنقةً
حينَ يرى الضفيرهْ !
. .. * *
في زمن الآتينَ للحكمِ
على دبَّابَةٍ أجيرهْ
أو ناقةِ العشيرهْ
لَعَنتُ كلّ شاعرٍ
لا يقْتني قنبلةً
كي يكتُبَ القصيدة الأخيرهْ !
======================
هذِه الأرضُ لنا
قُوتُ عِيالنا هُنا
يُهدِرُهُ جلالةُ الحِمارْ
في صالةِ القُمارْ
وكلُّ حقِّهِ بهِ
أنَّ بعيرَ جدِّهِ
قد مَرَّ قبلَ غيرهِ
بهذهِ الآبارْ !
. .. * * *
يا شُرفاء
هذِه الأرضُ لَنا.
والزرعُ فوقَها لنا
والنِفطُ تَحتها لنا
وكُلُّ ما فيها بماضيها وآتيها لنا .
فما لَنا
في البردِ لا نلبسُ إلاَّ عُرْيَنا ؟
وما لَنا
في الجوعِ لا نأكُلُ إلاّ جوعَنا ؟
وما لنا نغرقُ وَسْطَ القارْ
في هذهِ الآبارْ
لكي نصوغَ فَقْرنا
دِفئاً ، وزاداً ، وغِنى
من أجلِ أولادِ الزِّنى ؟!
========================
الطبُّ يضرُّ بصحتكْ
لي صاحبٌ
يَدرسُ في الكُلِّية الطبيَّهْ
تأكَّدَ المُخبِرُ من ميولِهِ الحزبيَّهْ
وقام باعتقالِهِ
حينَ رآهُ مَرَّةً
يَقرأُ عن تَكَوُّنِ (الخليَّهْ) !
. .. * *
وبعدَ يومٍ واحدٍ
أُفرجَ عن جُثَّتِهِ
بحالةٍ أمْنِيَّهْ :
في رأسِهِ رَفْسَةُ بُندقيَّهْ
في صدرِه قُبلةُ بُندقيَّهْ !
في ظَهْرِهِ صورةُ بُندقيَّهْ
لكنَّني
حينَ سألتُ حارِسَ الرَّعيَّهْ
عن أَمرِهِ
أخبرني
أنَّ وفاةَ صاحبي قد حَدَثتْ
بالسكتةِ القلبيَّهْ !
========================
حالات
بِالتَّمادى
يُصبِحُ اللصُّ بأورُوبّا
مديراً للنوادي .
وبأمريكا
زَعيماً للعصاباتِ وأوكارِ الفسادِ .
وبأوطاني التي
من شَرعِها قَطْعُ الأيادي
يُصْبِحُ اللصُّ
. . رئيساً للبلادِ !
========================
المُتَّهمْ
كنتُ أمشى في سلامْ
عازفاً عن كُلِّ ما يخدِشُ
إحساسَ النظامْ .
لاَ أصيخُ السمعَ
لا أنظرُ
لا أبلعُ ريقي .
لا أرومُ الكَشفَ عن حُزني
وعن شِدَّةِ ضيقي .
لا أُميطُ الجفنَ عن دمعي
ولا أرمِى قِناعَ الابتسامْ .
كُنتُ أمشى . . والسلامْ .
فإذا بالجُندِ قد سدُّوا طريقي
ثُمّ قادوني إلى الحَبْسِ
وكان الاتهامْ :
أنّ شَخصاً مرَّ بالقصرِ
وقد سَبَّ الظلامْ
قبلَ عامْ .
ثُم بعدَ البَحثِ والفحصِ الدَّقيقِ
عَلِمَ الجُندُ بأنَّ الشخصَ هذَا
كان قد سلَّمَ في يومٍ
على جارِ صَديقي !
========================
الجِدَار
وقفتُ في زنزانتى
أُقلِّبُ الأفكارْ :
أنا السّجينُ ها هُنا
أم ذلك الحارسُ بالجوارْ ؟
فكلُّ ما يفصلنا جدارْ
وفي الجدارِ فتحةٌ
يرى الظلامَ من ورائها
وألمحُ النهارْ !
. .. * * *
لحارسى ، ولي أنا . . صِغارْ
وزوجةٌ ودارْ
لكنَّهُ مثلى هُنا
جاءَ بِهِ وجاءَ بى قَرارْ
وبيننا الجدارْ
يوشِكُ أن ينهارْ !
. .. * *
حدَّثنى الجدارْ
فقالَ لى : إنَّ الذى ترثي لهُ
قد جاءَ باختيارهِ
وجئتَ بالإجبارْ .
وقبل أن ينهارَ فيما بيننا
حدَّثنى عن أسدٍ
سجَّانُهُ حمار !
========================
إضرابْ
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ ، طريَّةُ الجدرانْ
تيجانُها تسبحُ في بَرْدِ الندى
والنورِ و العطورْ
في ساعةِ البكورْ
وتستوي كَسْلى على عُروشِها .
وتحتَ ظُلْمةِ الثرى
والبؤسِ والهوانْ
تسافِرُ الجذور في أحزانِها
كى تضحكَ التيجانْ !
. .. * *
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ تسبحُ في الغُرورْ
بذكرِها تُسَبِّحُ الطيورْ
ويسبحُ الفراشُ في رحيقها
وتسبحُ الجذورْ
في ظُلمةِ النَّسيانْ
. .. * *
الوردُ في البستانْ
أصبحَ . . ثُمَّ كانْ
في غَفلةٍ تهدَّلتْ رؤوسُهُ
وخرَّت السَّيقانْ
إلى الثَّرى
ثُمَّ هَوَتْ من فوقِها التيجانْ !
. .. * *
مرّت فراشتانْ
وردَّدت إحداهُما :
قدْ أعلنتْ إضرابَها الجذورْ !
. .. * *
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ !
======================
سلاحٌ بَارد
يا أيُّها الإنسانْ
يا أيُّها المُجوَّعُ، المخوَّفُ، المهانْ
يا أيُّها المدفونُ فى ثيابهِ
يا أيُّها المشنوقُ من أهدابهِ
يا أيُّها الراقِصُ مذبوحاً
على أعصابِهِ .
يا أيُّها المنفىُّ من ذاكرةِ الزمانْ
شبعتَ موتاً فانتفضْ
آن النشورُ الآنْ
بأغلظِ الايمانِ واجِهْ أغلظَ المآسى
بقبضتيكَ حَطِّم الكراسى
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فَجَرِّدِ اللسانْ
قُل : يسقطُ السلطانْ.
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فلا تدعْ قلبك فى مكانِهِ
لأنَّهُ مُدان
فدَقَّةُ القلبِ سلاحٌ باردٌ
يتركهُ الشجاعُ بعد موتِهِ
تحت يَدِ الجبانْ
لكى يدارى ضَعْفَهُ
بأضعفِ الايمانْ !
========================
إذا الضحايا سُئِلت
طالعتُ فى صحيفةِ الرحيلْ
قافلةً تائهةٌ
دليلُها يسترُ قُبْحَ فِعلِهِ
بصبرِها الجميلْ .
رأيتُها تغرقُ فى دمائِها
والدّمعِ و العويلْ
لكنّها
رغمَ الضياعِ و الرَّدى
تُعِدُّ من نُعوشِها سفينةً
تَخيطُ من أكفانِها أَشرِعةً
كَى تُنقِذَ الدليل !
وقيل إنَّ الدَّمَ لا يُصبِحُ ماءً ،
هُزِلَتْ
فالدمُ أصبحَ ماءَ نِيلْ
والدمُ قد أصبحَ ماءَ زمْزمٍ
وكأسَ زَنْجَبيلْ
في صِحَّةِ الأمواتِ مِنْ أَحيائِنا
يَشربُهُ القاتِلُ ما بينَ يَدَيْ
مُمثِّلِ القتيلْ !
. .. * *
إذا الضحايا سُئلَتْ
بأَيِّ ذَنبٍ قُتِلتْ ؟
لانتفضتْ أشلاؤها وجَلْجَلَتْ :
بِذَنبِ شَعْبٍ مُخْلِصٍ
لِقائدٍ عَمِيلْ !
========================
الرمادُ والعواصف
مَضى عَقْدٌ على قَطْعِ الجذورِ
ولم يزلْ رأسي
يصارعُ بالرمادِ عواصفَ اليأسِ !
ومازالتْ حبالُ الشوقِ تشنُقني
على بَوَّابةِ الزمنِ
فَأَلمحُ في الأسى نفسي
خيوطاً من دَمٍ تنثالُ في كأْسِي
وألمحُها بأيدِيكُمْ .. بأيدِيكُمْ
تُجرِّعُني
فِراقَ الأُمِّ مُزْدَوَجاً
. . فِراقَ الأُمِّ و الوطنِ !
. .. * *
على أبوابِ حَضْرتِكُمْ
جَلالَتِكُمْ
سِيادَتِكم
مَعَالِيكُم
سأَطرحُ رأسيَ الذاوي
وأُطلِقُ صوتيَ الدَّاوي :
) أَريد اللهْ يِبَيِّنْ حوبِتي بيكُمْ
أَريد اللهْ على الفَرْقَهْ يِجازيكُمْ )* !
* أغنية من الفولكلور العراقي معناها : أريد من الله أن يأخذ منكم بثأري ويعاقبكم لأنكم سبب الفراق.
========================
النبات
أنا ليسَ لى عِلْمُ الحواةْ
كَىْ أُخرج الجبَلَ العظيمَ من الحصاةْ
وأَجُرُّ آلافَ الفوارسِ كالأرانِبِ
من بُطونِ القبَّعاتْ .
أنا ليسَ لى عِلْمٌ
بتعبئةِ الشجاعةِ في القناني
أو فنِّ تحويل الخروفِ إلى حصانِ !
أنا لستُ إلاّ شاعراً
أبْصرتُ نار العار
ناشِبةً بأرديةِ الغُفاهْ
فصرختُ .. هُبُّوا للنجاهْ .
فإذا أفاقوا للحياةِ
ستحتفى بِهمُ الحياةْ
وإذا تلاشَتْ صرختى
وسْطَ الحرائقِ كالدُّخانِ
فَلأنَّ صرخةَ شاعرٍ
لاتَبعثُ الرُّوحَ الطّليقةَ فى الرُّفاتْ !
. .. * *
أنا شاعرٌ حُرٌّ أُعانى
من حُرقةِ الآباءِ أَقتبسُ المعانى
ومِدادُ أَشْعاري تَقاطَرَ
من دُموعِ الأمهاتْ .
فمَتى ستُوحى بالهوى شَفَةُ الهوانِ ؟
ومتى ستطلعُ وردةُ الآمالِ
فى تلكَ الدّواةْ ؟
. .. * *
شِعرى عُصارةُ عصرِنا
لاتطلبوا منِّى اصطناع المعجزاتْ .
أوطانُنا رَهْنَ المنيَّةِ . .
والبقيَّةُ فى حياةِ الصولجانِ .
ورَقابُنا تحتَ السيوفِ
وحتْفُنا فوق اللسانِ
ودِماؤنا .. تجرى دراهِمَ
فوقَ أفخاذِ الغوانى .
وذَواتُنا سجَّادةٌ
لِنعالِ أبناءِ الذّواتْ .
هذى بُذورُ حياتِنا
واللافِتاتُ هى النّباتْ .
لاسُوقَ عندىَ للأمانى
روحوا اشتروا تلك البِضاعةَ
من دكاكينِ الولاهْ
أنا لا أبيعُ مخدِّراتْ !
==============
لن أُنافقْ
نافقْ
ونافقْ
ثُمَّ نافقْ , ثُمَّ نافقْ .
لا يَسلَمُ الجسدُ النحيلُ من الأذى
إنْ لم تُنافقْ .
نافقْ
فماذا فى النفاقِ
إذا كَذَبْتَ وأنتَ صادِقْ ؟
نافقْ
فإنَّ الجهل أن تَهوِى
ليرقى فوق جُثَّتِكَ المنافقْ .
لكَ مَبدأٌ ؟ لا تَبْتئِسْ
كُن ثابتاً
لكنْ .. بمُختلِفِ المناطِقْ !
واسبِق سِواكَ بكلِّ سابِقةٍ
فإنَّ الحكمَ محجوزٌ
لأربابِ السَّوابقْ !
. .. * *
هَذي مقالةُ خائِفٍ
مُتملِّقٍ , متسلِّقٍ
ومقالتي : أنا لنْ أُنافقْ
حتَّى ولو وضعوا بِكَفَّيَّ
المغارِبَ والمشارقْ .
يا دافنينَ رؤسَكُم مثل النَّعامِ
تَنعَّموا .
وتنقَّلُوا بين المبادئِ كاللقالِقْ
ودَعُوا البطولةَ لى أَنا
حيثُ البطولةُ باطلٌ
والحقُّ زاهِقْ !
هذا أنا
أُجرى مع الموتِ السِّباقَ
وإنَّنى أدرِى بأنَّ الموتَ سابِقْ
لكنَّما سَيظلُّ نعلى عالياً أبداً
وحسْبى أنّني فى الخفضِ شاهقْ !
فإذا انتهى الشوطُ الأخيرُ
وصفَّقَ الجمْعُ المُنافقْ
سَيَظلُّ نعْلى عالياً
فوق الرُّؤوسِ
أذا علا رأسِي
على عُقَدِ المشانقْ !
========================
إعتذار
صِحْتُ من قَسْوةِ حالى :
فوقَ نَعْلِى
كُلُّ أصحابِ المعالى !
قِيلَ لى : عَيبٌ
فكرَّرتُ مقالى .
قِيلَ لى : عَيبٌ
وكرَّرتُ مقالى .
ثُمّ لمَّا قِيل لى : عَيبٌ
تَنبَّهْتُ إلى سوءِ عِباراتى
وَخَفَّفْتُ انفعالى .
ثُمّ قدَّمتُ اعتذاراً
. . لِنِعالى !
======================== رُبَّما
رُبَّما الزَّانى يتوبْ !
رُبَّما الماءُ يرُوبْ !
رُبَّما يُحْمَلُ زيتٌ فى الثُّقوبْ !
رُبَّما شمسُ الضحى
تُشرقُ من صَوبِ الغروبْ !
رُبَّما يبرأُ إبليسُ من الذنب
فيعفو عنهُ غَفَّار الذُّنوبْ !
إنَّما لا يَبرأُ الحُكَّامُ
فى كُلِّ بلادِ العُرْبِ
من ذنبِ الشُّعوبْ !
========================
المنتحرون
إسْكُتوا
لا صوتَ يعْلُو
فوقَ صوتِ النائحهْ
نحنُ أمواتٌ
وليستْ هذِه الأوطانُ إلاَّ أضرحهْ
قُسِّمتْ أشلاؤها
بين دِبابٍ و نِسورْ
وأُقيمت فى زواياها القُصورْ
لكلابِ المشرحهْ !
. .. * *
نحنُ أمواتٌ
ولكنَّ اتَّهامَ القاتِلِ المأجورِ
بُهتانٌ وزورْ
هو فردٌ عاجزٌ
لكننا نحن وَضَعْنَا بيديهِ الأسلحهْ
ووَضَعْنَا تحت رجليهِ النُّحورْ
وتواضَعنا على تكليفِهِ بالمذبحَهْ !
. .. * *
أيها الماشون ما بين القُبورْ
أيها الآتُون من آتى العُصورْ
لعَنَ اللهُ الذى يتلو علينا الفاتحهْ !
=======================
بلاد الكتمان
أكَل الصَّمتُ فَمِى
لكنَّنِى
أشكو من الصَّمتِ بصَمتْ
خوفَ أن يأكُلَنى
لو أنا بالصَّوتِ شكوتْ
رَبِّ إنّ الصّوتَ مَوْتْ
رَبِّ إنّ الصّمتَ مَوْتْ
كيف أحيا فى بلادٍ
تكتُمُ الصوتَ بإطلاقةِ إسكاتٍ
وحتَّى كاتِمُ الصوتِ بها
فى فمِهِ .. (كاتمُ صوتْ) !
=======================
مصادرة
من بعدِ طول الضَّربِ والحبْسِ
والفحص ، والتدقيقِ ، والجَسِّ
والبحثِ فى أمتِعتى
والبحث فى جسمى
وفى نفسى
لم يَعثُرِ الجُندُ على قصيدتى
فَغادَروا من شِدّةِ اليأسِ .
لكنّ كَلْباً ماكراً
أَخبرهم بأنَّنى
أحمِلُ أشعارىَ فى ذاكرتى
فأطْلقَ الجُندُ سَراحَ جُثَّتى
وصادروا رأسِى !
. .. * *
تقولُ لى والدتى :
يا وَلَدى
إن شِئتَ أن تنجو من النَّحْسِ
وأن تكونَ شاعراً مُحتَرَمَ الحِسِّ
سبِّحْ لربَّ ( العَرشِ )
. . واقرأ آية (الكُرسى) !
=======================
مأساةُ أعواد الثقاب
أوطانى عُلْبةُ كِبريتٍ
والعلبةُ مُحكمةُ الغلقْ
وأنا فى داخِلها
عُودٌ محكومٌ بالخنقْ .
فإذا ما فَتَحتْها الأيدى
فَلِكَىْ تُحرِقَ جِلدى
فالعلبةُ لا تُفتحُ دَوْمَا
إلاّ للغرب أو الشرقِ
أَمّا لِلحرقِ، أو الحرقْ !
. .. * *
يا فاتحَ عُلبتِنا الآتى
حاول أن تأتىَ بالفرقْ .
الفتحُ الراهِنُ لا يُجدي
الفتحُ الراهِنُ مرسومٌ ضِدِّي
مادامَ لحرقٍ أو حَرقْ .
إسحقْ عُلبتَنَا ، وانثُرْنا
لا تأبَهْ لَوْ ماتَ قليلٌ مِنَّا
عِندَ السحقِ .
يكفي أن يحيا أغلبُنا حُراًّ
في أرضٍ بالغةِ الرِّفقْ .
الأسوارُ عليها عُشْبٌ
. . والأبوابُ هَواءٌ طَلقْ !
======================
مكسبٌ شعبى
آبارُنا الشَّهيدهْ
تنزف ناراً ودماً
للأُمَمِ البعيدهْ .
ونحنُ فى جوارِها
نُطعِمَ جوعَ نارِها
لكنّنا نجوعْ !
ونَحمِلُ البرد على جُلودِنا
ونَحمِلُ الضُّلوعْ
ونَسْتَضِىءُ فى الدُّجى
بالبدرِ والشُّموعْ
كى نقرأَ القرآنَ
والجريدةَ الوَحيدهْ !
حملتُ شكوى الشعبِ
فى قصيدتى
لحارسِ العقيدهْ
وصاحِبِ الجلالةِ الأكيده .
قُلتُ لهُ :
شعبُكَ يا سيِّدَنا
صار ( على الحديدَهْ )
شعبُكَ يا سيِّدَنا
تهرَّأتْ من تَحتِه الحديدَهْ .
شعبُك يا سيِّدَنا
قد أَكَلَ الحديدَه !
وقبلَ أن أفرُغَ
من تلاوةِ القصيدَهْ
رأيتُهُ يغْرقْ فى أحزانِهِ
ويذرِفُ الدُّموعْ .
وبعدَ يومٍ
صدَر القرارُ فى الجريدَهْ :
أن تصْرِفَ الحكومةُ الرَّشيدهْ
لكلَّ ربِّ أسرةٍ
. . حديدةٌ جديدهْ !
========================
الهارب
فى يقظتى يقفِزُ حوْلى الرُّعبْ
فى غفوتى يصحو بقلبى الرعبْ
يُحيطُ بى فى منزلى
يرصدُنى فى عملى
يتبعُنى فى الدَّربْ !
ففى بلاد العُربْ
كلُّ خيالٍ بدْعةٌ
وكل فِكْرٍ جُنْحةٌ
وكُلُّ صوتٍ ذنبْ !
. .. * * *
هَربتُ للصحراءِ من مدينتى
وفى الفضاء الرَّحبْ
صرختُ مِلءُ القلبْ :
إلطُفْ بنا يا ربَّنا من عُملاءِ الغربْ
إلطُفْ بنا يا ربْ
سَكَتُّ .. فارتدَّ الصَّدى :
خَسَأْتَ يابنَ الكلبْ !
=========================
حادث مرتقب
إنى أرى سيّارةٌ
تسيرُ فى اضطرابْ .
قائدها مُسْتهتِرٌ
أفْرَط فى الشرابْ .
والدّربُ طينٌ تحتَها
وحولها ضبابْ .
مُسرِعةٌ
مُسرِعةٌ
السِكْرُ لَنْ يَلْجِمَها
والطينُ لنْ يَرحمها
والنّارُ والحديدُ إن تحدَّرا
طاحا
ولم يُمسكْهما (الضبابْ)
. . . . . . . . . . . . . . .
سَيَحْدثُ انقلابْ !
=========================
حكمة الغاب
تَعدو حميرُ الوحشِ فى غاباتِها
مُسَوَّمَهْ .
قويَّةً منتقِمهْ
لا تقبلُ الترويضَ والمسالمهْ .
فالغابُ قد علَّمها
أن تركلَ السِّلمَ وراء ظهرِها
لكى تظلُ سالِمهْ !
. .. * * *
وفى زَرائب القُرى .. المُنظَّمهْ
تغفو الحميرُ الخادمهْ
ذليلةً مُسْتَسلِمه
لأنها قد نَزَعت جُلودها المُقلَّمهْ
وعافتِ المُقاومهْ
وأصبحتْ مُطيعَةً ..
تسيرُ حَسْبَ الأنظمَهْ !
========================
واعظ السلطان
حدَّثنا الإمامْ
فى خُطبةِ الجُمْعةِ
عن فضائل النظامْ
والصبرِ والطّاعةِ والصيامْ .
وقالَ ما معناهْ :
إذا أرادَ ربُّنا
مُصيبةً بعبدِهِ ابتلاهُ
بكثرةِ الكلامْ .
لكنَّهُ لم يَذْكُرِ الجِهادَ فى خُطْبتهِ
وحينَ ذَكَّرناهْ
قال لنا : عليكم السلامْ !
وبعدَها قامَ مُصلِّياً بِنَا
وعندما أُذِّن للصلاهْ
قال :
نَعَمْ .. إلهَ إلاَّ الله !
=========================
الطفل الأعمى
وَطنى طِفلٌ كَفِيفْ
وضَعِيفْ .
كان يمشى آخِرَ الليلِ
وفى حَوْزَتِهِ
ماءٌ ، وزَيْتٌ ، ورَغِيفْ
فَرآهُ اللصُّ وانهَالَ بسكِّينٍ عليهْ
وتَوارى
بعدما استوْلى على ما فى يَدَيْهْ
. .. * * *
وَطَنى مازالَ مُلْقى
مُهْملاً فوق الرَّصيفْ
غارقاً فى سَكَراتِ الموْتِ
والوالى هو السِّكِّينْ
. . والشَّعبُ نَزِيفْ !
========================
أنشوده
شَعبُنا يومَ الكِفاحْ
رأسُهُ .. يَتبعُ قَولَهْ !
لا تَقُلْ : هَاتِ السِّلاحْ .
إنَّ للبَاطِلِ دَوْلهْ .
ولنا خصْرٌ ، ومِزمارٌ ، وطَبلَهْ
ولنا أنظِمَةٌ
لولا العِدا
ما بَقِيَتْ فى الحُكمِ لَيلَهْ !
========================
آه لو يُجدى الكلام
الملايينُ على الجُوعِ تَنامْ
وعلى الخَوفِ تنامْ
وعلى الصَّمتِ تنامْ .
والملايينُ التى تُسرقُ من جَيبِ النيامْ
تتهاوَى فوقَهم سيلَ بنادِقْ
ومَشانِقْ
وقَرراراتِ اتِّهامْ
كُلَّما نادَوا بتقطِيعِ ذراعَى
كُلِّ سارقْ
وبتوفير الطَّعامْ !
. .. * * *
عِرضُنا يُهتَكُ فوقَ الطُّرقاتْ
وحُماةُ العِرْضِ .. أولادُ حَرامْ
نهضوا بعدَ السُّباتْ
يفرشون البُسُطَ الحَمْرَاءَ
مِن فَيْضِ دِمانا
تحتَ أقدامِ السَّلامْ !
. .. * * *
أرضُنا تصغُرُ عاماً بعدَ عامْ
وحُماةُ الأَرْضِ .. أبناءُ السَّماءْ
عُمَلاءْ
لا بِهم زَلزَلةُ الأرضِ
ولا فى وَجهِهِم قَطْرةُ ماءْ .
كُلَّما ضاقَتْ بِنا الأرضُ
أفَادُونا بتوسِيعِ الكَلامْ
حَول جَدْوى القُرْفُصَاءْ
وأبادُوا بَعْضَنا
من أجلِ تَخْفيفِ الزِّحامْ !
. .. * * *
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
هذِهِ الأُمَّةُ ماتتْ
. . والسَّلام !
========================
هَوِيَّه
فى مَطارٍ أجنبى
حدَّقَ الشُّرطِىُّ بى
- قَبْلَ أن يطلُبَ أوراقى -
ولمَّا لم يجِدْ عِندى لساناً أو شَفَهْ
زمَّ عَيْنيْهِ وأبْدى أسَفَهْ
قائلاً أهلاً وسهْلاً
. . يا صديقى العربِى !
========================
الرَّجُلُ المُناسِبْ
باسم وَالِينَا المُبجَّلْ
قرَّرُوا شنْقَ الذى اغتَالَ أخِى
لكنَّهُ كانَ قصيراً
فمضى الجلاَّدُ يسألْ :
رأسُهُ لا يصلُ الحبْلَ
فماذا سوفَ أفعَلْ ؟
بعد تفكِيرٍ عميقْ
أمَرَ الوالى بشنقى بدلاً مِنهُ
لأنِّى كنتُ أَطْوَلْ !
=========================
البُؤَساء
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى
مَنْ أكُونْ .
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
لَدَعُوا لى بالبقَاءْ
كُلَّ صُبْحٍ و مساءْ .
أنا مَجنُونٌ ؟
أَجَلْ أدْرِى ،
وأدْرِى أنَّ أشْعارِى جُنُونْ .
لكِنِ الحُكَّامُ لَوْلاىَ
ولوْلا هذهِ الأشعَارِ ماذا يعمَلونْ ؟
فإذا لم أكْتُبِ الشِّعرَ أنا
كيفَ يَعيشُ المُخْبِرونْ ؟
وإذا لم أَشْتمِ الحُكَّامَ
مَنْ يعْتَقِلونْ ؟
وإذا لَم أُعْتقَلْ حَيّاً
فمَن يسْتجْوِبُون ؟
وبماذا يُطْلِقُ الصَّوتَ وكِيلُ الإدِّعَاءْ ؟
وبماذا ياتُرَى
يعملُ أَرْبَابَ القضاءْ ؟
وعلى مَن يحكُمونْ ؟
وإذا لم يَسجِنُونى
فلِمَنْ تُفْتَحُ أبوابَ السجونْ ؟
هؤلاءِ البُؤساءْ
هُمْ يَدُ الحُكمِ
ولولا أننى حَىٌّ لطَاروا فى الهواءْ !
فَأنا أَرْكُضُ ..
والمُخْبِرُ ، والشُّرطِىُّ ، والسَّجَّانُ ،
والجلاَّدُ ، والفرَّاشُ ، والكَاتِبُ ،
والحاجِبُ ، والقَاضى
ورَائى يركُضُونْ !
كلُّهُم باسمِى أنا يشْتَغِلونْ .
كلُّهُم من خيرِ شِعرِى يأكُلونْ !
. .. * * *
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى العُقَلاءْ
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
أنَّهُم لولا جُنونِى .. عاطِلونْ
لَرَمُوا تِيجَانَهُم تحتَ الحِذاءْ
وأتَوْا من تُهمَتِى
=========================
القضيّه
زَعمُوا أنَّ لنا
أرضاً ، وعِرْضاً ، وحَمِيَّهْ
وسُيوفاً لا تُبارِيها المَنِيَّهْ .
زَعمُوا ..
فالأرضُ زَالتْ
ودِماءُ العِرضِ سالتْ
ووُلاةِ الأمرِ لا أمْرَ لَهُمْ
خارِجَ نَصِّ المسرحيَّهْ
كُلُّهُم راعٍ ومسْئُولٌ
عنِ التَّفرِيطِ فى حَقِّ الرَّعِيَّهْ !
وعن الإرهابِ والكَبْتِ
وتقْطيعِ أيادى النَّاسِ
من أجلِ القضيَّهْ !
. .. * * *
القضيَّهْ
سَاعةَ الميلادِ ، كانت بُندُقِيّهْ
ثمَّ صارت وتداً فى خَيمةٍ
أَغْرَقَهُ (الزَّيتُ)
فأضحى غُصنَ زَيْتُونٍ
. . وأمسَى مِزْهَرِيَّهْ
تُنعِشُ المائدَةَالخضراءَ
صُبْحاً و عَشِيَّهْ
فى القُصورِ المَلَكِيَّهْ
. .. * * *
ويقولون لى :اضْحَكْ !
حَسَناً
ها إنَّنى أضحكُ من شَرَّ البَلِيَّهْ !
==========================حِكْمَهْ
قالَ أبى :
فى أىَّ قُطْرٍ عرَبى
إن أعلَنَ الذَّكِىُّ عن ذَكَائهِ
فَهُوَ غَبِى !
========================
المثلُ المشْهُورْ
من قسوة الأصداف،
من ظلمتها
تنبلج الدُّرَّةْ.
من رحم الهجير يولد الندى
وفى انتهاء الصوت يبدأ الصدى
لك الحياة في الردى
أيتها الزهرة
أيتها الفكرة
أيتها الأرض التي
تؤمن دوما أنها حرّة.
. .. ... أحمد مطر
===================
كم على السيف مشيتْ
كم بجمر الظلم و الجور اكتويتْ
كم تحملت من القهر
وكم من ثقل البلوى حويتْ
غير أنى ما انحنيتْ.
كم هوى السّوط على ظهري
وكم حاولَ أن أُنكر صبري
فأبيتْ
وهوى، ثم هوى، ثم هوى..
حتى هويت
غير أنى عندما طاوعني دمعي .. عصيتْ.
مذهبي أنى كريمٌ بدمائي،
وبخيلٌ ببكائي
غير أنى يا حبيبهْ
حينما سرتُ إلى طائرة النفيِ
إلى الأرض الغريبةْ
عامداَ طأطأتُ رأسي،
ولعينيكِ انحنيتْ.
وعلى صدركِ علّقتُ بقايا كبريائي،
وبكيتْ.
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ،
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ!
كنتُ من فرطِ بكائي
دمعَةٌ حيرى على خدِّكِ تمشى
يا كويتْ !
. .. ... أحمد مطر
===================
===============================================================
وثنٌ تضيقُ برجسهِ الأوثانُ ...
. .. ... وفريسةٌ تبكى لها العقْبانُ!
ودمٌ يضمِّدُ للسيوف جراحَتها ...
. .. ... ويعيذُها من شرِّهِ الشريانُ!
هي فتنةٌ عصفتْ بكيدِكَ كُلَّهُ
. .. ... فانفذ بجلدكَ أيُّها الشيطانُ!
ماذا لديكَ؟ غِوايةٌ؟ صُنْهَا ...
. .. ... فقد أغوى الغوايةَ نفسها السُّلطان!
مكرٌ؟ وهل حلَّفتَ بالقرآن
. .. ... قرآناً ليُنكِرَ أنَّهُ قرآنُ!
كُفْرٌ؟ بماذا ؟ دينُنا أمسى بلا
. .. ... دينٍ، وأعلنَ كُفرَهُ الإيمانُ!
كَذِبٌ؟ ألا تدرى بأنَّ وجوهَنا
. .. ... زورٌ ، وأَنَّ نفوسَنا بُهتان؟
قَرنانِ؟ ويْلكَ، عندنا عشرونَ
. .. ... شيطانًا، وفوقَ قُرونِهم تيجانُ!
. .. ... ... * * *
يا أيُّها الشيطانُ إنَّك لم تزلْ
. .. ... غِرًّا، وليس لِمثلِكَ الميدانُ
قفْ جانبًا للإنسِ أو للجِنِّ
. .. ... واترُكنَا، فلا إنسٌ هُنا أو جانُ
قفْ جانبًا كي لا تبوءَ بِذَنبِنا
. .. ... أو أن يَدِينَكَ باسْمِنا الديَّانُ
إنْ يصْفحِ الغفَّارُ عنكَ فإنَّنَا
. .. ... لا يحتوينا الصَّفْحُ و الغُفْرانُ!
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَمَةٌ
. .. ... تُبَاعُ وتُشْترى ونصيبُها الحرمانُ.
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَسْيادُهَا
. .. ... خَدَمٌ، وخيرُ فُحولهِم خِصيانُ
قِطَعٌ منَ الكَذِبِ الصَّقِيلِ، فليسَ في
. .. ... تاريخِهِم رَوْحٌ ولا ريْحانُ
أُسْدٌ، ولكن يُحْدِثُونَ بِثَوبِهم
. .. ... لو حرَّكتْ أذْنابَها الفِئْرانُ!
مُتعفِّفُونَ، وصُبْحُهُم سَطْوٌ على
. .. ... قُوتِ العبادِ، وليلُهُم غِلْمانُ
متديِّنُونَ، ودِينُهم بِدِنَانِهمْ
. .. ... ومُسهَّدُونَ، وسُكْرُهمْ سَكرانُ
عربٌ، ولكنْ لو نزعْتَ قُشُورَهُم
. .. ... لَوَجدْتَ أنّ اللُّبَّ أمْريكانُ!
. .. ... ... * * *
جِيلانِ مَرَّا، لمْ يكُنْ في ظلِّهِم
. .. ... ظِلُّ، ولا بِوُجُودِهِمْ وِجدَانُ
حتَّى المرَارةُ أَقْلعَتْ عَن نفْسِها
. .. ... ولنا على إدْمانِها إدمانُ
نأتي إلى الدُّنيا وفى أعْناقِنا
. .. ... نيرٌ، وفى أعْماقِنا نِيرانُ
تخصي لنا الأسْماعُ منذُ مَجِيئِنا،
. .. ... شرْعاً، ويُعملُ للشِّفاهِ خِتانُ
ونسيرُ مقْلوبينَ حتَّى لا ترى
. .. ... مقْلوبَةً بِعيُونِنَا البُلْدانُ
والدَّرْبُ متَّضِحٌ لنا فَورَاءنَا
. .. ... مُتعقِّبٌ، وأمامَنا سَجَّانُ
فَيخافُ من فَرْطِ السُّكوتِ سُكوتُنا
. .. ... من أن تَمُرَّ بذِهْنِنَا الأذْهانُ
ونَخافُ أنْ يشيَ السُّكوتُ بِصَمْتِنا
. .. ... فكأنَّما لسُكوتِنَا آذَانُ
لو قِيلَ للحيوانِ: كُنْ بَشَراً هنا،
. .. ... لبَكَى وأعْلنَ رفْضَهُ الحيوانُ !
. .. ... ... * * *
كم باسْمِنَا نَشَبَ النِّزاعُ ولم يكُنْ
. .. ... رأىٌ لنَا بِنُشُوبِهِ أو شَانُ
وعَدَتْ عليْنا العَادِياتُ، فليْلُنا
. .. ... ثوبُ الحِدَادِ، وصُبْحُنا الأكْفَانُ
وهواؤُنا آهاتُنا، وتُرابنَا
. .. ... دمْعٌ دمُ، وسماؤنَا أجْفَانُ
صِحْنا فلم يُشفِقْ علينا عقْربٌ
. .. ... نُحْنَا ولم يرفُقْ بِنا ثُعبانُ
ومَنِ المُجيرُ وقدْ جرتْ أقْدارُنا
. .. ... في أن يَجُورَ الأهلُ والجِيرانُ؟
قُلنا، ومِطرقَةُ العذابِ تدُقٌنا:
. .. ... سَيجِيءُ دَوْرُكَ أيُّها السِّنْدانُ
وسيأكُلُ السِّرْحانُ لحْم صِغَارِهِ
. .. ... إن لم يجِدْ ما يأكُلُ السِّرحانُ
فَتَمرَّتِ الضَّحكاتُ في دمَعاتِنا
. .. ... وتكدَّرت من صحونا الكِيزانُ
حتّى إذا ما سكْرةٌ راحتْ
. .. ... وجاءتْ فِكرةٌ، وتثاءبَ النَّعسانُ
غَفَلتْ زوايا الحَانِ عن ألحانِها
. .. ... وانحطَّت الشُّرفاتُ و الحيطانُ
وهوى الهوى مُتضرِّجاً بهَوَانِهِ
. .. ... وانهدَّ من نَدمٍ بها النُّدْمانُ
لكنَّنا في الحالتينِ سفينةٌ
. .. ... غَرَقتْ، فقامَ يلُومُهَا الرُّبَّان!
أَمِنَ العَدَالةِ أن نُشَكَّ ونُشْتكى؟
. .. ... أو أن نُبَاعَ وجلدُنا الأثمانُ؟!
. .. ... ... * * *
في لحظةٍ .. لعَنتْ مصَانِعَها الدُّمَى
. .. ... وتبرَّأتْ من نفسِها الأدرانُ!
وانساب ( سيركُ) المعجِزاتِ، فها هُنا
. .. ... قَدمٌ فَمٌ، وفصاحةٌ هَذَيانُ
يُلقى بها الإعلامُ فوقَ رؤوسِنَا
. .. ... صُحُفاً يقيئُ لِعُهْرِها الغَثَيانُ!
فزِبالةٌ واستُبدِلتْ بزبالةٍ
. .. ... أخرى، ولم تُستَبْدلِ الجُرْذانُ!
وهُنَا مَلِيكٌ مُغرمٌ بتُراثِهِ
. .. ... يَحسُو الخُمورَ وكأسُهُ فِنجانُ!
وهُناكَ ثوريٌ يؤسِّسُ دَولةً
. .. ... في كَرْشِهِ، فتصفِّقُ الثيرانُ
وهُنا مَلِيكٌ ليسَ يملكُ نفسَهُ
. .. ... فَمُهُ صدىً ، وضَميرُهُ دُكَّانُ
ومُفكِّرٌ مُتَخصِّصٌ بعلومِ فَرْكِ
. .. ... الخِصيَتينِ ، ففِكرُهُ سَيَلانُ
وشَواعرٌ ، كي لا أُسَمِّى واحداً،
. .. ... يتستَّرُونَ وسِترُهُمْ عُريانُ!
يَزِنُونَ بالقَبَّانِ أبيَاتاً لهمْ
. .. ... فَيمِيلُ من أوزارِهِ القَبَّانُ
في كِفَّةٍ تَسبيلةٌ ودَراهِم
. .. ... وبكِفَّةٍ تفعيلةٌ وبَيانُ
مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُهُ
. .. ... مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُ
وتُفَرْقِعُ الأوزَانُ دونَ مبادئٍ
. .. ... لمبادئٍ ليسَت لها أوزانُ
فالحاكمُ المُغتالُ طِفلٌ وادِعٌ
. .. ... والمُودَعُونَ بسِجْنهِ .. غِيلانُ!
وابنُ الشوارعِ فارسٌ في ساعةٍ
. .. ... وبساعةٍ هو غادِرٌ وجبانُ!
هل يَنثنى الجزَّارُ عن جُرْمٍ ؟ وهل
. .. ... ترتدُّ عن أخلاقِها الفرسانُ؟!
كَلاَّ، ولكنَّ (الأنَا) ورمٌ ، وإنْ
. .. ... زادتْ فكلُّ زيادةٍ نُقصانُ
يبدو التناقُضُ عندها متناسِقاً
. .. ... واللونُ في صفحاتِها ألوانُ
هو فَارسٌ ما دامَ يَفترِسُ الورى
. .. ... فإذا قُرِصْتُ فإنَّهُ قُرصانُ!
وحدي .. ولو ذهبَ الأنامُ جميعُهم
. .. ... وإذا ذهبتُ فبعديَ الطوفانُ!
. .. ... ... * * *
يا آيةَ الله الجديد، ومن لقي
. .. ... آياتِهِ الحشراتُ والديدانُ
آمنتُ أنَّكَ آيَةٌ، فبحدِّكَ
. .. ... اتَّحدَ الهوى وتفرَّقَ الفُرقانُ
طُوبى لِنُبْلِكَ في الجِهادِ، فمَرَّةٌ
. .. ... أرضُ الكويتِ، ومَرَّةٌ إيرانُ
وكأنَّ خارطةَ الجهادِ أعَدَّها
. .. ... (ميخا) وأكَّدَ رسمَها (المعْدانُ) !
القُدسُ ليستْ من هُنا تُؤتى
. .. ... ونعلمُ أنَّها من دونِها عَمَّانُ
والفَقرُ ليسَ بأرضِنا، فمياهُنا
. .. ... تُروِى المياهُ، ونَفطُنا غُدرانُ
وبوارجُ الغُرباءِ قد كانتْ هُنا
. .. ... تحمى حماكَ، وهُم هُنا قد كانوا
إن كنتَ تنسى أنَّهم نَصَبُوكَ
. .. ... محرقةً لنا، فسيذكرُ النسيانُ
لكنَّما قَضَتِ الروايةُ أن يُبدَّل
. .. ... مشهدٌ، فتبدَّلَ البُنيانُ
مهما تخلَّى، في الروايةِ، بعضُكم
. .. ... عن بعضِكم، فجميعكُم خلاَّنُ!
. .. ... ... * * *
قيلَ الهوى. فالضمُّ ضَمُّ حبيبةٍ
. .. ... عجباً، أتَنبُتُ للهوى أسنانُ؟!
أتُعِدُّ قُنبُلةً فتُدعى قُبلةً
. .. ... ويُعَدُّ عيداً ذلك العُدوانُ؟!
وأسيرةٌ قد حُرَّرَتْ. وعَجِبتُ من
. .. ... حرَّيةٍ نَسَماتُها قُضْبَانُ!
وشريدةٌ رَجَعتْ لمنزلِ أهلِهَا
. .. ... أيَنالها الإعراضُ والنكرانُ؟
أيموتُ دونَ عفافِها إخوانُها
. .. ... أم يستبِيحُ عفافَها الإخوانُ؟!
هي سُنَّةٌ قد سَنَّها وثنٌ فماذا
. .. ... لو قَفَتْ آثارُهُ الأوثَانُ!
إنَّ اللواحِقَ للسوابقِ تنتمي
. .. ... وصُنانِ أتباعِ العدا صُنوانُ!
قُلْ للجزيرةِ: كيفَ حالتْ حائلٌ؟
. .. ... وبمَنْ جَرَتْ لخَرابِها نَجرانُ؟
وبِكفَّ مَنْ كفُّ القَطَيفِ تَقَطَّفَتْ؟
. .. ... وبمَنْ تَعَسَّرَ في عَسيرَ أَمانُ؟
ومَن احتسى الإحساءَ؟ أو من ذا الذي
. .. ... حَجَزَ الحجازَ، وجُندُهُ رُهبانُ؟
هل عِندَنا شيخٌ يُسمّى (شِكْسِبيرَ) ؟
. .. ... وهل تطيرُ وتقصِفُ البُعْرانُ؟!
لا. بل قضى شرعُ الأهِلَّةِ أن
. .. ... تخوضَ جهادَها وسيوفُها الصُّلبانُ
كَرَمُ الضيافةِ دائماً يقضى بأنْ
. .. ... تُطوى الجفونُ. وتُفتحُ السيقانُ!
معنى الجهادِ بعصرنا، إجهادُنا
. .. ... أو عصرُنا، وثوابُنا خُسرانُ
عثمانُ يُقتلُ كلَّ يومٍ باسمِنا
. .. ... وتُخاطُ من أطمَارِنا القُمصانُ!
. .. ... ... * * *
أنا ضِدَّ أمريكا إلى أن تنقضي
. .. ... هذى الحياةُ ويوضعَ الميزانُ
أنا ضِدَّها حتَّى وإن رقَّ الحَصى،
. .. ... يوماً، وسالَ الجَلْمَدُ الصَّوانُ!
بغضي لأمريكا لو الأكوانُ
. .. ... ضَمَّتْ بَعضَهُ لانهارتِ الأكوانُ
هيَ جَذْرُ دَوحِ الموبقاتِ، وكلُّ ما
. .. ... في الأرضِ من شَرٍّ هو الأغصانُ!
مَنْ غَيرُها زَرَعَ الطغاةَ بأرضِنا؟
. .. ... وبِمنْ سِواها أثمرَ الطُغيانُ؟
حَبَكَتْ فصولَ المسرحيّةِ حَبْكةً
. .. ... يَعْيَا بها المُتمرِّسُ الفنَّانُ
هذا يَكِرُّ، وذا يفِرُّ، وذا بهذا
. .. ... يستَجيرُ، ويبدأُ الغَليانُ
حتَّى إذا انقشَعَ الدُّخان، مضَى لنا
. .. ... جُرحٌ، وحلَّ محلَّهُ سَرَطانُ!
وإذا ذئابُ الغربِ راعِيةٌ لنا
. .. ... وإذا جميعُ رُعاتِنا خِرفانُ!
وإذا بأصنامِ الأجانبِ قد رَبَتْ
. .. ... وإذا الكويتُ وأهلُها القُربانُ!
. .. ... ... * * *
أنا يا كويتُ قد اكتويتُ، ورُبَّما
. .. ... بشُواظِ ناري تكتوي النيرانُ
صَحراءُ همي ما لَها من آخِرٍ
. .. ... و بحارُ حزني ما لها شُطآنُ
تبكى شراييني دماً في مَدْمَعِى
. .. ... وبأدمُعى تتضاحكُ الأحزانُ
أنتِ القريبَةُ في اللقاءِ وفى النَّوى
. .. ... وأنا بحبي الغَارقُ الظَّمآنُ
لي مِنكِ ما للقلبِ من خفقَاتِهِ
. .. ... ولديكِ مِنِّى الوجهُ والعُنوانُ
فلقدْ حَمَلتُكِ في الجُفونِ مُسَهَّداً
. .. ... كي لا يُسهَّدَ جَفنُكِ الوسْنانُ
وملأتُ روحي منكِ حتَّى لم يَعُدْ
. .. ... منِّى لروحي موضعٌ و مكانُ!
ما ذابَ مِن فَرْطِ الهوى بِكِ عاشِقٌ
. .. ... مثلى، ولا عرَفَ الأسى إنسانُ
. .. ... ... * * *
قالوا هَجَرْتِ، فقُلتُ إنَّا واحدٌ
. .. ... وكفى وِصالاً ذَلكَ الهِجرانُ
هي موطني، ولها فؤادي موطنٌ
. .. ... أَتَفِرُّ مِن أوطانها الأوطانُ
ماذا على شَجَرٍ إذا طَرَدَ الخريفُ
. .. ... هَزارَها لتُغرِّدَ الغِربانُ
في الكُحلِ لا تجدُ الأذى إلاّ إذا
. .. ... عَمِلتْ على تكحيلِك العُميانُ
. .. ... ... * * *
أنا لاَ أزالُ أدُقُّ قلبي خائفاً
. .. ... ويكادُ يُخفى دقتي الخَفقَانُ
لاَ تنكري تعبي، ولا تستنكري
. .. ... غضَبى، فإني العاشقُ الولهانُ
نُبِّئْتُ أنَّكِ قدْ هَرِمْتِ، وغاضَ
. .. ... مِن غَيظِ الخطوبِ شبابُكِ الرَّيانُ
وَعَلِمْتُ أنَّ الدارعينَ تَدرَّعوا
. .. ... بطنينهم، وسلاحُهم أطنانُ
وأقُول كلُّ بلادنا مُحتلَّةٌ
. .. ... لاَ فرقَ إن رَحَلَ العِدا أو رانوا!
ماذا نَفيدُ إذا استقلَّتْ أرضُنا
. .. ... واحتُلَّتِ الأرواحُ والأبدانُ؟!
ستعودُ أوطانى إلى أوطانِها
. .. ... إن عادَ إنساناً بها الإنسانُ!
. .. ... ... ... ... ... أحمد مطر
. .. لندن 20/9/1990
===============================================================
حي على الجماد
حي على الجهاد ؛
كنا وكانت خيمة تدور في المزاد،
تدور ثم إنها تدور ثم إنها يبتاعها الكساد ؛
حي على الجهاد ؛
تفكيرنا مؤمم وصوتنا مباد ،
مرصوصة صفوفنا كلا على انفراد ،
مشرعة نوافذ الفساد ،
مقفلة مخازن العتاد ،
والوضع في صالحنا والخير في ازدياد ؛
حي على الجهاد ؛
رمادنا من تحته رماد ،
أموالنا سنابل مودعة في مصرف الجراد ،
ونفطنا يجري على الحياد ،
والوضع في صالحنا فجاهدوا ياأيها العباد ،
رمادنا من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
. حي على الجماد
سفارة
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وكل الدروب إليها سدى ،
والخطى مستعارة ،
فما بيننا ألف باب وباب ،
عليها كلاب الكلاب ،
تشم الظنون، وتسمع صمت الإشارة ،
وتقطع وقت الفراغ بقطع الرقاب ،
فكيف سأمضي لقصدي وهم يطلقون الكلاب ،
على كل درب وهم يربطون الحجارة ؛
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وما زلت أجهل دربي لبيتي ،
وأعطي عظيم اعتباري لأدني عبارة ،
لأن لساني حصاني كما علموني ،
وأن حصاني شديد الإثارة ،
وأن الإثارة ليست شطارة ،
وأن الشطارة في ربط رأسي بصمتي ،
وربط حصاني على باب تلك السفارة ،
. وتلك السفارة
صلاة الجماعة
اسمعوني قبل أن تفتقدوني ياجماعة ،
لست كذابا فما كان أبي حزبا ولا أمي إذاعة ،
كل ما في الأمر أن العبد صلى مفردا بالأمس في القدس،
. ولكن الجماعة سيصلون جماعة
\بيت وعشرون راية
أسرتنا بالغة الكرم ،
تحت ثراها غنم حلوبة، وفوقه غنم ،
تأكل من أثدائها وتشرب الألم ،
لكي تفوز بالرضى من عمنا صنم ،
أسرتنا فريدة القيم ،
وجودها عدم ،
جحورها قمم ،
لاآتها نعم ،
والكل فيها سادة لكنهم خدم ،
أسرنا مؤمنة تطيل من ركوعها، تطيل من سجودها ،
وتطلب النصر على عدوها من هيئة الأمم ،
أسرتنا واحدة تجمعها أصالة، ولهجة، ودم ،
وبيتنا عشرون غرفة به ، لكن كل غرفة من فوقها علم ،
يقول إن دخلت في غرفتنا فأنت متهم ،
. أسرتنا كبيرة ، وليس من عافية أن يكبر الورم
ورثة إبليس
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة ،
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة ،
صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه ،
".وقال :" إني راحل، ماعاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه
ودارت الأدوار فوق أوجه قاسية، تعدلها من تحتكم ليونة ،
فكلما نام العدو بينكم رحتم تقرعونه ،
لكنكم تجرون ألف قرعة لمن ينام دونه ،
وغاية الخشونة،
أن تندبو : "قم ياصلاح الدين ، قم" ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة ،
كم مرة في العام توقظونه ،
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه ،
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة ،
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمو سكونه ،
. لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه
عزف على القانون
يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه ،
يلطمني ويدعي أن فمي قام بلطم كفه ،
يطعنني ويدعي أن دمي لوث حد سيفه ،
فأخرج القانون من متحفه ،
وأمسح الغبار عن جبينه ،
أطلب بعض عطفه ،
لكنه يهرب نحو قاتلي وينحني في صفه ،
يقول حبري ودمي : "لا تندهش ،"
".من يملك القانون في أوطاننا ، هو الذي يملك حق عزفه"
شعراء البلاط
من بعد طول الضرب والحبس ،
والفحص ، والتدقيق ، والجس ،
والبحث في أمتعتي ، والبحث في جسمي، وفي نفسي ،
لم يعثر الجند على قصيدتي، فغادروا من شدة اليأس ،
لكن كلبا ماكرا أخبرهم بأنني أحمل أشعاري في ذاكرتي،
فأطلق الجند شراح جثتي وصادروا رأسي ،
تقول لي والدتي : "ياولدي ، إن شئت أن تنجو من النحس،"
وأن تكون شاعرا محترم الحس ،
. "سبح لرب العرش ، واقرأ آية الكرسي"
لبنان الجريح
صفت النية يالبنان ، صفت النية ،
لم نهملك ولكن كنا مختلفين على تحديد الميزانية ،
كم تحتاج من التصفيق؟
ومن الرقصات الشرقية ؟
مامقدار جفاف الريق في التصريحات الثورية ؟
وتداولنا في الأوراق، حتى أذبلها التوريق ،
والحمد له صفت النية ، لم يفضل غير التصفيق ،
وسندرسه ، في ضوء تقارير الوضع بموزمبيق ،
صفت النية ، فتهانينا يالبنان ،
جامعة الدول العرية تهديك سلاما وتحية ،
. تهديك كتيبة ألحان ، ومبادرة أمريكية
اللغز
: قالت أمي مرة
يا أولادي عندي لغز من منكم يكشف لي سرة ، ""
تابوت قشرته حلوى،
ساكنه خشب والقشرة "،"
قالت أختي: "التمرة" ،
حضنتها أمي ضاحكة لكني خنقتني العبرة ،
. "قلت لها :" بل تلك بلادي
بين يدي القدس
ياقدس يا سيدتي معذرة فليس لي يدان ،
وليس لي أسلحة وليس لي ميدان ،
كل الذي أملكه لسان ،
والنطق ياسيدتي أسعاره باهضة، والموت بالمجان ،
سيدتي أحرجتني، فالعمر سعر كلمة واحدة وليس لي عمران ،
أقول نصف كلمة ، ولعنة الله على وسوسة الشيطان ،
جاءت إليك لجنة، تبيض لجنتين،
تفقسان بعد جولتين عن ثمان ،
وبالرفاء والبنين تكثر اللجان ،
ويسحق الصبر على أعصابه ،
ويرتدي قميصه عثمان ،
سيدتي، حي على اللجان ،
. حي على اللجان
ثورة الطين
وضعوني في إناء ،
ثم قالو لي تأقلم ،
وأنا لست بماء ،
أنا من طين السماء ،
أنا من روح السماء ،
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم ،
خيروني بين موت وبقاء ،
بين أن أرقص فوق الحبل، أو أرقص تحت الحبل ،
فاخترت البقاء : قلت أعدم ،
قلت أعدم ،
فاخنقو بالحبل صوت الببغاء ،
. وأمدوني بصمت أبدي يتكلم
التهمة
كنت أسير مفردا أحمل أفكاري معي ،
ومنطقي ومسمعي ،
فازدحمت من حولي الوجوه ،
قال لهم زعيمهم خذوه ،
سألتهم ماتهمتي ؟
. "فقيل لي:" تجمع مشبوه
على باب الشعر
حين وقفت بباب الشعر ،
فتش أحلامي الحراس ،
أمروني أن أخلع رأسي،
وأريق بقايا الإحساس ،
ثم دعوني أن أكتب شعرا للناس ،
فخلعت نعالي بالباب وقلت خلعت الأخطر ياحراس ،
. هذا النعل يدوس ولكن هذا الرأس يداس
أصنام البشر
ياقدس معذرة ومثلي ليس يعتذر،
مالي يد في ما جرى فالأمر ما أمروا ،
وأنا ضعيف ليس لي أثر ،
عار علي السمع والبصر ،
وأنا بسيف الحرف أنتحر ،
وأنا اللهيب وقادتي المطر ،
فمتى سأستعر ؟
لو أن أرباب الحمى حجر ،
لحملت فأسا فوقها القدر ،
هوجاء لا تبقي ولا تذر ؛
لكنما أصنامنا بشر ،
الغدر منهم خائف حذر ،
والمكر يشكو الضعف إن مكروا ؛
فالحرب أغنية يجن بلحنها الوتر ،
والسلم مختصر ،
ساق على ساق ، وأقداح يعرش فوقها الخدر ،
وموائد من حولها بقر ،
ويكون مؤتمر ؛
هزي إليك بجذع مؤتمر يساقط حولك الهذر ،
. عاش اللهيب ويسقط المطر
كلمات فوق الخرائب
قفوا حول بيروت صلو على روحها واندبوها ،
وشدوا اللحى وانتفوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
وسلو سيوف السباب لمن قيدوها ،
ومن ضاجعوها ،
ومن أحرقوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
ورصو الصكوك
على النار كي تطفؤوها ،
ولكن خيط الدخان سيصرخ فيكم : "دعوها" ،
ويكتب فوق الخرائب
. "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها"
كلب الوالي
كلب والينا المعظم عظني اليوم ومات ،
فدعاني حارس الأمن لأعدم ،
بعدما أثبت تقرير الوفاة
. أن كلب السيد الوالي تسمم
حلم
وقفت مابين يدي مفسر الأحلام ،
قلت له : "ياسيدي رأيت في المنام ،"
أني أعيش كالبشر ،
وأن من حولي بشر ،
وأن صوتي بفمي، وفي يدي الطعام ،
وأنني أمشي ولا يتبع من خلفي أثر "،"
فصاح بي مرتعدا : "ياولدي حرام ،"
لقد هزئت بالقدر ،
ياولدي ، نم عندما تنام "؛"
وقبل أن أتركه تسللت من أذني أصابع النظام ،
. واهتز رأسي وانفجر
عملاء
الملايين على الجوع تنام ،
وعلى الخوف تنام ،
وعلى الصمت تنام ،
والملايين التي تصرف من جيب النيام ،
تتهاوى فوقهم سيل بنادق ،
ومشانق ،
وقرارات اتهام ،
كلما نادو بتقطيع ذراعي كل سارق ،
وبتوفير الطعام ؛
عرضنا يهتك فوق الطرقات ،
وحماة العرض أولاد حرام ،
نهضوا بعد السبات ،
يبسطون البسط الحمراء من فيض دمانا،
تحت أقدام السلام ،
أرضنا تصغر عاما بعد عام ،
وحماة الأرض أبناء السماء ،
عملاء ،
لابهم زلزلة الأرض ولا في وجههم قطرة ماء ،
كلما ضاقت الأرض، أفادونا بتوسيع الكلام ،
حول جدوى القرفصاء ،
وأبادوا بعضنا من أجل تخفيف الزحام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
. هذه الأمة ماتت والسلام
سلاطين بلادي
الأعادي،
يتسلون بتطويع السكاكين ،
وتطبيع الميادين،
وتقطيع بلادي،
وسلاطين بلادي
يتسلون بتضييع الملايين،
وتجويع المساكين،
وتقطيع الأيادي،
ويفوزون إذا ما أخطؤوا الحكم بأجر الإجتهاد ،
عجبا، كيف اكتشفتم آية القطع، ولم تكتشفو رغم العوادي
. آية واحدة من كل آيات الجهاد
زنزانة
صدري أنا زنزانة قضبانها ضلوعي ،
يدهمها المخبر بالهلوع،
يقيس فيها نسبة النقاء في الهواء ،
ونسبة الحمرة في دمائي ،
وبعدما يرى الدخان ساكنا في رئتي، والدم في قلبي كالدموع،
يلومني لأنني مبذر في نعمة الخضوع ،
شكرا طويل العمر إذ أطلت عمر جوعي ،
لو لم تمت كل كريات دمي الحمراء، من قلة الغذاء،
. لانتشل المخبر شيئا من دمي ثم ادعى بأنني شيوعي
بلاد العرب
بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب ،
نبذة عن وطن مغترب ،
تاه في ارض الحضارات من المشرق حتى المغرب ،
باحثا عن دوحة الصدق ولكن عندما كاد يراها حية مدفونة وسط بحار اللهب ،
قرب جثمان النبي ،
مات مشنوقا عليها بحبال الكذب ،
وطن لم يبق من آثاره غير جدار خرب ،
لم تزل لاصقة فيه بقايا من نفايات الشعارات وروث الخطب ،
عاش حزب الـ...، يسقط الخا...، عائدو...، والموت للمغتصب ،
وعلى الهامش سطر ،
أثر ليس له اسم ،
. إنما كان اسمه يوما بلاد العرب
عبد الذات
بنينا من ضحايا أمسنا جسرا ،
وقدمنا ضحايا يومنا نذرا ،
لنلقى في غد نصرا ،
ويممنا إلى المسرى،
وكدنا نبلغ المسرى ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر قتلانا ،
وقلنا إنه أدرى ،
وبعد الصبر ألفينا العدى قد حطموا الجسرا ،
فقمنا نطلب الثأرا ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر آلافا من القتلى،
وآلافا من الجرحى ،
وآلافا من الأسرى ،
وهد الحمل رحم الصبر حتى لم يطق صبرا ،
فأنجب صبرنا صبرا ،
وعبدالذات لم يرجع لنا من أرضنا شبرا،
ولم يضمن لقتلانا بها قبرا ،
ولم يلق العدا في البحر، بل ألقى دمانا وامتطى البحرا،
فسبحان الذي أسرى بعبدالذات من صبرا إلى مصرا،
. وما أسرى به للضفة الأخرى
رقاص الساعة
منذ سنين،
يترنح رقاص الساعة ،
يضرب هامته بيسار، يضرب هامته بيمين ،
والمسكين ، لا أحد يسكن أوجاعه ،
لو يدرك رقاص الساعة، أن الباعة
يعتقدون بأن الدمع رنين ،
وبأن استمرار الرقص دليل الطاعة ،
لتوقف في أول ساعة ،
عن تطويل زمان البؤس، وكشّف عن سكين ،
يارقاص الساعة ،
دعنا نقلب تاريخ الأوقات بهذي القاعة ،
وندجن عصر التدجين ،
ونؤكد إفلاس الباعة ،
قف وتأمل وضعك ساعة ،
لا ترقص، قتلتك الطاعة ،
. قتلتك الطاعة
صفت النية يالبنان ، صفت النية ،
لم نهملك ولكن كنا مختلفين على تحديد الميزانية ،
كم تحتاج من التصفيق؟
ومن الرقصات الشرقية ؟
مامقدار جفاف الريق في التصريحات الثورية ؟
وتداولنا في الأوراق، حتى أذبلها التوريق ،
والحمد له صفت النية ، لم يفضل غير التصفيق ،
وسندرسه ، في ضوء تقارير الوضع بموزمبيق ،
صفت النية ، فتهانينا يالبنان ،
جامعة الدول العرية تهديك سلاما وتحية ،
. تهديك كتيبة ألحان ، ومبادرة أمريكية
Email: ahmedmatar@usa.net
: قالت أمي مرة
يا أولادي عندي لغز من منكم يكشف لي سرة ، ""
تابوت قشرته حلوى،
ساكنه خشب والقشرة "،"
قالت أختي: "التمرة" ،
حضنتها أمي ضاحكة لكني خنقتني العبرة ،
. "قلت لها :" بل تلك بلادي
Email: ahmedmatar@usa.net
أحمَد مَطَر
إنّى المشنوق أعْلاه
المُوجزْ
ليسَ فى النّاسِ أمانْ .
ليسَ للنّاسِ أمانْ .
نِصفُهم يَعْملُ شرطّياً لدى الحاكمِ
. . و النصفُ مُدانْ !
أحمد مطر
ما قبل البدَاية
كنتُ فى (الرَحْمِ) حزيناً
دونَ أن أعرفَ للأحزانِ أدنى سببِ !
لَمْ أكنْ أعرفُ جنسيَّةَ أُمّى
لَمْ أكنْ أعرفُ ما دينُ أبى
لَمْ أكنْ أعلمُ أنّى عَرَبى !
آهِ .. لو كنتُ على عِلْمٍ بأمرى
كُنْتُ قَطَّعْتُ بنفسى (حَبْلَ سِرّى)
كُنتُ نَفَّسْتُ بنفسى و بأُمّى غَضَبى
خَوفَ أن تَمْخُضَ بى
خَوفَ أن تقذفَ بى فى الوطنِ المغتربِ
خَوفَ أن تحبلَ من بَعْدى بغيرى
ثُمَّ يغدو - دونَ ذنبٍ -
عربيّاً .. فى بلادِ العَرَبِ !
علامة الموت
يَومَ ميلادى
تَعَلَّقْتُ بأجراسِ البُكاءْ
فأفاقَتْ حُزَمُ الوردِ , على صوتى ,
وفَزَّتْ فى ظَلامِ البيتِ أسرابُ الضِياءْ
وتداعى الأصدقاءْ
يَتَقَصَّونَ الخَبْر .
ثُمَّ لَّما عَلِموا أنّى ذَكَرْ
أجهشوا .. بالضحك ,
قالوا لأبى ساعةَ تقديمِ التهانى :
يا لها من كبرياء
صوتُهُ جاوزَ أعنان السَماءْ .
عَظَّمَ اللهُ لكَ الأجر
على قَدْرِ البَلاءْ !
الختان
ألبسونى بُردَةً شَفّافَةً
يَومَ الخِتانْ .
ثُمَّ كانْ
بَدءُ تاريخ الهَوانْ !
شَفَّتِ البُرْدَةُ عن سِرّى ,
وفى بِضْعِ ثوانْ
ذَبَحوا سِرّى .
و سالَ الدَمُ فى حِجْرى
فقامَ الصوتُ من كُلِّ مكانْ :
ألفَ مبروكٍ
. . وعُقبى لِلِّسانْ !
توبَة
صاحبى كانَ يُصَلِّى
- دونَ ترخيصٍ -
و يتلو بعضَ آياتِ الكتابْ .
كان طفلاً
و لذا لم يَتعرَّضْ للعقابْ .
فلقد عَزَّرَهُ القاضى
. . وَ تابْ !
مرسُوم
نحنُ لسنا فُقَراءْ .
بَلَغَتْ ثَروتُنا مليونَ فَقْرِ
وغدا الفَقْرُ لدى أمثالِنا
وصفاً جديداً للثَّراءْ !
وَحْدَهُ الفقرُ لدينا
كانَ أغنى الأغنياءْ !
* *
بَيتُنا كانَ عراءْ .
و الشبابيكُ هواءٌ قارسٌ
و السقفُ ماءْ !
فشكونا أمرَنا عندَ ولىِّ الأمرِ
فاغتنمَّ
و نادى الخبراءْ
و جميعَ الوزراءْ
و أُقيمت نَدوةٌ واسعةٌ
نُوقِشَ فيها وَضْعُ (إيرْلَندا)
و أنفُ (الجيوكندا)
و فَساتينُ (أميلدا)
و قضايا (هونو لولو)
و بطولاتُ جيوش الحُلفاء !
ثُمَّ بَعدَ الأخذِ و الرّدِّ
صباحاً و مساءْ
أصدر الحاكمُ مرسوماً
بإلغاءِ الشتاءْ !
ملحوظَة
تَركَ اللّصُ لنا ملحوظةً
فوقَ الَحصير
جاءَ فيها :
لَعَن الله الأمير
لم يَدَع شيئاً لنا نَسرقهُ
. .. إلاّ الشَخيرْ !
الرّحمة فوق القَانونْ
ذاتَ يومٍ
رقَصَ الشعبُ وغَنّى
واحتسى بَهجَتَهُ حتّى الثمالَةْ
إذ رأى أوَّل حالَة
تَنْعم ُالبلدةُ فيها بالعدالَةْ :
زَعَموا أنَّ فتًى سبَّ نِعالَهْ
فأحالوهُ إلى القاضى
ولم يُعْدَمْ
بدعوى شَتْمِ أصحابِ الجلالَةْ !
تبْليط !
رَصَفوا البَلْدةَ ، يوماً ،
بالبَلاط
ثُمَّ لمّا وضعوا فيهِ الِملاط
مَنَعوا أىَّ نَشاطْ
فالتزمْنا الدورَ
حتّى يتأتّى للمُلاطْ
زمَنٌ كافٍ لكى يَلصُقَ جِدّاً
بالبِلاطْ!
مجهُود حَربى
لأبى كانَ مَعاشٌ
هو أدنى من معاشِ المَيِّتيْن !
نِصفُهُ يَذهَبُ للدَّينِ
وما يَبقى
لِغوثِ اللاّجئينْ
ولتحريرِ فلسطينَ من المُغتَصبِين .
وعلى مَرِّ السنين
كانَ يزدادُ ثَراءُ الثائرينْ !
والثرى ينقصُ من حينٍ لحينْ
وسُيوفُ الفتحِ تَندقُّ إلى المقبضِ
فى أدبارِ جيشِ ( الفاتحينْ )
فَتَلِين
ثُمَّ تَنحَلُّ إلى أغصانِ زيتونٍ
وتَنحَلُّ إلى أوراقِ تينْ
تتدلّى أسفلَ البطنِ
وفى أعلى الجبَينْ !
وأخيراً قَبِلَ الناقِصُ بالتقسيمِ
فانشقَّتْ فَلَسطينُ إلى شقّينِ :
للثوّارِ : فَلْسٌ
ولإسرائيلَ : طِينْ !
وأبى الحافى المَدينْ
أبىَ المغصوبُ من أخمصِ رجليهِ
إلى حبل الوَتينْ
ظَلَّ - لايدرى لماذا -
وَحْدَهُ
يَقبضُ باليُسرى ويُلْقى باليَمين ْ
نفقاتِ الحربِ والغوثِ
بأيدى الخلفاءِ الشاردينْ !
بَدائل
فَتَحَتْ شُبّاكَها جارَتُنا .
فَتَحَتْ قلبى أنا
لمَحْةٌ ..
واندلعتْ نافورةُ الشمسِ
وغاصَ الغدُ فى الأمسِ
وقامتْ ضجّةٌ صامتةٌ ما بينَنا !
لَمْ نَقُلْ شيئاً..
وقُلنا كُلَّ شئٍ عِندنا !
* *
يا أباها المؤمنا
سالتِ النارُ من الشُبّاكِ
فافتحْ جَنَّةَ البابِ لَنا
يا أباها إنّنا ..
لَستُم على مذهبِنا .
لكنّنا ...
لَستُم ذوى جاهٍ
ولا أهلَ غِنَى .
لكنّنا ...
لَستُم تَليقونَ بِنا .
لكنّنا ..
شَرَّفتنَا !
* * *
أُغلقَ البابُ ..
وظَلَّتْ فتحةُ الشُبَّاكِ جُرْحاً فاغِراً
يَنزفُ أشلاءَ مُنى
وخيالاتِ انتحارٍ
ومواعيدَ زِنى !
جَدليَّة
كانَ جارى
مُلْحداً
لكنَّهُ يُؤمِنُ جداً
بأبى ذَرِّ الغِفارى .
ويَرى أنَّ الغِفارى
"بروليتارىْ" !
رائدٌ للاشتراكيَّةِ فى هذى
الصحارى !
كانَ جارى
يَضَعُ الراكِبَ من تحتِ الحمارِ !
قُلتُ : هذا رَجُلٌ آمَنَ باللهِ
وقد جاهَدَ فى اللِه
بأمرِ اللهِ
فى عَصْرِ الغُبارِ
قَبلَ تدليكِ "الديالتكتيكِ"
أو عَصْرِ البخارِ !
قالَ : إنْ صَحَّ وجودُ اللهِ ،
فاللهُ إذَنْ ..
أوَّلُ موجودٍ يَسارى !
العهْد الجَديد
كان حتَّى الإكتِئابْ
غارقاً في الإكتئابْ
فَجميعُ الناسِ في بلدتِنا
بينَ قَتيلٍ ومُصابْ
والّذي ليسَ على جُثَّتهِ بصمةُ ظُفْرٍ
فعلى جُثّتهِ بَصمةُ نابْ
كُلُّنا يحملُ خَتْمَ الدولةِ الرسمىِّ
من تحتِ الثيابْ !
ذاتَ فَجرٍ
مادتِ الأرضُ
وسَادَ الإضطرابْ
واستفزَّ الناسَ من مَرْقَدِهمْ
صوتٌ مُجَنْزَرْ:
( تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ
تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ)
إنقلاب.
تُمْ تِرَمْ تَمْ . . .
وانتهىعَهْدُ الكِلابْ !
بَعْدَ شَهْرٍ
لَمْ نَعُدنخرجُ للشارعِ لَيْلاً .
لَمْ نَعُدْ نَحْمِلُ ظِلاً .
لَمْ نَعُدْ نَمْشي فُرادى .
لَمْ نَعُدْ نَمْلِكُ زادا .
لَمْ نَعُدْ نَفْرحُ بالضيفِ
إذا ما دُقَّ عندَ الفجرِ بابْ
لَمْ يَعُدْ للفجرِ بابْ !
فُصُّ مِلْحِ الصُبحِ
في مُسْتَنقَع الظُلْمةِ ذابْ .
هذهِ الأنجمُ أحْداقٌ
وهذا البَدرُ كَشَّافٌ
وهذي الريحُ سَوطٌ
والسماواتُ نِقابْ !
تُمْ
تِرَمْ
تَمْ
كُلَّنا من آدمٍ نحنُ
وما آدمُ إلاَّ من تُرابْ
فَوقَهُ تَسرحُ .. قِطعانُ الذئابْ!
حَبيبُ الشَعبْ
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ
أينَما سِرْنا نراهْ !
في المقاهي
في الملاهي
في الوزاراتِ
وفي الحاراتِ
وا لبارا تِ
وا لأسوا قِ
وا لتلفازِ
والمسرحِ
والمبغى
وفي ظاهرِ جدران المصحّاتِ
وفي داخلِ دوراتِ المياهْ .
أيَنما سِرْنا نَراهْ !
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتجّاهْ
باسِمٌ
في بَلَدٍ يبكي من القهرِ بُكاهْ !
مُشرقٌ
في بَلدٍ تلهوالليالي في ضُحاهْ !
ناعِمٌ
في بَلدٍ حتى بَلاياهُ
بأنواعِ البلايا مبتلاهْ !
صادحٌ
فى بَلدٍ مُعتَقلِ الصَوتِ .
ومنزوعِ الشِّفَاهْ !
سالمٌ
في بَلدٍ يُعْدَمُ فيهِ الناسُ
بالآلا فِ ، يوميّاً
بدعوى الإشتباهْ .
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ ؟
نِعمةٌ منهُ عَلَينا
إذْ نَرى ، حين نراهْ ،
أنَّهُ لَمَّا يَزَلْ حَيَّاً
. . وما زِلنا على قيدِ الَحياهْ !
إصلاح زراعى !
قرَّرَ الحاكِمُ إصلاحَ الزراعَةْ .
عُيِّنَ الفَلاَّحُ شُرطيَ مُرورٍ ،
وابنةُ الفلاَّحِ بيّاعةَ فولٍ ،
وابنهُ نادِلَ مقهى
في نقاباتِ الصناعَةْ !
وأخيرأ
عُيِّنَ المحراثُ في القِسمِ الفُولوكْلوريِّ
والثورُ. . مُديرأ للإذاعَهْ !
قَفْزةٌ نَوعيَّةٌ في الإقتصادْ
أصبحتْ بَلدتُنا الأولى
بتصديرِ الجَرادْ
وبإنتاجِ المجاعةْ !
صَاحِبَة الجهَالة
مَرَّةً ، فَكَّرتُ في نَشْرِ مَقالْ
عن مآسي الإحتلالْ
عن دفاعِ الحجرِ الأعزلِ ،
عن مِدفَعِ أربابِ النِضالْ !
وعن الطِفل الذي يُحرَقُ في الثورةِ
كي يَغرَقَ في الثروةِ ، أشباهُ الرّجالْ !
قَلَّبِ المسؤولُ أوراقي ، وقالْ :
إجتَنِبْ أىَّ عباراتٍ تُثيرُ الإنفعالْ .
مَثَلاً:
خَفِّفْ (ماسي )
لِمَ لا تَكْتُبُ ( ماسي ) ؟
أو ( مُوا سي ) ؟
أو ( أ ما سي ) ؟
شَكْلُها الحاضِرُ إحراجٌ لأصحابِ الكراسي !
إحْذِفْ ( الأعْزَلَ ) . .
فالأعْزَلَ تحريضٌ على عَزْلِ السلاطيِن
وتعريضٌ بِخَطِّ الإنعزالْ !
إحْذِ فِ ( المِد فعَ ) . .
كي تدفعَ عنكَ الاعتقالْ .
نحنُ في مرحلةِ السِّلمِ
وَقَدْ حُرِّمَ فى السِّلْمِ القِتالْ
إحْذِفِ ( الأربا بَ )
لا ربَّ سوى اللهِ العظيم المُتَعالْ !
إحذِفِ (ا لطِفلَ ) . .
فلا يحَسُنُ خَلْطُ الجِدِّ في لُعْبِ العِيالْ !
إحذ فِ ( الثورةَ )
فالأوطانُ في افضلِ حالْ !
إحذفِ ( الثروةَ ) و ( الأ شباهَ )
ما كُلُّ الذي يُعْرفُ ، يا هذا ، يُقالْ !
قُلتُ : إنيِّ لَستُ إبليسَ
وأنتمْ لا يُجاريكم سوى إبليس
في هذا المجالْ .
قالَ لي : كانَ هُنا . .
لكنّهُ لم يتأقلَمْ
فاستقالْ !
المُعْجِزَة
ماتَ خالي !
هكذا ! !
دونَ اغتيالِ !
دونَ أن يُشنَقَ سهواً !
دونَ أن يسقطَ ، بالصدفةِ ، مسموماً
خلالَ الإِعتقالِ !
ماتَ خالي
ميتةً أغربَ مِمّا في الخيالِ !
أسْلَمَ الروحَ لعزرائيلَ سِرّاً
ومضى حُرّاً . . محاطاً بالأمانِ !
فدفنّاهُ
وعُدْنا نَتَلقّى فيهِ من أصحابِنا
. . أسمى التهاني !
المُنشَقّ!
أكثرُ الأشياءِ في بَلدتِنا
الأحزا بُ
والفقرُ
وحالاتُ الطلاقِ .
عِندَنا عَشْرةُ أحزابٍ وَنِصفُ الحِزبِ
فى كُلِّ زُقاقِ !
كلُّها يَسعى الى نَبْذِ الشِّقاقِ !
كلُّها يَنشَقُّ في الساعةِ شَقّينِ
وَيَنشقُّ على الشَّقّينِ شقّانِ
وَيَنشقّانِ عن شَقَّيْهما . .
من أجلِ تحقيقِ الوفاقِ !
جَمَراتٌ تتهاوى شَرَراً
وَالبَردُ باقِ
ثُمَّ لايبقى لها
إلاَّ رَمَادُ الإحتراقِ !
* *
لم يَعُدْ عندي رفيقٌ
رُغْمَ أنَّ البلدَةَ اكتظَّتْ
بآلافِ الرفاقِ !
وَلِذ ا
شَكَّلتُ من نَفسيَ حِزباً
ثُمّ انيّ
- مثلَ كلِّ الناسِ -
أعلنتُ عن الحزبِ انشقاقي !
الجريمة وَالعِقْاب
مَرَّةً ، قالَ أبي :
إنَّ الذُباب
لا يُعابْ .
إنَّهُ أفضَلُ مِنَّا
فَهوَ لا يقبَلُ مَنَّا
وهوَ لا ينكِصُ جُبْنا
وهوَ إنْ لم يلقَ ما يأكُلُ
يَستَوفِ الحسابْ
يُنشِبُ الأرجُلَ في الأرجُلِ
والأعيُنِ
والأيدي
وَيجتاحُ الرِّقَابْ .
فَلَهُ الجِلْدُ سِماطٌ
وَدَمُ الناسِ شَرابْ !
* *
مَرَّةً قالَ أبي . . .
لكنَّهُ قالَ وغابْ .
وَلقد طالَ الغيابْ !
* *
قيلَ لي انَّ أبي ماتَ غريقاً
في السَرابْ !
قيلَ : بلْ ماتَ بداءِ ( التراخوما ) !
قيلَ : جَرَّاءَ اصطدامٍ
بالضبابْ !
قيلَ ما قيلَ ، وما اكثرَما قيلَ
فراجَعنا أطبّاءَ الحكومَة
فأفادوا أنّها ليستْ ملومَة
ورأوا أنَّ أبى
أهلكَهُ "حَبُ الشَبابْ " !"
الغَريبْ
كّلُّ ما في بلدتي
يَملأُ قلبي بالكَمَدْ .
بَلدتي غُربةُ روحٍ وجَسَدْ
غربةٌ من غيِر حَدّْ
غربةٌ فيها الملايينُ
وما فيها أحَدْ .
غربةٌ موصولةٌ
تبدأُ في المهْدِ
ولا عودةَ منها . . للأبدْ !
شِئتُ أن أغتالَ مَوتى
فَتسلّحتُ بِصوتي :
أيُّها الشِعرُ لقد طالَ الأمَدْ
أهلَكَتنْي غُربتي ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فكُنْ أنتَ البَلَدْ .
نَجِّني من بلدةٍ لا صوتَ يَغشاها
سوى صوتَ السكوتْ !
أهلُها موتى يخافونَ المنايا
والقبورُ انتشرتْ فيها على شَكْلِ بُيوتْ
ماتَ حتّى الموتُ
. . والحاكمُ فيها لا يموتْ !
ذُرَّ صوتي ، أيُّها الشِعرُ ، بُروقاً
في مفازات ِالرَمَدْ .
صُبَّهُ رعداً على الصمتِ
ونارأ فى شرايينِ الَبَرْد .
ألقِهِ أفعى
الى أفئدةِ الحُكّاِم تسعى
وافلِقِ البحرَ
وأطبِقْةُ على نَحْرِ الأساطيلِ
وأعناقِ المساطيلِ
وَطَهِّرْ من بقاياهُم قَذاراتِ الزَبَذْ .
إنَّ فرعونَ طغى ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فأيقِظْ من رَقَدْ .
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ .
قالَها الشِعرُ
وَمَدَّ الصوتَ ، والصوتُ نَفَذْ
وأتى من بَعْد بَعدْ
واهنَ الروحِ مُحاطأ بالرَصَدْ
فوقَ أشداقِ دراويشٍ
يَمُدُّونَ صدى صوتى على نحريَ
حبلاًمن مَسَدْ
ويصيحونَ "مَدَ ْد"
مَا بَعد النهَاية
إنَّني المشنوقُ أعلاهُ
على حبلِ القوافى
خُنتُ خوفي وارتجافي
وتَعرَّيتُ من الزيفِ
وأعلنتُ عن العهْرِ انحرافى .
وأرتكبتُ الصِدقَ كيْ أكتُبَ شِعرا
واقترفتُ الشِعرَكَيْ أكتُبَ فجرا
وَتَمَرَّدتُ على أنظمةِ خَرفى
وحُكامٍ خِرافِ .
وعلى ذلِكَ . .
وَقَّعْتُ اعترافى!
ياقدس يا سيدتي معذرة فليس لي يدان ،
وليس لي أسلحة وليس لي ميدان ،
كل الذي أملكه لسان ،
والنطق ياسيدتي أسعاره باهضة، والموت بالمجان ،
سيدتي أحرجتني، فالعمر سعر كلمة واحدة وليس لي عمران ،
أقول نصف كلمة ، ولعنة الله على وسوسة الشيطان ،
جاءت إليك لجنة، تبيض لجنتين،
تفقسان بعد جولتين عن ثمان ،
وبالرفاء والبنين تكثر اللجان ،
ويسحق الصبر على أعصابه ،
ويرتدي قميصه عثمان ،
سيدتي، حي على اللجان ،
. حي على اللجان
Email: ahmedmatar@usa.net
منذ سنين،
يترنح رقاص الساعة ،
يضرب هامته بيسار، يضرب هامته بيمين ،
والمسكين ، لا أحد يسكن أوجاعه ،
لو يدرك رقاص الساعة، أن الباعة
يعتقدون بأن الدمع رنين ،
وبأن استمرار الرقص دليل الطاعة ،
لتوقف في أول ساعة ،
عن تطويل زمان البؤس، وكشّف عن سكين ،
يارقاص الساعة ،
دعنا نقلب تاريخ الأوقات بهذي القاعة ،
وندجن عصر التدجين ،
ونؤكد إفلاس الباعة ،
قف وتأمل وضعك ساعة ،
لا ترقص، قتلتك الطاعة ،
. قتلتك الطاعة
Email: ahmedmatar@usa.net
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وكل الدروب إليها سدى ،
والخطى مستعارة ،
فما بيننا ألف باب وباب ،
عليها كلاب الكلاب ،
تشم الظنون، وتسمع صمت الإشارة ،
وتقطع وقت الفراغ بقطع الرقاب ،
فكيف سأمضي لقصدي وهم يطلقون الكلاب ،
على كل درب وهم يربطون الحجارة ؛
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وما زلت أجهل دربي لبيتي ،
وأعطي عظيم اعتباري لأدني عبارة ،
لأن لساني حصاني كما علموني ،
وأن حصاني شديد الإثارة ،
وأن الإثارة ليست شطارة ،
وأن الشطارة في ربط رأسي بصمتي ،
وربط حصاني على باب تلك السفارة ،
. وتلك السفارة
Email: ahmedmatar@usa.net
اسمعوني قبل أن تفتقدوني ياجماعة ،
لست كذابا فما كان أبي حزبا ولا أمي إذاعة ،
كل ما في الأمر أن العبد صلى مفردا بالأمس في القدس،
. ولكن الجماعة سيصلون جماعة
Email: ahmedmatar@usa.net
الأعادي،
يتسلون بتطويع السكاكين ،
وتطبيع الميادين،
وتقطيع بلادي،
وسلاطين بلادي
يتسلون بتضييع الملايين،
وتجويع المساكين،
وتقطيع الأيادي،
ويفوزون إذا ما أخطؤوا الحكم بأجر الإجتهاد ،
عجبا، كيف اكتشفتم آية القطع، ولم تكتشفو رغم العوادي
. آية واحدة من كل آيات الجهاد
Email: ahmedmatar@usa.net
من بعد طول الضرب والحبس ،
والفحص ، والتدقيق ، والجس ،
والبحث في أمتعتي ، والبحث في جسمي، وفي نفسي ،
لم يعثر الجند على قصيدتي، فغادروا من شدة اليأس ،
لكن كلبا ماكرا أخبرهم بأنني أحمل أشعاري في ذاكرتي،
فأطلق الجند شراح جثتي وصادروا رأسي ،
تقول لي والدتي : "ياولدي ، إن شئت أن تنجو من النحس،"
وأن تكون شاعرا محترم الحس ،
. "سبح لرب العرش ، واقرأ آية الكرسي"
Email: ahmedmatar@usa.net
وضعوني في إناء ،
ثم قالو لي تأقلم ،
وأنا لست بماء ،
أنا من طين السماء ،
أنا من روح السماء ،
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم ،
خيروني بين موت وبقاء ،
بين أن أرقص فوق الحبل، أو أرقص تحت الحبل ،
فاخترت البقاء : قلت أعدم ،
قلت أعدم ،
فاخنقو بالحبل صوت الببغاء ،
. وأمدوني بصمت أبدي يتكلم
Email: ahmedmatar@usa.net
كنت أسير مفردا أحمل أفكاري معي ،
ومنطقي ومسمعي ،
فازدحمت من حولي الوجوه ،
قال لهم زعيمهم خذوه ،
سألتهم ماتهمتي ؟
. "فقيل لي:" تجمع مشبوه
Email: ahmedmatar@usa.net
الملايين على الجوع تنام ،
وعلى الخوف تنام ،
وعلى الصمت تنام ،
والملايين التي تصرف من جيب النيام ،
تتهاوى فوقهم سيل بنادق ،
ومشانق ،
وقرارات اتهام ،
كلما نادو بتقطيع ذراعي كل سارق ،
وبتوفير الطعام ؛
عرضنا يهتك فوق الطرقات ،
وحماة العرض أولاد حرام ،
نهضوا بعد السبات ،
يبسطون البسط الحمراء من فيض دمانا،
تحت أقدام السلام ،
أرضنا تصغر عاما بعد عام ،
وحماة الأرض أبناء السماء ،
عملاء ،
لابهم زلزلة الأرض ولا في وجههم قطرة ماء ،
كلما ضاقت الأرض، أفادونا بتوسيع الكلام ،
حول جدوى القرفصاء ،
وأبادوا بعضنا من أجل تخفيف الزحام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
. هذه الأمة ماتت والسلام
Email: ahmedmatar@usa.net
لافتات مطرية
شاعر المنفى
: مرحباً بكم في صفحة شاعر الشعوب العربية
أحمد مطر
قصائد أحمد مطر
ما أصعب الكلام: قصيدة إلى ناجي العلي
لص بلادي
طاغوتية
عفو عام
جاهلية
الأبكم
الممثلون
منفيون
أبا العوائد
المخبر
انتفاضة
الحارس السجين
انحناء السمبلة
آية النسف
سواسية
لا نامت عين الجبناء
بطولة
شطرنج
عباس
أمير المخبرين
اللاعبان
فصيحنا
رقاص الساعة
عبدالذات
بلاد العرب
زنزانة
سلاطين بلادي
عملاء
حلم
كلب الوالي
كلمات فوق الخرائب
أصنام البشر
على باب الشعر
التهمة
ثورة الطين
بين يدي القدس
اللغز
لبنان الجريح
شعراء البلاط
عزف على القانون
ورثة إبليس
بيت وعشرون راية
حجة سخيفة
صلاة الجماعة
سفارة
لاسياسة
حي على الجماد
عائدون
عصر العصر والسحق
الجثة
دمعة على جثمان الحرية
زمن الحمير
الأضحية
السلطان الرجيم
قلة أدب
الثور والحضيرة
عقوبات شرعية
احتمالات
بدعة
Sign My Guestbook
View My Guestbook
Email: ahmedmatar@usa.net
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة ،
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة ،
صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه ،
".وقال :" إني راحل، ماعاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه
ودارت الأدوار فوق أوجه قاسية، تعدلها من تحتكم ليونة ،
فكلما نام العدو بينكم رحتم تقرعونه ،
لكنكم تجرون ألف قرعة لمن ينام دونه ،
وغاية الخشونة،
أن تندبو : "قم ياصلاح الدين ، قم" ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة ،
كم مرة في العام توقظونه ،
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه ،
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة ،
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمو سكونه ،
. لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه
Email: ahmedmatar@usa.net
صدري أنا زنزانة قضبانها ضلوعي ،
يدهمها المخبر بالهلوع،
يقيس فيها نسبة النقاء في الهواء ،
ونسبة الحمرة في دمائي ،
وبعدما يرى الدخان ساكنا في رئتي، والدم في قلبي كالدموع،
يلومني لأنني مبذر في نعمة الخضوع ،
شكرا طويل العمر إذ أطلت عمر جوعي ،
لو لم تمت كل كريات دمي الحمراء، من قلة الغذاء،
. لانتشل المخبر شيئا من دمي ثم ادعى بأنني شيوعي
Email: ahmedmatar@usa.net
المجلد (2)
الصفحة (1)
مقالات
(أدبيات أحمد مطير غير الشعرية)
- الدودة والعلف
- (بلا عنوان)
- مرشح رئاسي
- لوحة سريالية
- الأمن مُستتب!
- كل الطرق تؤدي إلي قبرص!
- القصّة المظلومة
- هتلر
- فروض الواجب
- الشيخ العرياني!
- العصا والِهراوة
- رقابة ذاتية!
- التّهمة!
- لاعزاء للسيّئات!
- الوليمة
- النفط .. مقابل البغاء!
- مفتي الهلال!
- إسلام أَباد!
- قلب كبير
- دوائر
- الأزاليا الحمراء (1/ 3)
- الأزاليا الحمراء (2/ 3)
- الأزاليا الحمراء 3/ 3
- خط بين نقطتين
- سوق الخطف
- في خدمة السّيرك
- أوراق من مفكّرة عاقل!
- شرف سعيد أفندي
- ساعة شيطان (مرافعة خصاونيّة)
- بلاد الأربعة!
- العَمي
- تخليص الإبريز
- الرّجل التّصويري!
- صدقات
- ثلج
- المنبوذ
- المرأة علي السُّلَّم
- الحكيم الأخضر
- أصدقاء رائعون
- الوهم
- الأخ الأكبر .. إلي الأبد!
- جامعة الأصفار
- من أين يبدأ مسعود؟
- أصل وصورة
- منبع الخوف
- عكس السَّير
- قائد الطيّارة الورقيّة
- مداواة الحنين
- الصّادر .. والوارد
- ثقافة الإرهاب
- هدّية للضمير المستتر
- بدايات خالدة
- الإنجليز يتمرغون بتراب الميري
- أفلام أصيلة
- لا تأكل فيلاً!
- كانت لدينا مواسم للمشمش
- تحيا مصر
- لا توجد أدلة!
- الشيخ عبد يؤبن!
- استطلاعات
- أين هي القِربة؟!
- أرزقنا مقاومة غير شريفة!
- الرّجل الموسوعة!
- منهج في الانتحال!
- المسيسبّي!
- المحروم!
- دور المُخيَّلة
- نطاق الشَّفَق
- مشكلة .. في جميع أحواله!
- الهاربان!
- قَها .. قَها!
- ترام بجنيهين!
- مَشارط وأقلام
- ولو في الصّين ... !
- للكتب أرواح!
- رواية تنعي كاتبتها!
- يا خالق الجرادة!
- العهد الزّاهر!
- بالمشمش (1 - 3) (رجل الأمن)
- بالمشمش (2/ 3) (رجل الرّقابة)
- بالمشمش 3/ 3 (رجل السّلطة)
- تمّت الموافقة
- كتب مشاكسة!
- البطة التي ماتت من الضحك
- الموت لنا
- لغة الاضداد!
- البحث عن الذات
- فلم واقعي
- وجه
- يحدث في بلادنا
- قضية دعبول
- ما بعد الزوال
- مكان شاغر على القمة
- نوع العقوبة
- مابين خفقٍ في الفؤاد .. وكلمة فوق اللسان ..
الدّودة والعلف
الطغيان دودة.
أين توجد هذه الدودة؟
آخر المعلومات تفيد أنها توجد فقط في أعماق كل نفس بشرية.
العمر التقريبي لهذه الدودة يحسب بالدقائق، لكنها فور حصولها علي العلف، تتحول إلي بقرة أو فيل أو ربما كرة أرضية!
أين يوجد هذا العلف؟
المعلومات المتوفرة حتي الآن تقول إنه محصور فقط في كل نفس بشرية.
بعبارة موجزة: إنّ دودة الطاغية متجانسة مع دودة الخنوع لدي جماهير الشعب العظيم.
لا ذنب للطاغية سوي دودته، الذنب كل الذنب في منتجي أعلافها، المتطوعين للخنوع، والمبالغين في الخنوع، والمبالغين في المبالغة.
ماذا يمكن للطاغية أن يكون؟ ديناصوراً؟
حتي الديناصورات انقرضت حين لم تجد العلف.
من فرعنك يا فرعون؟
من حق فرعون أن يتساءل أيضاً: ألكم عين لتسألوني مثل هذا السؤال، بعد أن فتقتم دودتي من فرط التخمة؟!
قال الشاعر القديم .. ابن القديمة:
(ما شئت لا ما شاءت الأقدارُ
فاحكمْ، فأنت الواحد القهار)!
أعطه يا غلام ألف درهم.
ألف درهم يا غبي؟ كل هذه المعلبات الكافية لإطعام مليون دودة .. نظير ألف درهم فقط؟!
احتاج الشاعر الغبي بضعة قرون حتّي يتعلّم بعض قواعد الاقتصاد .. لكنّه لم يستطع برغم ذلك أن يبالغ في مطالبه لأن الدودة قد تحولت إلي دبّابة وصار غاية ما يعطيه (الغلام) هو نعمة البقاء علي قيد الحياة.
(لولاك يا محقان ما طلع القمر
لولاك يا محقان ما هطل المطر
لولاك يا محقان ما نبت الشجر
لولاك يا محقان .. ما خُلقَ البشر).
خلاصة القول ان الهدف المقدّس من خلق والدنا آدم - رحمة اللَّه عليه - هو إطعام دودة محقان!
ولمَ لا؟ هنيئا وعافية.
وأتدهشنا دودة محقان، ولا يُدهشنا أنّ في الشاعر دودة؟! عندما غضب محقان الموقر علي بائع العلف، صاح بصوته الجهوري: يا غلام .. اقطع لسانه.
ما الفائدة؟ أبعدَ استهلاك العلف؟
كان عمّنا (المتنبي) لا يتذكّر (كافور) إلاّ وتفيض خياشيمه برائحة المسك. دخل مصر فلم يرَ فيها شحّاذاً ولا كسيحاً ولا مظلوماً.
معه حق: رائحة المسك تُسكر. هل يستطيع أن يري والمسك واقف في عينيه قال:
(أبوالمسك لايفَني بذنبك عَفوهُ
ولكنه يفني بعذرك حقدُهُ)
وبنظرة سريعة إلي طبيعة هذا العلف، يجوز لنا أن نعتبر دودة كافور أُمّا للمسك!
هل نمسك الخشب؟ ليس ضرورياً، أصابت العين، وانكشف الحسد.
أغلب الظن أن دودة كافور - برغم انتفاخها ما شاء الله- لم تشكر النعمة.
يا غلام ... أعطه أُذنا صمّاء
أهكذا؟ اسمع إذن:
(وتعجبني رِجلاكَ في النَّعلِ، إنّني رأيتُك ذا نعلٍ إذا كُنت حافيا).
تعجّب عمّنا، هذه المرّة. لأن (كافور) يلبس حذاءً .. إذ كيف يجوز هذا ورِجل كافور نفسها حذاء؟!
أمّا نحن فنعتقد أنه نفس الحذاء الذي ركل عمّنا علي قفاه!
ما الفائدة؟ أبعد استهلاك العلف؟
مرّة استوقف قاطع طريق رجلاً وامرأته.
قال للزوج: أذبحكما، أو ترقص لي زوجتك.
قال الزوج: ارقصي وخلّصينا.
رقصت الزوجة ساعة، وعفا عنهما قاطع الطريق.
قال الزوج بعد هذا: لماذا فعلتِ ما فعلتِ؟
أجابته مندهشة: أنت أمرتني بذلك!
قال لها: أردتك أن تخلّصينا، لا أن تنافسي سهير زكي!
كان هناك رجل اسمه طالب عاش في مطلع هذا القرن في بلاد واق الواق. قيل إنه فكر بترشيح نفسه لمنصب الحاكم، وانطلق يزور المناطق باذلاً المال لاستجماع الأنصار. فماذا حصل؟
كادت دودته الناشئة تموت من ثقل الوجبة.
أول طبق مقبّلات قدمته الجماهير العظيمة كان عبارة عن أهزوجة تقول:
(ثلث للَّه وثلثين لطالب وثلث اللَّه يطالب بيه طالب)!
السؤال الذي يطرح نفسه: هل كان بمقدور الشيطان الرجيم أن يأتي بمثل هذه الأهزوجة؟
والسؤال الذي يجمع نفسه: ماذا لو أنّ طالب نال المنصب، فاستولي علي الثلث الباقي؟ أين يذهب اللَّه؟!
والسؤال الذي يضرب نفسه علي عجيزته: ما ذنب الدودة؟!
قيل إنّ أحد الولاة كان لديه جمل يحبّه جداً، وكان يطلقه في الأسواق، فيعبث ويدمر كما يحلو له، طرداً للكآبة والضجر، حتّي ضاق به الناس ذرعاً، وعقدوا العزم علي شكايته للوالي.
اجتمع التجار وانتخبوا خمسين رجلاً من ذوي الرأي والشجاعة، وأرسلوهم إلي قصر الوالي لعرض الشكوي.
بعد دقائق من مسير الوفد تملّص ثلاثة. وفي منتصف الطريق كان الوفد قد أصبح ثلاثين رجلاً، وعند الوصول كانوا خمسة!
صاح رئيس الوفد: يا حضرة الوالي المعظّم ..
أطلّ الوالي من شرفة القصر: نعم .. ماذا تريد؟
التفت الرجل فلم يجد من جماعته سوي اثنين.
قال: جملكم، يا حضرة الوالي المعظّم ..
تساءل الوالي: جمّولي؟ ماذا جري لجمّولي؟!
التفت الرجل فلم يجد صاحبيه!
حينئذ قال: جمّولي مسكين يا حضرة الوالي. لا نراه إلا حزيناً وساهماً. إنها الوحدة قاتلها اللَّه. جمّولي يحتاج إلي ناقة تؤنس وحشته. أما آن الأوان لأن تزوجوه؟
يا غلام .. أعطه خمسين قُبلة.
أما جماهير أمتنا العظيمة .. فيا غلام أعطها مليار دودة!
(بلا عنوان)
ما ان تحلّ العطلة الصيفية، حتي يبدأ دوامنا، أنا وصديقي ناصر، في المكتبة العامّة بمحلّة الجمهورية.
لم نكن أنهينا الابتدائية، وكان ولعنا هذا بزيارة المكتبة مثار غيظ وسخرية أقراننا، لكنّنا ألفنا أن نتقبّل سخريتهم باعتبارها ثمناً معقولاً لما نستثيره فيهم من غيظ.
كنّا نمكث في المكتبة حتي الظهر، لنغادرها علي طريق طويل مترب إلي بيت ناصر في الموفقّية، أو نواصل حتي بيتنا في الأصمعي، فنتغدّي ونعبث أو نغفو قليلاً، ثم نعود عصراً إلي قطع الطريق ثانية إلي المكتبة.
وفي واحدة من أوباتنا، حيث كانت شمس الظهيرة تنفخ اللّهب في تراب الطريق، لاح لنا علي بُعد عشرات الأمتار بريق ساطع يخطف البصر، سرعان ما تبيّن لنا أنّه انعكاس ضوء الشمس علي زجاجة ساعة يد أنيقة تتوسّد التراب.
في تلك الأيام، كان العثور علي مثل هذه اللّقية بمثابة العثور علي كنز، فأقلّ ثمن لتلك الساعة كان يعادل ثلاثة أضعاف مصروفنا نحن الاثنين طيلة عام كامل!.
صاح ناصر مبهوراً، وهو يهّم بالهرولة نحوها:
- ساعة!.
قلت له وأنا أجذبه بلطف:
- علي مهلك .. لقد رأيتها أنا أيضاً.
التفت إليّ ووجهه محتقن من فرط التأثّر:
- لم أكن أنوي الاستئثار بها ..
قصّرت خطواتي وأجبرته علي مجاراتي في البطء، وهمست في أذنه:
- ليس عندي شك في سلامة نيّتك .. لكنني لا أستطيع الثقة في نيّات الآخرين، خاصة أولئك الغرباء الذين لم نتشرف برؤيتهم من قبل.
لهث ناصر متأثراً، فيما كنّا نقترب حثيثاً من الساعة:
- ما دخل الغرباء في هذا؟
لم ألتفت إليه، لكنني ابتسمت قائلاً:
- يا ناصر .. لم نألف أن تمطر سماؤنا ساعات أنيقة، خاصّة أننا خارج موسم الأمطار: أمّا من يملك ساعة كهذه، في محلّة متربة كهذه، فأنا علي يقين من أنّه سيربطها حول عنقه بالسلاسل ويعضّ عليها بأسنانه، ويسهر طول الليل علي حراستها، وقد يفقد أمّه وأباه ببساطة، لكنّ من المستحيل أن يفقدها.
ولكي أخرجه من دائرة الألغاز، همست له:
- انظر بعفوية إلي جانبي الطريق، وقل لي .. ألا تري أحداً جالساً هناك؟
رفع بصره إلي السماء الحارقة، ثم خفضه ومشّط جانبي الطريق بلا تكلّف .. وهمس:
- هناك أربعة شبّان علي الجانب الأيمن، يجلسون مستندين إلي الحائط.
قلت له بثقة:
- ليس هناك غيرهم علي طول الشارع.
قال ناصر مؤكداً:
- لا أحد غيرهم. كيف عرفت؟!
أجبته مستفهماً بإنكار:
- هل تعتقد أنّهم قد جلسوا يتشمّسون في هذا الوقت درءاً للبرد القارس؟ إنّهم ينتظروننا يا صاحبي. وأنا سوف لن أُخيّب ظنّهم.
تساءل ناصر:
- ماذا ستفعل؟
قلت له ببرود لا يليق بكرامة الشمس المجتهدة:
- ستري .. كلّ ما عليك هو أن تمشي ببطء.
أصبحنا علي بعد خطوتين من الساعة. قلت لناصر محذّراً:
- إيّاك أن تنحني لالتقاطها.
حملق بي متعجّباً، لكنني صعقته بما هو أعجب، إذ رفعت رجلي عالياً بسرعة خاطفة، ثم هويت بقدمي علي الساعة بكل قوّة، فاستحال زجاجها نثاراً، واندفعت النوابض والتروس من جوفها نحو كلّ الجهات.
وبلمح البصر، خيّمت علينا ظلال الشّبان الأربعة.
كانت عيونهم تقدح بالشّرر، وزأر كبيرهم في وجهي:
- ابن الكلب .. ماذا فعلت بساعتي؟!
قلت له متحامياً ببراءة مصطنعة:
- من كان يدريني أنها ساعتك؟ إنّها ملقاة هنا علي التراب .. لا بد أنها قد وقعت من أحد.
زمجر وهو يرفعها عالياً كمن يرفع جثّة قتيل:
- إنّها ساعتي أنا .. انظر .. إنها مربوطة بخيطي أنا .. كان طرف الخيط المتكوّم في يده مربوطاً بالساعة فعلا .. صرخت به أنا هذه المرّة:
- إذن فقد ربطتها لتجذبها عندما ننحني لالتقاطها؟ أليس كذلك؟ تريد أن تضحك ... ها؟ اضحك الآن حتَي تشبع.
ولأنّه فقد شهيته للضحك، فقد بادر هو والثلاثة الآخرون إلي محاولة استيفاء ثمن الساعة من جسدينا الضئيلين، لكنّنا بعد استيفاء القسط الأوّل، استطعنا أن نتملّص ونطلق سيقاننا للرّيح.
لم يكفّوا عن مطاردتنا إلاّ بعد اقترابنا من بيوت الموفّقية، وعندئذ أبطأنا من سرعتنا، ورحنا، في أثناء لهاثنا، نتحسّس كدماتنا الحارقة .. لكننا سرعان ما طفقنا نضحك.
قلت لناصر:
- لقد خسرنا المعركة .. لكننا كسبنا الحرب.
سألني وهو ما يزال يضحك:
- كيف عرفت أنّه كمين؟!
قلت بلا تردّد:
- لأنني خبير في مثل هذه المعارك .. لقد سبق لي منذ شهور أن ربطت ربع دينار بخيط، ورابطت عند الحائط منتظراً الفريسة.
لم تكن فريسة واحدة. لقد كان هناك ثلاثة شبّان يمشون بكلّ وقار، لكنهم ما ان رأوا الورقة النقدية حتي زال وقارهم كلّه، وانحنوا في وقت واحد، وسقطوا علي الأرض معاً .. إذ أنني وللّه الحمد كنت سريعاً جداً في جذب الخيط.
سألني بذهول:
- ونجوت؟!.
قلت له:
- لا .. طبعاً، لكنّ ربع الدينار نجا. لقد طبّقوا علي جسدي كلّ فنون الضرب، لكنهم لم يستطيعوا مطلقاً أن يفتحوا قبضتي المصرورة علي الورقة.
وأضفت متنّهداً:
- كما تري، فإنني في تلك المرّة أيضاً خسرت المعركة وكسبت الحرب.
قال ناصر وهو يموّج ضحكته:
- نصيحة لوجه اللّه .. حاول أن تخسر بعض الحروب من وقت لآخر، وإلاّ فإنّ انتصاراتك فيها دائماً سوف لن تبقي في جسدك عظماً واحداً يصلح للاستعمال.
مرشّح رئاسي
منذ مائة وخمسة وعشرين عاماً بالضبط، أي في عام،1879 ارتأي الكاتب الأمريكي الساخر (مارك توين) أن يُرشحّ نفسه لمنصب الرئاسة في بلاده. ولم يكن، بالطبع، جادّاً في هذا الأمر، لكنّه أراد الإشارة إلي أنّ الفساد هو جوهر جميع المرشحين لهذا المنصب، وأنّ سرَّ التفاوت بينهم يكمن في كون بعضهم يستخدم مساحيق التجميل بمهارة كافية لطمس ماضيه الأسود!
وعليه فإن النقطة الأساسية التي ارتكز عليها (توين) في خطاب ترشيحه، هي أنه أكثر المرشحين جدارة بالثقة، لأنه أوّل وآخر مرشّح يعلن عن مفاسده منذ البداية!
وفي ما يلي خطاب الترشيح المنشور في كتاب قصصه ومقالاته ضمن سلسلة الكلاسيكيات التي تصدرها دار (بنغوين) :
لقد عقدت النيّة تماماً علي أن أخوض انتخابات الرئّاسة. إنّ ما تحتاجه البلاد هو مرشّح لا يمكن أن تلحق بسمعته لطخة إذا تمّ استقصاء تاريخه الماضي، وذلك لكي لا يتاح لأعداء حزبه أن يستخدموا ضدّه أيّة واقعة لم يكن أحد قد سمع بها من قبل.
إذا كنت تعرف منذ البداية أسوأ الأشياء عن المرشّح، فإنّ أية محاولة لتشويه سمعته سوف تكون فاشلة. إنني، الآن، أدخل الساحة بملف مفتوح. سأعترف مقدماً بكل الأشياء الشريرة التي اقترفتها. وعليه فإذا فكّرتْ أية لجنة في الكونغرس لها موقف عدائي مني، أن تنقّب في سيرتي بأمل العثور علي صنيع أسود ومميت أخفيته، فلتفعل.
في المقام الأوّل أعترف بأنني، في شتاء عام 1850م ألجأت جَدّي المصاب بالروماتيزم إلي تسلّق شجرة. لقد كان عجوزاً وغير حاذق في صعود الأشجار، لكنّني بشخصيتي الوحشية المميّزة جعلته يعدو مسرعاً، بثياب النوم، خارج الباب الأمامي، متحامياً من الخردق الذي كنت أطلقه عليه من بندقيتي، مما ساعده علي أن ينطلق بخفّة ورشاقة إلي قمّة شجرة القَيْقَب، حيث أمضي الليلة كلّها هناك، فيما كنت أسدّد الطلقات نحو ساقيه.
لقد فعلت ذلك لأنه يشخر، وسأعيد الكَرّة لو كان لي جَدّ آخر، فأنا لا أزال أتّصف بالوحشية نفسها التي كانت لي في عام 1850.
اعترف صراحة بأنني هربت من معركة غيتيسبرغ. لقد حاول أصدقائي أن يلطفّوا هذه الحقيقة بتأكيدهم علي أنني فعلت ذلك بهدف محاكاة واشنطن الذي توغّل في الغابة خلال معركة فالي فورغ، من أجل تأدية صلواته. لكنّ هذه كانت حيلة بائسة منهم، لأن السبب في انطلاقي خارج مدار السرطان هو أنني كنت خائفاً. إنني أحب إنقاذ بلادي، لكنني أفضّل أن يتم إنقاذها علي يد شخص آخر. ولا أزال أفضل هذا الخيار حتي الآن.
إذا كان إحراز المرء لفقاعة السمعة الطيبة لا يتم إلا بمواجهة فوهة المدفع، فأنا مستعد للذهاب إلي هناك، علي شرط أن تكون فوهة المدفع فارغة.
أما إذا كانت محشوة بالذخيرة فإن هدفي الخالد الذي لا يمكن تغييره هو أن أقفز فوق السياج وأمضي إلي البيت. أفكاري المالية واضحة الملامح إلي أبعد حدّ، لكنها ليست واعدة، ربما، بزيادة شعبيتي بين المدافعين عن التضخم.
أنا لا أصّر علي التميز الخاص للنقود الورقية أو النقود المعدنية، فالمبدأ الأساسي العظيم في حياتي هو أن أستولي علي أيّ نوع استطيع أن أصل إليه.
الإشاعة التي تقول انني دفنت عمتي الميتة تحت عريشة العنب .. صحيحة.
العريشة كانت تحتاج إلي سماد، وعمّتي كان لابُدّ لها أن تُدفن، وعلي هذا فقد كرّستها لذلك الهدف السّامي. هل في هذا ما يجعلني غير لائق للرئاسة؟ إن دستور بلادنا لا يقول ذلك، وليس هناك مواطن، علي الإطلاق، قد اعتُبر غير مستحق لهذا المنصب بسبب كونه غذّي عريشة عنبه بجثث أقربائه الميّتين. فلماذا ينبغي انتقائي كأوّل ضحية لهذا الحكم المجحف والسّخيف؟! أعترف أيضاً بأنني لست صديقا للفقير. فأنا أنظر إلي الفقير، في حالته الرّاهنة، باعتباره كميّة كبيرة من المادة الخام المُضيّعة. وبتقطيعه وتعليبه كما ينبغي قد تكون له فائدة في تسمين سكّان جُزر الكانابال، وكذلك في تطوير سوق صادراتنا مع تلك المنطقة. إنني سوف أتقدم بمشروع قانون حول هذا الموضوع في أوّل رسالة لي. شعار حملتي سيكون: (احفظوا العامل الفقير، جفّفوه وحولوه إلي سجق هذه تقريباً هي أسوأ الأشياء في ملفي، وبها أتقدم لمواجهة بلادي.
وإذا كانت بلادي لا تريدني، فإنني سأرجع علي أعقابي. لكنني أعتبر نفسي الرّجل الجدير بالثقة - الرجل الذي يبدأ من الأساس الشامل للفساد، ويعتزم أن يبقي شريراً حتي النهاية!
وهكذا .. يمكننا أن نري أن (توين) برغم مبالغته في السخرية، قد عرض لنا صورة فاضلة عن زمانه. إذ لو أنه عاش حتي يومنا هذا، ورأي رؤساء من نوعية كلنتون وبوش الابن، فأي شيطان كان سينجد خياله في السخرية؟
ماذا سيكون إقلاق راحة الجَدّ المريض .. أمام إقلاق راحة الكرة الأرضية كلّها؟
وماذا سيكون دفن العمّة الميتة .. أمام دفن شعوب كاملة وهي علي قيد الحياة؟
وهل كان سيتحدث عن فساده الشخصي لو سمع بقصة مونيكا والرئيس الذي يفعل ما يفعل فقط لأنه يستطيع أن يفعل؟
وهل كان سيذكر شيئا عن فساده المالي، حين يري عصابة تخطف الولايات المتحدة وتستخدم جيشها لتدمير كل مكان، فقط لكي تملأ أرصدتها؟!
لوحة سريالية
يحدّثنا الروائي الكولومبي غابرييل ماركيز في مذكراته (عشت لأروي) عن أنّه حضر، في شبابه، عرضاً غريباً بطله جندب كان يقوم بأداء حركات راقصة وفق إشارات من مدرّبه، وكان في نهاية العرض ينحني كأيّ نجم استعراض لتحية الجمهور وسط عواصف التصفيق.
وينتهي ماركيز إلي أنّ فنّاناً تشكيلياً كبيراً من بين حضور هذا العرض، مدّ يده والتقط (الجندب) من جناحيه، ثمّ دسّه في فمه .. وأكَلَه!
إنّ الحياة المهنية البارعة والنهاية المأساوية لذلك (النجم) تتجاوزان كثيراً تخوم الواقعية السحرية لتدخلا في نطاق الرسوم المتحركة، علي الرغم من أنّ الراوي يسجّل وقائع حياته التي عاشها فعلاً علي الأرض، بعيداً عن الفنتازيا الروائية التي اعتاد أن يسطرّها علي الورق.
ولكي نصدّق أنّه لا يبالغ لا بدّ لنا أن نتذكّر أنّ ماركيز قد صرّح مرّة بأنّ ما يراه الناس غرائبياً في كتاباته هو أقلّ بكثير من غرابة ما يجري واقعياً في أمريكا اللاتينية.
ومثله كانت إيزابيل أللّيندي تقول إنّ من يعيش وسط أسرة كأسرتها لا يحتاج مطلقاً إلي استخدام الخيال لكي يكتب.
أعتقد أنّه وجب علينا، الآن، أن نصدّقهما دون أن نطالبهما بشهود إثبات، لأنّ ما نراه بأمّ أعيننا من وقائع تجري أمامنا يومياً في جميع أنحاء العالم، يبدو أكثر غرابة ممّا يرويانه، بل هو - ربمّا بفضل العولمة - يمتاز بكونه خليطاً عجيبا من الواقعية السحرية والسريالية والتجريدية وأفلام الكارتون.
ونستند في ذلك، أوّل ما نستند، إلي قاعدة (القاعدة) التي تفخّخ كلّ شيء، منذ زمن طويل، لقتل الناس بلا تمييز: من توراعورا إلي الفلّوجة والعوجة إلي نيويورك إلي مدريد إلي بالي إلي الرياض إلي الدار البيضاء إلي ما شاء الرعب من بقاع الأرض .. لكنّها ما أن تصل إلي بوابة فلسطين .. حتّي تدوس كوابحها بكلّ قوّة، فتزعق عجلات قطارها بشرر التوقّف العنيف، شاكرة ربّها علي عدم تلوّث ثوبها الطاهر بدم الصهاينة الأرجاس!.
القاعدة لدي القاعدة هي الجهاد في كلّ مكان ما عدا المكان الوحيد الذي يجب أن يجاهد فيه الإنسان من أجل قضيّة واضحة وعادلة وصارخة بأن أهلها هم أكثر حاجة من غيرهم .. لغيرة أهلهم!
ومن صور هذا الخليط العجيب الذي تندهش منه الدهشة ويضحك منه البكاء، ما نشرته جريدة (السبيل)الأردنية من أن مجموعة إسلامية مجهولة قد أرسلت إليها بياناً تدّعي فيه مسؤوليتها عن اغتيال اثنين من الغربيين في عمّان، مرفقة بيانها ب (فوارغ الرّصاصات) المستخدمة في عملية الاغتيال كدليل علي براءة المحكومين بالإعدام في هذه القضيّة.
وعندما اتّصلت الجريدة بمحامي المحكومين أفادها بأنّه، هو الآخر، قد تلقّي نسخة من ذلك البيان، ومعه أيضاً نسخة من (فوارغ الرّصاصات) !.
ومن وراء المحيط، يفاجئنا المدير الجديد لتلفزيون BBC البريطاني (مارك تومسون) بأنّه قَبِلَ وظيفته منصاعاً لصوت ضميره، وذلك مثلما فعلت سونيا غاندي في الهند!.
والمفارقة هي أنّ هذا الإعلامي لا يعلم سعة التناقض بين صوت ضميره وصوت ضمير سونيا، فهو (قَبِلَ)وظيفة ستظلّ صغيرة مهما كبرت، بينما هي (رفضت) أكبر وظيفة في بلد كبير جداً بمساحته وبعدد سكّانه وبقدم ديمقراطيته!.
ومع ذلك، فإنّ حكاية سونيا غاندي لا تبتعد هي أيضاً عن غرائبية الخلطة العجيبة، فعلي الرغم ممّا تبعثه تلك الحكاية من مشاعر التقدير والإعجاب، فإنّها تنطوي في الوقت نفسه علي مفارقة كارتونية باعثة علي الضحك:
امرأة من أصل إيطالي تفوز برئاسة وزراء أكبر دولة آسيوية، وتتخلّي عن منصبها لرجل سيخي يضطره البروتوكول لتلاوة قَسَم تنصيبه أمام رئيس مسلم، في بلد غالبية سكّانه من الهندوس!.
من حُسن حظ (هانّا) و (باربيرا) أنّهما ماتا قبل عدّة أعوام، وإلاّ فإنّ قصّة معاهدة الصلح بين (توم وجيري وسبايك) التي قدمّاها في فيلم كارتوني، كانت ستبدو لهما حفلاً جنائزياً أمام كوميديا هذه الحكاية الجارية فعلاً في واقع البشر.
ومن حُسن حظ (سلفادور دالي) أنّه لم يعش حتي وقتنا الراهن، وإلاّ لمات غمّاً وهو يري سرياليته تسيح باهتةً مع (ساعاته الذائبة) في اللوحات .. خاصّةً عندما يري أنّ ساعاتنا، نحن العرب، تسيح علي عماها، دون عقارب أو أرقام!.
ومن سوء حظ ماركيز أنّه عاش ليري أنّ واقعيته السحرية لم تعد تثير الاستغراب إلاّ لكونها أقلّ غرابة من غرائبية هذا العالم السعيد!.
الأمن مُستتب!
أمل الغد
الزقاق مكتظ بالمخبرين .. والبيت ممتليء بالمخبرين .. فكّر في كيفية الخروج .. قرّر أن يصعد إلي السطح، وأن يقفز إلي سطح الجيران .. صعد، فطّوقه جيرانه المخبرون .. رمي بنفسه إلي الزقاق .. سقط فوق مجموعة من المخبرين.
تناقل المخبرون في المدينة خبر الفاجعة التي أودت بحياة خمسة مخبرين كانوا يؤدون واجبهم، إضافة إلي المخبر الخائن المنتحر.
إقتادت قوّة من المخبرين ثلاثة مخبرين من أهل المخبر المنتحر .. كان تقريره قد أكدّ خيانتهم، فيما بقي أفراد قوّة المخبرين القابضة، ينتظرون بأمل فرصة القبض عليهم بناء علي تقارير المخبرين الآخرين.
وكما ينتهي أغلب الأفلام بميلاد طفل كرمز للأمل في البقاء والتواصل .. يسرّنا، هنا، أن نؤكد للجماهير المتطلعة إلي غد مشرق سعيد، أن مخبرة من أهل الزقاق، وهي لحسن الحظّ حامل في شهرها الأخير، شعرت بآلام المخاض، ولم تلبث أن انطلقت من بين فخذيها صرخة تقرير مؤنث.
صاح المخبر الفرحان بمولودته الأولي: نسمّيها وشاية!.
فساد
قُمعتْ الانتفاضة الشعبية بكل أنواع الأسلحة .. وكان من نصيبنا أن سقط في بيتنا صاروخ .. وكان من سوء حظنا أنّه لم ينفجر.
صبرنا عليه حتّي المساء .. ولم ينفجر.
صلّينا ودعونا أن يفجّره الله تفجيراً .. لكنه لم ينفجر.
انفجرت أمّي بالبكاء.
قال أبي بحرقة: إذا لم ينفجر هذا الصاروخ الملعون ويقتلنا، فسيُقبض علينا ونُعدم بتهمة حيازة ممتلكات عائدة للدولة.
قلت لأبي مواسياً: سنقول لهم إنّنا كنّا مستعدين تماماً، لكنّ الصاروخ هو الذي رفض أن ينفجر.
قال أبي: سيتهّموننا بإعاقة عمل صاروخ أثناء تأدية واجبه الرسمي.
داهم بيتنا خبراء المتفجرات، وحملوا الصاروخ وهم في غاية الشعور بالخيبة والامتعاض.
قال لنا الضابط الكبير: لا تخرجوا .. امكثوا في البيت .. سنرسل، في الوقت المناسب، طائرة لقصفكم.
تنفسّنا الصُّعَداء، بعدما زالت عن صدورنا التهمة.
وفيما كنّا ننتظر الطائرة الموعودة، سمعنا في الإذاعة خطاباً تاريخياً للرئيس، تكلّم فيه بغضب وضراوة عن صفقة الصواريخ الفاسدة!.
كل الطرق تؤدي إلي قبرص!
لا يهمني أن تظل قضية قبرص بلا حل الي أبد الآبدين، لكنني، مع ذلك، مضطر الي متابعة تطوراتها بسبب اضطراري الي حلاقة شعري كل شهر ذلك لأن حلاقي قبرصي يوناني، وهو ينتظرني بفارغ الصبر ليناقش معي، حال جلوسي علي الكرسي، آخر مستجدات تلك القضية، ولابد لي من مجاراته، لكي أستطيع من خلال تعاطفي ان ألفت نظره، بين الحين والآخر، الي الاهتمام بالقضية ذات الأولوية التي جئت من أجلها: حلاقة شعري!
كان ولدي بصحبتي حين توجهت الي الحلاق في المرة الأخيرة، ووجدتني أشكو اليه بثّي كأنني مقبل علي كارثة:
- لا أدري ماذا أصنع؟ إن اسابيع مرضي الطويلة شغلتني عن متابعة أهم ما يتعلق بقضية بلادي، فما بالك بقضية قبرص؟
تساءل ولدي بدهشة:
- وما شأنك بقبرص؟!
قلت له:
إنه شأني يا ولدي .. وستري ان صديقي جورج سيبدأ المعزوفة حتي قبل أن أجلس علي الكرسي. إن شعري مبرمج علي ذلك، إذ لا يمكن لجورج ان يقص لي شعري دون ان يقص علي قضيته. بادرني ولدي بطوق نجاة:
- اسبقه أنت هذه المرة. اخترع فاجعة من أي نوع واشغله بها حتي النهاية.
وجدتها فكرة جيدة، فبدأت أبرم خيوط مأساة قابلة للاستطالة، حتي اذا دخلنا الصالون ووجدناه خالياً من الزبائن، ساورني القلق، فهمست لولدي:
- لن يكون متعجلاً. لديه وقت كاف لأخذ حصة وافرة من الكلام.
حييت جورج، وانطلقت رأساً نحو المغسلة، فتبعني وهو يسألني عن الأحوال، وتلك هي عادته قبل ان يبدأ العزف .. فاغتنمت الفرصة حالاً واطلقت زفرة حارقة:
- أوه يا جورج .. لا تسأل. إنها كارثة. كارثة بكل المعاني. لم يبق لي من كل اسرتي سوي أمي، وهي عجوز متهالكة لا أظنها ستعيش بعد هذه الصدمة. تباطأ جورج وهو يصب الشامبو في كفه استعداداً لفرك شعري، وتساءل بهلع واضح:
- ماذا حدث؟!
قلت له وأنا اخفي ابتسامتي في قعر المغلسة:
- لا أدري من أين أبدأ .. لقد وقع انفجار في البصرة فأودي بحياة جميع أهلنا في العمارة.
صفر جورج متأثراً وأبدي جميع ألوان الحزن والأسي وكفت يداه عن فرك شعري، لكنني في اللحظة نفسها، كنت مشفقاً علي ولدي الذي أعلم انه كان يحاول جاهداً ان يكتم ضحكته. فالمسافة بين البصرة والعمارة تستغرق ساعتين بالسيارة، اذا انطلقت بأقصي سرعتها. قلت بحسرة:
- شكراً لله علي أن أمي لم تكن في العمارة عند وقوع الانفجار. لا أحد يعلم علي وجه اليقين من هم الأوغاد الذين وراءه.
فرك جورج شعري بعصبية، ومضي الي التضامن معي الي أقصي حد، اذ بادر متطوعاً بأريحية الي كشف الغموض عن هذه القضية.
- إنهم الأتراك .. صدقني. هذا ما يفعلونه دائماً. انهم يغتنمون أية فرصة لكي يقوموا بالتخريب، ولا تنس ان الأبواب مشرعة امامهم بسبب علاقتهم القوية بأمريكا واسرائيل. سلني عنهم.
ثم لف شعري المبلل بالمنشفة وقادني الي الكرسي قائلاً:
- من باعتقادك وراء الانفجارات الأخيرة في أثينا؟ انهم هم .. لقد ساءهم ان يصوت القبارصة اليونانيون ضد انضمامهم الي الاتحاد الأوروبي. هم يحسبوننا أغبياء لنقول نعم .. كلا، عليهم ان يدفعوا الثمن أولاً برفع أيديهم عنا. نحن القبارصة اليونانيين والأتراك لا شأن لنا بتركيا .. ليرفعوا أيديهم عنا.
ومضي يطقطق بالمقص ليصنع توازناً بينه وبين طقطقة فكيه.
ولمحت في المرآه وجه ولدي، ورأيته يرفع يديه وحاجبيه معاً، اشارة الي ان لا فائدة علي الاطلاق من طوق النجاة، الأمر الذي حفزني علي مقاومة الغرق بكل ما أوتيت من قوة، فخبطت الموج بيد العاريتين، محولاً الموضوع نحو جهة بعيدة جداً:
اسمع يا صديقي جورج .. لدينا نكتة تروي عن صاحب الجمل. إنه تلميذ مهووس بالجمل، فمهما كان موضوع درس الانشاء فانه لابد ان يتحول بين يديه الي حديث عن الجمل .. وقد وجد المدرس ان الحل الوحيد لهذه المعضلة هو ان يوجه التلاميذ لكتابة موضوع عن الكمبيوتر، فبدأ صاحبنا موضوعه قائلاً: إن الكمبيوتر جهاز الكتروني حديث قد انتشر في جميع مدن العالم، لكنه لم يصل الي الصحراء، فأهل الصحراء لا يتمتعون بخدمة الكهرباء، وهم يعيشون متنقلين طلباً للعشب، ووسيلة نقلهم هو الجمل، والجمل حيوان يستطيع ان يختزن في جوفه الماء والطعام لفترة طويلة .. وهكذا.
ولم يبق أمام المدرسة، بعد هذا، إلا ان تطرد هذا التلميذ، فكتب شكوي الي وزير التربية قال فيها: إنني علي الرغم من ظلم المدرس لي، فقد تحملت هذا الظلم طويلاً، وصبرت عليه صبر الجمل. والجمل كما تعرف سعادتك هو حيوان يعيش في الصحراء، ويتصف بالصبر والقدرة علي اختزان الماء في جوفه لفترة طويلة.
انفجر جورج ضاحكاً، ونسي كل ما كان من كارثتي التي تُبكي الحجر، فحمدت الله علي نجاتي، وغمزت لابني في المرآة، فوجدته يبتسم فرحاً لقدرتي علي الانتصار أخيراً. وطقطق جورج بالمقص فالتهم خصلة من شعري، لكنه لم يلبث أن توقف، وقال وهو لا يزال يضحك.
- أتعرف؟ لقد أصبت الهدف تماماً. إن صاحب الجمل هذا مثل تركيا بالضبط. كلما حاولنا ان ننجو بأنفسنا باعتبارنا دولة اسمها قبرص، عضت علينا بأسنانها باعتبار ان نصف القبارصة أتراك.
ومضي في معزوفته حتي نهايتها المعهودة، وهو لا يكف عن الضحك بين الفينة والأخري، من صاحب الجمل، دون ان يخطر في باله انه هو نفسه صاحب الجمل.
قلت لولدي بعد مغادرتنا الصالون:
- لم يعد في القوس منزع .. إما ان تحل قضية قبرص، واما ان أبدل هذا الحلاق. والمشكلة هي انني لا أستطيع تبديله .. فهو حلاق جيد.
قال ولدي، وقد تأكد من ان جورج محصن ضد أية خطة حربية مهما كانت بارعة:
- ليس أمامك، اذن، إلا ان تحل قضية قبرص.
القصّة المظلومة
العمل الأوّل لدي أيّ مبدع هو المعبّر الأمثل عنه، وهو الأقرب إلي قلبه مهما مسح تعاقب الأيّام الغبار المتراكم علي صورته الطفولية، فبدا ضئيلاً غضّاً أو غِرّاً ساذجاً أو ضعيف البنية مثرّم الأسنان.
إنّه الابن الأوّل، وحسبه لموقعه هذا أن يستأثر بالقسط الأوفر من المحبّة والحنان، ولو تكاثر أشقاؤه اللاّحقون وفاقوه وسامة وعافية.
والعمل الأوّل للقاص الرّاحل محمود طاهر لاشين - أحد أبرز روّاد القصّة المصرية والعربية - هو واحد من هؤلاء الأبناء الأوائل المحفوفين من آبائهم بالمحبة الفائقة، لكن حسن حظّه هذا قد أورده أسوأ المهالك، لا لشيء إلاّ لأنّ أباه كان رائداً في مجاله، الأمر الذي اقتضاه جهداً كبيراً في التأسيس والتجريب والإعادة والتعديل، لكي يضمن لقصصه (أبنائه) بلوغ الغاية المثلي من العافية والوسامة والنضج، والوصول بها إلي الكمال الفني المطلوب شكلاً وموضوعاً.
وإذا علمنا أنّ قصّة لاشين كانت لا تستقر علي الورق إلاّ بعد مخاضات كثيرة، تبدأ من اشتغاله عليها ذهنياً، ثم روايتها للعديد من أصدقائه الأدباء، ثمّ المضي بها تقليباً وتعديلاً وتشذيباً حتي مستودعها الأخير، فإننا سنعلم مقدار ما كابده من جهد في كتابة قصّته الأولي (صَح) حيث لم يكن أمامه أيّ نموذج عربي لقصّة حديثة مكتملة الشروط كأختها الأوروبية التي سبقتها إلي التأسيس والاكتمال بعقود طويلة.
إنّ قصة (صَح) التي كتبها لاشين قبل ثمانين عاماً، تُعدّ نموذجاً رائعاً للقصّة الحديثة، حتي بمقاييس أيّامنا، حيث استنفدت الأجيال اللاّحقة كلّ جهدها في التجريب، وبلغت بالقصّة أقصي ما تستطيع من آفاق التطوّر.
يحكي لاشين في (صَح) قصّة مدرّس حساب رفيع الخلق، يموت شقيقه فيضطر إلي الاقتران بأرملته، ليكفل لها الكرامة والستر، وليكفل لولدها ما يستحق من الرعاية. ويبلغ الولد مبلغ الشباب ويدخل في سلك الموظفين بعد إتمامه الدّراسة، لكنّه يبقي مقيماً مع عمّه الذي أحاطه وأمّه دوماً بالرعاية الحقّة.
وحين تموت الزوّجة، يخلو البيت ممّن يقوم علي شؤونهما، فيستأذن العم ابن أخيه، قبل أن يتزوج بامرأة ثانية، فلا يتردّد الشاب في الموافقة.
وهنا تبدأ عقدة القصّة، حيث تكون الزوجة الجديدة شابة، فيخفق قلبها بحبّ الفتي، ويخفق قلب الفتي بحبّها، لكنّهما يكبحان جماح نفسيهما، لأنهّما برغم قوّة المشاعر الفطرية، يحبّان الرّجل حبّاً جمّاً، ويعترفان بنبله وفضله، ويحترمانه إلي أبعد حد.
ولكي يقمع أية زلة محتملة، يقرر الفتي في النهاية أن يغادر المنزل، وحين يصارح عمّه برغبته في السفر إلي بلد آخر لتغيير الجوّ، لا يقتنع الأخير بتلك الأسباب، ويحاول، فيما هو منهمك بتصحيح الدفاتر، أن يثنيه عن عزمه، طالباً منه أن يتريّث ويفكّر في الموضوع.
وينقلب الفتي إلي حجرته، فتهمس له الزوجة من وراء الباب شبه باكية، متوسّلة إليه ألاّ يسافر، فيُدخلها بسرعة، ليصارحها بأنّه متعلّق بها، وهو يعلم أنّها متعلقة به أيضاً، لكنّه مستعد لمكابدة الأهوال، علي أن يسيء إلي عمّه صاحب الفضل عليه. فتعترف له بأنّها تحترم زوجها كثيراً، ولا يمكن أن تُقدم علي اقتراف أيّ فعل يُسيء إليه .. لكنّ أمر المحبّة ليس في يدها.
وفي تلك اللحظة، يقرع باب الحجرة، ويلوح العم وراء الباب.
كان العم قد سمع كلّ شيء، لكنّه يحاول جاهداً أن يُعقل عواصف نفسه. وبعد إطراقة صمت طويلة محتدمة بالمشاعر المتضاربة، يقول لهما إنّ الذنب ليس ذنبهما، وعليهما أن يأويا إلي فراشيهما، وفي الصباح سيكون لكلّ حادث حديث.
ويعود إلي تصحيح دفاتر الامتحانات، حانقاً حائراً مثقلاً بالأفكار السوداء، لكنّ صدمته ما تلبث، علي مرّ السّاعات، أن تفتر، وما يلبث الصفاء أن يعاود نفسه، فيقرّر بعد تأمّل طويل أنّ ما حدث ليس غريباً، ويقول في سرّه: (الشابّة للشاب .. وهذا هو قانون الفطرة) .
ويتناول أوّل دفتر أمامه، فيفتحه، ويكتب تحت الإجابة بضربة حادّة: (صَح) .
هكذا تنتهي القصّة كما نشرت في مجلة (الفنون) عام 1924.
لكن يبدو أنّ طاهر لاشين المولع بالتغيير والتعديل، قد أعاد التفكير بجدّية في القصّة، ورأي، بعد عام من نشرها، أنّه قد تعسّف في إجراء مثل تلك النهاية وتمعن في شخصيات القصة فوجدها جميعاً شخصيّات بريئة لم تقترف إحداها جرماً يقتضي أن يُنصّب نفسه قاضياً قاسياً مبرم الأحكام، ليصدر الحكم سريعاً وباتراً لصالح إحداها علي الأخري.
قاريء لاشين يعرف أنّه يحبّ جميع شخصيات قصصه، حتي الخاطئة والمجرمة منها، ويعاملها بحيادية نابعة من عطفه علي ضعف الإنسان. فكيف يمكن لكاتب كهذا أن يقترف جريرة إبداء حكم قاطع في قضيّة جميع أطرافها أبرياء يواجهون قدراً لا حيلة لهم أمامه؟
يبدو أنّ مخاض تأنيب الضمير، قد أفلح بعد عام من نشر القصّة في دفع لاشين إلي نقض الحكم، فإذا بالقصّة نفسها تظهر منشورة مرّة أخري في مجلّة (الفجر) عام،1925 لكن بزيادة سطرين علي أوّلها، وبحذف نهايتها تماماً .. ليكون عنوانها (قصّة بلا نهاية) !.
القصّة بصورتها الجديدة، تكشف عن حدّة موهبة لاشين، وعظيم مهارته في التجريب، وشدّة براعته في توجيه الصياغة والموضوع وجهة أخري، برغم عدم اختلاف النصّ الثاني عن الأوّل إلاّ بلمسات طفيفة.
ففي القصّة التي لم تنته يكون الرّاوي قد اشتري طعاماً في قرطاس، وبعدما استكمل التهامه، فرَدَ القرطاس فإذا هو ورقة من مجلة قديمة طبعت عليها القصّة ذاتها، فقرأها كما هي، لكن عندما يصل إلي مشهد مواجهة العمّ للشّابين تكون السطور في الورقة قد انتهت .. وربّما كانت تكملتها موجودة في ورقة أخري من المجلة نفسها، وقد تحوّلت بدورها لدي البائع إلي قرطاس آخر بيعَ فيه الطعام إلي زبون آخر.
أيُّ براعة!
لقد تخلّص من النهاية تماماً بهذه الحيلة الفنية الجميلة، ونأي بنفسه عن التدّخل في أقدار شخصياته.
لكنّ المشكلة أنّ هذه البراعة المذهلة لا يظهر سحرها إلاّ بقراءة النصّين معاً ..
ولأنّ النصّ الأوّل ينبغي أن يختفي بعد أن جري تعديله، ولأنَّ النّصَ الثاني هو وثيقة التعديل التي لا تملك وحدها الإفصاح عن البراعة الفنّية التي أبداها الكاتب عند التعديل، فقد كتب علي النّصين معاً أن يبقيا إلي اليوم مبعدين عن مجموعات لاشين القصصية الثلاث، ومركونين في ذمّة أرشيف الأعمال غير المنشورة في كتب.
ولم يكن ممكناً للقاريء أن يقع علي هذا اللون من البراعة الفنية، ويستذوق جماله وسحره، لولا همّة الناقد المرموق الدكتور صبري حافظ، الذي بذل جهداً ملحوظاً ومشكوراً في جمع أعمال لاشين كاملة، ضمن سلسلة (روّاد الفن القصصي) وأضاف إلي فضله هذا، فضل تزيينها بثاقب فكره تعريفاً ونقداً.
هتلر
كان قد مضي عام علي تعيين أخي الأكبر مدرساً في العاصمة، عندما عقدت النيّة علي زيارته، مؤملاً أن أجده متوائما مع وظيفته ومحلّ إقامته، خاصّة أنّه قد وصف لنا في إحدي رسائله المدينة النموذجية التي يقطنها، فأبلغنا برغم حياديّة الوصف أنّها جنّة علي الأرض.
كان منزل أخي فيلّلا واسعة، تفعم رائحة الورد طابقها الأوّل القائم بين حديقتين جميلتين، وتلامس أهداب الأشجار سماء طابقها الثاني، حيث تقرّ المدينة الصغيرة كلّها في كفّ غابة رائعة تحبس ضجّة المساء المحيطة بها، وتفتح في إشراقة الصّباح مغاليق القلوب.
جلسنا في عصر اليوم الأوّل لوصولي في الحديقة الأمامية، حول طاولة بيضاء مغروسة في العشب البليل، ورحنا نتحّدث ونحن نحتسي القهوة.
قلت له وأنا أعبّ نفساً عميقاً من الهواء المعطّر:
- إنّها الجنّة.
ارتسمت علي شفتيه ابتسامة جيوكندية، وعلّق دون أن ينظر إليّ:
- تستطيع أن تأخذها منّي مقابل قطعة صغيرة من جهنم، شريطة أن تكون خالية من الضّجر.
وبرغم انني أعرف جيداً طبع السخرية في أخي، فقد أدهشني قوله، ولذلك فقد تساءلت مُحتجّاً:
- كيف يجد الضجر سبيلاً إلي قلب إنسان يقطن مثل هذه البقعة من الفردوس؟!
التفتَ إليَّ بجسمه كلّه، هذه المرّة، وقال بجدّ:
- تعرف أنني حملت معي إلي هنا عدداً لا بأس به من الكتب. لقد احتميت بها من الضجر خلال شهرين كاملين، ثم أعدت قراءتها مرّتين. ولأنّ ضآلة راتبي لا تسمح لي بشراء كتب جديدة، فقد اضطررت في النهاية إلي مواجهة قدري .. فبدأت أجالس الأصدقاء.
تساءلت بدهشة:
- ظننت أنّك ضجرٌ لخلّو حياتك من الأصدقاء. اغفر لي قولي إذا قرَّرتُ أنّك بَطِرٌ جداً. الضجر الحقيقي هو أن تُضطرّ إلي إعادة قراءة كتاب سبق أن قرأته مرّتين، برغم وجودك في بيئة جميلة ومريحة كهذه، وبرغم وجود الأصدقاء من حولك.
كان علي ما يبدو منشغلاً عنّي بمراقبة رجل قادم من الناصية البعيدة.
قال ضاحكاً:
- هاك .. ذلك واحد من أصدقائي. إنّه الأستاذ توفيق مسؤول المركز الصحّي في فردوسنا المفقود.
بدا الرّجل وهو يقترب شخصاً مهماً، بقامته المديدة الممتلئة، وشعره الأسود المفروق بعناية واللاّمع تحت طبقة ثقيلة من الزّيت، وببذلته الكحلية الأنيقة، ووجهه الأبيض العفيّ المشرب بالحمرة، وبشاربه المعقود علي جانبي فمه علي هيئة حزمتين غليظتين من شعرات الذهب، بطرفين معقوفين إلي الأعلي كذنب العقرب علي الطريقة التركية.
قلت لأخي:
- لو كان صديقك هذا راكباً سيّارة تجري أمامها درّاجة نارية لحسبتُه رئيس الدولة ذاته.
لم يعقّب أخي بغير ابتسامة باردة، ورفع يده بالتحية للأستاذ توفيق، الذي ابتدرنا ملوّحاً وهو يتقدَّم نحونا مسرعاً. ثم لمّا حاذي سياج الحديقة ترّيث ليشفع تلويحته بالسَّلام علينا، فخسفَ صوتُه الرفيع جداً نصف هيبته الرئاسية.
بدا متردّداً عندما دعاه أخي للانضمام إلينا واحتساء القهوة معنا، لكنّه سرعان ما دفع الباب ودخل، فنهضنا لمصافحته، وجذب له أخي كرسياً فجلس وهو لا يزال يردّد التحيّات، وينظر إليّ بفضول، ثم سأل:
- مَن الأخ الكريم؟
أجاب أخي:
- إنه أخي الأصغر.
قال الأستاذ توفيق مبتسماً كمن يحاول إخفاء تواضعه:
- لقد خمّنت ذلك .. إنّه يشبهك تماماً.
ردّ أخي وهو ينظر إليّ هازّاً رأسه كتعبير خفيّ عن الضّيق:
- صدقت.
في الواقع لم يكن الأستاذ صادقاً البتّة .. إذ لم يكن هناك أدني شبه بيني وبين أخي لا في الملامح ولا في اللون ولا في مقاسات الجثث ولا حتّي في نبرة الصوت، لذلك فقد بدا لي تصديق أخي القاطع علي ذلك نوعاً من المجاملة الفجّة التي تأبي إخجال تواضع الصديق ذي الفراسة الخائبة.
تساءل الأستاذ توفيق:
- ما اسم الأخ الكريم؟
تحفّزت للردّ، لكنّ أخي سبقني إلي الإجابة بسرعة مذهلة:
- هتلر .. اسمه هتلر.
ندّت عنّي ضحكة قمعها أخي حالاً بغمزة من طرف عينه، وواصل قائلاً:
- قد يبدو لك غريباً أنّ اسمه هتلر. لكنّ لهذا الأمر حكاية.
العجيب أنّ اسمي هذا لم يَبدُ غريباً بالنسبة لضيفنا الفخم، ولم يظهر علي ملامحه أيّ أثر للدّهشة أو الاستغراب، بل أنّه تقبّل الاسم كشيء مألوف، ومدّ يده ثانيةً لمصافحتي قائلاً بتسليم:
تشرّفنا.
غير أنّ أخي لم يكفّ عن تكريمه بتهمة الاندهاش، وواصل الحكاية قائلاً:
- إنّ أبي لم يكن يُنجب. ولأنّه كان من عمّال البلدية الأكفاء فقد كان كأيّ عسكري منضبط معجبا بالقادة العسكريين المشهورين في العالم، ولذلك فقد نذر لوجه اللّه إذا رزقه بولد أن يسمّيه هتلر. وقد تقبّل اللّه نذر أبي.
ثمّ أشار إليّ قائلاً:
- فلمّا رُزق بأخي أحمد هذا .. سمّاه هتلر!
هزّ الأستاذ توفيق رأسه متفّهماً، فنظر أخي نحوي وردّد كمن يزيح عن صدره جبلاً:
- أرأيت؟!
ثم أردف وهو يطبطب علي ظهر الأستاذ توفيق بمرح ومودّة:
- ألديك أيّ اعتراض علي ما رويتُه لك؟
شهق الأستاذ قائلاً:
- اعتراض؟ أستغفر الله .. إنّه نذر ويجب الوفاء به.
عندئذ قال أخي بانشراح مصطنع:
- ونحن أيضاً لا اعتراض لدينا علي حكمة اللّه.
وإنّها لحكمة بالغة أن يرزقنا بأصدقاء واعين ومتفّهمين ورائعين من أمثالك.
ثمّ نظر إليّ مواصلاً كلامه:
- الأستاذ توفيق أوعي وأثقف أصدقائي هنا.
تورّد وجه الأستاذ خجلاً، ورأيته يأخذ يد أخي بكفيّه معاً وهو ينهض ليغادر قائلاً بامتنان حقيقي:
- شكراً، شكراً، شكراً.
وحين غادرنا، نظرت إلي أخي مشفقاً، وقلت بأسي:
- معي في الحقيبة خمسة كتب جديدة سأتركها لك. لكن ماذا عساك أن تفعل بعدها للفرار من ضجر هذه الجنّة اللعينة؟!
قهقه من أعماقه مكرّراً احتجاجي السالف:
- الضّجر؟ كيف يجد الضّجر سبيلاً إلي قلب إنسان محاط بمثل هؤلاء الأصدقاء؟!
فروض الواجب
في وقت متأخر من الليل، دقّ جرس الهاتف في منزل رئيس المخابرات. واستيقظت زوجة رئيس المخابرات التي كانت نائمة في ذلك الوقت المتأخّر من الليل، والتي لم يكن زوجها نائماً معها في ذلك الوقت المتأخّر من الليل.
رفعت سمّاعة الهاتف، وألقت كومة هائلة من التثاؤب:
- آلو ...
جاءها الصوت علي الطرف الآخر:
- أيقظيه حالاً .. المسألة في غاية الأهمّية.
فغرت فمها، وانعقد لسانها لفرط ما استبد بها من ذعر.
وبعد تردّد غير قصير، تساءلت بصوت مضطرب، وهي تلقي نظرة جامدة إلي الرجل النائم بجوارها:
- مَن .. حضرتك؟
- أنا رئيس الجمهورية .. أين زوجك؟
عندئذ تنفسّت الصُعَداء، وألبست صوتها غلالة من المودّة والترحيب:
- أهلاً فخامة الرئيس .. إنه لم يعد حتي الآن.
- أين يكون في مثل هذا الوقت؟
- في كلّ مكان يا فخامة الرئيس .. تلك عادته كلّ ليلة، لا يعود إلاّ في مطلع الصباح. يقول إنّ واجبه يفرض عليه أن ينبش الأرض، شبراً شبراً، بحثاً عن الخَونة!.
الشيخ العرياني!
في رواية الطريق الوحيد للكاتب التركي الساخر عزيز نيسين، نواجه نمطاً عجيباً من الأبطال، إذ نعدو وراء مغامراته بشوق ولهفة، عبر ما يزيد علي خمسمائة صفحة، دون أن نعرف من هو بالضبط، ودون أن نعرف ما اسمه .. ذلك لأنه هو نفسه يعترف لنا منذ بداية الرواية بأنه يغلط في بعض الأحيان بشخصيته الحقيقية وباسمه الحقيقي لكثرة ما انتحل من شخصيات و أسماء طول حياته، حتي لم يعد يستطيع تعداد الشخصيات المزورة التي تقمصها!
وكان من الطبيعي أن يمضي هذا النصاب عدة أعوام في السجون، وقد كسب في إحدي فترات سجنه مبلغاً من المال، عن طريق النصب أيضاً، وهو داخل السجن، ففكر بأن يسافر إلي بلدة بعيدة ويفتح له دكاناً فيها .. لكنه، كغيره من ركاب الحافلة التي استقلها، وقع ضحية عصابة قطّاع طرق جردّته من ماله، فاضطر إلي السير في الجبال تحت الأمطار الغزيرة، واهتدي إلي كهف في أطراف إحدي القري، فدخله عارياً بعد أن ترك ثيابه فوق شجيرات في الخارج حتي تجف. وبعد فترة، جاء بعض أفراد العصابة إلي حيث يختبيء، لكنهم بدلاً من أن يقتلوه، حيّوه باحترام يليق بصوفيّ كبير، ومنحوه شيئاً من الطعام والأغطية.
ولم يمض وقت حتي شاع أمره في القرية المجاورة، فأقبل البسطاء إليه طلباً لكراماته، وصاروا يسمونه الشيخ العرياني.
ومضت الأيام وهو مستمتع بعطايا المساكين المؤمنين بكراماته، حتي حلت به ذات يوم لحظة عصيبة، حين أبلغه بعض مريديه بأن البيك يطلب الإذن بزيارته ليأخذ بركة دعائه و البيك هذا هو مالك لعشرات من القري التي يلوذ الأفّاق بإحداها.
لكنّ البيك أبدي للعرياني عند لقائه به كل معاني الخضوع والولاء، ولم يتردد عن تقبيل يده والإمساك بلجام حصانه أمام الناس، ثم دعاه لزيارة قصره فلبي الدعوة مضطراً، لأنه برغم كل ما يبدو عليه من مظاهر الهيبة، كان ينطوي علي أسراره القبيحة التي يخاف افتضاحها.
وعندما انفرد الشيخ العرياني بمضيفه بعد العشاء، دعاه الأخير إلي شرب كأس من الخمر، فصعق، واعتذر بأنهّ علي وضوء، فصرخ البيك عندئذ: أعلينا هذه المظاهر؟ اشرب يا كافر!
وحين لم يجد المحتال مفراً، كرع الكأس تحت طائلة الخوف، فامتدحه البيك قائلاً: أحسنت يا كبير الديّوثين .. لو لم تشرب لهويت بقبضتي علي نقرة رأسك، وعندئذ سيخرب وضؤوك بجد، لأنك ستعملها في ثيابك.
ونفهم من ذلك أن البيك كان علي علم بحقيقة المحتال، لأنه، علي حد قوله، لا يطير طائر في تلك المنطقة دون علمه .. ونعرف بعد ذلك أنه هو الذي أمر أتباعه بأن يجعلوا من هذه النصّاب شيخاً، بعدما عروّه من كل شيء، لأن القري بعد زوال شيخها السابق، كانت بحاجة إلي شيخ آخر تلتمس عنده الحاجات، ويمكنه أن يملأ الفراغ الذي لا وقت عند ذوي الأملاك لملئه.
يقول البيك: ليس عند إنسان هذه المنطقة طبيب، ولا قابلة، ولا دواء، ولا عمل، ولا نقود .. وعندما لا يكون عنده شيء يقول لو كان عندي شيخ علي الأقل.
ونعلم أن سبب زوال الشيخ القديم هو أنه حمي عصابة إجرام وخبّأ أفرادها عنده، بينما كان القائمقام التابع للمالك قد قضي علي كل عصابات قطاع الطرق، وأبقي علي عصابة واحدة فقط لسد حاجة المنطقة للمجرمين!، ولذلك فقد وبّخ الشيخ السابق قائلاً: كيف تحمي عصابة مجرمين، بينما لدينا عصابتنا؟ ثم طرده من المشيخة بتهمة معارضة الجمهورية والثورة!
المستفاد من تلك الحكاية هو أن ادّعاء المشيخة والكرامات أمام البسطاء المغفلين أمر جائز بل مطلوب جداً، لضمان مصلحة المالك .. لكن الأمر ينبغي ألا يخرج عن هذا الإطار، كأن يصدق المحتال أنه شيخ حقيقي، فيصطدم عنوة بالمالك الذي اخترعه وثبت إدعاءه .. لأنه، حينئذ، سيخرج من كراماته الموهومة بركلة حقيقية علي مؤخرته بتهمة خيانة الجمهورية والثورة!
أتأمل مشهد المالك مع الشيخ العرياني، فتحضر في ذهني طائفة من الشيوخ العريانين المتناثرين علي طول الخريطة التي تضم القري وأُمّها أيضاً، في نسق غير متناسق من اللغات والسحنات والأزياء.
وحسبنا أن نتذكّر، علي سبيل المثال، نورييغا بنما، وجرذ تكريت، والبهلوان الأخضر، كنماذج للذين يرفعون عصيّهم، بكل بسالة، لقطعان البشر في القري التي هم رعاتها .. لكنهم يخفضون مؤخراتهم- بكل تهذيب- لعصا المالك الذي أكرم عريهم بالمشيخة، ونثرهم كالنجوم في مربع أزرق وضع تحته خطوطاً حمراء، تذكيراً بالمصير الدامي لمن يجتاز حدوده، ولا يواصل السير علي الصراط المستقيم!
العصا والِهراوة
محَبوب القلب اللّه يخلّيه ..
لا تَعلومْ ينفع لا نِصِحْ بيه ..
أقول له: الدَّربْ هذا ..
يقول: لا .. ذاك.
لا يِندلْ ولا يخليني أدلّيه!
هذا مطلع أغنية عراقية قديمة، وجدته يتدفق في ذهني كالضرورة، ليغيثني من صعوبة التعبير عن أحوال وأوحال أنظمتنا العربية التي لم يكفها أن تؤلمنا بأفعالها اللئيمة المستديمة، بل تعدت ذلك إلي إيلامنا بأقوالها الطازجة السقيمة.
هذه الأنظمة المنبطحة حتي الأرض السابعة، ملكت الجرأة أخيراً لتصرح بأنها ترفض أي إصلاح يُفرض عليها من الخارج. وأكاد أجزم بأنها لم تنطق بذلك إلا بعد أن أستأذنت الخارج وهو أمريكا بالتحديد .. بتزيين إذعانها، الذي لابد منه، بزركشة كلامية توحي بالتمنع، وهو ما لا تملكه تلك الأنظمة ولن تملكه أبداً، لأنها تعلم، قبل غيرها، أن مبدأ وجودها وفنائها بيد ذلك الخارج.
إن شرعية العصا لا يمكن أن تنصاع إلا لدستور الهراوة. وهذا ما يحدث أمامنا، نحن الديكورات المسماة شعوباً، علي مسرح الستربتيز العربي الرسمي.
وبالعودة إلي الأغنية يحسن بنا أن ننبه إلي أنها مجرد مقاربة لا أكثر، ومبتغانا منها الخاتمة لا غير، فالنظام العربي ليس محبوب القلب، بل هو في أفضل أحواله محبوب الكلب، وهو كذلك ليس مما يطلب المرء أن يخليه الله، بل آخر دعوانا هي الله لا يخليه.
لكننا بعد هذا نستطيع أن نشمله بمكرمة الشطر الثاني من مطلع الأغنية، حيث أمضينا ما يزيد علي نصف قرن، ونحن نئن تحت وطأته، داعين إياه إلي الإصلاح، بإرشاده تارة، وبنصحه طوراً، وهو في كل أحواله منشغل عن الإصلاح الداخلي بالصمود والتصدي لمؤامرات الخارج الإمبريالية التي لولاها لما كان له وجود إطلاقاً!
بُحّتْ أصواتنا ونحن نقول لهذا النظام الطالح بأن عليه أن يحفظ رأسه قبل لحانا، وتقطعت أوتارنا الصوتية ونحن نقترح عليه أن يشتري المحراث بدلاً من البندقية .. غير أنه لم يفهم هذه الأمور البسيطة جداً، إلا بعد أن وقفت هراوة سيده فوق عصاه المنصوبة فوقنا .. فإذا بالبهلوان الأخضر يصرح فوراً بأنه قرر استبدال البندقية بالمحراث، وإذا بالبهلوان القاتي يدخل دورة حلاقين، بعدما أدرك حكمة أن يحلق المرء شعر رأسه بيده!
بالله عليكم، أيها الرافضون الإصلاح المفروض من الخارج، هلا أطلعتمونا علي برنامج إصلاحكم المفترض من الداخل؟!
خمسون عاماً ونحن لم نرمن الإصلاح الداخلي إلا ما رآه اللاتينيون من إصلاحات ذلك الجنرال الثوري المجنون، الذي فرض علي الناس أن يرتدوا ألبسة داخلية نظيفة، ولكي يتأكد من انصياعهم للقانون أوجب عليهم أن يرتدوها فوق ملابسهم الخارجية!
خمسون عاماً وأولئك المُحنطون أو المنحطّون بغلط مطبعي صحيح يكتمون أنفاسنا، ويبعثرون أموالنا، ويصحرون أرضنا، ولم يصلحوا شيئاً سوي قوائم كراسيهم المتهالكة .. ومع ذلك .. تندلق حكمة القرون علي لسان أحدهم، عند أول تشويحة للهراوة، فيقرر أن الديمقراطية لا تتم بكبسة زر!
كبسة زر؟!
أينك يا آينشتاين لكي تنورنا عن نوع ومقدار هذه الحركة التي لم تفلح بعد خمسين عاماً في استكمال كبسة الزر؟!
يا لفضيحتنا أمام السلاحف والديدان والبكتريات!
أحسب أن غلطاً مطبعياً قد وقع لتلك العبارة، وأغلب ظني أن مولانا كان يريد أن يقول إنها كبسة رُزّ.
وفي هذه الحالة ينبغي أن نُقّر بأن التصريح صحيح وفصيح .. فمن يرجع إلي انسيكلوبيديا المطبخ الخليجي سيتحقق تماماً من أن متعاطي هذا النوع من الكبسة لا يمكن أن يفيق إلا علي نفير يوم القيامة!
رقابة ذاتية!
رفعت الرقابة عن الصحف، وانشئت منظمة لحقوق الإنسان، وشرعت السلطة بالتحضير للعملية الديمقراطية.
***
الكاتب: أريد كتابة مقال حول الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
المحرر: لا مانع .. لكن عليك أن تكون رقيباً ذاتياً علي نفسك .. استعمل ضميرك رجاء.
الكاتب: بالطبع.
المحرر: أي طبع يا أخ وأنت تريد أن تجر قطاراً طويلاً من الكوارث؟!
الكاتب: كوارث؟!
المحرر: بدلاً من الشرح المفصل، دعني أدرب ضميرك علي العمل .. إن الكتابة حول حقوق الإنسان هي تدخل في شؤون الغير .. تقول لي كيف؟ أقول لك إن هناك منظمة مختصة بهذا الشأن، والتدخل في شغلها صفاقة .. أليس كذلك؟
الكاتب: لندع هذا جانباً إذن.
المحرر: والكتابة عن الديمقراطية ليست سوي دوران في حلقة مفرغة .. فإذا كنت ضد الديمقراطية فأنت عديم الضمير، وإذا كنت مع الديمقراطية فأنت سخيف، لأنك تزمع الخوض في مسألة لاتزال في طور التحضير. قل لي بربك أليس من السخافة أن تصف بيتاً قبل أن يُبني؟!
الكاتب: سأكتب، إذن، حول الحرية.
المحرر: لكن الحرية قائمة يا أخ .. فها هي الرقابة علي النشر قد رفعت، فماذا تريد بعد هذا؟
الكاتب: أريد أن أمدح ذلك.
المحرر: هذا نفاق وتملق. إن حرية التعبير ليست منة من أحد. إنها حق أصلي من حقوق الإنسان، ثم لا تنس أن لهذه الحقوق منظمة مختصة.
الكاتب: أريد، إذن، كتابة مقال حَوْل ..
المحرر: حول ماذا؟
الكاتب: حول فقط!
المحرر: رجاء .. دعني أواصل تدريب ضميرك علي العمل .. كيف يرضي هذا الضمير أن يكتب مقالاً حول فراغ؟ هل هذا ما يفترض أن يقدمه الكاتب الشريف للجماهير، في زمن الحرية وحقوق الإنسان والتحضير للديمقراطية؟
الكاتب: إذن .. أريد فقط .. هذا كل ما بقي لي .. مجرد أريد!
المحرر: لا دخل لأحد في إرادتك .. أنت حُرّ.
الكاتب: لكنك لم تسألني .. ماذا أريد؟!
المحرر: هذا أمر راجع لك، نحن لا نملي عليك ما تُريد أومالا تُريد .. نحن فقط نبين لك حقوقك، ونبشرك بالتحضير للديمقراطية، وندربك علي كيفية استعمال ضميرك عندما تريد التعبير بحرية، خاصة أن الرقابة علي الصحف قد رُفعتْ!
التّهمة!
العجائب البريطانية لا تنتهي.
منذ جئتها، في منتصف الثمانينات، وأنا أشهد في عالم سياستها، كلّ يوم، ما يشهده الريفي عند دخوله المدينة لأوّل مرّة.
رأيت القيادات الحاكمة تتعرّي في كلّ موسم، مثل الأشجار، لتتحلّي بأوراق ربيعيّة جديدة. وذلك عجب لم يضارعه إلاّ العجب من رؤيتي لقيادات المعارضة وهي تتعرّي كنقيضتها، مؤمنة مثلها، وياللهول، بضرورة استمرار دورة الفصول.
في هذه المدّة الوجيزة بحساب التاريخ، رأيت خمسة قادة لحزب المحافظين يتعاقبون مثل دوالي الناعور، ورأيت علي الجانب الآخر أربعة قادة لحزب العمال يتعاقبون بسلاسة دوران عقارب الساعة.
أمّا الحزب الثالث الوسيط الراكض خلفهما بقوّة، وهو حزب الأحرار الديمقراطيين، فلم يتخلّف عنهما فبعد اثنين من قادته التاريخيين أخلي المكان لرجل أكثر قوّة وشباباً هو بادي أشداون، ولم يلبث الأخير وهو في عزّ قوّته وتألقه، أن وقف جانباً مخلياً الطريق لقائد جديد أكثر منه شباباً وهمة هو تشارلز كيندي الذي لم يقصّر أبداً، إذ أفلح في فترة وجيزة في أن ينمّي التقدّم الذي أحرزه سلفه، وأن يجعل من حزبه رقماً صعباً في الانتخابات البريطانية.
تلك الأعاجيب شكّلت، بالنسبة لي، أعجوبة كبري مُلخّصها أنّ البريطانيين مُتخلّفون عنّا بسنوات ضوئية .. فهم مع إيمانهم بالقيادة التاريخيّة يجهلون تماماً كيفية جعلها قيادة جغرافية أيضاً، بحيث تلتصق في مواقعها بالصّمغ السوبر، متحدّية في ثباتها الزلازل والآفات والعلل الماحقة.
لكنّ كلّ ذلك لم يعد شيئاً مذكوراً أمام العجيبة الجديدة التي دهمتني، مؤخراً، فأعادتني إلي مربّع الدهشة الأوّل، وأنبأتني بأنني سأظل في ما يتعلق بالسياسة البريطانية جاهلاً بامتياز مع مرتبة الشرف.
لأوّل مرّة أكتشف أنّ المرض - وهو أمر غير إرادي وغير مرغوب ولا مطلوب - يمكن أن يكون فضيحة بجلاجل بالنسبة للسياسي البريطاني، بل قد يتعدّي ذلك إلي اعتباره جنحة مخلّة بالمباديء، أو تهمة موازية لتهمة الخيانة!.
(تشارلز كيندي) قائد حزب الأحرار، شاب معافي، يعمل بهمّة تعادل همّة جميع القادة العرب منذ فجر التاريخ حتي القيامة.
لكنّه، للأسف الشديد، تورّط قبل أسابيع بارتكاب جريمة لم يغفرها له الإعلام ولا أعضاء البرلمان ولا رفاقه في الحزب.
ماذا فعل؟!
لقد أصيب الرّجل بوعكة صحيّة!
يقال إنّ فايروساً داهم معدته فأقعده مريضاً لعدة أيام، لم يستطع خلالها حضور مناقشة الميزانية في البرلمان!.
لكنّه، مع ذلك، استطاع أن يعاند مرضه، وأن يغادر فراشه إلي المنصّة، ليلقي خطابه في مؤتمر الحزب، وهو يتصبّب عرقاً، وأنهي خطابه برغم الإعياء الشديد وانقطاع الأنفاس.
وظننت أنّه سيتلّقي المديح لبطولته هذه، أو التعاطف علي الأقل، لحرصه علي أن يكون حاضراً وفاعلاً برغم المرض.
لكنّ الأمر كان علي النقيض، من ذلك .. لقد قامت قيامة الصحف في اليوم التالي، وأسرف المعلّقون والمحلّلون في تأنيبه علي وقوفه خطيباً في مثل ذلك الوضع المزري، ولم يتردّد عدد من رفاقه في الحزب عن المطالبة باستقالته!.
ورأيت الرجل، بعين حانية وقلب متحرّق، وهو يحاول جاهداً أن يدفع عن نفسه ذلك العار .. وسمعته يردّد بصوت متهدّج هو أقرب إلي البكاء منه إلي التصرّيح: (أنا لست مريضاً .. لقد أصبت بوعكة فقط .. أنا لست مريضاً) .
المسكين .. كأنّه كان يتعاطي المرض إدماناً، أو كأنه اقترف المرض عامداً مع سبق الإصرار والترصّد!.
ملعون أبوالقيادة التي لا تعطي السياسي المصاب بوعكة فرصة شهر واحد علي الأقل، يستطيع خلاله تعديل أوضاعه، وإصلاح أخلاقه، وإبراء ذمته من أي قصد مسبق للوقوع تحت وطأة المرض!.
لو جري الأمر لدينا علي المنوال نفسه - وهو لن يجري ولو انتقل القطب الشمالي الي خط الاستواء - لأصبحنا ذات يوم فوجدنا أنّ جغرافيتنا كلّها قد أقفرت تماماً من جميع القيادات التاريخية، وهي عندنا كلّها تاريخية والحمدلله، فأغلب قادتنا الشبان - سواء في الحكم أو المعارضة - قد مضي علي وقوفهم ممسكين بالتاريخ خشية سقوطه، أكثر من ثلاثين عاماً، بل إنّ مدّة صلاحية بعضهم قد انتهت منذ زمن بعيد حتي دخل التقويم النُّوحي (نسبة إلي سيّدنا نوح) بحيث لم تعد حتي الجن قادرة علي أن تستدل علي غيابه، برغم أنّ دابة الأرض ماتت من التخمة، منذ زمان، وهي تأكل منسأته وتأكله معها!.
أنا الآن علي فراش المرض، ولو أنّ اللّه مَنّ عليّ بالعافية، فإنّ أوّل ما سأفعله هو زيارة (تشارلز كيندي) لتهنئته بالشفاء أوّلاً، ولإغرائه، ثانيا، باستثمار علاقاته مع العرب، لطلب الجنسية العربية، ومواصلة جهده السياسي من هناك، حيث المرض عنوان الصحة وحيث الموت إكسير الحياة بالنسبة للقيادات التاريخية!.
لاعزاء للسيّئات!
كلّنا يعرف ريّا و سكينة اللّتين ملأتا قلوب نساء مصر بالرّعب في العقد الثاني من القرن الفائت، والّلتين أُعدمتا عام 21،19لقتلهما سبع عشرة امرأة معظمهن من السّاقطات، بمشاركة أربعة رجال وامرأة أخري.
وبرغم مرور مايزيد علي ثمانين عاماً علي إعدامهما، لاتزال ذكري هاتين السفّاحتين تثير الفزع في نفوس الناس جيلاً بعد جيل، وترسم لهما في الأذهان صورة بالغة البشاعة مؤطّرة بالكراهية والمقت.
لماذا استأثرت هاتان المرأتان وحدهما بصفة البشاعة التي لاتمحوها الأيّام؟
هل لأنهما لم تكونا علي حظ من الحصافة، لتقرّرا توزيع ثلث ما تسرقانه من ضحاياهما علي مجاميع من الصحافيين، أو أصحاب غرز التحشيش حيث لم تكن الفضائيات قد اختُرعَت بعد أو رجال الشرطة كممثّلين رمزيين لمسؤولي السلطة؟!
ولماذا حين ألقي القبض عليهما في ظلّ حكومة احتلال إنجليزية، لم يشعر العرب الأقحاح بأنّ كرامتهم قد أهينت، وأنّ شرفهم قد غطس في الوحل؟!
ولماذا لم تفتح العدالة العمصاء عينيها، وتنفش شعرها، وتسرف في العويل، طالبة معاملتهما بالرأفة، والحكم بالطلاق البائن بين رقبتيهما وحبل المشنقة؟! هل لأنّ اتحّاد المحامين العرب لم يكن قائما في تلك الأيام السوداء الظالمة .. أم لأنّهما لم تساعدا في بناء ولو حجرة بمشتملاتها لمحام أردني عريق؟!
خذ ضحايا ريّا وسكينة السبع عشرة، واضربهن بمائة وخمسين ألفاَ، لكي تري حجم الفرق الهائل بين رقم جرائمهما ورقم جرائم صدّام الرجيم.
وخذ حصاد ما سرقتاه من ضحاياهما، واضرب ثمنه بعشرات المليارات، لكي تعرف الفرق العظيم بين لصوصّيتهما ولصوصيّة حامي البوابة الشرقية!
وبعد أن تُنبئك آلتك الحاسبة بفارق الأصفار المديد بين جريمة بائتة، وجرائم طازجة لم تنشف دماؤها بعد، فإنّك، إذا كنت حيّ الضمير، ستتمني لو كان قلبك بضخامة جبل رضوي، حتّي تستطيع ان تمتصّ الصدمة، حين تكتشف في غمرة فجيعتك، أنّ أمّتنا الواحدة ذات الرّسالة الخالدة تحتاج إلي ألف سنة لكي تبلغ وجه الحضيض، لأنّها واقعة تحته بمسافة آلاف الأميال!
ذلك لأنّ أمّة لاتشعر بالعار من شعورها بالعار عند إلقاء القبض علي قاتل الملايين وسارق المليارات، هي أمّة لاتستحق حتي شرف الانتماء للحضيض!
لم تكن سكينة مهيبة ركن، ولم تزعم الدفاع عن بوابة بيتها المتهدّم، دعك من البوّابة الشرقية كلّها، لكنّها كانت أكثر تماسكاً وقوّة يوم اعدامها، من قائدنا الضرورة يوم القبض عليه.
كانت سفّاحة السبع عشرة تقول أمام المشنقة أنا جدعة .. ضحكت علي الحكومة وقتلت 17 ست .. وهاتشنق زي الجدعان!
فيما كان سفّاح الملايين القابع كالجرذ في حفرته بصحبة مسدّسة ورشّاشاته، يلعلع قائلا: لا تطلقوا النّار .. أريد التفاوض!
وإذا كانت ريّا قد صاحت بالجلاّد وهو يشدّ وثاقها: بالرّاحة شوية .. أنا برضه وليّة ..
فإنّ سفّاح الملايين لم يُتعب نفسه باطلاق مثل هذه الصّيحة، لأنّ المئات من حماة العدالة حماها اللّه منهم قد تطوّعوا نيابة عنه للصّراخ: دَعُوه .. إنّه وليّ من الصالحين!
ليس قصدي من ذكر هذه المفارقات عند المقارنة ان أردّ الاعتبار للسفاحتين، ذلك لأنّ ضخامة جرائم صدّام هي بمثابة ردّ اعتبار لجميع السّفاحين في الأرض منذ قابيل حتّي اليوم .. لكنني تمنّيت لو طال العمر بريّا وسكينة اللّتين تخصّصتا باستدراج السّاقطات وقتلهن، لكي تشهدا كيف تغيّر الزمان، فأصبح للسقوط اتّحاد يستدرج الضحايا لحسابهما مربوطين بحبل القانون!
الوليمة
وقف الرّجل امام الدّكان، وعدّل وضع نظارته ذات الزجاجات السميكة، ثم دفع بالصغير جانبا وهو يأمره بلطف وحنان:
- اجلس علي الدّكة. سآتيك بالحمّص حالاً.
ابتسم وهو يسلّم علي البائع الذي بادله الابتسام مرحّباً.
- قبل كلّ شيء .. زِنْ لي قليلاً من هذا الحمّص المملّح .. وليمته يجب أن تتقدّم علي وليمة ضيوفه، وإلاّ فالويل لي ولأمّه.
قال هذا وهو يشير إلي الولد الذي اتخذ مكانه بهدوء وأدب علي الدكّة المجاورة للدكان.
التفت البائع إلي الولد مبتسماً، وقال وهو يُعبيء الكيس بالحمّص:
- ما شاء الله. لطيف وهاديء .. ليحفظه الله لكما.
تناول منه الكيس شاكراً، ومال ناحية الولد، ووضعه في حضنه.
- كُلْ يا بني، ريثما يُهيّيء لنا عّمك مستلزمات الوليمة.
شرع الولد بالتقاط الحبّات، وراح يقضمها ببطء وتلذّذ.
- من فضلك .. أأجد عندك نوعية جيدة من الرّز البسمتي؟
- طبعاً .. درجة أولي .. هناك عبوات مختلفة. كم تحتاج؟
- عشرين كيلوغراماً. ولو سمحت .. اعطني مثلها من العدس.
- حاضر.
وفيما هو يطرح الكيسين علي العتبة، اشار الرّجل الي الرّف:
- هذا شاي ابو القلم .. أليس كذلك؟
- نعم. أحسن صنف.
- التقط لي علبتين من فضلك، وزن لي عشرة كيلوغرامات من السكر.
رفع البائع الملقط، وجذب علبتي الشاي ووضعهما فوق الطاولة، ثم غمس المغرفة في زكيبة السكّر، وراح يعبّيء كيسا من الخيش علي كفّة الميزان.
- لطفا .. اذا فرغت، ناولني اربعة اكياس شعرية .. تبدو لي من نوعية جيّدة.
- أحسن نوعية في السّوق.
- ما اصناف الحلوي التي لديك؟
- كلّ ما تشتهيه نفسك. عندنا هنا حلاوة طحينية.
وهنا حلاوة رملية. وعندما ايضا بقلاوة ممتازة. انظركم هي شهيّة .. لقد خرجت من الفرن قبل ساعة فقط.
- زن لي كيلوين من كلّ نوع من الحلوي، وثلاثة كيلوات من البقلاوة.
تكدّست عبوات الشاي والشعرية والعدس والسكّر فوق كيس الرّز الضخم.
قال البائع مازحا، وهو يقتطع الحلوي من الصّينية:
- تبدو وليمتك وكأنّها لجيش من النسور الصائمة!
- ليست وليمتي يا سيّدي: انها وليمة المحروس .. لقد ختم القرآن امس. اقول .. اعطني قطعتي بقلاوة من اجله.
التقط البائع قطعتين، ولفّهما بورقة وناولهما للرّجل الذي ناولهما بدوره للصغير.
- ختم المصحف في هذه السّن؟ اللّهم احرسه من كل شر ببركة كتابك الكريم.
- اشكرك.
- كيف ستحمل كل هذه المؤونة؟
- معي عربة.
اشار الرجل الي شاب يقف وراء عربة يد، وطلب منه حمل الاكياس الي العربة .. ثم التفت الي البائع.
- لِنرَ الآن كم اصبح حسابنا.
راح البائع يسجّل بعقب قلم رصاص علي دفتر صغير، وهو يهمهم، بينما دسَّ الرجل يده في جيب سترته الدّاخلي .. ثم ما لبث ان اخرجها، وشرع يبحث في جيوبه الأخري، ثم فتح عينيه علي اتساعهما دهشة وحرجا، والتفت مستوقفا الشاب:
- ياسر .. لحظة واحدة. اعد الحاجات الي العتبة. يبدو انني نسيت المحفظة في البيت.
قال البائع:
- أبيتك بعيد؟
- كلا .. في الزاوية اليسري من الشارع الثالث مسافة عشر دقائق لا اكثر. اعتقد انه ينبغي ان اذهب لاحضار محفظتي. لن أتأخر.
- أتعرف صاحب العربة؟
- ياسر؟ طبعا اعرفه.
- ليذهب لاحضار النقود. ولا داعي لإنزال الحاجات. دعه يذهب بها الي البيت، ما دام سيحملها في كلّ الأحوال.
- فكرة جيّدة. كم حسابك أخي؟
- سبعة واربعون دينارا وثلاثمائة
فلس. حمّص الولد وحلاوته هدية من المحل. يستاهل .. خاتم كتاب الله. بارك الله فيك.
- أشكرك. اسمع ياياسر. قل لخالتك ان تعطيك خمسين دينارا. توكّل علي الله. لا تتأخّر. في الفترة التي غاب فيها ياسر، استغرق الرّجل بالحديث مع البائع عن وقائع الحرب العالمية وسنوات الكساد. وحين لم يعد الشاب بعد مرور ساعة، ساور الرجل القلق ..
- قلبي يحدّثني بأنّ أمراً غير عادي قد وقع لياسر. انّه يعرف موقع البيت كما يعرف ظاهر كفّه، والمسافة ليست بعيدة، فلماذا تأخّر كل هذا الوقت؟ يشاركه البائع قلقه، وتمنّي ان تأتي العاقبة بالسلامة، ولمّا رأي الرجل يتململ في وقفته قلقاً، دعاه لأن يذهب لاستطلاع الأمر.
قال الرجل بعد ان فرغ من تلاوة المعوّذات:
- اعتقد انّه لابُدّ من ذلك.
وتطلّع الي الولد الجالس علي الدكّة:
- لا تتحرّك من مكانك ياولد. ابقًَ عند عمّك حتي اعود. هل فهمت؟
هزَّ الولد رأسه علامة الايجاب، فيما كان يواصل قضم حبّات الحمّص.
بعد ساعتين، خرج البائع الي بسطة الرصيف امام الدّكان، واستعرض الشارع من نهايتيه. كان يحكّ رأسه حائرا، وقبل ان يعود بخطي بطيئة الي داخل دكانه، التفت نحو الصغير قائلا في ما يشبه الزّفرة:
- أبوك تأخّر.
قال الولد ورشاش الحمّص يتطاير من فمه:
- انّه ليس ابي.
صُعِقَ البائع.
- ليس اباك؟ مَن يكون اذن؟!
- ما ادري.
- لكنّك جئت معه يدا بيد .. مَن انت ياولد؟!
- انا محمّد. كنت ألعب مع اصحابي في ذاك الشارع، ومرّ بنا هذا الرّجل وسألني هل تحب الحمّص المملّح؟ قلت له نعم، قال تعال اترِسْ بطنك.
النفط .. مقابل البغاء!
كنت أستيقظ يوميا علي أصوات النائحات بمختلف اللغات وهن يندبن أطفال العراق .. لكن ما أن سقط نظام صدام الرجيم حتي انقطعت أو كادت تلك الأصوات الزاعقة التي احتلت من صباحاتي، لأعوام طويلة، دور الديك الفصيح والساعة المنبهة!
ماذا جري؟
الاحتمالان الحاضران لخفوت الرنة هما: إما أن يكون الاحتلال الأميركي قد أوقف برحمته المعهودة وفيات الأطفال العراقيين، وإما أن يكون هؤلاء الأطفال قد انقرضوا عن بكرة أبيهم، فلم يعد هناك ما يوجب البكاء.
وكلا الاحتمالين باطل، فلا أميركا رحيمة، ولا الأطفال انقرضوا، بدليل أنهم مازالوا يتساقطون نتيجة الجوع والمرض وانعدام المياه النظيفة، ونتيجة الجهاد المقدس الذي يشملهم ببركاته وهو في طريقه لمقارعة العلوج!
ثمة احتمال ثالث كان مجرد ظن شبيه بالإثم، لولا أن صدقت عليه جريدة المدي العراقية بنشرها حزمة صغيرة من وثائق الرشوة التي صاحبت برنامج النفط مقابل الغذاء.
إن مبيعات مرحلة واحدة فقط من ذلك البرنامج سمحت بمسح ذلك الظن، وجعلته حقيقة ساطعة خالية إلا من آثام الراشي والمرتشين.
ذلك إذن هو سبب خفوت النواح، فالنائحات لا يندبن ميتاً حباً فيه، ولكن طمعاً في الأجرة المستفادة من ذويه، ولما كان ذوو الميت.
وهم قاتلوه بالمناسبة قد غادروا حفرتهم إلي حبسهم، فقد استحال البكاء احتجاجاً تصرخ به الجيوب لا الأفواه، ليس علي تغييب الأبرياء في المقابر الجماعية، ولكن علي تغييب القاتل في الحبس، واحتباس الأجرة عن النادبات!
أحصيت براميل نفط أطفال العراق التي وهبها من لا يملكها لمن لا يستحقونها، فإذا بها تبلغ في المرحلة الثالثة فقط من ذلك البرنامج الفكاهي بليوناً وخمسمائة وثمانية وسبعين مليوناً من البراميل .. توزعت علي مائتين وسبعين مرتشياً من خمسين دولة .. هم بمعظمهم رؤساء أحزاب ونواب ووزراء وشخصيات مؤثرة.
ولم أعجب لوجود مرتشين من 16 دولة عربية ضمن القائمة، ذلك لأنني حفظت أسماء وأصوات أغلبهم وهي تلعلع بالصوت العريض دفاعاً عن شرعية صدام المنتخب بنعال أبو تحسين بنسبة مائة بالمائة!
لكن ما أدهشني هو وجود مرتشين من جميع دول مجلس التعاون الخليجي، ماعدا الكويت!
ولعل التجربة القاسية التي مرت بها الأخيرة هي التي منعت اكتمال نصاب التعاون علي البر والتقوي وما يثير الدهشة أكثر أن القائمة تضمنت أسماء أفراد من بعض الأسر الحاكمة في دول الخليج، وهم في كل الأحوال ليسوا بحاجة ملحة إلي المال، وليسوا مضطرين إطلاقاً إلي ترجمة عواطفهم الحارة تجاه ذلك النظام عبر معجم البرميل المحيط!
المرتشون العرب حصلوا في المرحلة الثالثة للبرنامج علي أربعمائة وواحد وثمانين مليون برميل نفط فقط لاغير .. أي علي ثلث الرشوة الضخمة التي رصدت لشراء المواقف والضمائر وتسويق قباحات نظامه الهدام.
وبعد انكشاف المستور، فتحت دول الغرب أبواب التحقيق مع المنتفعين من مواطنيها .. وليس ببعيد أن النائب العمالي البريطاني جورج غالاوي قد طرد من حزبه لمجرد ظهور وثيقة، عند نهاية الحرب، تدينه بالاستفادة من نظام صدام.
أما علي الضفة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، فلم نسمع، حتي الآن، أن تحقيقاً جري بشأن واحد من المناضلين ذوي الحناجر الصقيلة، كما لم نسمع من أحدهم نفياً قاطعاً لضلوعه في هذه الصفقات المريبة .. بل علي العكس سمعنا من بعضهم ما يؤكد تلقيه للرشوة، لكنه يغلفها بمسوغات لا تجوز علي عقل الطفل الرضيع، وهي بمجملها مسوغات تعمق التهمة وتحمل لصاحبها الإدانة القاطعة.
واحد من هؤلاء نشر بياناً يدعي فيه أنه يتعرض لما دعاه باغتيال الشخصية، ويؤكد بالحرف الواحد: كنا نتابع مصالح لنا في العراق!
ولا أحد ادعي غير ذلك، فالوثائق تقول إن المرتشين كانوا يتابعون مصالحهم .. أما الخلط بين المصلحة الشخصية وإدعاء الدفاع عن قضية ما، وقيادة قطعان الغافلين- تحت سقف الرشوة - لتمجيد نظام أباد الملايين من مواطنيه، فهو عهر صراح لا تطهره سبعة بحار من الديتول.
والشخصية التي تشارك، عامدة، في الاغتيال المادي لملايين الأبرياء، لا يجوز لها بأية حال أن تشكو من الاغتيال المعنوي.
وهناك من ادعي أنه كان مجرد وسيط لوسيط آخر بدافع الصداقة .. وأنه لم يجن أية أرباح من هذه الصفقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم يذهب الوسيط الآخر بنفسه مادام الأمر موضع اختصاصه؟ ولماذا قبلت وساطتك أنت بالذات؟ ولماذا توسطت، أصلاً، في قضية كهذه هي ليست من اختصاصك؟ إن هذا يذكرني بصاحب جريدة كويتي، تفرغ خلال الحرب العراقية الإيرانية لتوريد البساطير العسكرية للجيش العراقي .. مما أكسبه صفة الريادة في تطعيم العمل الإعلامي بالأحذية، متجاوزاً بذلك دخول نعل أبو تحسين لدائرة الأخبار بإثني عشر عاماً!
والأكثر صفاقة بين الجميع .. ذلك المخلوق الذي دافع عن نفسه باتهام نفسه حين قال: إن الحكومة العراقية لم تدفع من جيبها لأي شخص، بل كانت تحدد فقط من يشتري النفط من الشركات والأفراد الذين يأخذون بدورهم هامش ربح بسيطاً!
وأمام صلابة وجه كهذه، لا يملك المرء إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
إن أحداً لم يقل بأن الحكومة العراقية البائدة كانت تدفع من جيبها .. بل علي العكس فإن تلك الحكومة القذرة كانت تدفع من جيب العراقيين المغيبين في الزنازين أو تحت الأرض أو في المنافي، أو المشردين علي أرصفة أشقائهم الذين يستوفون منهم الغرامة بشكل يومي إذا انتهت مدة الإقامة الممنوحة لهم في جنات النعيم!
ويواصل هذا الضعيف مرافعته قائلاً إنه عمل كوسيط لبيع ما بين ثمانية وتسعة ملايين برميل نفط .. بهامش ربح بسيط لا يتجاوز خمسة سنتات للبرميل الواحد.
تأمل كيف أن ذاكرة هذا الشريف ضعيفة إلي الحد الذي لا يؤهلها لتحديد عدد البراميل، فهي ما بين ثمانية وتسعة ملايين .. أي أن أخانا يسهو عن مليون برميل، وكأن الرقم الهائل هذا مجرد إبرة في كومة قش، وليس معادلاً لثلاثين مليون دولار بالتمام والكمال!
وتأمل كيف يستهين بعقلك وعقلي، عندما يقلل من شأن عمولته بوصفها هامش ربح لا يتعدي السنتات الخمسة، وكأن الزني مرة واحدة يعد كرامة مقابل الزني عشر مرات!
ومع ذلك .. فإن هامش الربح البسيط هذا إذا أسندناه إلي تسعة ملايين برميل قيمة الواحد منها، حينذاك، ثلاثون دولاراً، سيبوح لنا برقم يجعل من تواضع صاحبنا إهانة بالغة لكل ذي عقل.
السنتات الخمسة تعني دولاراً ونصف الدولار عن كل برميل .. وهي تعني بالتالي ثلاثة عشر مليون دولار ونصف المليون دولار 000.500.13 عن الصفقة كاملة!
شخصياً لن أسأل هذا الطفيلي الهامشي البسيط عما قدمه لأطفال العراق من هذا الربح، ولا عما دفعه من غرامات العراقيين المشردين علي أرصفة بلاده.
لكنني أسأل قطعان البشر التي لا تزال تهتف للطاغية اللص بتأثير هؤلاء اللصوص:
أما آن لكم أن تكفوا عن هذه الحماقة، وأن تستديروا إلي تجار الدماء هؤلاء لتستردوا منهم أدمغتكم؟
إن كراهية أميركا لا تجيز للعاقل أبداً أن يصطف إلي جانب صنيعتها .. بل ينبغي أن نكر من أميركا، أول ما نكره، جريمة وضعها هؤلاء الطغاة علي صدورنا، وتدميرنا بهم وتدمير بلادنا مرة أخري بأقوي أسلحتها، بذريعة وجود هؤلاء الشياطين الذين لم يكونوا لولاها.
لقد آن لنا أن نصطف مع أنفسنا، وأن نتصالح مع ذواتنا الجريحة، فلا نقف مع شيطان لمواجهة شيطان آخر.
لنفعل ذلك مرة واحدة، لكي نكون شعوباً جديرة بالحياة.
مفتي الهلال!
في عدد يونيو الماضي من مجلّة (الهلال) قرأت ما أضحكني من الأعماق، علي رغم المآسي المحيطة بي من كلّ جانب .. ولعلّ بلوغ هذه المجلّة الوقورة مرحلة الخرف في عامها الرابع بعد المائة، يُعدُّ واحدة من أكبر هذه المآسي.
سأترك جانباً كل ما يمكن أن يقال عن نزوع المجلّة في أعدادها الأخيرة إلي تقليد مجلاّت وصحف الخفّة والفضيحة، بتبنيها موضوعات مثيرة غير محكّمة، وغير لائقة بمجلّة رصينة لا تتطلّب الانتشار بالإثارة المجانية، مثلما فعلت بنشر أوراق علنية علي أنها سريّة تحاول الإيحاء بعمالة الكاتب اللبناني الشهير أمين الريحاني للمخابرات الأمريكية.
وسأترك جانباً مقالات رئيس تحريرها الجديد التي تلوي أعناق المناسبات علي اختلافها من أجل نشر صورة للرئيس المؤبد، في افتتاحية كلّ عدد تقريباً، وإقامة موالد التصفيق والهتاف والتسبيح بحمده.
وسأترك جانباً عدم التناغم في الموضوعات المنشورة، وتراوحها بين الجودة العالية والرداءة التامة، وكأنها مرصوصة (عليك يا الله) ، كما نقول في العامية، أي أنّ كل موضوع معلّق بذمة كاتبه، فإذا كان ذلك الكاتب متمكناً بدا الموضوع رصيناً وخالياً من الأخطاء اللغوية والإملائية، وإذا كان فقير العدّة أمكن القاريء أن يزن الأغلاط في الموضوع بالكيلوغرامات، وكفي الله هيئة المجلة عناء التحرير!.
سأترك كلَ ذلك جانباً، وأدخل في صلب النكتة التي أضحكتني جداً، فهي تعكس بإيجاز بليغ ما آل إليه حال هذه المجلة العريقة التي ظلَت علي مدي قرن من الزمان مدرسة ثقافية للعديد من الأجيال العربية.
في باب (أنت والهلال) الذي يحررَه مدير التحرير، قرأت ما يلي:
(رسالة للهلال من قم: رسالة رقيقة وصلت إلينا من قم بجمهورية إيران الإسلامية ننشرها كما بعث بها مفتي الشيعة هناك:
إلي حضرة رئيس التحرير - مجلة الهلال:
إذا كان بمقدوركم أن ترسلوا إلينا بعض أعداد مجلة الهلال أكون شاكراً لكم، كما أتمني أن أشارك ببعض المقالات.
سيد عبدالله
مفتي الشيعة
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
مدينة قم
مقابل جامعة الزهراء).
وفي نهاية الرسالة نشر الرد التالي من الهلال:
(نشكر لمفتي الجمهورية الإسلامية الإيرانية مشاعره الطيبة نحو مجلة الهلال وفي انتظار مقالاتك وإسهاماتك التي سننشرها فوراً. كما سيصلك قريباً أعداد من إصدارات مجلتنا).
إنَ في نشر تلك الرسالة والرد عليها ما ينم عن الخفة وانعدام المعرفة وعدم الاكتراث بسؤال العارفين.
فأصلاً ليس هناك منصب رسمي للإفتاء لدي الشيعة في أي مكان، بل أنَ هناك علماء بالعشرات يسمَون مراجع التقليد .. يسعي إليهم أتباعهم بطلب الفتوي، دون ارتباط بالدولة، أي أنّ الشيعي البحريني، مثلاً، قد يأخذ الفتوي من عالم لبناني، والشيعي الإيراني قد يستفتي عالماً عراقياً .. وعليه فإنَ مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسه لا يستطيع الإدعاء أنه مفتي الشيعة، فما بالك برجل مجهول اسمه سيد عبدالله، وهو من يمكن أن يكون له ألف سمي في إيران وحدها؟!.
ثم أنّ العنوان الذي سجله سيد عبدالله في ذيل رسالته، يدل بوضوح علي أنه نكرة، وأنه، شأن أي بائع متجول، لا يملك عنواناً محدداً أو مشهوراً، ولذلك اختار أن يلفت انتباه ساعي البريد إلي أنه يسكن مقابل جامعة الزهراء، مثلما يفعل سكان القري بالإشارة إلي عناوين معروفة يتلقون رسائلهم بدلالتها، كمركز البريد أو نقطة الشرطة أو المستوصف .. أو غيرها.
وفي حالة مفتينا العتيد، كان ينبغي لجامعة الزهراء أن تشير في مراسلاتها إلي أنها تقع مقابل المفتي سيد عبدالله، لا العكس، إذ لا يمكن أن تكون تلك الجامعة أشهر من دار الإفتاء!.
إنَ ذلك يذكّرني بالطرفة التي تروي عن شاب عراقي كردي عُيّن عند تجنيده في وزارة الدفاع ببغداد، فطلب من أهله مراسلته علي العنوان التالي: بغداد - وزارة الدفاع، مقابل محلات لبن أربيل!.
وبالعودة إلي رسالة المفتي التي تصفها مجلة الهلال بأنها رقيقة، سنري أنها ليست رقيقة ولا غليظة، بل هي مجرد سطرين يطلب فيهما كاتبهما أعداد المجلة ويتمني أن ينشر فيها بعض المقالات.
غير أن ردّ المجلة العجيب الغريب هو الطافح بالرقة الفادحة .. فهو أولاً لم يحاول جرح رداءة الأسلوب، فآثر أن تكون صياغته ركيكة، وهو ثانياً لم يتوقف متسائلاً عن حقيقة صفة هذا السيد عبدالله، بل بصم بالعشرة علي قرار تنصيبه مفتياً للشيعة، وهو ثالثاً فعل ما لا تفعله أكثر المجلات خفة، إذ أوقف المجلة في محطة القطار انتظاراً لمقالات وإسهامات سيد عبدالله، لكي تنشرها فوراً .. هكذا، دون قيد أو شرط، وفق قاعدة عليك يا الله التي أشرنا إليها آنفاً .. ذلك لأنّ الرد لم يجرح مشاعر المفتي، ولو برقّة، باشتراط أن يكون ما يرسله صالحاً للنشر!.
أتذكّر من أيام طفولتي، أنّ شاباً شقياً من أبناء شط العرب، كان يراسل برنامج ما يطلبه المستمعون في إذاعة إيران العربية، وكان أهل البصرة ينتظرون إذاعة طلباته بفارغ الصبر، لكي يضحكوا، ذلك لأنه لم يكن يطلب الأغنيات بأسماء حقيقية، لكن بأسماء ماركات السجاير والشوارع والأنهار والعاهرات، وقد يتعدّي ذلك إلي شتم عرض الشاهنشاه!.
وكانت أعيننا تفيض بالدمع من فرط الضحك ونحن نسمع المذيع يتمطّق برصانة قائلا: وطلب أغنية زهور حسين من البصرة كلّ من لوكس فردوسي وتركية غازي (أسماء أربع ماركات للسجاير) ويهديانها إلي حسنة ملص وزهرة الطويلة (عاهرتان شهيرتان) وإلي مأخوذ مرته شاهي (شتيمة فاقعة لزوجة الشاه) !.
وقد مرّ وقت طويل قبل أن تكتشف الإذاعة وقاحة صاحبنا فتمتنع عن إذاعة طلباته.
يبدو لي الآن أنّ سيد عبدالله قد أفلح بعد عقود متطاولة في أن يأخذ بثأر الإذاعة الإيرانية البائت، وأن يستوفي ثمن ضحكنا القديم بالضحك الطازج علي أهم صرح ثقافي عربي .. إذ ليس لدي شك في أنّ أهالي قم سينفجرون بالضحك كلما طالعوا رسالة (مفتيهم) وأنهم سيبتهلون إلي الله أن ينعم علي مجلة الهلال بطول العمر، وأن يجعلها دائماً نافذة لتفريج الهموم!.
أحمد مطر
مفتي عموم المسلمين
بريطانيا العظمي
مقابل ملعب ويمبلي
إسلام أَباد!
في اللّيلة الحادية والعشرين قالت شهر زاد: بلغني أيّها الملك السّعيد أنّ حافلة نُسفت بإذن اللّه، في وسط العاصمة، وقد تفحّم جميع مَن كانوا فيها والحمدللّه. وأنّ أسرة بأكملها ذبحت بمنّة اللّه، لأنّ لا حياء في الجهاد كما يقول قائد المجموعة المؤمنة بالله .. وأنّ عشرات الأطفال قد قُتلوا وهم في طريقهم إلي المدرسة، برصاص آبائهم في اللّه .. وأنّ سيّارة مفخّخة انفجرت بعون الله، أمام مركز لإسعاف عباد اللّه ..
قاطعها شهريار غاضباً: مهلاً، مهلاً، لقد أسرفت في مراقمة الفواجع .. ماذا تقصدين بكلّ هذا الهراء؟
قالت شهرزاد بلامبالاة: أقصد يا زوجي في اللّه، أنّه يكفيك ما رويته لك حتّي الآن .. ذلك لأنني لن أواصل تأليف الأكاذيب من أجل تسليتك ..
وعلام أتعب نفسي؟ مَن يضمن لي أنني لن أُقتل برصاص إخواني في اللّه، وأنا خارجة من عندك في الليلة الثانية بعد الألف إن شاء اللّه؟!
قلب كبير
ليس هناك زمان قبيح وزمان جميل .. بل هناك إنسان قبيح وإنسان جميل.
الزّمان ليس صورة ثابتة. إنه نهر صافٍ يجري بحياد، مثل المرأة، وهو في جريانه لا يُبدي صورته الخاصة، ولكن يعكس صور النّاس الذين يمرّون به، ويبقي علي حياده، علي الرّغم من اسرافهم في تحمليه صفات هذه الصّور.
ومن تلك الصّور المنعكسة علي هذه المرآة، تبدو لنا، من بعيد، صورة عام،1916 حيث تنطبع علي جانب منها مشاهد الهول والدمار وإهراق الانسان لدم أخيه الانسان، في ذروة الحرب العالمية الأولي.
لكنّنا، في الوقت نفسه، نشاهد في زاوية قصّية من الجانب الآخر فيها وجه فنّان في العشرينات من عمره، يسمّيه أصدقاؤه بيب تحبّباً، وتعبيراً عن براءة ملامحه الطفوليّة.
كان بيب في ذلك الوقت يعمل لدي شركة (فيم كوميدي) لإنتاج الأفلام الصّامتة في فلوريدا، وكانت أدواره ثانوية وبسيطة، لكنه ثابر من أجل ان يفوز بأدوار أكبر وأكثر تأثيراً، دون ان ينقطع عن عمله كمغنٍّ في أحد المسارح، ليلاً، لأنّه كان يحب الغناء أكثر من أيّ شيء اخر.
وقد جمع له علمه المزدوج شعبية كبيرة، كان من نتائجها ان تضاعف راتبه لدي شركة التمثيل، فارتفع دخله بصورة كبيرة. لكنّه لم يتردّد في إنفاق ذلك الدّخل الكبير، أولاً بأوّل، ليس بدافع الإسراف والتبذير، ولكن بدافع سخائه الذي لا حدّ له، الأمر الذي جعل حتّي معارفه العابرين يستغلّون طبعه الجميل هذا، فكانوا يقترضون منه المال، علي وعد بتسديد القرض في موعد محدّد، لكنهم سرعان ما يتناسون، ببساطة، تعهدهم بالسّداد، فيما كان هو بسبب من رقّة قلبه ورهافة احساسه، لا يجرؤ، إطلاقاً، علي تذكيرهم بتلك الدّيون.
وعلي هذا المنوال كان ينفق الكثير من النقود علي الكثير من الدّيون الميّتة، بصورة لم يسبقه اليها احد، وربّما لم يلحقه بها أحد ايضاً!
إن سخاء بيب المفرط، كان نابعاً من تجربته المرّة في صباه، عندما عرف -وهو يتيم في كنف أمّ مكافحة- كيف ان كل قرش يكسبه المرء يمكن ان تكون له قيمة كبري. وعلي هذا كان يحمل في أعماقه تعاطفاً فطرياً مع أيّ انسان يعاني من ضائقة ماليّة.
كان بيب وغالبية العاملين معه في الشركة يقيمون في فندق (أتلانتك) بمنطقة جاكسونفيل.
وفي أحد الفنادق المجاورة، كان هناك شاب موهوب يعمل في غسل الأطباق، ويؤدّي طائفة أخري من الأعمال التافهة من أجل توفير لقمة العيش.
وذلك الشّاب الواقف علي حافة الفقر، والذي يحدوه الأمل بدخول علام الاستعراضات كمغنٍّ، كان متزوجاً حديثاً من شابة مغنّية أيضاً، وكانا يسافران من مكان الي آخر، علي درّاجة ناريّة متهالكة، بحثا عن عمل. وكانا، لشدّة فقرهما، يضطران كثيراً الي النوم ليلاً علي مقاعد الحدائق العامّة.
عندما سمع بيب بحكاية هذا الشاب شعر بصدمة عنيفة تهزّه من الأعماق، إذ لم يصدق أبداً انه يمكن لأيّ إنسان أن ينحدر الي وهدة حياة بائسة كهذه.
وعلي الفور، انطلق لدعوة ذلك العامل الشاب وزوجته للإقامة في فندق (أتلانتك) ، وأصرّ علي أن يدفع أجرة غرفتهما مقدماً لمدّة ثلاثة أشهر، وبسرعة غير عادية استطاع ان يجد للشاب عملاً جديداً لائقاً، ثم وضع في يده خمسين دولاراً (هي ثروة في تلك الأيام) لكي يقضي بها حاجاته الراهنة، ورجاه بشّده ألاّ يفكّر بإعادة المبلغ اليه!
تمتم الشاب المشدوه بانبهار وخجل:
- لكن يا سيّدي .. إنني يجب أن أردّه اليك.
ولمّا رأي بيب اصرار الشاب علي ذلك، قال له لبطف بالغ:
- هناك طريقة واحدة في هذا العالم، يمكنك ان تسدّد بها ما أعطيك إيّاه: في يوم ما، عندما تجد شخصاً أسوأ حالاً منك، لا تتردّد عن مساعدته.
إنّ ذلك سيكون، بالنسبة لي، سداداً مضاعفاً لما أعطيتك إيّاه!
اغرورقت عينا العامل الشاب بالدّموع، وطفق يبكي، وعندئذ بادر بيب الي مغادرة الغرفة بسرعة خاطفة.
إنّ بيب الذي رحل عن الدنيا في عامه الثاني والستين، بعد ان أصبح نجماً كبيراً وطبقت شهرته الآفاق، ظلّ حتّي آخر لحظة من حياته محتفظاً بطبعه الجميل هذا، وبوجهه الطفولي البريء، وبروحه الطفولية البريئة نفسها.
واذا لم يكن في وسعه ان يسخو علي جميع البشر من جيبه، فانّه استطاع، بالفعل، ان يسخو عليهم من فنّة بهبات وافرة جدّاً من السعادة والضحك، بقيت تتدفّق، من بعده علي النّاس في كلّ أنحاء العالم، كالصّدقة الجارية.
لم يكن بيب هذا غير أوليفر هاردي الممثّل الكوميدي البدين ذي الوجه الطفولي، الذي أسعد العالم مع زميله ستان لوريل بسلسلة أفلامهما الهزلية التي حملت اسم (لوريل وهاردي) !
دوائر
نظرت من نافذتي في الطابق الثالث. كان الشارع ساكناً، وبدت المحلات علي جهته المقابلة متراصفة مع سكونه مثل التوابيت. وكان المارّة القليلون يتحّركون علي الرصيف ببطء وضجر، مثلما تتحّرك موجات النهر المتكاسلة امام هبّة ريح خفيفة.
رفعت بصري إلي السماء، فبدت لي مكتظّة بالغيوم الدّاكنة الكئيبة.
خطرت في ذهني المترع بكآبة لا حدّ لها، صورة حجر مقذوف كالطلقة، يكشط، في تسارعه، وجه الماء الساكن، ويستثير الضجّة من حوله، ثمّ لا يلبث أن يخلّف من بعده دوائر تترادف وتتّسع إلي ما لانهاية.
وفكرّت في أنّ تلك الغيوم إذا ما بصقت حمولتها علي وجه الشارع فلن تبعث فيه الحياة المرجّوة. سيسطع البرق للحظة، ربما، وسيزأر الرّعد لثوان، ربما، لكن هذا هو كلّ شيء. وفي المقابل فإنّ خرير المطر الموحش سيكتسح أمامه حتّي موجات العابرين المتكاسلة، وسيجبر حتّي الأبواب القليلة المفتوحة علي الكفّ عن تثاؤبها.
***
(كرااااش)!
ركزّت جوارحي كلّها في نظرة عاجلة إلي واجهة دكّان الخبّاز. ها هو ذا حجر قد اندفع بعنفوان ليفتتح سيمفونيّة الحياة.
بلمح البصر خرج الخبّاز حانقاً، وفي يده لوح الأرغفة الخشبي، وجري من ورائه جميع عمّال المخبز.
داست الأرجل شظايا الزّجاج التي ملأت الرّصيف. صرخ واحد من العمّال الحفاة، وراح يتقافز علي رجل واحدة، حاملاً بيديه رجله الأخري وهي تقطر بالدّم.
صاح الخبّاز وهو يري الواجهه مهشّمة تماماً:
- أولاد الكلب.
كان أمام الدَكان صبيّ مطأطيء نحو الأرض يبحث عن درهمه الذي سقط منه. تلّه الخبّاز من ياقته، وألهب وجهه بصفعة رنّانة، أردفها بالصرّاخ:
- ابن الكلب .. ماذا تريد ان تكسر أيضاً؟!
ارتعش الصبيّ بين يَديّ الخبّاز. وبعد هنيهة من صمته المطبق نتيجة خضّة المفاجأة، أطلق عقيرته بصراخ يمزّق الاذان.
تفتّحت النوافذ علي جانبي الشارع، وتردّدت الهمهمات والصيّحات متسائلة، ثم تتابع هطول النّاس من أبواب المباني.
أقبلت امرأة مذعورة، واخترقت الزّحام. وحين رأت الصبيّ غارقاً في دموعه وهو مشنوق من ياقته بيد الخبّاز، لطمت خدّيها وصدرها، وأطلقت صيحة فزع عالية:
- ابني!!
جذبت الصبيّ بعنف، وانتشلت اللّوح بسرعة من يد الخبّاز، ثمّ راحت تجلده به بضربات متلاحقة، وهي تصرخ بلا انقطاع:
- جبان. جبان.
حاول أحد العمّال استخلاص اللّوح من يدها، فسقطت علي الأرض، واندلع غضبها، حينئذ، أعنف ممّا كان.
اندفع رجل من وسط الزّحام، وتوجّه كالعاصفة نحو ذلك العامل الذي أسقط المرأة.
كان الرّجل، في عجلته للنزول، لا يرتدي غير سروال بيجامته، وكان وجهه لا يزال مغطّي بالصابون.
صاح النّاس برعب:
- العن الشيّطان يا رجل!
تراجع العامل فزعًا، وامتدت الأذرع للإمساك بالرّجل الغاضب الذي كان يصرخ، وفي يده تلتمع شفرة الحلاقة:
- يا خسيس .. تضع حيلك في امرأة؟!
أفلح البعض في جذب الرّجل الشّهم وتثبيته في مكانه، لكنّ موجة الزّحام الطاغية دفعت بالعامل نحوه بقوّة.
تدفّق الدّم كالنافورة، واصفّر وجه الشّهم الذي ما زالت يده قابضة علي الشّفرة المغروزة في بطن الخسيس.
صرخ العامل المطعون قبل أن يهوي علي الرّصيف:
- قتلني!
أقبل من آخر النّاصية شرطيّ يركض. وقف بين الجموع حائراً. كان الجميع يشدّونه من كلّ جانب، وكانوا جميعاً يزعقون في وقت واحد، مشيرين إلي كل الاتجّاهات: من الخبّاز وعمّاله، إلي الأم وولدها، إلي صاحب الشّفرة، إلي جثّة العامل النازفة فوق الرصّيف.
توقّفت السّيارات في الشارع، وراحت تنفخ أبواقها دون جدوي، حيث لم يكن هناك سبيل إلي تفريق الناس.
وبين الفينة والأخري، كانت صفّارات شرطة المرور تزغرد آمرة بالتحرّك، لكن لم يكن في وسع السائقين إلاّ مواساتها بنفخ الأبواق وضخّ البنزين ودوس الكوابح بسطتُ ذراعيّ علي طوار النافذة، مصيخاً إلي ضجّة الحياة التي بعثها ذلك الحجر السّاحر في سكون نهر الشّارع، ورحت أرقب بشغف، تلك الدوائر التي خلّفها وهي تترادف وتتّسع.
قلت وأنا أسمع صفّارات الشرطة:
- تلك هي دائرة المرور.
ولم يلبث صوت سيّارة الإسعاف أن أتي يتأوّد من بعيد، وارتفع بالتدرّيج كصرخة المفجوع.
- ها هي ذي دائرة الصحّة.
ثم ضحكت حتّي دمعت عيناي، حين امتلأ الشّارع بعويل متصّل مصحوب برنين الأجراس.
قلت وأنا أغمض عينيّ منتشياً:
- .. وهذه دائرة الإطفاء.
فتحت عينيّ لأري المارّة يتراجعون صائحين، أمام لهب النار، ورجال الإطفاء يقتحمون بخراطيمهم دكّان الخباز الذي اندلع فيه الحريق.
كانت النّار تشبّ وتخبو مكفّنة بالدّخان ورائحة الاحتراق. وكان الزّحام يشتدّ، وكانت الضجّة ترتفع وترتفع.
سمعت قرعاً علي بابي.
تركت النافذة، وفتحت الباب. رأيت أمامي شرطياً عابساً، وإلي جانبه رجل غاضب، ووراءهما حشد من النّاس.
قال الرّجل الغاضب وهو يشير إليّ:
- هذا يا سيّدي .. نعم هو نفسه.
لقد رأيته بعينيّ هاتين، من نافذتي علي الجانب الآخر، وهو يقذف الحجر نحو واجهة المخبز.
قُلت في سرّي، وأنا أهبط من علي الدّرج أمام الشرطي والجماهير:
- ها نحن قد وصلنا، الآن، إلي دائرة القضاء! ورحت أتخيّل ميلاد دوائر أخري وأخري، فأنا أعلم علم اليقين أنّ الدوائر التي يصنعها ارتطام الحجر بالماء الساكن ستظلّ تترادف وتتّسع بلا نهاية.
قلت لنفسي، وأنا أصعد إلي سيّارة الشرطة: - لا يهمّ .. لقد بعثنا الحياة في الشّارع!
الأزاليا الحمراء (1/ 3)
جاءت الجدّة من الرّيف لزيارة أسرة ابنتها في شنغهاي، حاملة معها للأسرة، علي سبيل الهديّة، دجاجة صغيرة.
ويبدو أنّ الجدّة كانت مضطرّة لجلب هذه الهدية الثمينة، فهي لشدّة فقرها لم تعد تستطيع توفير الطعام للدجاجة، ولأنّها قد رعتها منذ كان عمرها يومين فإنّ قلبها لم يطاوعها علي ذبحها وطبخها.
وقد كُتب لهذه الدّجاجة أن تبقي علي قيد الحياة، لأنّ ربّة الأسرة رفضت أن تذبحها، لكي تُجنّب أطفالها رؤية مشهد القتل، فظلّت الدّجاجة تزحم البيت برائحة مخلّفاتها، حتي قرّرت الأسرة أن تبيعها لتتخلّص منها، لكنّها تراجعت عن هذا القرار عندما وضعت الدجاجة بيضتها الأولي.
ذلك لأنّ قيمة البيضة في السوق كانت أعلي قليلاً من قيمة المواطن الصّيني في أيّام الزعيم الأوحد (ماوتسي تونغ) غير أنّ هذه الدّجاجة تحوّلت، فيما بعد، إلي أزمة خطيرة كادت تعصف بمستقبل الأسرة. فقد صدر قرار حزبي بإخلاء البيوت من الدّواجن، وكان من الصعب إخفاؤها طويلاً، لأنّها كانت تفضح وجودها بقأقأتها المتواصلة، الأمر الذي دعا اللجنة الحزبية في المنطقة إلي إرسال وفد لمنزل الأسرة لأخذ تعهّد قاطع بالتخلّص منها، وعرضها مذبوحة علي مسؤول الحزب في صباح اليوم التالي، وإلاّ اتُّهمت الأسرة كلّها بالعصيان!.
وفي الصباح هيّأت الابنة الكبري (آنتشي) الماء الساخن والسكّين، وقبضت علي الدّجاجة بغية ذبحها، لكنّ هذه عندما أحسّت بقرب أجلها، قفزت هاربة إلي غصن شجرة في باحة البيت، وتنقّلت صاعدة من غصن إلي آخر، حتي بلغت ذروة الشجرة، في الوقت الذي كان فيه المسؤول الحزبي يقرع جرس الباب.
وفي حيرة (آنتشي) بين الدّجاجة الهاربة وبين المسؤول المنتظر، حاولت جاهدة أن تلفّق عذراً مقبولاً تدفع به عن أسرتها تهمة العصيان. لكنّها في تلك اللحظة بالذّات، سمعت صوت ارتطام الدجاجة بالأرض، والتفتت فرأتها تنتفض، ثم ما لبثت أن سكنت إلي الأبد.
لقد كانت هذه أوّل دجاجة في التاريخ تُقدم علي الانتحار احتجاجاً علي استبداد السُّلطة!.
وإذا كان هذا هو حال الدّجاجة في ظِلّ ذلك النظام الشمولي المطلق، فكيف، إذن، كان حال الإنسان؟!
الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) تعرض لنا في كتابها الفريد (الأزاليا الحمراء) صوراً بليغة لمأساة الإنسان في صين (ماو) ، هي في الحقيقة نسخ صينية لمآسي الناس في ظلّ جميع الأنظمة الشمولية في هذا العالم.
(الأزاليا الحمراء) كتاب سيرة شخصيّة يتوخّي الدّقة في ذكر حقائق حيّة عاشتها الكاتبة، لكنّه لغرابة وقائع تلك الحياة، ولكثافة الشاعرة والصّدق في السّرد، يكاد ينافس أفضل الرّوايات المتخيّلة حبكةً وتشويقاً.
عنوان الكتاب مستمدّ من عنوان الأوبرا التي ألفّتها مغنية الأوبرا سابقاً وزوجة (ماو) لاحقاً (زيانغ تشنغ) التي كان لها موقع مؤثّر في حياة الكاتبة. وهي في اختيارها لهذا العنوان أرادت القول بأنّ كلّ إنسان في ظلّ النظام الشّمولي، يظلّ وحيداً منفرداً مستوحشاً مثل نبتة (الأزاليا) الصحراوية، برغم امتزاجه بمئات الملايين من الناس. وهي لم تَعْدُ الصّواب في اختيارها هذا، إذا علمنا أنّ عاطفة الحب في ذلك العهد كانت تُعدّ من المحظورات، ومن التّهم التي قد تودي بصاحبها إلي التهلكة .. ولهذا فإنَ مقدّمتها التي لم تستغرق سوي سبعة أسطر، قد ركّزت علي هذه النقطة بالذّات، باعتبارها السلك الذي ينتظم عقد مئات من الصفحات الحافلة بمختلف الأحداث المؤلمة.
تقول (آنتشي مين) : الحبّ قوّة جبّارة تجعلك تنسي كلّ شيء آخر تقريباً، حتي التفكير بإعلان الثورة. فبدلاً من أن تفكّر في الصراع وتدمير الأشياء، تجد نفسك، حين تحبّ، راغباً في البحث عن السلام والاحتفال بالحياة.
ولأنّ الحزب يعلم أنّ الناس سيخرجون عن سيطرته الكاملة، إذا أحبّوا، فقد كان قادته علي الدوام يخافون من الحب!.
ولدت (آنتشي مين) في شنغهاي عام،1957 وفي طفولتها أصبحت عضواً مثالياً في (طلائع الحرس الأحمر) .. وعندما بلغت السابعة عشرة التحقت بالعمل الشّاق في المزارع الجماعية. ومن هناك التقطها مرافقو زوجة (ماو) لتكون نجمة في أفلام الدعاية الشيوعية.
لكن بعد وفاة (ماو) عام 1976 شعرت آنتشي بالخزي والمرارة، فقرّرت أن تغادر الصّين إلي الولايات المتحدة. وقد أمكنها في عام 1984 أن تنفّذ قرارها بمساعدة بعض الأصدقاء.
عندما غادرت (آنتشي) الصين، كانت معرفتها باللّغة الإنجليزية محدودة، ولذلك فقد حاولت أن تكتب سيرتها هذه بلغتها الأصلية، لكنّها وجدت الأمر صعباً، ورأت أنّها لن تجد الطريقة المناسبة للتعبير عن معني الحريّة إلاّ بعاطفة حرّة مستمدة من لغة جديدة!.
ولهذا فقد صبرت حتي تمكّنت من الكتابة باللّغة الإنجليزية، لتنشر سيرتها في عام،1993 كشهادة مهمة علي عهد جائر، تضاف إلي الشهادات القليلة التي كتبها صينيّون من واقع تجربتهم الحيّة التي بدت أبعد وأقوي تأثيراً من أجمل الرّوايات المتخيّلة، لأنها شهادات كُتبت بدم أصحابها.
وإذا لم يكن للاستبداد من سيّئة أكثر من جعله المرء يشعر بالنفور من لغته الأمّ، لأنّها عاشت علي لسانه وهو عبد، فإّن ذلك وحده يكفي لصبغ الاستبداد بالسّوء الذي لا تغسله كلّ بحار الأرض.
الأزاليا الحمراء (2/ 3)
لم تكن هناك طفولة في صين (ماو) ، لأنّ الطفولة كانت تُعدّ تَرَفاً. ولم يكن للأبّوة والأمومة معني حقيقي، لأنَ هاتين الرّابطتين كانتا في ذلك العهد تُعدّان من الكماليات!
كان الصغار والكبار جميعاً أبناءً للحزب، وهو وحده الذي يقرر كيف يعيشون وكيف يموتون كتروس في آلة مشاريعه الحكيمة والصحيحة دائماً!
تقول الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) في سيرتها الشخصية (الأزاليا الحمراء) التي تروي فيها تجربتها خلال سنوات الثورة الثقافية في الصين:
لي أخ وشقيقتان كنت أسمّيهم أطفالي، وذلك لأنّه كان عليّ، يومّياً، أن اصطحبهم إلي الحضانة أو الرّوضة، وأعود بهم منهما، فيما كنت أنا نفسي مثلهم طفلة في الرّوضة!
وتتحدّث عن اسمها وأسماء أخوتها، لتبيّن أنّ تسميتهم وحدها كانت مغامرة جريئة من والديها، ومؤشّراً علي غرابة أطوارهما وسباحتهما ضدّ التّيار.
تقول: لقد اتّخذ والداي خيارات تسميتنا بشكل غير مألوف، إذ أطلقا علينا نحن البنات أسماء أحجار كريمة، فأنا (آنتشي) ، وأختي الثانية (المزهرة) ، وأختي الأصغر (حجر المرجان) ، أمّا أخي فقد سميّاه (فاتح الفضاء) .. وكانا من هذه الناحية يُعدّان شاذَّين بالنسبة للآخرين، لأنّ جيراننا كانوا قد سمّوا أبناءهم علي النحو التالي: حارس
اللّون الأحمر، الوثبة العظيمة، المسيرة الطويلة، النجم الأحمر، التحرير، الثورة، الصين الجديدة، طريق روسيا، مقاوم الأمريكان، الوطني الرّائد، الجندي الشيوعي الفذّ، إلخ! وتُبدي ملاحظة لابُدّ منها حول اسمها قائلة إن والديها سمّياها في البداية (لن - شوان) أي (الشمس المشرقة فوق الجبال) .. لكنّهما سرعان ما انتبها إلي زلّتهما، وبادرا فوراً إلي إلغاء هذا الاسم، حين تذكّرا أن الزعيم (ماو) كان يعتبر الشمس الوحيدة في هذا العالم!
وبعد تفكير طويل أطلقا عليها اسم (آنتشي) ومعناه (حجر السلام) . أمّا اسم أخيها (فاتح الفضاء) فقد اختاره أبوها لسببين: أولاً لأنه كان يحب علم الفلك وثانيا لكي يؤكّد تفاعله مع تصريح (ماو) الذي أعلن فيه عن أن الصين ستبني قريباً جداً مركبتها الفضائية الخاصة! وعن فترة أمومتها لأخوتها وهي طفلة في الرّوضة، تقول إنها برغم خوفها من الأزقّة المظلمة ومن عبور الشوارع المزدحمة، عند اصطحابها لأشقّائها، فإنّها تعلمت ألا تُظهر خوفها، لأنها كان مفروضاً عليها أن تكون قدوة أعلي للأطفال، وأن تعطيهم مثلاً علي ما تعنيه الشجاعة.
وبعد أن توصلهم إلي البيت، كانت تذهب إلي المطبخ لإعداد العشاء. وكانت دائماً تستغرق وقتاً طويلاً من أجل إشعال الموقد. وعن ذلك تقول: لم أكن أفهم أن الخشب أو الفحم يحتاجان إلي هواء لكي يشتعلا. وعلي ذلك فإنني كنت أحشو الموقد بالحطب، ليندفع الدّخان منه بلا نار، وكنت في الوقت نفسه أُغنّي عدّة مقاطع مقتبسة من تعاليم (ماو) !
نعم .. (الهواء) .. تلك هي كلمة السّر التي تلخّص معاني الحياة كلها. إذ لا يمكن للنار أن تشتعل بترديد تعاليم (ماو) .. بل بالهواء تشتعل. وكذلك لا يمكن للحياة أن تتحقق بغناء تعاليم الزّعيم الأوحد .. ولكن بهواء الحريّة تتحقّق!
وعند انتقالها إلي المرحلة الابتدائية، وانضمامها إلي (طلائع الحرس الأحمر) كانت (آنتشي) غاطسة ليل نهار في مهمّة إعلاء شأن الشيوعية.
تقول: في تلك الأيّام كنت أرسم الشعارات الثوريّة علي الجدران والألواح، وكنت أقود زملائي وزميلاتي لجمع قطع النقد الصغيرة التي لا تتعدي قيمتها بضعة بنسات، وذلك لكي نتبرّع بها لإعالة الأطفال الجائعين في أمريكا!
وتضيف: لقد كنّا فخورين بهذا العمل، وكنا واثقين من أنّنا بهذا نضع نقطاً (حمراء) جديدة علي خارطة العالم، وأننا نناضل من أجل السلام النهائي لكوكب الأرض!
ذلك ما تصنعه الدّعاية الحزبية اللئيمة بأذهان الأطفال، فتغسلها من المنطق الذي ينبغي أن يكون حاضراً في الأذهان عند إجراء المقارنة بين الشيء ونقيضه، بين حياة أطفال الصّين المرفّهين وحياة أطفال أمريكا الفقراء الذين يتصدّق أولئك عليهم بالبنسات من أجل إشباع جوعهم!
لنستمع إلي هذه المرفهّة المتصدّقة وهي تحّدثنا عن مظاهر رفاهيتها ..
تقول (آنتشي) : عندما التحقت بمدرسة السعادة الابتدائية، كانت رفيقاتي في الصفّ يسخرن منّي، لأنني كنت دائماً، أرتدي نفس المعطف المطرّز بالثقوب من كلّ جهة، وهو أصلاً واحد من الثياب القديمة التي تلقّيتها من ابنة عمّي!
وتواصل قولها: إنّ أختي (المزهرة) كانت، في العادة، ترتدي ملابسي التي تضيق عليّ بفعل النموّ، ولكن بعد أن توضع لها رقع علي الياقات والمرافق. أمّا أختي (حجر المرجان) فقد كانت ترث الملابس نفسها من (المزهرة) بعد أن تضاف إليها رقع جديدة أخري، بحيث تبدو تلك الملابس عليها وكأنها ذائبة، برغم حرصها الشديد علي العناية بها، لعلمها بأنّ شقيقنا (فاتح الفضاء) ينتظر دوره في ارتدائها!
و (فاتح الفضاء) بحكم تأخّر دوره، كان دائماً يرتدي أسمالاً بالية، حتّي أنّ أطفال الجيران كانوا يسمّونه (البرغوث) . وقد كان هذا يجعلني أشعر بأنني مذنبة إلي حدّ بعيد!
وعلي الرغم من ذلك، فإنّ هذه الأسرة المنفّذة حرفياً لاشتراكية الأسمال، كان من المحتمل جداً أن تُتّهم، بكل بساطة، بأنها (أسرة بورجوازية) ، بمجرد أن يغضب منها أيّ رفيق .. وعلي المرء أن يتخيّل ضخامة حجم هذه الاحتمالات، إذا تذكّر أن الصين كانت تعجّ بما يزيد علي مليار رفيق!
في عام 1967 انتقلت أسرة (آنتشي) من مسكنها بسبب ما كابدته من أذي الجيران في الطابق الأسفل .. إذ كان هؤلاء غاضبين علي الدّوام لكون الطابق الذي تقطنه أسرتها يتألف من غرف أكثر، ولهذا كانوا لا يتورّعون عن دلق دلاء (مخلّفاتهم) فوق أسرّة النوم في بيت آنتشي.
وظلّ أولئك الجيران يُصعّدون عدوانهم يوما بعد يوم، ويهدّدون بإيذاء الأطفال عند غياب أمهّم وأبيهم - وهما بالطبع غائبان للعمل طول اليوم - ووصلوا إلي حدّ تهيئة المسرح لارتكاب جرائم معفاة من العقاب، بقولهم إنّ ابنتهم الثانية لها تاريخ طويل في الاختلال العقلي، ولهذا فانّهم غير مسؤولين عمّا ستفعله.
تقول (آنتشي) : عندما عادت أميّ من العمل، ذات يوم، وتخطّت باب المبني إلي الداخل، قفزت (البنت الثانية) فوقها، مشهرة في وجهها مقصّاً. لقد رأيتهما تتصارعان في بئر السلّم، ثمّ تلقّت أمّي دفعة عنيفة جعلتها تترنّح وتهوي مرتطمة ببلاط الأرضية، وعلي وجهها وذراعها طعنات المقصّ. كانت صدمة بالنسبة لي. وقفت إلي جانب أميّ التي كان الدّم يتدفّق من جراحها. حاولت أن أصرخ، لكنّ صوتي كان قد هرب منّي.
أمّا (البنت الثانية) فقد نزلت إلي الطابق الأسفل، وجرحت رسغيها بمقصّها، ثم اندفعت إلي الخارج بعجلة وعنف، متوجّهة نحو حشد الفضوليين، وراحت تصرخ رافعة رسغيها الدّاميين عالياً: انظروا إليّ .. إنني عاملة، وقد هوجمت من قبل الطبقة البورجوازية. أيّها الرّفاق، إنّها جريمة سياسيّة!
أهذه نكتة؟ ربما .. لكنني لا أراها كذلك، لأنني كعراقي أعرف كثيراً من هذه المواقف في عهد صدام الرجيم، حيث كانت تهمة الخيانة تهدي إلي المواطن لأيّ سبب، مرفقة بطلقة وفاتورة بثمنها يتوجّب علي أهل المواطن تسديدها بعد قتله!
كان يمكن للرفيق الفاشيّ في دولة المنظمة السريّة أن يتهّم حتي الأعمي والمُقعد بالتجسّس لصالح الامبريالية!
والعراقي الذي يعرف هذا لن يستطيع أن يضحك من الواقعة التي ترويها (آنتشي مين) ، لكنّه يستطيع بكلّ تأكيد أن يتذكرّ، بوحي هذه الواقعة، طائفة كبيرة مثلها أو أسوأ منها، فيحتاج حينئذ إلي البكاء .. ويحتاج في ذلك إلي مَن يساعده بقدر إضافي من الدموع!
الأزاليا الحمراء 3/ 3
في صين (ماو) كان ارتفاع ضغط الدّم يُعدّ مرضاً بورجوازياً يخاف صاحبه من أن يُضبط متلبّساً به، ولذلك فإنّه يضطرّ إلي مواصلة العمل الشاق في أثناء نوبة الدّوار التي تعلّقه بين الحياة والموت، دون أن يجرؤ علي طلب إجازة قصيرة للرّاحة، كي لا يتّهم بتعطيل مسيرة الثورة البروليتارّية!.
وفي صين (ماو) كان الاختصاص العلمي شيئاً، والاختصاص الحزبي شيئاً آخر، وإذا وقع الخلاف في مسألة علمية دقيقة بين العالِم والمسؤول الحزبّي، فإنّ كلمة الأخير هي الرّاجحة، حتَي ولو كان هذا لا يعرف التّمييز بين الألف وكوز الذّرة!.
ترسم الكاتبة الصينيّة (آنتشي مين) في سيرتها الشخصّية (الأزاليا الحمراء) صوراً عديدة لمثل هذه الحالات في ظِلّ حكم شمولي خانق كان يُحتَم علي الإنسان أن يمشي فوق هوَة فاغرة، علي حبال أعصابه المشدودة علي الدّوام، حذر الوقوع في زلّة غير مقصودة قد تسلمه إلي العدم!.
تقول إنّ والدتها كانت تعمل مُدرّسةً، وقد طُلب منها، ذات يوم، أن تكتب شعاراً يقول (عشرة آلاف سنة من الحياة التي لا تنتهي للزّعيم ماو) .. لكنها تحت وطأة إصابتها بضغط الدّم، وعدم السّماح لها بأخذ إجازة للرّاحة، أخطأت في كتابة الشّعار، إذ نسيت - بسبب زيغ عينيها - أن تكتب كلمة (لا) المتّصلة بكلمة (تنتهي) .. وعندئذ تمّت دعوتها إلي اجتماع حزبي في اليوم التالي، لمحاكمتها عن تهمة كونها تحمل (نيّات شريرة)تقضي بمعاملتها كمجرمة!.
وفي المساء، تدبّرت (آنتشي) كتابة مرافعة لتستخدمها أمّها في الردّ علي التّهمة الموجّهة إليها، مستفيدة من أقوال (ماو) في الكتاب الأحمر المختصر الذي تحفظه عن ظهر قلب.
وممّا جاء في هذه المرافعة: إنّ الزعيم (ماو) قال: إننا يجب أن نسمح للنّاس بتصحيح أخطائهم، فذلك هو الطريق الوحيد لفهم الشيوعية العظيمة .. وعلي هذا فإنّ الخطأ الذي ارتكبته إنسانة بريئة ليس جريمة، ولكن منع هذه الإنسانة من تصحيح الخطأ هو الجريمة. بعبارة أخري إنّ عدم طاعة تعاليم (ماو) هو الجريمة.
ويبدو أنّ المسؤولين الحزبيين قد تحسّسوا رؤوسهم عند سماع هذه المرافعة، إذ أنّ والدة (آنتشي) نجت بأعجوبة من مصير أسود، بعد أن قرأتها .. لكنّها، في مناسبة أخري، لم تسعد بامتلاك مثل هذا الحظّ.
ففي ذلك الزمن السعيد، لم يكن في طاقة الناس أن يشتروا (ورق التواليت) ، ولذلك فقد كانوا يستخدمون قصاصات ورق الصحف لهذا الغرض. وقد حكم الحظَ العاثر علي هذه الأمَ المسكينة، وهي تحت وطأة نوبة شديدة من نوبات ضغط الدّم، أن تستخدم، عند دخولها الحّمام، قصاصة من جريدة كانت عليها صورة (ماو) !.
في هذه المرّة كانت الجريمة ثابتة الأركان، ولم يكن بوسع أيّة قوّة في الأرض أن تغفرها، وعلي هذا تمّ فصل والدة (آنتشي) من مهنة التدريس، وإرسالها للعمل الشّاق في مصنع للأحذية!.
أمّا والد (آنتشي) المختص بعلوم التكنولوجيا، فقد طرد من عمله في متحف شنغهاي للعلوم الطبيعية، بعد اختلافه في الرّأي مع مسؤوله الحزبي حول أحد المخّططات التكنولوجية. وكانت التهمة التي تمّ بموجبها طرده من العمل هي أنّه يستغل (العلوم) لمهاجمة (الحزب الشيوعي) !.
كان الناس مجرّد تروس في آلة الحزب العظيم، وكان عليهم أن يدوروا وفق اتّجاه حركة الآلة بلا نقاش، سواء أكانوا علماء أم مدرّسين أم طلبة أم أميّين. وسواء أكانوا أطفالاً أم طاعنين في الغيبوبة.
وإذا كان علي والِدَي (آنتشي) أن يُمارسا علوم اللغة والتكنولوجيا في مصانع الأحذية، فقد كان علي (آنتشي)التي بلغت السابعة عشرة أن تترك المدرسة مرغمة لتلتحق بالمزارع الجماعية .. وكأنّ الصّين قد أقفرت من الفلاّحين!.
إنّ أكثر من مائتي ألف شاب وشابة من كلّ مدينة صينيّة، كانوا يُقتلعون من مدارسهم لكي يعملوا في المزارع الجماعية إلي أمد غير معلوم، حيث كانوا يعيشون ويعملون في تلك المزارع كالسجناء المحكوم عليهم بالأشغال الشاقّة. وفي نهاية الأمر فإنّ ما ينتجونه من محصول لا يكون كافياً حتّي لإطعامهم!.
تقول (آنتشي) : طالما تساءلنا: ماذا كنّا نعني حقَاً عندما نهتف: الكدح بشدّة .. إنماء الكثير من المحاصيل .. من أجل دعم الثورة العالمية؟!.
وفي المزارع أيضاً لم يكن عمل المرء شفيعه بل رضا المسؤول الحزبي، ولم يكن اختصاص ذلك المسؤول في الفلاحة شفيعه بل اختصاصه في حفظ أقوال (ماو) !.
تتحدّث (آنتشي) عن المسؤولة القاسية في المزرعة التي عملت فيها، فتقول إنّها كانت تردّد دائماً: إنني لا أمانع في أن أكون خرقة تستخدم لمسح أكثر زوايا المطبخ قذراة .. من أجل الحزب الشيوعي!.
وهذه المسؤولة (الخرقة) كانت قد وضعت نظاماً للعمل أمرت فيه بعدم السماح لأحد بدخول المرحاض إلاّ مرّتين في اليوم فقط، علي ألاّ يمكث فيه أكثر من خمس دقائق.
وعقّبت علي ذلك قائلة: إنّ الحمير الكسولة فقط هي التي تحتاج إلي أكثر من هذا الوقت لقضاء حاجتها .. والحمير الكسولة تستحق أن تضرب بلا رحمة!.
تقول (آنتشي) : كنت أفكّر كم هو سهل علي هذه المسؤولة أن تكتب عنّي تقريراً كاذباً تُدخل بواسطته كلمات غامضة إلي ملفّي، حيث لا يؤذن إلاّ لرؤساء الحزب بالوصول إليها .. كلمات يمكن أن تدفنني حيّة .. كلمات إذا ما دخلت الملفّ فإنّها لن تتغيّر أبداً، وستظلّ تتبعني حتَي بعد الموت. فالملفَ هو الذي يُحدّد مَن أنا وماذا سأكون، وتلك الكلمات هي التي ستصنع صورتي الوحيدة التي يعتبرها الحزب جديرة بالثّقة حقاً!.
وكان من حق (آنتشي) أن تذعر من هذا الاحتمال، لأنّ خبرتها منذ الطفولة قد علّمتها ألاّ تثق حتي بنفسها عندما يتعلّق الأمر بالولاء للحزب. فبعد انتقال أسرتها من البيت القديم كانت قد تعّرفت علي طفلة في سنّها، وقد سألتها تلك الطفلة ذات مرّة عمّا إذا كانت ترغب في الانضمام إلي الندوة التي تقيمها أسرتها لدراسة أقوال (ماو) كلّ ليلة بعد العشاء، فأجابتها بأنّ عليها أن تستأذن والدها أوّلاً.
تقول (آنتشي) : عندما أستأذنت والدي قال: لا .. إنني لا أريد ممارسة الثّورة حتي في المنزل. وقد فاجأني هذا الردّ وصدمني، فأمضيت اللّيلة كلّها أتساءل عمّا إذا كان والدي معادياً في السّر للثورة، وعمّا إذا كان يتوجّب عليّ أن أكتب تقريراً للسّلطات عنه أم لا؟.!
و (آنتشي) لم تتحرّر من عبودية المزارع الجماعية، إلاّ بعد اختيارها لعبودية التمثيل في سينما الدعاية الحزبية الممجوجة، لكنّ الملايين من أبناء جيلها لم يُقيّض لهم أن يذقوا طعم هذه العبودية المحسّنة .. فها هي أختها (المزهرة) التي كانت في المرحلة المتوسطة قد تَقرَّر أن تُرسَل إلي مدرسة مهنية، فكان لا بُدّ من إسقاط (إقامتها)في شنغهاي هي الأخري (وكأنّها ليست جزءاً من بلدها) !.
وماذا عن أختها (حجر المرجان) ؟
هكذا سألت (آنتشي) أمّها في إحدي زياراتها النادرة للأسرة، فقالت الأمَ: إنّها تُصلَي من أجل الالتحاق بأحد المصانع، ومن الصعب أن يحصل هذا، لكن إذا ظهر أنّها معاقة بدنيّاً فإنّ فرصتها للبقاء في شنغهاي ستكون أفضل. ولهذا فهي ترفض الذّهاب إلي الطبيب علي الرّغم من إصابتها بالديزنتاريا الحادَة. إنّها تحاول أن تدمّر أمعاءها ليكون لها حقَ الإدّعاء بأنها معاقة .. وكثير من الشباب في الجوار يعملون الشيء نفسه. إنّهم مرعوبون من فكرة الذَهاب إلي المزارع الجماعية.
لم تكن الأمّ لتلوم ابنتها علي ذلك، لأنَها كانت مقتنعة فعلاً بأن لا سبيل لنجاة الإبنة إلاّ بهذه الطريقة، فهذه الأمَ المنكودة نفسها عندما عادت من العمل ذات يوم مخطوفة اللّون ومنهارة تماماً، عبّرت عن سعادتها البالغة لأنَ الفحوص الطبيّة أثبتت أنّها مصابة بالسُّل .. ذلك لأنّ هذا الأمر وحده هو الذي سيمنحها الفرصة للرّاحة في البيت قليلاً، والاهتمام بشؤون أبنائها!.
كلّ ما ذكرته (آنتشي مين) في كتابها يؤكدّ لي أنّ نظام صّدام الرَجيم كان يطلب العلم ولو في الصّين، ولو علمت (آنتشي) بسعة استيعاب ذلك النظام لعلوم صينها العظيمة، وقدرته الفائقة علي تطويرها وتسمينها، لأدركت معني تفوَق التلميذ علي الأستاذ، ولتفهّمت بلاغة الإيجاز التي نأت بالعراقيين عن تأليف السِّير
الشخصيّة المطولة. فلأنّ وصف الكارثة التي حاقت بهم كان أوسع من أفواههم وأطول من ألسنتهم، ولأنّ الأمّة التي وجدوا أنفسهم فيها قد عقدت صفقة مطلقة مع صمم وعمي الأنانية، فإنَ العراقيين اختزلوا مرارتهم ويأسهم في سيرة واحدة مؤلّفة من بيتين من الشعر لا أكثر .. أوّلهما يقول: (كفي بك داءً أن تري الموت شافيا - وَحَسْبُ المنايا أن يكُنَّ أمانيا) .
وثانيهما يقول: (لا تشكُ للناس جرحاً أنت صاحبه - لا يؤلم الجرحُ إلاّ مَن به الألم) .
وأغلب الظنّ أنّ مفردة (الناس) في البيت الثاني قد اقتضتها ضرورة الوزن، وإلاّ فإنّ التعبير الصّحيح في الحالة العراقيّة يعني (وحوش ما قبل التّاريخ) تلك التي تختلف أرديتها الشمولية ما بين الدِّين والطين، لكنّها تتوحّد جوهرياً في أيديولوجيا السّاطور!.
خط بين نقطتين
كل الانجازات الباهرة في الدنيا كانت وراءها أفكار صغيرة. ومن الطبيعي أن يحتاج تنفيذها وارساؤها علي أرض الواقع الي الفطنة والموهبة والجهد، لكن كل هذه الأشياء لا تشفع للمرء في تحقيق أدني النجاح اذا لم يكن مؤمنا حقا بما يفعل، ومتدرعا بالاصرار وعدم التسليم بالفشل مهما طالت التجربة، ومهما كانت المعوقات.
إن هذا هو مؤشر التمايز بين الناس، واذا كان لنا ان نندب سوء أوضاعنا وتخلفنا عن الآخرين، فينبغي ان ندرك ان ليس مرد ذلك الي كوننا فقراء الي المواهب والطاقات، ولكن لكون الآخرين أطول منا نفسا، وأكثر صبرا، وأكبر قدرة علي التحدي والمواصلة.
اننا نتناقل جيلا بعد جيل، حكاية القائد المغلوب الذي ألهمته النملة باصرارها علي نقل كسرة خبز ثقيلة ونجاحها بعد طول الجهد والمحاولة، ان يجمع فلول جيشه المهزوم وينتصر في النهاية.
لكن الحكاية تبقي معنا مجرد طرفة نزجي بها ليالي السمر، فيما هي عند الآخرين تجربة حية وحثيثة علي أرض الواقع.
كذلك كانت تلك الحكاية بالنسبة للصبي جيمس وات الذي رأي غطاء ابريق الشاي يرتفع حاليا بتأثير تصاعد البخار، فكان ان اخترع المحرك البخاري الحديث، وكذلك كانت بالنسبة لبائع الصحف الصغير توماس أديسون الذي أضاء لنا ليلنا باختراعه المصباح، لكي نقطعه بالسمر وترديد حكاية القائد المغلوب والنملة، مضيفين اليها والي الآلاف غيرها حكايته وحكاية صاحبه وات ايضا.
منذ زمن طويل كان هناك شاب صغير من مدينة كنساس مولع بالرسم، لم يترك جريدة الا وتقدم اليها محاولا بيع رسومه الكاريكاتيرية، لكن المحررين جميعا جابهوه بالبرود، بل وبالرفض القاطع، مصرحين له بغلاظة بأنه عديم الموهبة وان عليه ان ينسي تماما أمر الاشتغال في هذا المجال.
لكن ذلك لم يثبط الشاب، بل راح يواصل الرسم والبحث عن اية فرصة متاحة لاستثمار امكاناته.
وفي النهاية عرض عليه أحد القساوسة ان يرسم للكنيسة اعلاناتها في المناسبات لقاء أجر زهيد. لكن الشاب الغر أعرب عن حاجته الي مرسم .. وهو في الواقع كان بحاجة اليه لا للرسم فقط بل للنوم ايضا، اذ لم يكن لديه مكان يأوي اليه!
ويبدو انه كان لدي الكنيسة مرآب مهمل تزحمه الفئران، فأشار القس علي الشاب ان يقيم فيه. لكن .. من يصدق ان واحدا من تلك الفئران سيصبح فيما بعد اشهر فأر في التاريخ، وان ذلك الشاب سيصبح واحدا من اشهر الفنانين في العالم؟!
ذلك الفأر معروف الآن لدي الملايين باسم ميكي ماوس، اما الشاب فهو والت ديزني.
وتلك حكاية اخري تضاف الي غيرها من المسامرات الليلية .. وحظنا منها ان نسمعها بانبهار واعجاب، ولا شيء غير ذلك، لأن نظرتنا اليها ستظل مقتصرة علي نقطتي البدء والنهاية وحدهما. أما حظ الآخرين فهو السير الواقعي علي الخط المتعرج الطويل القائم بينهما: خط الايمان بالفكرة والثقة بالنفس والتجربة الدائبة والجهد الحثيث لتذليل العقبات والاصرار علي النجاح وعدم الاعتراف بالفشل علي الرغم من تكرره.
سوق الخطف
كنت قد كتبتُ، منذ عدة أعوام، حكاية عن لصوص يسطون علي بيت فلا يجدون فيه سوي امرأة عجفاء بصحبة نصف دزينة من الأطفال الجاذعين الذين يفترشون معها العراء، ويتراشقون بالشتائم الذّاوية لشدة ما بهم من وهن!
وحيث انّ البيت كان فارغاً حتي من قدر، فإن المرأة التي تخففت من واجب الهاء أولادها بطبخ الحصي، كما في الحكاية التراثية، لم تفزع، بل رأت في مقدم هؤلاء اللصوص بارقة أمل، فانتشلت واحداً من الأولاد وقدمته لهم هدية، لكي لا يخرجوا من بيتها فارغي الأيدي!
غير ان اللصوص اعتذروا عن عدم قبول الهدية، وصارحوها بأنهم لم يحترفوا السطو إلا بسبب كثرة العيال وضيق ذات اليد، وان أخذ ولدها لن يفيدهم في شيء، بل سيحملهم هماً اضافياً، وذلك لانهم سيضطرون الي اطعامه دون ان ينتظروا من ورائه فدية!
ولم أتخيل أبداً ان مبالغتي الساخرة هذه ستكون عرضة لسخرية ما يجري واقعياً في عراق اليوم الذي فتحت فيه عصابات العنف الأعمي الهابّة من الجهات الأربع، سوقاً عمياء للخطف يتداول بضائعها تجار يملكون رأس المال نفسه الذي يملكه اللصوص في حكايتي، لكنهم، غالباً، لا يملكون حنكتهم في عدم قبول البضاعة الفاسدة! روت لي صديقة كويتية ان خطيب اختها -وهو عراقي يعيش في الكويت مع أهله ذوي الدخل المحدود -كان قد غادر الي البصرة، بعد زوال نظام جرذ تكريت، لكنه اختطف في الطريق من قبل عصابة طالبت أهله بفدية مقابل إطلاقه.
وعبثاً حاول أهله اقناع العصابة بأنهم عراقيون علي مدِّ الله، وانهم لا يملكون حتي رائحة المبلغ المطلوب، فلما يئسوا اسلموا امرهه وأمرهم الي الله.
وطال الوقت بالخاطفين وهم ينقصون من مقدار الفدية مرة بعد مرة، دون ان يجدوا اذناً صاغية .. حتي استحال المخطوف الي ورطة بالنسبة لهم، فتفتقت اذهانهم عن فكرة بيعه الي عصابة أخري، ولم يكن حظ هذه أفضل من حظ سابقتها، فاضطرت في النهاية الي الاستحواذ علي ثياب الرهينة واطلاقه بملابسه الداخلية!
وحكي لي صديق عائد من العراق حديثاً ان ابن جارهم قد تعرض للاختطاف، وتلقي والده رسالة من الخاطفين تطالبه بفدية من اجل انقاذه، ولأن الوالد كان -كما يؤكد صديقي- في حالة مالية مزرية، فقد أرسل من يسأل الخاطفين عما اذا كان يطعمون ولده جيداً، فجاءه الرد بالايجاب، وعندئذ أرسل اليهم متوسلاً ان يخطفوه هو ايضاً مع اولاده الآخرين!
وانهي الصديق حديثه بأن الولد عاد سالماً الي البيت في الليلة ذاتها.
وحين أعربت عن دهشتي من غباء مثل هؤلاء الخاطفين الذين يحاولون سرقة الأحذية من الحفاة، طمأنني الصديق الي ان السوق لا تخلو من التجار الأذكياء العارفين الذين يعملون حساباتهم بالقلم والمسطرة.
وقال لي، في هذا السياق، إن عصابة خطفت ولداً آخر وحاول أبوه تقليد جارهم، فادعي انه لا يملك من حطام الدنيا شيئاً، لكنه فوجيء بالعصابة وهي ترسل اليه كشفاً دقيقاً بجميع ممتلكاته!
ولكونه تاجراً حاذقاً، فقد جرّب طريقته المعتادة في المساومة، للوصول بمبلغ الفدية الي أدني مستوياته، مقفلاً الموضوع بقوله ان الذي خلق ولده هو الكفيل بأخذ روحه أو إعادته حياً.
ويبدو انه كان في ضلاله القديم، اذ أبلغه الخاطفون بأنهم لن يقتلوا ولده، لكنهم سيقطعون ذراعه قبل ان يعيدوه اليه. وعندئذ أذعن ودفع المبلغ الثقيل بالدولار.
عندما لمح الصديق علائم الشحوب علي وجهي، حاول ان يواسيني بقوله: انها مجرد حوادث شاذة ليست من صميم طبيعة مجتمعنا، وستزول باذن الله، بعد ان يسترد الوطن عافيته .. وهي تبقي أكثر رحمة من أعمال خاطفي الاسلام و خاطفي الوطنية والقومية الذين يخطفون أرواح الناس لمجرد إرواء عطشهم للدماء، ثم بعد ذلك فقط قد يفكرون في تسليم الجثث المقطعة الأوصال الي أهلها لقاء فدية مخفضة -لوجه الله- وبالدولار أيضاً!
في خدمة السّيرك
الرّوائي النرويجي كنوت هامسون الحائز علي نوبل،1920 وصاحب رواية (الجوع) الشهيرة، كان قد كتب في بواكير تجربته الأدبية عدداً من القصص القصيرة التي شكّل بعضها نواةً أو تخطيطاً أوليّاً لأهم رواياته الكبيرة اللاحقة.
وقد كان أغلب تلك القصص مستلهماً من تجربته في أمريكا التي مارس فيها، لبضعة أعوام، مهناً مختلفة كقاطع تذاكر في القطارات، أو عامل بسيط في المزارع الشاسعة.
ومن ضمن هذه القصص هناك واحدة ذات لمسة محلية خالصة، تعكس بشكل خاص، وضعية المثقف النرويجي في نهايات القرن التاسع عشر، وتترك في قارئها أثراً واضحاً علي رغم تباعد الأزمنة والأماكن.
في قصّة المحاضرة هذه يروي هامسون حكاية مثقّف شاب يعاني من ضائقة مالية، ولا يملك من سبيل للخروج منها إلاّ عن طريق إلقاء المحاضرات خارج العاصمة. وعلي هذا فإنّه يُعدّ محاضرة في الأدب الحديث، وبما لديه من نقود قليلة يستقل القطار متوجهاً إلي مدينة درامن التي لا يعرف فيها أحداً ولا يعرفه فيها أحد، من أجل أن يجرّب حظّه هناك، مؤملاً أن تهزّ محاضرته الأوساط الثقافية، وأن تكون حديث الناس.
عند وصوله إلي المدينة، يزور إحدي الصحف المحلّية للتعريف بنفسه وبما أتي من أجله، وللسؤال عن أفضل وأوسع القاعات التي يمكن أن تستوعب روّاد محاضرته، فيبلغه المحرّر المندهش بأنّ شاباً قد جاء في العام الماضي لإلقاء محاضرة ثقافية، لكنّه فوجيء بأن عدد الحاضرين لم يتجاوز أصابع اليدين، فعاد من حيث أتي بعد يومه الأوّل.
لكنّ صاحبنا الواثق من نفسه لم يُبال بذلك، وركّز اهتمامه في معرفة المبلغ المطلوب لاستئجار أكبر قاعة في المدينة. وعندئذ طمأنه المحرّر بأنّ أوسع القاعات هي قاعة البلدية، وأنّ بإمكانه أن يحدّث العمدة مباشرة في هذا الأمر.
يوافق العمدة علي تأجير القاعة للمثقف الشاب لقاء مبلغ معقول يسدّده إذا استطاع أن يحقّق ربحاً من المحاضرة.
ولأنّ صاحبنا لم يكن قادراً علي دفع ثمن إعلانات عن المحاضرة، فقد اكتفي بتوزيع خمسمائة بطاقة شخصية كانت في حوزته أصلاً، علي الناس في الفنادق والبارات والمحّلات التجارية.
وتوفيراً للنفقات اكتفي بالسكن في فندق رخيص جداً تتضمن خدماته تقديم وجبة الإفطار مجّاناً.
في ذلك الفندق يتعرف بلاعب سيرك أمّي كان قد بدأ للتّو تقديم عروضه في المدينة، ويحاول هذا إغراء المثقف بالعمل معه كمعلّق علي فقرات برنامج السيرك نظراً لقدرته، كمثقف، علي الوصف والتعبير بصورة مشوّقة وكذلك لكونه غريباً عن المدينة، لأنّ الناس لن يثقوا بالوصف الذي يقدّمه واحد منهم يعرفونه، مثلما حصل في عرض الليلة الماضية حين اضطر لاعب السيرك إلي تكليف شاب من أهل المدينة للقيام بذلك العمل.
وفي يوم المحاضرة يستعين صاحبنا برجل للقيام بمهمة قطع تذاكر الدخول. وقبيل الموعد بقليل يمضي إلي القاعة، فتتردّد أصداء خطواته عالية في جنباتها الواسعة، ويُجيل بصره في صفوف المقاعد الكثيرة فيجدها كلّها مُتحفّفة من ثقل أيّ إنسان!.
ويُطمئن المثقّف نفسه بأنّ الموعد لم يحن بعد، لكن حتي بعد حلول الموعد ومرور وقت طويل عليه لم يحظ برؤية أيّ إنسان. وفي اللحظة التي يداخله فيها اليأس والغيظ يسمع صوت رجل آتياً من عند شباك التذاكر، فيخرج بلهفة الفضول لرؤيته، لكنّه يُفاجأ بأنّ ذلك الرّجل هو محرّر الصحيفة التي زارها، وقد جاء لقطع تذكرة من باب التشجيع!.
وحين يتقدّم الليل دون أن يحضر أحد، يقفل صاحبنا عائداً إلي الفندق الرخيص، مارّاً في طريقه بالمسرح الذي يقدّم فيه البهلوان عروضه، فيصدمه ازدحام الحضور، وتصفعه عواصف هياجهم وتصفيقهم.
في تلك الليلة يعاود البهلوان إغراءه، راجياً منه أن يشاركه، في الليلة المقبلة، كتابة فقرات البرنامج وتقديمها بطريقته، لقاء بعض المال.
ولأنّ صاحبنا يكتشف أنّه لم يعد يملك حتي ثمن تذكرة العودة بالقطار إلي العاصمة، فإنّه يوافق علي مضض، ويعكف علي كتابة التعليق بأسلوب بليغ وجميل، ثم يمضي في مساء اليوم التالي إلي تقديم العروض علي المسرح، فيندهش لانبهار الحضور بالوصف الذي يتلوه عليهم، وينتشي لهياجهم وتصفيقهم بعد انتهائه من وصف كلّ فقرة!.
وبهذا العمل وحده، لا بمحاضرته الأدبية التي استنفد فيها خلايا ذهنه، استطاع المثقّف أن يحظي بالإعجاب والتصفيق، وأن يتدبّر ثمن تذكرة العودة!.
أتأمّل هذه القصّة، وأفكّر في حال الثقافة العربية وحال مثقفينا .. فأتساءل: كم محظوظاً استطاع أن يؤمّن معيشته وأجرة مسكنه وتذكرة مواصلاته بالإبداع الذي يحسنه ويؤمن به ويحبّه ويرضاه، دون أن يضطر إلي ملامسة حلبة السيرك؟!.
ويتْسع تساؤلي ليكون: أهي الثقافة التي تشتغل، عندنا، في السيرك، أم هو السيرك الذي يشتغل في الثقافة؟!
أوراق من مفكّرة عاقل!
مضت سنة كاملة علي هروبي من مستشفي المجانين .. أنا الآن في منتهي السعادة .. وسأعمل المستحيل لكي لا أقع في أيدي المُطارِدين.
هؤلاء الّذين وفّروا لي مكاناً للاختباء، كانوا قد فرّوا من المستشفي قبلي. هذا ما قاله (شلغم) . لذلك فهم يُدركون جيّداً فظاعة ما سألقاه إذا قُبض عليّ وأُعدتُ ثانية إلي هناك.
إنّنا في مركب واحد. كلٌّ منّا حريص علي عدم غرق الآخر. أنا مطمئن لهذا السبب. الحمدللّه.
مع مرور الأيّام اكتشفت أنّ زملائي في المخبأ قد اتّبعوا الخطة ذاتها التي أتبّعتها للهرب. قلت في نفسي سبحان اللّه .. كيف تأتّي لنا جميعاً أن نفكّر بالطريقة نفسها؟!
أتذكّر أنّ أهلي اتفّقوا مع رجلين تبدو عليهما سيماء الجديّة والحزم. جاء الرّجلان وهما يرتديان ثياب الممّرضين. ألبساني قميصاً بالمقلوب وربطا أكمامه من خلفي، ثم بمنتهي السرعة والحذق ألقيا بي داخل سيّارة تشبه سيّارات الإسعاف، وانطلقنا .. ويو ويو ويو ويو.
أضحك في سِرّي. نفس الخطة دائماً، ويشربها الأغبياء.
هنا في المخبأ، الكلّ يبتسم للكل. لماذا لا نبتسم ما دمنا بعيدين عن ذلك المكان الرّهيب؟
أفكّر أحياناً: ماذا أفادني الهرب؟ ها أنا محبوس في هذا المخبأ منذ عام. أهذه حريّة أم سجن؟
لكنّني أعود فأقول لنفسي: ألم يكن مستشفي المجانين سجناً هو أيضاً؟ هنا علي الأقل أجد أصدقاء طيّبين يشعرون بأهميّتي، ويضحكون برغم كلّ شيء. ليس هنالك أجمل من وجودك بين أصدقاء عقلاء يحترمون عقلك.
هنا يبتكر الإخوة، كلّ يوم، مختلف الوسائل لإسعادك. اليوم، مثلاً، كان الرّاديو الوحيد لدينا يلعلع بخطاب الرئيس. قام (شلغم) وحمله علي رأسه بكلّ خشوع، ثم هوي به فجأة إلي الأرض فتحطّم وتناثرت شظاياه في كلّ ناحية.
حدّق في الحطام مذهولاً وأجهش بالبكاء:
يا جماعة .. البقاء في حياتكم. الرئيس فطس. قوموا ننصب فاتحة.
راح (شلغم) يلطم، فيما كان الجميع يقرأون علي روح المرحوم ما تيسّر من السلام الجمهوري.
وبعد أن شبع لطماً قال: هذا يكفي. مأجورون. أخذ حقّه وزيادة. شيّعوه يا جماعة. ولو سمحت يا عطوان أمشِ أمامهم. أعتقد أنهم لا يعرفون الطريق إلي جهنّم.
ظريف (شلغم) رغم عصبيّته الزّائدة. لقد شبعنا ضحكاً علي روح المرحوم.
القلق يأكل أعصابي ويصيب ذهني بالشّلل. أخشي أن تكون أمّي قد ثرثرت هنا أو هناك. آخر مرّة، عندما جاءت خفية لرؤيتي، قالت إنّها لا تستطيع الصبر علي هذه الحال، ولعلّها قالت إنّها ستتشفّع لي لدي الدّولة. ربّاه .. أرجو ألاّ تكون قد فعلت ذلك. سيعرفون مكاني ويقبضون عليّ.
جاءت أمّي اليوم. همست في أذني: سآخذك إلي البيت غداً. لن يعرف أحد. كن مستعداً. ولا تطلع الآخرين علي الأمر. كلّ شيء سيكون علي ما يرام.
علي ما يرام؟ كيف؟ والناس في الشوارع؟ والجيران؟ والحكومة؟
قالت لي بحنان: لا عليك يا حبيبي. لن يعرف أحد.
كان يوماً عصيباً.
ما كدنا ننطلق من المخبأ، حتي فوجئنا برجل عند الباب يسدّ طريقنا.
صاح بصوت رهيب: قِفا. أليس هذا شلغم؟. تمنّيت لو أنّ الأرض انشقت وابتلعتني. لكنّ أمّي كانت رابطة الجأش. اقتربتْ من الرّجل وحيّته بلطف.
سألها: أعندك ما يثبت أنّه ليس هارباً؟.
عجباً لأعصاب أمّي. قالت له بكلّ برود: نعم يا سيّد .. إنّ شلغم لم يعد يشكّل خطراً علي أحد. لقد سمحوا له بالمغادرة. انظر هذه شهادة اللجنة الطبيّة.
اعتذر الرّجل من أمّي، وتركنا ننصرف.
نفس الشوارع .. نفس الجيران .. نفس الملصقات .. نفس الشعارات .. نفس الجماهير. ولا أحد من زملاء المخبأ.
خدعتني أمي. كنت أحسبها تحبّني. ها أنا، بفضلها، أعود ثانية إلي مستشفي المجانين!.
شرف سعيد أفندي
في سيرته السينمائية (استذكارات بين الظلام والضوء) الصادرة حديثاً عن دار الفارابي، يستعرض الفنان العراقي المعروف يوسف العاني التجارب السينمائية في العراق منذ أواخر اربعينيات القرن الماضي. ومن خلال الحديث عن دوره الشخصي في تلك التجارب، يركز بصفة خاصة علي فيلم (سعيد أفندي) الذي يُعدّ، بالنسبة للكثيرين، أيقونة السينما العراقية.
وقد استوقفتني، في ذلك الحديث، لمحة إنسانية عابرة، قد لا يلتفت إليها البعض في خضم المادة الأساسية المكونّة للسيرة، لكنّها، علي بساطتها وعفويتها، تترك في النفس أثراً كبيراً من حيث كونها تلخيصاً لجوهر كينونة الفنّان، في صلابته أمام اغراءات اللحظة، وقدرته المبدئية علي الانتصاف من نفسه حتي للنظام الزائل الذي كان يناوئه.
لم يكن (سعيد أفندي) أول فيلم عراقي، فقد سبقه بثماني سنوات فيلم (عليا وعصام) الذي أدي الدور الأول فيه الفنان الراحل إبراهيم جلال، لكنه كان أوّل فيلم عراقي خالص بطاقمه الفني وقصته وإخراجه وتصويره، وبتبنيّه
أسلوب (الواقعية الجديدة) الذي برع فيه المخرج الإيطالي (دي سيكا) بالخروج من الاستوديو إلي الشارع، وإشراك الناس العاديين في تمثيل أحداث الفيلم.
وقد قُدّر ليوسف العاني أن يتحمل القسط الأوفر من مسؤولية هذا الفيلم المأخوذ عن قصّة (شجار) للكاتب العراقي أدمون صبري، وذلك بإعداده القصّة سينمائياً، وكتابته السيناريو والحوار، وأدائه الدور الأول فيه.
عرض (سعيد أفندي) عام 1957م، أي قبل عام واحد من ثورة 14 تموز التي أنهت العهد الملكي. وقد بلغ من شدّة صدقه الفني أنّ الناس الذين تفاعلوا معه وأحبّوه قد تخيّلوا مشاهد لم تكن موجودة فيه، وأوهموا أنفسهم بأنّ الرقابة قد حذفتها!
وحتي هذا اليوم، تجد كثيراً من العراقيين يحدّثونك - عندما تذكر فيلم سعيد أفندي - عن مشهد ذهب فيه الأستاذ سعيد ليشتري سمكة، وقال للبائع إنّ (السمكة جايفة من الرأس) .. ويعدّون ذلك أبلغ تعريض بالحكومة في ذلك الوقت.
الطريف في الأمر أنّ مشهداً كهذا غير موجود في الفيلم أصلاً، والأطرف منه أن يوسف العاني نفسه، صانع الفيلم وبطله، كان قد هُزم في نقاش مع متفرج عراقي - قابله في الخارج - حين ألح الأخير علي وجود هذا المشهد وأنَّه رآه في النسخة الأصلية قبل أن تقتطعه الرّقابة .. بل وأضاف مشاهد أخري غير موجودة وزعم أنّ الرّقابة حذفتها. وعبثاً حاول العاني إقناعه بعدم صحّة ذلك!
وفي تحليله لهذا الأمر يقول العاني إنّه أدرك أنّ الفيلم قد خاطب ضمير النّاس وإحساسهم، وأنّ مَشاهده قد غطّت أو عبّرت عن حاجة في النفس، لكنّها لم تَفِ بكلّ الحاجة، أي أنّ الناس كانوا يريدون المزيد من الكشف عن حالات جديرة بأن يكشف عنها.
وهكذا تجمّعت قضايا كثيرة غير موجودة في الفيلم ظنّوا أنّها كانت موجودة لكنّ الرقيب حذفها.
وبعد عودة يوسف العاني إلي بغداد كان النظام الملكي قد سقط وقام مكانه النظام الجمهوري، وذات ليلة من ليالي الترحيب به طرحت عليه فكرة بدت له غريبة أوّل الأمر، بل حسبها دعابة، وذكرّته حالاً بالرّجل العراقي الذي ناقشه حول الفيلم عندما كان في الخارج.
يقول العاني: إنّ الفكرة كانت تتمثل في أن نضيف مشاهد جديدة تشبع حاجة المتفرّج، وبعد أن أُمثّلها تضاف إلي الفيلم الذي عرض علي الناس .. ولكن بعد أن نعلن ونقول يعرض سعيد أفندي بعد أن أعيدت إليه اللقطات التي حذفها الرقيب.
ويضيف: هنا كان لي موقف حاسم وعنيف .. أن أرفض باستنكار وصلابة هذه الطروحات، وأن أبذل الجهد لكي ألتقي بالأستاذ (ممتاز العمري) الذي كان مدير الداخلية العامة، الرّجل الفذّ الذي أجاز الفيلم بكامل مشاهده
ولقطاته وحواره بعد قصّة طويلة ومثيرة، وذلك لكي أشكره وأعبّر له عن احترامي لموقفه. وقد تحقّق لي ذلك بعد أشهر.
هي لمحة بسيطة، لكنّها جميلة جداً ومؤثرة جداً، لأنّها تمثّل نجاحاً للجوهر الإنساني عند وضعه أمام اختبار الإنصاف، وهو مدرّع بكلّ إغراءات القوة والقدرة وسنوح الفرصة.
ساعة شيطان (مرافعة خصاونيّة)
سامحه. هاه. عقلك كبير وقلبك أبيض، واللّه يحبّ المسامح. ثمّ أنّ الأمور إذا كبّرتها تكبر وإذا صغّرتها تصغر. إي واللّه. خذ علي نفسك بعض الشيء .. لا تكن متصلّباً. سامحه، هاه.
أعلم أنّه كسر أنفك. ما كان ينبغي أن يفعل ذلك. هذا عمل شرير، ولك الحقّ في أن تغضب. لكن لو نظرت من زاوية أخري لوجدت أنّ الأمر قد جري في ساعة شيطان، والشيطان شاطر. لعنة اللّه علي الشيطان. سامحه واكسر الشّر. العوض علي ربّ العالمين. نحمده علي سلامة فمك. تنفّس من فمك. دعني أُقبّل أنفك المكسور. سامحه.
أعرف أنّه سرق مصاغ زوجتك وسرق نقودك وسرق الأثاث حتّي. لا شكّ أنّ هذا من عمل اللصوص، لكن دعه لربّك. إنّ ربّك لبالمرصاد. كن أحسن منه. اكسر عينه وسامحه. العافي حبيب اللّه.
أعلم أنّه قتل ابنك. أين يذهب من الله؟ اللّهم اجعله في الشهداء والصالحين. أعني المرحوم ابنك. كيف فعل الملعون ذلك؟ لا أعني ابنك. علي كلٍّ العوض برأسك، والصبر طيّب. لست أحسن من أيّوب عليه السّلام. قل عليه السّلام. مات جميع أبنائه، فصبر وشكر. جعلك اللّه قرينه في الصبر والشكر، وزادك عليه في العفو. العفو جميل، ولا يلقّاه، إلاّ ذو حظّ عظيم. ولو نظرت إلي القضيّة من زاوية أخري فأنت الرّابح. ابنك شهيد. توكّل علي اللّه وسامحه. ستسامحه، أليس كذلك؟
نعم. أدري أنّه قتل ابنك الثاني أيضاً. أسأل اللّه أن يزيدك صبراً وأجراً، وأن يهبك ثلاثة أبناء .. اثنان منهم علي سبيل التعويض، والثالث اكرامية.
لقد وقع القضاء ولا مَردَّ له. واحد أو اثنان، لم يعد ثمّة فرق. المصيبة هي المصيبة. ضع أملك باللّه .. وسامح. إنّ اللّه يغفر الذّنوب جميعاً إلاّ أن يُشرك به.
أأنت أحسن ممّن خلقك؟ لا تكفر يا رجل. سامح.
آه، صحيح. تذكّرت الآن أنّه خطف ابنك الثالث. إذن اصرف النظر عن الإكرامية. وإذا خلّفت ثلاثة، بإذن اللّه، فاعتبرهم جميعاً علي سبيل التعويض. أنت مؤمن ولا ينبغي أن يكون قلبك أسود. أين أنت ممّا جري للأنبياء والصّالحين؟ فبهداهم اقتده .. قال ما أنا صانع بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخٍ كريم.
قال اذهبوا فأنتم الطّلقاء. أتري؟ أين أنت من عفو رسول اللّه؟ سامحه. هاه.
نعم لم يغب عن ذهني أنّه هتك عرض ابنتك. اللّهم اخزه يوم الحساب. هذا هو الزّني بعينه. الأمر للّه. ماذا يمكنك أن تفعل؟ لقد وقع الفأس في الرأس، وكلّ غضبك لن يرجع ما ضاع. دعه لربّك. ضاعت عفّة المحروسة فلا تضيّع العفو من يديك.
ماذا تجني من العداوة؟ ما جري قد جري، والصّلح خير.
إنَها حماقة كبيرة أن يهدم بيتك .. هدم اللّه حَيْلَه. لكنّ ربّك كريم. سيعوّضك قصراً في الجنّة. وربما سيرزقك فتبني بيتاً غير الذي انهدم. يا رجل إنّ هذا مكسب. سيتيح لك ذلك أن تبني البيت وفق الطّراز الحديث. هيّا اطرد الضغينة من قلبك. من أجل صحتك قبل كلّ شيء، فلا تنسَ أنّ زوجتك المسكينة بحاجة إليك بعدما أقعدها الصّدمة، وفقدت علي أثرها النطق والسّمع والبصر. سامحه اللّه. لماذا فعل كلّ هذا؟ ألا لعنة اللّه علي الشيطان الرّجيم. إنّ له لغواية كبري. قال لأحتنكنّ ذرّيته. هذا من ذريّة آدم المُحتَنكة. لا تكن أنت والشيطان عليه. قوِّ قلبك والتمس له الصفح.
إي واللّه. من حقّك أن تتألّم بعد كلّ هذه الأعوام التي حبسك فيها تحت الأرض وجرّب فيك كلّ صنوف التعذيب. ابكِ قليلاً. فضفض عن نفسك. لكن إيّاك أن تسرف في الانفعال فتلوّث لسانك. لا تفجر. ليس المؤمن بطعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء. أنت أكبر من هذا، ثمّ أنّ ما جري هو شهادة علي إيمانك، فالمؤمن مُبتلي. أمّا الظالمون فإنّما يؤجّلهم ليوم تشخص فيه الأبصار. سامحه إذن وكثّر ذنبه عند الله.
قل إنّك سامحته. بحقّ معزّتي عندك قل إنك سامحته. ما بالك لا ترد؟ قل شيئاً .. ما هذا؟ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. منذ متي فاضت روحك أيّها الطيّب؟
واأسفاه. أهكذا علي غفلة تُسلم الرّوح وترحل؟ لكن مهلاً .. إنّك لو نظرت إلي المسألة من زاوية أخري لوجدتها في صالحك. لقد أراحك اللّه جزاء إيمانك، إذ لا راحة لمؤمن إلاّ بلقاء ربّه. لكنني كنت أودّ لو أنّ العفو كان آخر عمل لك في هذه الدنيا الحقيرة الفانية .. أرجو أن تكون قد سامحته قبل أن تموت. سامحته؟ هاه؟
بلاد الأربعة!
في بلد بعيد .. بعيد جداً، غير مرسوم في الخرائط، وليس مذكوراً في أيّ كتاب، ولا علاقة له، من أيّ نوع، بأيّ بلد عربي .. التقيت مجموعة من الرّجال في مقهي العاصمة الوحيد.
ربّما يسأل سائل عن الهدف أو الدافع لوصولي إلي مثل ذلك البلد البعيد .. وأقول إنّ الأمر تم بالصّدفة، حتي أنني لا اعرف كيف وصلت او لماذا .. هكذا، وضعت حرف جرّ غير مكرّر (وإلاّ لكان راقصة) وألحقت به الميم والقاف والهاء والألف المقصورة، فتمّ لي الجلوس (في مقهي) .. والحقيقة الصّرف هي أنني فكّرت في البداية بإسقاط طائرة كنت علي متنها، لكني قلت لنفسي: علامَ التحطيم وقتل الناس، ما دمت في النهاية سأنجو لأكمل الحكاية، وما دام بإمكاني الوصول الي ذلك البلد بكتابة العبارة علي الوجه التالي: (التقيت مجموعة من الرّجال في مقهي العاصمة الوحيد) ؟
أنا حرّ في ان اصل الي أيّ بلد وبأيّة طريقة، ودون ابداء الأسباب، وبشكل غامض ومبهم ومسدود المسالك علي كلّ سؤال.
وللمناسبة .. فإنّ أوّل ما خطر لي هو استطلاع احوال الحرّية هناك .. أو ليس هذا هو ما يشغل بال كلّ واحد منّا عندما تقذفه ظروف التأليف أو التلفيق من جنّة بلاده الحرّة الي مثل ذلك البلد البعيد؟
سألت واحداً من الرّجال، وأنا أرتشف الشاي الذي كان بلا طعم:
- لماذا شايكم بلا طعم؟!
قال بوقار غير مصطنع:
- أنت غريب دون شكّ .. شاينا هو شاي المواطَنة الصالحة. إنَه خالٍ من الكافين لأنّه منبّه، وخالٍ من السكرّ لكي لا يجعلنا حلوين أكثر مما ينبغي.
صدمني جواب الرّجل، وحرّضني علي استطلاع حال النّاس. فإذا كان الشاي يُعامَل بهذه الطريقة، فكيف يُعامَل المواطن؟!
قال لي الرّجل:
- المواطنون عندنا، والحمد للّه، أربعة انواع: إمّا عبد، وإمّا مأمور، وإمّا عبد مأمور، وإمّا عبد المأمور.
سألته مشفقاً:
- وأنت من أيّ نوع؟
- أنا مأمور.
- لماذا؟
- لأنني عبد.
سألت رفيقه: وأنت؟
قال: أنا مثله .. تخرّجنا من مدرسة واحدة.
- أعندكم مدارس؟!
- مدارس كثيرة .. (السّجن مدرسة) .
- في بلادنا. (الأمَ مدرسة) !
- وعندما أيضاً ما يشبه ذلك .. (الأمّ في المدرسة) ..
السّجن ليس حكراً علي أحد. جميع المواطنين يجب ان يكونوا متعلمين.
سألت الرَجل الثالث: وأنت؟ من المدرسة نفسها؟
قال: لا .. أنا من مدرسة أخري. أنا عبد.
- لماذا أنت عبد؟
- لأنني مأمور.
ذهلت لهذا التقسيم الطبقي الملتبس، فسألت الرّجال: ما الفارق بين الاثنين؟!
قال لي أحدهم: المأمور لأنّه عبد هو النّشط الذي يقوم بالخدمة حتي قبل ان يسمع الأوامر .. أمّا العبد لأنّه مأمور فهو الذي ينتظر حتّي يسمع الأوامر .. لا فارق كبيراً بين الإثنين، إنّه كما تري قليل من الكسل.
أشرت الي النّادل بإصبعي فأقبل كالرّيح، فخمنّت أنّه من الفئة النّشطة.
قلت له: قدح ماء .. رجاءً.
قال بأدب كثيف: الماء موجود في الشاي يا سيّدي .. بلدنا في حالة تقشّف، ولسنا مترفين إلي حدّ وضع كلّ منهما في قدح منفصل.
بلع ريقه وأردف: ثم إنني أرجوك وأقبّل قدميك .. لا تقل لي (رجاءً) مرّة ثانية. إذا رجوتني فسيدخلونني المدرسة مرّة أخري .. سيقولون إنني تجاوزت طبقتي .. أرجوك يا سيّدي .. ما أنا إلاّ عبد المأمور.
- ومَن المأمور؟
- سيّدي صاحب المقهي.
قلت للعجوز الوقور الجالس الي جانبي: أأنا في حلم أم في علم؟!
قال: انت في علم يا سيّدي.
قلت وانا اشعر بغيظ الدّنيا كلّه
- كيف ترضون بهذا الواقع؟
قال مستغرباً: لماذا لا نرضي؟ هكذا خُلقنا.
صرخت فيه: كلاّ .. لقد خلقكم اللّه أحراراً. أنتم أحرار .. عليكم ان تغيّروا هذا الواقع.
قال: كيف نغيّر هذا الواقع؟
قلت: اقرؤوا .. ثقّفوا أنفسكم ..
اعرفوا حقوقكم.
سأل: ماذا نقرأ؟
اقرؤوا الدستور.
- لا يوجد دستور.
- اقرؤوا الكتب.
- لا توجد كتب.
- انشروا كتباً.
- نشر الكتب ممنوع.
- انشروا آراءكم في الصّحف.
- الصحيفة الوحيدة لدينا لا تستخدم الحروف، لأنّها لا تؤمن بالكتابة .. هي عبارة عن صفحة واحدة تحمل صورة سيّدنا (العبد الأعظم) .
- أعظم؟! كيف يكون أعظم وهو عبد؟
- العبودّية مقامات يا سيّدي .. إنّ عبودية سيدنا الأعظم مستوردة من الدّول العظمي.
- اذن .. اصرخوا.
- عيب ان تقول هذا يا سيّدي. إنّ بلدنا في حالة تقشّف، وهو يحتاج الي كلّ ما يمكن من الهدوء والسكينة .. أخذني الغيظ بعيدا .. قلت للرّجال:
- سأصرخ نيابةً عنكم.
قال العجوز الوقور: إذا شئت ان تكون مواطناً صالحاً وسالماً في الوقت نفسه، فإنني انصحك يا سيّدي بالتزام الهدوء والسكينة. إذا صرخت فستقلق راحة البلد، وعندئذ سيحملونك الي (المدرسة) .
صرخت باستنكار: ومَن قال لك إنني اريد ان اكون مواطنا صالحاً مثلكم؟
قال: يجب ان تكون .. القاعدة هنا هي ان تكون مواطناً صالحاً، أو مواطناً مقتولاً .. هل تريد ان تُقتَل؟!
صحت به غاضبا: كلاّ .. اريد ان ارحل.
رفع عينيه نحو السقف، وراح يربّت علي الطاولة، مرسلاً صفيراً خافتاً متقطّعاً، ثم قال كالمتشفّي:
- لن تستطيع ان ترحل .. السّفر ممنوع.
ضحكت ضحكة باردة هازئة: هذا ما تظنّه .. لا احد يمكنه منعي من السّفر .. انا رجل حٌرّ من بلاد حرّة.
أخرجت قلمي ودفتر ملاحظاتي، ففغر الرّجال افواههم، وأبعدوا ايديهم عن الطاولة بسرعة خوفاً من التلوّث بهاتين التّهمتين.
قلت وصدري ممتليء بالفخر: انظروا .. ما دام عندي قلم ودفتر، فلا احد في الارض يمكنه ان يمنعني من أيّ شيء .. انظروا ..
وكتبت بسرعة: ( .. وبشكل ما، استطعت الفرار من ذلك البلد البعيد المخيف) .
أُفّ .. كلْما تذكرت تفاصيل لقائي بمجموعة الرّجال في مقهي العاصمة الوحيد في ذلك البلد البعيد، تنفسّت الصُّعداء، وأغمضت عينيّ، ووضعت يدي علي قلبي شاكراً السماء علي أنني لم أٌخلَق أو أَعِش في بلد مثل ذلك البلد.
عجيب أن يحيا المرء في بلد مواطنوه أربعة: عبد، أو مأمور، أو عبد مأمور، أو عبد المأمور! أليس ذلك عجيباً؟!
العَمي
في منتصف الستّينات من القرن الفائت، عندما كان الكاتب (ألبرتو مانغويل) يافعاً يعمل بعد المدرسة في إحدي مكتبات بوينس آيرس، التقي، لأوّل مرّة، بالكاتب الأرجنتيني الشهير (بورخيس) عند زيارته للمكتبة برفقة والدته المسنّة، حيث كان في تلك الفترة يقترب من العمي التام.
ويتذكّر مانغويل أنَّ بورخيس كان يطلب الكتب، وبنهم القاريء القديم المدمن يقرّب صفحاتها من عينيه حتي تلاصق أنفه، كما لو أنّه يريد أن يتنفّس الحروف التي لم يعد قادراً علي رؤيتها!.
ويقول إنّه، في فترة لاحقة عندما فقد بصره تماماً، سأله عمّا إذا كان يملك وقت فراغ في المساء يمكنه خلاله أن يزوره ليقرأ له، لأنّ والدته المسنّة قد بلغت الغاية من التعب.
وقد أبدي مانغويل موافقته، دون أن يدرك في ذلك الوقت، عظم الامتياز الذي خصّه به ذلك الكاتب الكبير.
وأثناء تلك العلاقة كان مانغويل، في كثير من الأحيان، يرافق بورخيس إلي دور السينما، ليروي له أحداث الأفلام، وسط تأفّف وغضب المتفرّجين الآخرين الذين كان يزعجهم صوت الرّاوي الشاب وهو يقطع عليهم متعة المشاهدة، خاصّة أن بورخيس لم يكن ليقنع بوصف الأحداث والصور، بل كان يطلب من مانغويل أن يضيف إليها من عنده ما يعزّز الوصف، كأن يصف مشاعر الشخصيات، وزوايا الصور، من قبيل: إنّه يبدو متوعّداً جداً من طريقة دخوله الغرفة أو الكاميرا الآن تُظهر بانوراما المدينة بشكل رائع ومؤثّر.
وفي طريق العودة إلي شقّته كان بورخيس المولع بالتذكّر يصف لمانغويل المدينة كما كانت عندما كان يستطيع الرؤية، ويروي حكايات عن قُطّاع الطرق الممسكين بقبضان الحديد في الزوايا الخطرة من الشارع، دون أن يدرك أنّ الموقع الذي يصفه قد حلّ مكانه، في الوقت الرّاهن، البرج الزّجاجي لفندق الشيراتون، والمخزن المصمم بأحدث الطرز الهندسية!.
يقول مانغويل إنّه عندما ذكر لبورخيس أنّ هناك بئراً، الآن، تتوسّط ميدان (سان تيلمو) السياحي، في القسم الاستعماري القديم من المدينة، لم يصدّقه، وقال مستنكراً: لا يمكن وضع بئر في ميدان عام .. الآبار تحفر في الأفنية الخاصّة داخل البيوت.
عندئذ تخيّل مانغويل فيلماً وثائقياً (اقترحه كما يقول علي ريك يانغ الذي كان في ذلك الحين ينتج أفلاماً في كندا).. ويتمثّل هذا الفيلم في تصوير معالم الحاضر في بوينس آيرس مرفقة بصوت بورخيس وهو يصف معالم المدينة نفسها في الماضي، حين كان يتجوّل في الشوارع قبل عقدين من الزّمن.
لكنّ مانغويل أبدي أسفه لأنّ أيّة محطة تلفزيون كندية لن يمكنها رؤية الميزة التي تحملها مثل هذه الرحلة.
بالنسبة لي شخصياً أستطيع أن أتفهّم دهشة مانغويل واستثارته، حين كان يري المدينة بعينيه، ويسمع بأذنيه، في الوقت نفسه، وصفاً آخر لها مغايراً تماماً لما يراه.
لكنّني أستطيع أن أتفهّم جدّاً مرارة واستنكار (بورخيس) المستثار من حدّة وقسوة التغيّر الذي صنعته الرؤية بمدينته المصونة خلف أسوار عماه.
أوّل مرّة شاهدت فيها (البصرة) بعد مغادرتها منذ ثلاثين عاماً، كانت من خلال لقطات سريعة لمراسلي التلفزيون، وهم يتجوّلون فيها بأعقاب الحرب الأخيرة. وكنت في تلك الأثناء أتبع الكاميرا بغيظ ولهفة وأكاد أستوقفها لكي أقبض علي موضع من مدينتي الجميلة التي أعرف جميع دروبها كما أعرف خطوط كفّي. لكن عبثاً حاولت الوصول إليها. وعدت علي أعقابي مسربلاً بحزن وحيرة التائه الغريب في مدينة لا يعرفها قط!.
وتبع ذلك استنجادي بمن هناك، عن طريق الهاتف، لعلّ في وصفهم لمرابع الصّبا ما يؤكّد هوية مدينتي المرسومة في قلبي بكامل جمالها وأناقتها، وبأدقّ تفاصيلها المغتسلة في ذاكرتي بوضوح أصفي من البلور. غير أنّ أقرب ما سمعته من وصف كان يبدو لي كصفحة من كتاب قديم تراكم فوقها الغبار حتي كاد يطمس السطور.
وفي الآونة الأخيرة كنت ألتقي ببعض العائدين من هناك، فكانوا يحدّثونني عن أماكن لا أعرفها أبداً، وأسألهم بحرقة عن أماكن تنتصب شابة ملء قلبي، فينكرون وجودها .. وفي أفضل الأحوال يعتقدون أنّها ربّما شاخت واندثرت.
يا إلهي!!
أثمّة فرق بين المنفي والعمي؟!.
ويا إلهي ..
أليس في قلب العدالة المعصوبة العينين من حرقة قلبي ما يجعلها تفكّ العصابة عن عينيها، وتهوي بميزانها علي رؤوس عميان القلوب والضمائر من المحامين (الخارجين علي القانون) .. أولئك الذين تطوّعوا للدّفاع عن طاغية أعمي أطفأ بظلمه بصر البلاد وأهلها؟.
تخليص الإبريز
الغضب الساطع: في الوقت الذي يبدأ فيه ثمانية آلاف معتقل وأسير فلسطيني في سجون إسرائيل إضراباً مفتوحاً عن الطعام .. السّلطة الفلسطينية تستنفر جميع وزاراتها وأجهزتها لدعم (عمّار حسن) الفلسطيني المشارك في البرنامج الغنائي (سوبر ستار) !.
تنزيلات: السفير البريطاني في العراق: لم تأتِ قوّاتنا إلي هنا طمعاً في النفط، فقد عرضه صدّام حسين علينا (قبل الحرب) بسعر خمسة دولارات للبرميل، مقابل أن نتركه في السّلطة!.
بَندقة المحراث: بعد زوال (فدائيّي صدّام) .. جماعة (فدائيّي القذّافي) تصدر بياناً تتوعدّ فيه كلّ من يحاول إثارة موضوع الإمام (موسي الصّدر) الذي اختفي خلال زيارته إلي ليبيا عام 1978!.
سياحة العنكبوت: صدّام يطلب نقله إلي سجن سويدي!
عجلة الإصلاح تدور: قرار سوري بتغيير لقب العضو الحزبي من (رفيق) إلي (سيّد) !.
خذوا الحكمة: الرّئيس السوداني يطلب تدخّل القذّافي لحلّ مشكلة دارفور!.
مباديء: رغد ابنة صدّام تطلب محامياً أمريكياً للدّفاع عن أبيها، وتقول للصحافية الأمريكية دافني باراك: المحامون يثيرون جنوني بمطالباتهم الماليّة!.
اجتثاث الفساد: (قريع) يصدر بياناً يعلن فيه منع تناول (الفطائر) في اجتماعات الحكومة!.
مكافأة دارفورية: ترقية الرّئيس عمر البشير من (فريق) إلي (مشير) !.
وَصلة حزن: الرّاقصة (دينا) تعتزل الرّقص (مؤقتا) حزناً علي وفاة والدها!.
>>>
خلاصة: كان بطل رواية (الجوع) للكاتب النرويجي كنوت هامسون يصف ظلام غرفة بات فيها ذات ليلة بقوله: الظلام يتوالد من حولي .. الحلكة اللاّنهائية لا يمكن سبر غورها، حتّي أن أفكاري تغصّ بها ولا تستطيع لفظها.
بماذا يمكنني مقارنتها؟
لقد بذلت محاولات يائسة من أجل العثور علي كلمة سوداء بما يكفي لوصف هذه الظلمة .. كلمة بالغة السّواد بحيث أنني إذا نطقتها فإنّ من شأنها أن تُلوّث فمي!.
لو كان المؤلف حيّاً لنصحته، من أجل إنهاء معاناة بطله، بأن يضع علي لسانه عبارة (الوضع العربي) !.
الرّجل التّصويري!
انتهي الأمر بأن بصق (نعمان) في وجهي.
لم أُصَب بقطرة من رذاذ البصقة، لأنّ الصّدفة شاءت لها أن تستقرّ بكاملها علي وجه (جلاّوي) الذي كان يحجز بيني وبينه، لكنّ صوتها المدوّي كان موجّهاً نحوي أنا بالذّات .. ولن أكون مغالياً إذا ادّعيت أنّه صفعني أيضاً، لأنّ وقوع الصفعة علي خدّ (جلاّوي) لا يغيّر شيئاً من حقيقة أنّ الصفعة كانت موجّهة نحو خدّي أنا بالذّات.
صرخت به من وراء جثّة جلاّوي:
- اسمع يا نعمان. نحن لسنا في غابة. إنّنا والحمدلّله نعيش في مدينة، والمدينة فيها شرطة وقوانين .. وعليه فإنني سأطلب رَدّ اعتباري من الحكومة نفسها.
شوّحَ بيديه:
- أتهدّدني؟ سأذهب معك بلا تأخّر .. القانون بيننا، وسنري إن كان لدي الحكومة اعتبار لمن يضرب أولاد الجيران.
كرّرت ما قلته عشرات المرّات، قبل أن أندفع نحو مركز الشرطة:
- لم أضرب أولادك. ولم أشتمهم. إنّهم كذّابون .. لم أفعل غير أن طلبت منهم بالإشارة أن ينزلوا من علي مقدّمة سيّارتي.
أكدّ جلاّوي وهو يحاول أن يستوقفني، ويستوقف نعمان الرّاكض في أثري:
- لم يضربهم .. فقط قال لهم (كش كش كش) .
وحين لم يفلح في إيقافنا، جارانا في الهرولة، وعندئذ توقّفت وطلبت منه العودة، لكنّه أصرّ علي مرافقتنا إلي الشرطة كشاهد.
قلت له متحامياً ممّا لا تحمد عقباه:
- كُن في شأنك يا جلاّوي .. إنني أستطيع الدفاع عن نفسي.
قال نعمان متحدّياً:
- دعه يشهد. إنه لا يُخيفني.
انفجرت حانقاً:
- يا أخي لا أريد شهادته. ارجع يا جلاّوي.
لكنّ جلاّوي لم يرجع، بل زاد من سرعته وكأنه ينافسنا في سباق. وقال من خلال لهاثه:
- أنا لا أدافع عن أحد. أنا أدافع عن الحقّ. أمسكت بطرف جلبابه وتوسّلت إليه أن يخرج من القضيّة، لكنّ إمساكي به لم يوقفه، بل جرّني وراءه كعربة قطار.
قلت للمحقق باختصار:
- المسألة وما فيها أنّ أولاد جاري هذا لا شغل لهم سوي الرّقص فوق سيّارتي طول اليوم. إنّهم لا يختارون من جميع السيّارات التي في ساحة العمارة إلاّ سيّارتي أنا ليقيموا فوقها دبكتهم .. وقد تعبت، دون جدوي، من كثرة ما توسّلت إليهم أن يكفّوا عن هذا العبث، ولطالما شكوتهم لوالدهم لكنّ المشكلة لم تنته أبداً. واليوم جاءني جاري هذا وادّعي أنني ضربت أولاده. أقسم لك أنني لم أفعل غير أن أشرت لهم بأن ينزلوا من علي سيّارتي .. لكنّه أزبد وأرعد وشتم وبصق وصفع .. إنني يا سيّدي أطلب أن تأخذوا بحقّي منه وأن تردّوا لي اعتباري.
وجّه المحقّق بصره نحو نعمان وسأل:
- ما قولك أنت؟
- قولي أنّه ضرب أولادي. حلفوا لي أنه ضربهم. والدليل أنّهم كانوا يبكون من شدّة الوجع ..
الإشارة باليد لا تجعل الأطفال يبكون من الألم .. أليس كذلك؟
في هذه اللحظة اندفع جلاّوي موسّعاً بذراعيه الفجوة ما بيني وبين نعمان، حتي التصق بطاولة المحقّق، تاركاً إيّانا خلفه، وصاح بصوت مجلجل:
- أقول الحقّ ولا شيء غير الحقّ.
بهت المحقّق، وحدّق فيه مغيظاً:
- مَن أنت؟!
قال جلاّوي بأدب:
- أنا جلاّوي يا حضرة المحقّق.
تساءل المحقق والغيظ لا يزال مرتسماً علي ملامحه:
- ما علاقتك بالقضيّة؟!
- أنا شاهد.
رمي المحقّق ببصره نحونا من فوق كتفي جلاّوي وسألنا:
- أكان هذا حاضراً عندما تشاجرتما؟
لم يدع لي جلاّوي فرصة للرّد، بل انطلق يُعدّد كالمدفع الرّشاش:
- نعم يا حضرة المحقّق .. حاضر وناظر وباظر أيضاً.
رأيت كلّ شيء وسمعت كلّ شيء من التيسي للفيسي للرّيسي. أقسم باللّه العظيم أنَ الأولاد قد افتروا علي هذا الرّجل الطيّب. رأيتهم بعيني قبل أن يخرج وهم يتقافزون فوق السيّارة (زيق فيق بيق) .. وكلّ ما فعله أنّه قال لهم بيده (كيش كيش كيش) .. وعندما لم ينزلوا أعطاهم (شاك طراك طراك) .
استوقفه المحقّق حانقاً:
- هيه .. هيه .. ماذا أعطاهم؟!
- صار يخبط علي السيّارة بغضب لكي ينزلوا .. ويبدو أنّهم خافوا حينئذ، إذ أنّهم (تشرمب تشرمب تشرمب)واحداً بعد الآخر.
صرخ المحقق به:
- ماذا تقول يا رجل؟!
قال جلاّوي بكلّ تهذيب:
- أقول يا سيّدي إنّهم قفزوا إلي الأرض .. وما هي إلاّ لحظات حتّي جاء الأخ نعمان يهزّ الأرض هزّاً (دُمْ دُمْ دُمْ) ومن دون سلام أو كلام (طراااخ) بكلّ قوّة فوق زجاج النافذة، ثم توجّه لهذا الرّجل الطيّب بكلّ ما في الدنيا من (كذا وكذا ما كذلك) .
تلّه المحقق إليه من جلبابه بعنف حتي حاذي وجهه، وحدّق في عينيه بغضب مسعور:
- لقد دوّختني. احك ما رأيت بلا موسيقي تصويرية .. ماذا تعني بهذه الكذاءات؟!
ثاب جلاّوي إلي الواقع، وقال وهو يبلع ريقه خوفاً:
- كان يسبّه ويسبّ أمّه سيّدي.
- كان بإمكانك أن تقول هذا. تكلّم باختصار وإلاّ فسأضطر لأن ألعن كذا ما كذاك .. واصِلْ .. ماذا جري بعد ذلك؟.
قال جلاّوي، وقد استعاد جلبابه وهدوءه:
- ثمّ يا سيّدي لم أنتبه إلاّ (تشاك) وطار الشّرر من عيني. كانت صفعته قوّية سامحه اللّه .. ولم يكتف بهذا بل نزل علينا (تفو .. تفوو .. تفوووه) ..
استوقفه المحقّق صارخاً:
- كفي، كفي .. لم أعد بحاجة إلي المزيد.
ثمّ التفت نحو الشرطي الواقف بالباب وأمره بحزم:
- خذ هذا اليربوع واحبسه في غرفة النظارة، وبعد أن تقفل الباب عليه، اذهب إلي بيت نعمان وأحضر أولاده.
غاب الشرطي مدّةً، وعندما عاد مصطحباً الأولاد، قال للمحقّق:
- وجدتهم يرقصون فوق سيّارة.
هتفت بانشراح:
- أرأيت يا سيّدي؟ إنّها سيّارتي بالتأكيد.
قال المحقّق لنعمان بلهجة جافّة ومؤنّبة:
- عليك الآن أن تعتذر من الأخ، وعليك بعد ذلك أن تحسن تربية أولادك. وإذا تكرّر عبث الأولاد فإنني سأضعك في الحبس لمدة شهر مع الغرامة.
مدَّ نعمان يده إليّ مصافحاً، وابتسر الكلمات مرغماً:
- سامحني يا أخي .. أنا الغلطان.
قال المحقّق:
- تفضّلوا الآن .. مع السّلامة.
قلت له:
- وماذا عن جلاّوي؟!.
قال مبتسماً لأوّل مرّة:
- سيبقي في الحبس إلي أن يقدّم تعهّداً خطيّاً بنزع جميع أشرطة الموسيقي التصويرية من دماغه .. وسأحبسك أنت أيضاً إذا جئت به للشهادة مرّة ثانية.
ضحكت برغم صعوبة الموقف، وضحك المحقّق عالياً، وانتقلت عدوي الضّحك إلي نعمان الذي همس لي كالمتشفّي:
- خَلِّصْ شاهدك.
وجّهت بصري نحو جلاّوي المقرفص في غرفة التوقيف القائمة في الزاوية القصيّة من ردهة المخفر، وناديته:
- سأجلب لك العشاء. لا تجزع يا جلاّوي. الحبس للرّجال.
وجاء صوته المغضب محمَّلاً بكل بروق ورعود الأفلام:
- عشنا ورأينا .. حكومة شيطي بيطي ميطي، تحبس الشاهد وتطلق المتّهم!! ترَررم بَرَرم طَنْطن .. أهذا قانون أم كمنجة؟!.
صدقات
الكلمة الطيّبة، عند اللّه، خير من صدقة يتبعها أذي، بل إنّ الكلمة الطيّبة هي بحدّ ذاتها صدقة. لكنّك تصطدم، أحياناً، بكلمات طيّبة يلتصق الأذي الفوري بها كالذيل كانساً من خلفها آثار خطواتها المؤنسة، بشكل يجعلك تتمنّي الأذي الآجل كلّه بديلاً عن هذا البديل الذي سَدّ مسدّ الصدقة المؤذية.
ولأنّ الكلام لا يكلّف شيئاً فإنّك تميل إلي الاعتقاد بأنّ ذلك الأذي هو في الغالب نتيجة لخيانة التعبير ليس إلاّ.
من مثل ذلك أنّ قارئاً سمع أنّي مريض فكتب يقول: (شفاك اللّه وعافاك وأعادك سالماً إلي قرائك .. وإلاّ فإننّا نسأله أن يبدلنا منك ويعوّضنا عنك) !.
وكما هو واضح فإنّ الصّدقة هنا خرجت من غرفة الدّعاء بالخير ودخلت غرفة المفاوضات!.
إنّها مفاوضة صريحة بين القاريء وربّ العالمين، فإذا شفاني فبها .. وإلاّ فإنّه يطلب تعويضاً عنّي.
ولا يخفي أنّ أداة الشرط هنا تعني أنّه احتسبني عند اللّه وأغلق تربتي بالفاتحة (آمين) !.
ولقد ذكّرني ذلك بما رواه الباحث التراثي الكويتي عادل العبدالمغني عن صديق له بشأن طرق التّداوي والعلاج في الكويت القديمة.
يقول ذلك الصديق إنّه أصيب، في ذلك الزّمن، بصداع حادّ تواصل لعدّة أيّام، دون أن تنفع معه كلّ المسكّنات المعروفة، فنصحه المجرّبون بزيارة شيخ يقال له (العَيْدروس) ليقرأ علي رأسه ويكتب له تعويذة.
ولشدّة وجعه توجّه فوراً إلي (العَيْدروس) وحمل معه طاسة حلوي كهدية.
سأله الشّيخ عن اسمه واسم أمّه ليكتب له تعويذة تشفيه من الصّداع إلي الأبد، وتجلب له الحظّ أيضاً .. فأجابه بأنّ اسمه (عبدالله) واسم أمّه (قماشة) .
بعد التعازيم والتمتمات والتهويمات، اختلي الشيخ ساعة، ثم عاد وفي يده تعويذة طلب من عبداللّه أن يعلّقها في رقبته.
يقول عبداللّه إنّ الصّداع زال في الحال، ولم يعاوده قط، فدفعه الفضول إلي استجلاء سرّ هذه التميمة العجيبة التي تفوّقت علي جميع المسكّنات، ففتحها، وإذا به يقرأ التالي: (ياني عبداللّه بن قماشه، وشايل بإيده طاسه، ويقول يعَوره راسه .. إذا طاب وُدّي .. وإذا ما طاب عند يَدِّي) !.
ولكي أكون منصفاً ينبغي عليّ الاعتراف بأن قارئي ألطف نفساً من (العيدروس) ، فهذا الأخير دعا بالشفاء لعبداللّه، لكنّه لم يشترط تعويضاً في حالة عدم شفائه، بل طلب من اللّه أن يلحقه بجدّه .. أي أن يقبض روحه!.
ومن طريف ما أتذكره في هذا الصدد حكاية صديق عراقي قال إنّه، في وقت من الأوقات، كان مهتماً بصحّته البدنية والنفسية إلي درجة الهَوَس، إذ كان يمارس الجَري والسّباحة ويؤدي التمارين السويدية صباح كلّ يوم، وينظّم وجبات طعامه وفق القواعد الصحيّة التي يجدها في مجلّة (طبيبك) وأشباهها، وأنّه في رحلة بحثه عن السّلام الرّوحي اكتشف رياضة اليوغا فلم ينقطع عن ممارستها، وفوق هذا فإنّه قرأ كتاب دايل كارنيجي (دع القلق وابدأ الحياة) أكثر من مرّة، وحرص علي تطبيق ما قرأه علي كلّ شأن من شؤونه.
يقول صديقي: باختصار .. كنت بصحّة وعافية وفي غاية البهجة والإقبال علي الحياة، عندما التقيت مصادفة بصديق لم أره منذ مدّة، فإذا به يُحيّيني بصوت صاعق يُفزّز الموتي: (هلا بالبطل .. شلونك وردة؟!) .
لكنّه بعد أن حضنني وقبّل وجنتي، بدا كما لو أنه ندم علي تقليدي وسام البطولة ومنحي رتبة الوردة، فصار يبعد عينيه عني ويقرّبهما منّي كمن يدقّق في لوحة انطباعية، ولو استطاع لقلَّبني وجهاً علي قفا مثل أيّة بضاعة، ثم صرخ بحرقة أمّ ثكلي: (هاي شبيك مصوفر وزايع عافيتك .. جنّك ديج منشول؟) .
والترجمة الحرفية لهذا التشخيص هي: (مالك مُصفّراً ومعدوم العافية كأنّك ديك مزكوم؟) !.
قال صديقي ضاحكاً إنّه منذ ذلك اللقاء وقع مريضاً ثلاثة أشهر، وحتي بعد شفائه لم يفلح كارنيجي ولا الطبيب القبّاني ولا تمريناته الرياضية في إعادته إلي سابق لياقته وبهجته!.
ثلج
حاول (كا) باعتباره صحفياً، أن يستطلع أسباب ظاهرة انتحار بعض الفتيات المحجّبات في إحدي المدن التركية النائية، فوصفه الإسلاميون بأنه ملحد يريد إرواء غليل العلمانيين في أنقرة. وفي الوقت ذاته اتّهمه العلمانيون بالتعاطف مع الإرهابيين الذين لن يتورّعوا عن قطع رأسه إذا ما استولوا علي السلطة. أمّا الأكراد الذين لم يترددوا عن الشكوي إليه من بطالتهم واضطهاد السلطة لهم، فقد كانوا علي ريبة من صلته بذوي النزعة القومية العنصرية من العلمانيين والإسلاميين علي حدٍّ سواء. وبالنسبة لرفاقه القدماء من العسكر الذين كانوا ينتقدون صلاته بكل أولئك، كان مفترضاً به وجوباً أن يكون مشاركاً لهم في انقلابهم المحدود للحفاظ علي المباديء الأتاتوركية. وفي معزل عن كلّ هؤلاء كانت دائرة المخابرات تعتبره مجرّد آلة تسجيل ينبغي أن تُفرِّغ المعلومات منها حول جميع تلك التيّارات، ولو تحت طائلة التعذيب!.
والواقع أنّ (كا) لم يكن مؤمناً فيما مضي، لكنّه انتهي، فيما بعد، إلي أن يري قدرة اللّه مجسّدة حتي في حبّة الثلج النازلة من السّماء، ثم توصّل في آخر الأمر إلي أن يكون مجرّد (مواطن) متطلّع إلي سعادة الارتباط بجميع المواطنين علي اختلاف توجهاتهم برباط المواطنة ومباديء الإخاء والحرية والعدل والمساواة. لكنّه، في توجهه هذا، لم يجد له مكاناً آمناً أبداً وسط غابة تتعدّد فيها (الشّموليات) من حوله. ذلك أنّه بدلاً من أن يحظي بمودّة الجميع له واعترافهم به، وجدهم يرفضون نموذجه الوسطي والموضوعي، علي الرغم من ألحان الوجد التي تطلقها شعاراتهم عن الحرية، وعلي الرغم من إدعائهم الوصل جميعاً بليلي الإخاء والمساواة.
التعدّدية في مثل هذا المناخ ليست منافسة بين تيارات اجتماعية مختلفة من أجل الوصول إلي تحقيق الحرية للجميع والمساواة بين الجميع، بل هي سباق بين ديناصورات حديثة تحمل بين أنيابها الشّعارات وأصابع الديناميت معاً، للوصول الي ديمقراطية (القبيلة المنفردة بالسلطة) وتحقيق أقصي درجات العدل في توزيع بركات الإبادة علي كلّ التيارات الأخري!.
تلك هي خلاصة محنة (كا) كما يقدّمها الرّوائي التركي أورهان باموق في روايته الأخيرة (ثلج) .. ولعلّنا لا نبالغ إذا قلنا إنّها محنة باموق نفسه، ومحنة جميع الخارجين علي حظائر فرعون أو هامان أو قارون .. في هذا الشرق السعيد.
المسألة التي تُلحّ علي باموق في معظم أعماله هي محاولة فهم حالة بلاده تركيا التي شاءت الأقدار لها، جغرافياً وتاريخياً، أن تكون كتوأمين سياميين أحدهما رجله في آسيا والآخر رجله في أوروبا. ومن ثم محاولة التوصّل إلي صيغة حياة ممكنة لا تفرّط في الموروث الشرقي ولا تستغني عن مستجدات الحضارة الغربية التي يري فيها إغناءً للموروث، واستنهاضاً له للمشاركة، بعد سبات طويل، في صنع الحياة، والتقدّم بالحضارة الإنسانية إلي الأمام.
والواقع أنّ ما يصحّ بالنسبة لتركيا في هذا الشأن، يصحّ في التقويم النهائي، بالنسبة لكلّ بلاد الشرق التي كانت، ذات يوم، واقعة تحت نفوذ تركيا العثمانية، قبل أن تشيخ وتمرض وتُسلِّم الجَمل بما حمل لورثتها الغربيين. ولذلك فإنّ محاولة باموق، في النهاية، لا تختصّ بتركيا وحدها، بل بكلّ البلاد الشرقية، وهذا ما يجعلنا شخوصاً غير
منظورين في رواياته، ومن ثمّ شركاء أصليين في رحلة بحثه عن الصيغة المنشودة للتعايش والتبادل الحضاري، دون الذوبان في الآخر .. ودون الانقطاع عنه.
لقد عالج باموق هذه العلاقة المتوتّرة في روايته الشهيرة (اسمي أحمر) بقالب فنّي استدعي فيه تاريخ فنون التشكيل لدي الغربيين والشرقيين.
أمّا في روايته الأقرب إلي نفسه (الحياة الجديدة) فقد اختار أن يعالج الموضوع نفسه عن طريق الفنتازيا البوليسية، دون أن يتردّد، خلال ذلك، عن الاحتجاج بوضوح وبصوت حادّ النبرة ضدّ المنسلخين من الهوية الشرقية من جهة، وضدّ المتقوقعين في قمقم تلك الهوّية من جهة أخري، إذ يري أنّ الفريقين لا يختاران طريقين مختلفين للوصول إلي (الحياة) .. بل هما يختاران مكانين مختلفين لملاقاة (الموت) .. ولا فرق حينئذ، بالنسبة له، بين أن ينتحر المرء في بيته أو أن ينتحر في عرض الشارع العام.
في أثناء عمله علي رواية (ثلج) صرّح أورهان باموق بإنّها ستجرّ عليه المتاعب.
ولا أحسب أنّ تصريحه بذلك كان نوعاً من النّبوءة، فقد كان واضحاً له، كما أصبح واضحا لنا بعد قراءة الرّواية، أنّه بالصيغة الفنيّة الجديدة التي عالج بها موضوعه الأثير، قد دخل إلي أرض الواقع المعيش والحي والمعروف، وهو يعرف أنّها أرض مزروعة حتي هامتها بالألغام، وأنّ الحيل الفنيّة، مهما اتسعت، لن تستطيع مراوغة آفاقها الضيّقة، حيث كلّ جماعة فيها تؤمن من صميم قلبها بديمقراطية (الفرقة الناجية) !.
لم ينج (كا) من العذاب.
ولم ينج (باموق) من غضب جميع الأطراف. لكنّنا، بالإلحاح، علي إدانة هذه الحالة، سوف ننجو جميعاً في النهاية.
المنبوذ
في عامه السادس والسبعين، يبدو شيخ كتّاب أمريكا اللاتينية (غابرييل غارسيا ماركيز) وكأنه قد عاد الي صباه، فمثل أيّ تلميذ كسول ومشاغب يطرد من الصف، يواجه ماركيز، الآن، قرار منعه من المشاركة في المؤتمر العالمي للّغة الإسبانية الذي ينظمه، كلّ أربع سنوات، مجمع الدّول الناطقة بالإسبانية.
إذا صحّ هذا الخبر المدهش والمؤسف الذي نشرته (الغارديان) البريطانية قبل أيّام، فهو يعني أنّ الناس هناك ليس عندهم (كبير) حين تصل الأمور إلي حدّ المساس بهيبة اللّغة.
السيدة (ماجدالينافيلاسي) وزيرة الثقافة الأرجنتينية التي تستضيف المؤتمر الحالي، قالت إنّ مؤلف (مائة عام من العزلة) قد منع من الحضور بسبب ما أحدثه من ازعاج في المؤتمر الذي عقد في المكسيك قبل ثمانية اعوام، حين قال إنّ الإملاء .. ذلك الإرهاب النازل علي البشرية من المهد الي اللّحد، يجب ان يحال علي التقاعد!
ويبدو أنّ ماركيز، عندما اقترح رمي الإملاء في مقلب النفايات، لم يكن يتوقع أن يصبح منبوذاً إلي هذا الحد .. لكن هذا هو ما حصل.
وقد استفز قرار منعه زميله الرّوائي البرتغالي الحاصل علي جائزة نوبل (خوزيه ساراماغو) الذي صرّح بأنّه سيعيد بطاقة الدعوة الخاصّة به الي منظّمي المؤتمر، إذا صحّ خبر منع ماركيز من الحضور.
ومن جهتها أكّدت وزيرة الثقافة الأرجنتينية أنّ مجمع اللغة هو الذي أصّر علي منعه من المشاركة.
وفيما يدور التساؤل حالياً حول صحّة هذا الأمر أو عدمها، يستوقفنا تساؤل آخر، لا يقلّ أهمية، عن الدافع الحقيقي الذي دعا الرّوائي الكبير إلي اقتراح إلغاء (الإملاء) من اللغة الإسبانية. أكان ذلك نابعاً من حكمة خبير باللّغة، رأي، بعد طول التجربة، أنّ الوقت قد حان لتخليص اللغة من زوائدها غير الضرورية، وتيسير الأمور علي الناشئة من الكتّاب؟
كلاّ .. فالإملاء ليس زائدة دودية تلحق باللغة. إنّه اللغة نفسها، وعلي الكاتب أن يبذل الجهد من أجل إتقانه، إذا كان يعد نفسه للكتابة بالقلم، لا للرواية باللسان.
ما سبب دعوة ماركيز الغريبة إذن؟
السبب، ببساطة شديدة، هو ضعف ماركيز الشخصي في الإملاء، وتلك مشكلة رافقته مثل كعب أخيل طيلة حياته.
وقد اعترف ماركيز في سيرته (عشت لأروي) بضجره من الإملاء، لأنّه لا يحسنه، وروي حكاية من ماضيه الدّراسي، حين كان عليه أن يكتب الخطاب الافتتاحي لأحد احتفالات المعهد الرسمية، فقال إنّه بعد أن قابل المدير لعرض الخطاب عليه، نبّهه الأخير بفظاظة إلي عدد من الأخطاء الإملائية التي ارتكبها.
يقول ماركيز: إنّ أكثر ما أثّر بي في تلك المقابلة هو مواجهتي، مرّة أخري، لمأساتي الشخصّية في الإملاء. فأنا لم أستطع فهمه. وقد حاول أحد أساتذتي أن يوجّه إليّ الضربة القاضية، عندما قالي لي إنّ سيمون بوليفار لا يستحق كلّ تلك الأمجاد، بسبب أخطائه الإملائية. بينما حاول آخرون مواساتي بالقول إنّه داء يصيب كثيرين. وحتّي اليوم، بعد أن صار لي سبعة عشر كتاباً منشوراً، ما زال مصمّمو تجاربي المطبعية يٌشرّفونني بكياسة تصويب أخطائي الإملائية، علي أنّها مجرّد أخطاء مطبعّية!
حسناً .. إنّها مشكلة شخصّية، كان من الممكن لماركيز أن يذلّلها بالاستيعاب، أو بالتعايش معها، ما دامت قد أصبحت علّة مزمنة، خاصّة أنّ المصحّحين لن يتخلّوا عن كياستهم أمام روائي عظيم مثله. لكنّه بدلاً من ذلك، حاول أن يتفادي المشكلة بإلغائها وكأنّها بثرة في يده وحده، وليست ضرورة حيوية للغة أمّة كاملة.
ويبدو أن ماركيز كان يحتمي بشيخوخته وبطول قامته الإبداعية، عندما واتته الجرأة علي المطالبة أخيراً بإعدام ذلك (الإرهابي) الذي رافقه منذ الطفولة. لكن لم يدر بخلده أنّه، بعد كلّ هذا العمر وكلّ هذه الشهرة، سيواجه مَن له القدرة علي طرده، ببساطة، من الصّف!
لو كنت في مكان ماركيز لهززت يدي في وجوه سدنة اللغة الإسبانية، ولقلت لهم بمنتهي الاستخفاف: ما هذا الهراء؟ لم يبق إلاّ أن تطلبوا مني إحضار وليّ أمري. ماذا فعلت يا سنيورات حتي أستحق كلّ غضبكم هذا؟ إنّه إملاء ليس إلاّ .. مجرّد إملاء. أأهون عليكم من أجل هذا الشيء التافه؟ ماذا سيقول عنكم إخوانا العرب إذا وصل
إليهم خبر تحجّركم وقلّة عقلكم؟ إنّ صبيانهم هناك قد تجاوزوا من زمان مسألة ضرب الإملاء علي مؤخرته. إنّهم الآن لا يتورّعون عن المطالبة بإعدام النحو والصرف، بل ويعمدون بكلّ سلاسة وعذوبة إلي تجريد الكلمات من معانيها، وإنهم ليتساءلون بسخرية مُرّة: ما حكاية المعاني هذه التي جاءتنا علي آخر الزّمن؟
ومع ذلك فإن لغتهم الرؤوم تبدو سعيدة بهم، ولا يهمها شيء سوي ألم فراقهم الغالي عليهم، ولا تزال تناغيهم بكلّ حنان:
(أنا البحر في أحشائه الدّرُّ كامِنٌ
فهل سألوا الغوّاص عن صَدفاتي؟)
وهي علي يقين تام من أنهم، عندما يكبرون، سيسألون الغوّاص عن صدفاتها وعن الرّبيان أيضاً، لكي تستطيع مجامعهم اللغوية المجدّدة أن تطبخ (الكامخ) بالرّبيان، حين تعدّ لهم الشاطر والمشطور في الأعوام المقبلة!
المرأة علي السُّلَّم
تُحدّثنا طرفة فقهية عن زوج رأي زوجته تصعد السُّلّم، فاستوقفها قائلاً: أنت طالق إذا صَعدتِ، وطالق إذا نزلت، وطالق إذا وقفتِ .. فما كان منها إلاّ أن قفزت إلي الأرض من منتصف السُّلّم!
ذكيّة .. أليست كذلك؟ ومن حقّ زوجها الصالح أن يغتبط لذكائها .. أليس كذلك؟ ومن واجبنا نحن السّامعين الكرام أن نرسل إليهما من مجامع قلوبنا أسمي آيات التهنئة والاعجاب .. أليس كذلك؟
نعم .. هو كذلك، عندما يتعلّق الأمر بنا كقطعان ماشية، لأننا في الواقع نسخ من صورة تلك المرأة الصّالحة، ومن شأننا أن نسعد جداً بقدرة أمثالنا علي ممارسة أسوأ أشكال الذلّ بأعلي درجات الذّكاء!
لكنّّ الأمر ليس كذلك إطلاقاً، إذا كنّا علي سوية البشر الأحرار. ذلك لأن المكان والحدث والشخوص ستتيح لنا، حينئذ، رؤية الأمر بصورة أفضل، وستفتح في جدران تلك الطرفة نوافذ خيارات أخري غير ذلك الخيار الذي لا يؤدي إلا إلي عيادة الكسور في مستشفي العظام، ولا يعود إلا إلي حظيرة ذلك الفحل الصالح الذي في يده عقدة الطلاق .. وكل عُقد الدنيا الأخري.
لا ريب أن الطرفة ستفقد طرافتها إذا نحن فتحناها علي خيارات أخري، لكنّ ذلك ثمن بخس مقابل استعادة الدنيا لبهجتها، واستعادتنا نحن لسوّيتنا الإنسانية.
لنفرض أنّ المرأة ليست ذكيّة بما يكفي، ولذلك فإنها وقفت لتفكر في حَلّ لمشكلتها، ولنفرض أن الزّوج رأي أنها استغرقت من الوقت ما جعلها في حالة الوقوف النّاجز .. عندئذ ستكون المشكلة برمّتها قد وجدت الحَلّ، إذ ليس علي المرأة إلاّ أن تزغرد من صميم قلبها، لخلاصها من مثل هذا الرّجل الأحمق.
أو .. لتبق المرأة ذكيّة - كما هي في الطرفة - لكي يمكننا الافتراض أنها بادرت فورا إلي النزول ثم حزمت أمتعتها، واستدارت في طريقها إلي الباب، لتشكر الذي في يده عقدة العُقد، ولتذكّره بأنه يعرف مكان بيت أهلها، وعليه فإنه لن يجد عناء في ايصال ورقة الطلاق السعيد إليها.
أما إذا كان البيت ملكها، فما عليها إلا أن تفتح له الباب، وهو بلا شكّ سيعرف طريقه جيداً إلي الشارع .. لكنّنا سنظل في شَكّ بالنسبة لهذا الاحتمال، لأن من لا يملك البيت سيكون أعقل قليلاً من اللعب بعقدة الطلاق، وأكثر مهارة في ترويض عُقده النفسية المتراكبة.
هناك خيار آخر أمام المرأة، هو أن تصعد إلي الطابق الثاني لانتقاء أحد خيارين: فإما أن تتصل بالقاضي طالبة منه تأديب ذلك البهلوان، وإمّا أن تتّصل بمستشفي المجانين محدّدة بالضبط مقاس بعلها، لكي لا يكون قميص المستشفي ضيّقاً بحيث يصعب معه ربط أردانه من ورائه بسهولة.
ولأن المرأة ذكية كما تقول الطرفة، فإنها ستستبعد خيار الاتصال بالقاضي، لخشيتها من أنه كفحل وكفقيه، سوف لن تسهل عليه التضحية بتلك الطرفة الفقهية الرّائعة من أجل سواد عينيها.
وعليه فنحن نميل إلي الاعتقاد بأنها ستدير قرص الهاتف، لتقول للطرف الآخر:
(52) .. ونفهم من هذا أنها قد أضافت ثلاث درجات مضاعفة إلي مقاس زوجها، لتضمن أن يكون القميص (مرحرحاً) بصورة كافية لتقييده جيداً.
نحن هنا نتحدث عن زوجة شرعية اختارت ذلك البعل بمحض إرادتها وبرضا أهلها، لا عن امرأة مخطوفة ومغتصبة، فهذه الأخيرة لا ينفعها أن تكون بطلة طرفة .. بل هي تستأهل أن تكون بطلة مأساة اغريقية، وذلك لأن مثلها لن تفوز أبداً بعرض الطلاق السخيّ هذا من مختطفها، وعليه فإن خياراتها المفترضة هي أن تتوسل إليه راجية أن يعتقها، أو أن تتحيّن الفرصة للهرب أو الاتصال بالشرطة، أو أن تشعل النار في البيت، وتقفز حالاً .. من الناقذة.
وحتي بالنسبة لحالة هذه المرأة المنكودة، تبدو حالتنا، نحن السامعين الكرام، أسوأ .. فنحن لا نستطيع اقناع خاطفينا بعتقنا، لأن أدمغتهم مركّبة في أعقاب بنادقهم. ولا نستطيع الهرب من البيت لأن (الغربة مَذَلّة!) . ولا نستطيع الاتصال بالشرطة لأن الاتصال بالخارج عمالة وخيانة عظمي. ولا نستطيع، في النهاية، إحراق البيت، لأنه ملكنا نحن، وحتي لو فعلنا فإننا سوف لن ننجو من الاحتراق لأن الخاطف قد سمّر جميع النوافذ والأبواب، في لحظة استيلائه علي البيت وعلينا.
خسائرنا بالجملة علي كل اتجاه، وهذا ما يوضح سبب انحيازنا لامرأة الطرفة الفقهيّة، لأنها تمنحنا فرصة للادعاء بأننا اخترنا هؤلاء الخاطفين (الملهمين) بمحض إرادتنا، وبملء روحنا الرّياضية والفكاهية .. فبذلك وحده سيمكننا، بلا حرج أو حياء، أن نواصل القفز (بالروّح والدّم) إلي مشاء اللَّه .. من فوق السُّلّم!
الحكيم الأخضر
كانوا ثلاثة إخوة يسيحون في أرض اللّه طلباً للحكمة. وقد ألقوا عصا التّرحال، ذات ظهيرة، في بلدة هادئة، وجدوا في أحد طرقاتها المقفرة من المارّة، شيخاً طاعناً في الذّهول، يجلس مستنداً إلي حائط بيت، تحت لهب الشمس الحامية، وكأنّه يستظلّ منها بها!.
كانت للشيخ لحية خضراء، وعليه ثوب أخضر، وتحت إبطه كتاب أخضر.
سلّم الإخوة عليه، فلم يردّ عليهم السّلام، بل وضع إصبعه عمودياً علي شفتيه، طالباً منهم بالإشارة أن يلتزموا الصَمت، فألقوا عصا التّرحال أمامه، وتحلّقوا من حوله صامتين، وفي يقينهم أنّهم قد بلغوا الغاية.
تناول الشيخ (عصا ترحالهم) وهزّها في وجوههم، ثمّ انهال عليهم ضرباً، فتباعدوا عنه قليلاً. لكنّه تبسّم، وركز العصا أمامه، وراح ينبش الأرض بأناة، ويحثو التّراب عليهم، وهم في أثناء ذلك يتأمّلونه صامتين خاشعين. وما مضت ساعة حتّي كان الشيخ قد صنع حفرة، ما لبث أن زحف نحوها حتّي غطّاها بمؤخرته، ونشر حولها ثوبه، وارتعد صائحاً: (الطبيعة الطبيعة .. الأرض الأرض .. الفضاء الفضاء) .. وسكت فجأة، ثم ابتسم، ثمّ عبس، ثم بكي، ثم استغرق في الذّهول!.
قام الإخوة الثلاثة ينفضون التراب عن ثيابهم، وقبّلوا يد الشيخ تباعاً، ثمّ التقطوا عصا ترحالهم وانصرفوا.
وفيما كانوا سائرين بحثاً عن خانٍ يستظلّون به من القائلة، قال أكبرهم:
- الشّيخ أنبأنا بأنّ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها!.
وقال الأخ الأوسط:
- بل أنبأنا بأنّ الموت مصير كلّ حي .. ألم ترياه قد تبسّم ثمّ بكي ثمّ استقرّ فوق الحفرة؟!
قال الأخ الأصغر:
- بل هو قد لخّص لنا ناموس الطبيعة، فقال إنّ الماء سّر الحياة المودع في الأرض كما هو مودع في السّماء، ألم ترياه، ونحن في موسم انقطاع قطر السّماء، قد حفر لنا بئراً في الأرض؟!.
سار الإخوة طول الظهر يترنّحون تحت الشمس، حتي لاح لهم خانٌ فدخلوه. وبعد أن استراحوا وطعموا وارتووا، قصّوا علي صاحب الخان حكاية الشيخ، وأبدوا تعجّبهم من ترك حكيم مثله يقتعد الطريق في عراء الظهيرة دون ظلّة. ثمّ سألوه عن اسم الشيخ بغية التبّرك بذكره والدعاء له.
سألهم صاحب الخان:
- ماذا رأيتم الشيخ يفعل بعد أن قعد فوق الحفرة؟
قال الأخ الأكبر:
- رأينا الحكمة مثلّثة.
ثم روي له ما استنتجوا من حكمته.
قال صاحب الخان:
- إنّما حكمته واحدة لا تتجزّأ ولا تنقسم ولا تتعدّد. بل تتكرّر.
ثم ابتسم قائلاً:
- لقد اعتاد الشيخ أن يحفر حفرة كلّما أراد أن يتبّول. إنّه (عُميران الأخضر) مجنون البلدة!.
هتف أحد الإخوة: يا سبحان اللّه .. ها هي ذي حكمته قد تربّعت بعد تثليث!.
فإن لم ينزل الماء من السّماء، وإن لم يتدفّق من الأرض .. فليس أمام المرء إلاّ اللجوء إلي (النهر الاصطناعي)!.
عقد العجب لسان صاحب الخان، لكنّه استطاع أن يقول بعد حين:
- لماذا لا تأخذون (عُميران) معكم؟
مثلكم، واللّه، أولي بمثله.
أصدقاء رائعون
من وحي صورة فوتغرافية يعود تاريخ التقاطها إلي عام،1962 كتب الرّوائي والشاعر البريطاني سي. جي. درايفر مقالة تشبه رواية مكثّفة، في العدد الثمانين من مجلّة (غرانتا) الأدبية الفصلية.
المقالة عنوانها (كنّا أصدقاء رائعين) وهو بالضبط ما تعكسه الصورة التي تتقدّم النصّ الذي خطّه درايفر من وحيها: تسعة أصدقاء في العشرينات من أعمارهم، مُتحلّقون حول مائدة في مطعم. جميعهم تقريباً يبتسمون ابتسامات عريضة، وهم يتطلّعون إلي عين الكاميرا، بزهو الفتوّة المطمئنة في ربيع العمر ودعة الحياة.
غير أنّ الرّوح تدبّ تدريجيّاً في تلك الصورة الجامدة، تبعاً لسحر حركة القلم في يد الكاتب، فإذا ما وصل المرء إلي النقطة الأخيرة في الصفحة العشرين من المقالة، تجلّي له ما كان مخبوءاً وراء تلك الوجوه الناعمة المبتهجة، من مصائر عاصفة بالمحن. فإذا بأولئك الفتيان المبتسمين قد تفرّقوا علي دروب نهايات مريرة، تبدأ بالاعتقال وتمرّ بالتعذيب أو القتل، وتنتهي إلي المنافي التي اتخّذها بعضهم أوطاناً إلي الأبد، ومنهم درايفر نفسه، الذي لولا حضوره في (الصورة) وتواصله، بطريقة أو بأخري، مع مَن ضّمتهم، ولولا كفاءته الأدبية، لما تيسّر لهؤلاء الشبّان من يقدّم عنهم شهادة منصفة نظير ما بذلوه من أنفسهم من أجل الإنصاف!.
منذ السطور الأولي ينبئنا درايفر بأنَ الصورة التقطت لمناسبة احتفال أحد الأصدقاء الظاهرين فيها، بعيد ميلاده الحادي والعشرين، وذلك في مطعم صيني في كيب تاون بجنوب أفريقيا. وينبّهنا كذلك، بغيظ واضح، إلي عدم وجود أيّ شخص أسود معهم، برغم أنّ بعضهم يرتبط بصداقات مع شبّان سود، وذلك لأنّه، في ذلك الزمن، لم يكن في كيب تاون كلّها سوي مطعمين فقط يسمحان باستقبال البيض والسود معاً، ولم يكن ذلك المطعم الصيني واحداً منهما.
ما يجمع أولئك الأصدقاء - وهم جميعاً من الأفريكان البيض - هو حدّة الوعي الإنساني لديهم بمشكلة السود في جنوب أفريقيا، ووقوفهم جميعاً ضدَ الفصل العنصري، وتدّرجهم في ذلك الموقف من التعاطف عن بعد، إلي التضامن الفعلي، إلي الاحتجاج اللفظي، إلي النضال الحقيقي الذي أورد بعضهم المهالك، وقضي علي بعضهم بالاعتقال الطويل والتعذيب، ودفع البعض الآخر للهرب إلي الخارج بعد الاعتقال، ومنهم كاتب المقالة الذي استقر نهائياً في بريطانيا واتّخذها موطناً له.
يختتم درايفر مقالته بكلمات مشحونة بالعاطفة، تمشي كنشيد جنائزي فوق السّطور .. هي كلمات رثاء لصديقه الظاهر في مقدّمة الصورة وهو يبتسم بعنفوان:
(عندما أنظر إلي تلك الوجوه التسعة النابضة بالحياة، فإنّ مَن أراه بكلّ وضوح هو ريك تيرنر وأتخيّل، ثانيةً، اللحظة التي قُرع فيها جرس باب بيته، فقام من الأريكة، حيث كان يجلس، وتوجّه نحو الباب الأمامي الذي كان يقف وراءه شخص مبهم يحمل بندقية .. إنني أتساءل: هل أدرك؟ هل تردّد؟ ليس هناك جواب ممكن، وليس هناك جواب ضروري).
و تيرنر في سياق المقالة هو واحد ممّن اغتالتهم السّلطة البيضاء، بسبب نضالهم ضدّ الفصل العنصري.
وإذا كانت صورة واحدة قد حدّثتنا بكلّ هذا، فما أكثر الصور التي لم تجد راوياً يبعث الحياة فيها، وما أكثر الصور التي لم تلتقطها عدسات الكاميرات، أو أشرطة مسجّلات الصوت؟
ليس في الدنيا ما هو أجمل وأرقي من العدل والإنصاف والإخلاص لقضّية الإنسان. وليس في الدّنيا مَن هو أطول عمراً ممّن ينحاز إلي هذه المعاني، حتي لو مات مبكّراً من أجلها.
لقد أعادتني كلمات درايفر إلي مذكّرات نيلسون مانديلا الذي قدَم في أمثال هؤلاء الشبّان شهادة رائعة، يصعب أن تصدر ممّن غطس طيلة حياته في هوان العبودية تحت مقارع عنصرية البيض .. لكنّه واحد ممّن وهبهم اللّه جمال العدل والإنصاف والإخلاص لقضيّة الإنسان.
فعلي رغم كلّ ما كابده مانديلا من مرارة العذاب في سجنه البغيض طيلة سبعة وعشرين عاماً، لم يفته أن يري - ولو لثانية واحدة - براءة الإنسان الفطرية، حتي في نظرات أو سلوك بعض سجّانيه، فادّخر رؤيته تلك، علي ضآلتها - لتدعيم ثقته بالجنس الإنساني، ولترميم ذاته في أشدّ حالات انهيارها، وادّخرها كذلك لهؤلاء السجّانين كمسوّغ للصفح ونسيان الماضي من أجل التطلّع للمستقبل.
و مانديلا الذي لا يجهل أنّه أصبح أسطورة، لا يتردّد عن التأكيد علي أنّه مجرّد إنسان عاديّ صنعت ظروف الظلم أسطورته، وأنّه مدين بذلك للكثيرين ممّن لقوا حتفهم في هذه السَبيل، ولا يتورّع عن أن يضع في رأس قائمة هؤلاء الأبطال عدداً كبيراً من البيض (الأفريكان) الذين قاتلوا وسجنوا وتشرّدوا وماتوا وهم يواجهون قومهم، من أجل تحرير مواطني جنوب أفريقيا السّود، وتحرير أرض هؤلاء من سطوة إجرام الأقلّية البيضاء.
وفي ذلك يقول مانديلا إنّه كان يقاتل من أجل رفع الظلم عن شعبه الأفريقي، لكنّ أولئك البيض كانوا يقاتلون شعبهم الأبيض من أجل رفع الظلم عن شعب مانديلا .. وشتّان بين موقف المضطر وموقف المتطوّع.
وعلي هذا فإنّ هؤلاء البيض، في نظر مانديلا، هم الأولي بوصف البطولة.
الوهم
- دكتور .. أشعر أنّي كلب.
- إهدأ، إهدأ. هذا مجرّد وهم. دعنا نناقش المسألة.
- لا يحتاج الأمر إلي أيّ نقاش. أنا كلب والسّلام.
- علي رسلك. لست الوحيد الذي يعاني من مشاكل في هذا البلد. كلّ واحد منّا عنده جبال من المشاكل. إهدأ قليلاً، ودعنا نتحدّث. قل لي أوّلاً: مَن أنت؟
- كلب.
- أعني ما اسمك؟
- اسمي كلب.
- حدّثني عن عائلتك. لنبدأ بالسيّد الوالد. ما اسم والدك؟
- السيّد الوالد كلب. لا تدوّخني يا دكتور. فأنا كما قلت لك: كلب ابن كلب.
- يبدو لي أن أعصابك تالفة أكثر ممّا تصوّرت. قل لي .. ما الذي يجعلك متشائماً إلي هذا الحدّ؟!
- لستُ متشائماً .. بالعكس .. أنا متفائل ..
- لماذا تسمّي نفسك كلباً إذن؟
- هل التفاؤل عندكم أن ينكر الواحد اسمه؟
- لكنّك لستَ كلباً.
- مَن قال ذلك؟
- أنا أقول ذلك، فهناك فرق بين الحيوان والإنسان.
- حَسَناً؟!
- قلت لك إنّ هناك فرقاً بين الحيوان والإنسان.
- سمعتك. ثمّ ماذا؟
- ثمّ ماذا؟ أنت لست حيواناً.
- وماذا تسمّي الكلب؟!
- الكلب حيوان.
- إذن أنا حيوان، لأننّي كلب.
- لا يا عزيزي .. أنت إنسان.
- بالقوّة؟!
- كلاّ إنك إنسان. انظر في المرآة وقل لي ماذا تري؟
- أري كلباً.
- لا يمكن. هذه صورتك. حدّق بها جيّداً. أتري؟
أنت كائن بشري.
- كائن ماذا؟ الكلب كائن بشري؟!
- الكلب كائن حيواني. وأنت لست كلباً.
- ليس بإرادتك. شعوري يقول لي إنّني كلب.
- شعور كاذب.
- هل تملك شعور كلب لكي تعرف صدقه من كذبه؟!
- كلاّ .. أملك شعور إنسان، ولذلك أعرف أنّ شعورك كاذب.
- أنت بيزنطي يا دكتور. إذا كنت لا تعرف شعور الكلاب، فلماذا تتّهم شعوري بالكذب؟ لماذا تهين كلبيّتي؟
- كفي يا ابن آدم. لقد فلقتني. إنني أحاول منذ الصباح أن أضبط أعصابي. لا تثرني أرجوك. بيني وبين الانفجار مجرّد شعرة. استر عليّ يسترك الله.
- ماذا فعلت لك يا دكتور؟
- ماذا فعلت؟ منذ ساعات وأنت تدّعي أنّك كلب!.
- وماذا تريدني أن أفعل؟ أغيّر جنسي؟!
- عدنا من جديد. اللعنة عليك وعلي جنسك. لستَ كلباً، ولن تكون كلباً، وهذا آخر كلام. هل فهمت؟
- لا .. لم أفهم.
- دعني أسألك، إذن، ياحضرة الكلب: هل تستطيع أن تنبح متي تشاء؟
- لا.
- هل تستطيع أن تعضّ اللصوص؟
- لا.
- هل تستطيع أن تشتغل في أجهزة المخابرات؟
- لا.
- هل تستطيع أن تعبر الحدود دون جواز سفر؟
- لا.
- هل تستطيع أن تمشي ليلاً دون أن يستوقفك أكثر من حاجز للتفتيش؟
- لا.
- هل تستطيع أن تنام آمناً؟
- لا.
- هل تستطيع أن تأكل وتشرب دون أن تعمل بثلاث وظائف وعمل إضافي؟
- مستحيل.
- هل تستطيع أن تقود قطيع خراف، دون أن تتّهم بتنظيم مظاهرة؟
- علي رسلك يا دكتور .. ستحبسني!
- إذن، كيف تواصل الكذب عليّ وعلي نفسك فتقول إنّك كلب؟!
- أنا لا أكذّب .. ولكن أتجمّل.
- إذن بدأت تدرك أنّك إنسان؟
- كلاّ يا دكتور. لقد بدأت أدرك أنني مجرّد مواطن!
الأخ الأكبر .. إلي الأبد!
من المؤكّد أنّ جورج أورويل عندما اخترع مصطلح (الأخ الأكبر) للتعبير عن قسوة متابعة السّلطة المستبّدة لدقائق حياة المواطن، لم يكن يقصد من إشارته لهذه الحقيقة أن يغري المجتمعات باتخّاذها برنامجاً لِلّهو والمتعة. بل هو، علي العكس من ذلك، أراد أن يثير رعب المجتمعات منها، بغية الثورة عليها وإلغائها نهائيّاً من برنامج الحياة الواقعيّة.
وإذا كان أورويل قد بني بعض أعماله الأدبية علي أساس هذه الفكرة، فإنّ صانعي فيلم ترومان شو قد ترجموها سينمائياً بشجاعة نادرة، فوضعونا مباشرة أمام حالتنا الرّهيبة الرّاهنة كأرقام تعيش وتموت تحت وطأة رقابة السلطة الجبّارة المسيطرة، وسط ديكورات معدّة بإتقان ضمن نطاق موقع تصوير واسع يسمّي (العالم) !.
العجيب أنّ هذه الصورة المتخيّلة التي حاولت أن تعرض للناس ملخّصاً للصّورة الحقيقية البشعة التي يحيون داخل إطارها، قد استحالت إلي ملهاة يعشقها الناس ويتابعونها بدأب وشغف، عبر برامج مستنسخة في كلّ البلدان، لا تستحي من أن تحمل بفخر واعتزاز عنوان (الأخ الأكبر) ، ولا تتورّع عن الاتفاق بأجمعها علي إصابة الإنسان السَويِّ بالصدمة والشعور بالغثيان!.
ولو أنّ حياة أورويل امتدت إلي زماننا، لكان من المؤكّد أن يتساءل بمرارة: ما حاجتكم إلي تجزئة البشاعة وعرضها كنماذج مقلَّدة في أكثر من مكان؟ إنكم تعيشونها في الواقع فعلاً، وفي مكان واحد هو عالمكم المُدجَّن.
عندما شاهدت فيلم ترومان شو أدهشتني شجاعة منتجيه، وأسعدني أن أري السينما الأمريكيّة وهي تقتحم، بهذه القوّة، مجال إثارة الوعي بدلاً من تغييبه. وزعمت أنّه يكفي هذا الفيلم نجاحاً أنّه حمل الي الناس رسالة مهمّة وضرورية، واستطاع، بشكل ذكيّ ومقنع، أن يضعهم أمام حقيقة وجودهم المخيفة محليّاً ودوليّاً.
لكن لم يخطر في بالي مطلقاً أن يكون مُلِهما بصورة عكسية، ولم أتوقّع أن يبلغ شغف القطعان بالزّريبة المتخيّلَة حدّاً يدعوها إلي إعادة انتاجها ووضعها ثانية داخل الزّريبة المخيفة القائمة أصلاً في الواقع، علي نسق الدُّمي الروسيّة!
فها هو برنامج (الأخ الأكبر) بنسخته الألمانيّة، يبشّرنا بأنّه سيقفز، في الربيع المقبل، قفزة عملاقة، بافتتاح مدينة صغيرة علي أرض الواقع، تحاكي بالضبط مدينة فيلم ترومان شو!.
هذه المدينة التي تمّ بناؤها خارج (هامبورغ) لا تختلف عن مدينة ترومان إلاّ من حيث مشاركة سكّانها في العرض، وهم بكامل وعيهم وإرادتهم!.
وتقضي الخطّة أن يقيم المشاركون لأعوام قد تمتّد لعدّة عقود، في هذه المدينة التي ستحتوي علي غابة وميدان ومتاجر وكنيسة ومدارس وشركات، حيث سيحيا هؤلاء ويتعلّمون ويُحبّون ويتزوّجون وينجبون، تحت نظر ملايين المشاهدين من كلّ أنحاء العالم، وعلي مدار السّاعة!.
يقول منتجو البرنامج إنّه سيتّم انتقاء أفضل مجموعة من الناس، للعيش في هذا المكان الذي يعتبر مزيجاً من فيلم ترومان شو و عالم ديزني، وسيكون جميع أفراد المجموعة التي ستتجاوز المئات .. عاطلين عن العمل، حيث سيمكنهم، هناك، أن يتعلّموا اللّغات، وأن يُؤدّوا مختلف الاختبارات المهنيّة التي تؤهّلهم للنجاح في الأعمال التي سوف يختارونها.
ولهذا فإنّ هؤلاء المنتجين يأملون في إغراء الشركات بفتح فروع لها في المدينة من أجل تشغيل سكّانها العاطلين، مثلما يأملون في إغراء المدرّسين والأطباء بالعيش فيها.
وربّ سائل يسأل عمّا منع أمريكا (وهي الرّائدة في ابتكار مثل هذه المشروعات المدمّرة) من أن تكون هي البادئة؟
والجواب علي ذلك هو أنّ فكرة إنشاء هذه المدينة الألمانية مأخوذة أصلاً من تجربة قناة فوكس التلفزيونية الأمريكية، التي أنتجت في هذا المنحي برنامجها الخاصّ (جنّة عدن إلي الأبد) واتّخذت لإقامة المشاركين فيه واحدة من الجزر الكاريبية.
وكان مقرراً أن يبقي عرض هذا البرنامج غامضاً وغير محدّد الأمد، لكنّه، ولأسباب غير معلومة، ألغي في أبريل الماضي بعد أن بُثّت منه ثلاث حلقات فقط.
غير أنّ بثّ هذه الحلقات لم يكن عبثاً، فقد كان من شأنها أن تبثّ، بسرعة عجيبة، نعمة دماره الشامل إلي أبعد مدي، لتلتقطها ألمانيا، ولتلتقطها من ألمانيا - كما هو متوقّع - جميع دول عالمنا الحرّ السعيد!.
يقال إنّ فكرة هذا البرنامج الذي سيسمّي (الأخ الأكبر إلي الأبد) لن تكون مطابقة حرفياً لعالم ترومان الذي كان يجهل منذ ولادته أنّه مادّة تلفزيونيّة تعرض علي النّاس أربعاً وعشرين ساعة، وذلك لأنّ مدينة هذا البرنامج ستمنح المعجبين حقَ الدّخول إليها لزيارة سكّانها. لكنّ المنهج الذي سيُتّبع في هذا المشروع سوف لن يختلف عن منهج برنامج (الأخ الأكبر) من حيث اهتمامه بمتابعة حالات المصاعب الجنسية، ونوازع الافتتان التي تنطوي عليها طبيعة البشر!.
عالم النفس جو غرايبل المتخصّص في سايكولوجيا الإعلام، عبّر عن قلقه حيال هذا المشروع بقوله إنّ النّاس الذين سيمكثون في مدينة البرنامج، ومهما كان طول مدّة إقامتهم، سيجدون صعوبة فيما بعد في التكيّف مع (العالم الواقعي) .
ولا أعلم بالضبط ما إذا كان السيّد غرايبل يقصد أنّ البرنامج سيدمّر شخصياتهم، أم أنّه سيلطّف حياتهم، نوعاً ما، فيتيح لهم عند عودتهم إلي الواقع، أن يدركوا، ولو بشكل متأخر، شدّة وطأة عالمهم الواقعي وبشاعته؟!.
لكنني أعلم جيداً أنّ هذا البرنامج بعد اجتذابه المشاهدين وتواصل عرضه، سَيبسط جاذبيته علي جميع قنوات العرب الفضائية (السبّاقة إلي فعل الخيرات) وستعمل بأمانة متناهية للحفاظ علي كلّ ما يحتويه من شوائب أخلاقية، لكنّها سوف لن تتردَد أيضاً عن المساهمة بحصّتها في إنماء بنائه الحضاري، وذلك بأن تضيف إلي البرنامج لمسة تجديدية خاصة نابعة من صميم تقاليد العالم التالف. وتلك اللمسة ستتمثّل في جعل نصف سكَان المدينة المفترضة .. من رجال المخابرات.
صحيح أنّهم لن يستطيعوا ممارسة أعمال التعذيب المعهودة تحت رقابة ملايين الشهود، لكنّ لهم ملايين الوسائل الأخري غير المنظورة التي يستطيعون بها أن ينتزعوا المعلومات!.
جامعة الأصفار
في عام،1974 التقي الصحفي سليم زبّال بالسيّد عبد الرحمن عزّام .. باشا أوّل أمين عام لجامعة الدّول العربيّة، وكان الرّجل معتكفاً في منزل ابنه ببيروت، بعد أن بلغ الثمانين من عمره. وقد سأله، في ذلك اللقاء، عن ظروف وكيفية ولادة الجامعة، فأجاب قائلاً: كنّا نبحث عن عروبتنا تحت وطأة الاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي المسيطر علي كلّ شبر من أرض وطننا العربي الكبير .. كان كلُّ منّا لا يعرف الآخر، وكنا مختلفين في الرّأي والتفكير وحتّي في معني العروبة .. وأذكر أنني تحدّثت مرّة مع الملك فيصل الأوّل (ملك العراق حينذاك) عن الوحدة العربيّة، فردّ عليّ قائلاًِ: (صفر + صفر .. كم تساوي يا عزّام؟) .. أجبته: (1+1+1 تساوي 3) فقال: (عندما تصبح كلّ دولة عربية واحداً صحيحاً، تعال وكلّمني يا عزّام) !
أتأمّل رأي مليكنا المفدّي، وأتساءل: ما الذّي تغيّر إلي الأحسن منذ ذلك الحين؟ ومن أين لنا، الآن، برجل متواضع وحصيف وصريح مثله، ليختزل الحالة بمثل ذلك القول المختصر والمغني عن كلّ تعليق؟ إنّ الاختلاف في الرّأي والتفكير، وحتي في معني العروبة لم يعد أمراً ذا أهمية أمام الائتلاف في الكوارث الكبري التي بدأت بالانقلابات الدموّية والغزوات المتبادلة شأن الجاهلية الأولي، ومرّت بالاختلاف في معني الإسلام نفسه الذي تمّ تفصيله وبيعه في سوق التجزئة علي مقاس كل ذي ساطور، وانتهت بإلغاء الشّعوب، وتوقيت الدساتير علي نسق القنابل الموقوتة، وتأبيد الحكّام علي نسق الأحكام المؤبّدة، وجملكة الجمهوريّات علي صدور الجماهير التي لا رؤوس لها ولا أقدام، ولا نفوس بها ولا أحلام، وتوريث المسالخ كاملة لأبناء الجزّارين، وإرساء الأنظمة علي (قواعد) أمريكية صلبة في كلّ شبر من أرض وطننا العربي الكبير، والسعي إلي الإصلاح الذاتي باستبدال المحراث بالبندقية بالنسبة للشؤون الخارجية، واستبدال البندقية بالمحراث بالنسبة للشؤون الداخلية، والتخلي عن أسلوب (العصا والجزرة) البغيض، باستبعاد الجزرة نهائياً عن الموضوع، ومواصلة النضّال من أجل تثخين العصا إلي أبعد حدّ، في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمّتنا المجيدة!
إنّ فيصل الأوّل وعبد الرحمن عزّام - وكلاهما الآن في ذمّة العزيز المقتدر - قد ذهبا، لكن الحسبة الرياضية البسيطة بقيت بعدهما كما هي. ولو أنهما عادا إلي الحياة الآن، بعد ستّين عاماً تقريباً علي إنشاء (كلبشة الدّول العربية) لما اختلفت الحسبة إلاّ في تثخين الأصفار، ولما تردّد فيصل الأول عن أن يقول: (صفر + 20 صفراً تساوي صفراً يا عزّام .. ليس هناك أي واحد صحيح، سواء أكان الأمر بيدك .. أم بيد عمرو) !
من أين يبدأ مسعود؟
قرّر مسعود أن يكتب مذكّراته.
أخرج القلم، ووضع الأوراق علي المنضدة، وأطرق يفكّر:
- مِن أين أبدأ؟
في الساعة الثالثة ودقيقتين وأربع وعشرين ثانية من عصر الجمعة المقبل، يكون مسعود قد بلغ الثانية والخمسين من عمره.
كلّ امريء عاقل وحصيف ومجرّد من الأنانية، لابُدّ أن يقرّر، مثل مسعود، كتابة مذكّراته يوماً ما. واليوم، وهو الأحد المصادف يوماً ما، قرّر مسعود وهو بكامل شعوره بالمسؤولية، أن يتخلي للأجيال الطالعة عن ثمار نصف قرن من التجارب والعبر.
- من أين أبدأ؟
نعم .. من أين يبدأ مسعود؟
البداية هي أصعب ما يمكن أن يواجهه المرء عندما يريد أن يكتب. فدون بداية جيّدة عليه أن يتوقّع أنّ كلّ شيء سينتهي نهاية سيّئة.
لنفرض، مثلاً أنّ السيّد عبد السّميع عبد القادر محمد آغا الموصلي، شكا من التهاب البواسير .. مجرّد فرض، فالسيّد عبد السّميع لا يشكو هذه الأيّام من أيّ شيء، ولن يشكو أبداً، لأنّه في آخر مرّة شكا فيها من سوء أخلاق جاره، تبيّن له أنّ الجار مخبر سرّي، فوصفت له إدارة الأمن زجاجة في مؤخّرته، ومنذ ذلك اليوم شفي تماما من الشكوي ومن احتمالات الإصابة بالبواسير!
نقول (لنفرض) أنّ عبد السّميع شكا من التهاب البواسير، فإنّه في هذه الحالة لابُدّ له من مراجعة الطبيب:
- مِمّ تشكو؟
- من آلام في مؤخّرتي.
- افتح فمك.
- آآآآ
- قل آه
- آآآه
- اسعل
- كح كح كح.
- ماذا أكلت أمس؟
- ركلتين إلاّ صفعة.
- ماذا شربت اليوم؟
- أربعة مقالب.
- حاول أن تقول بسرعة (قَبرُ حربٍ بمكانٍ قفرٍ وليس بقرب قبر حربٍ قبرُ)
- صعبة. ثم أَنّ قبر حرب لم يعد في مكان قفر .. فالقفر كلّه مزروع بالقبور من شمال الوطن حتّي جنوبه.
- قُل، إذن، بسرعة (حوش خالد خوش حوش)
- خالد ليس عنده حوش. هدمته البلدية. تبيّن أنّه يقع في منتصف الشّارع العام المزمع افتتاحه في المستقبل .. واعلم يا دكتور أنّ خالد لم ينتقل إلي حوش جديد. كلّ ما فعله هو أنه انتقل إلي رحمة اللَّه. لقد كان، في أثناء عملية الهدم، موجوداً بالصّدفة داخل الحوش.
عندئذ يضع الطبيب نظّارته .. ويكتب.
يذهب السيّد عبد السّميع إلي الصيدلية. يقرأ الصيدليّ الوصفة، ويناوله قارورة مصحوبة بابتسامة طافحة بالحكمة:
- بالشّفاء .. هذا آخر مكتشفات الطبّ الحديث للقضاء علي السّعال الدّيكي.
الواقع أن كتابة الطبيب هي التي أصابت الدّيك بالسّعال، فيما كان يجب أن تصيب بواسير عبد السميع
- وهي بواسير مفترضة كما قلنا - بالشفاء.
كتابة الأطبّاء، عموماً، كتابة ركيكة، لأنّهم لا يحسنون اختيار البداية. وفي قضيّتنا هذه كان علي الطبيب أن يبدأ من النهاية لكي تكون كتابته صحيحة، أي أن يبدأ من مؤخّرة عبد السّميع مباشرة.
من هنا فإنّ تساؤل مسعود ينمّ عن حكمة بالغة.
- من أين أبدأ؟
هذه المرّة ينبغي له أن يعتصم بالفطنة والحذر.
- بداية جيّدة يا مسعود. جيّدة وذكيّة ولا تخرّ الماء. ضيّعت نصف قرن في البدايات الغبيّة. فرصتك الآن أن تختم الأمر ببداية ممتازة.
نعم .. ليست مذكرات مسعود كلّها إلاّ ثمرة (من أين أبدأ؟) :
- نحن نعرف كلّ شيء، فلا تحاول أن تعلب بذيلك قل كلّ ما لديك.
- من أين أبدأ؟
- من البداية جّداً .. ارجع بذاكرتك إلي الوراء جدّاً.
يرمي ذيله وراء ظهره، مخافة أن يغريه باللعب، ثم يبدأ.
يسرّح دماغه فتتساقط الأماكن والأحداث والمؤامرات والأسماء. أسماء، أسماء، أسماء. حتي أسماء الذّين سلموا عليه بالغلط، حتي أسماء الساقطين في البكالوريا، حتي أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه عنهما، بغضّ النظر عن أنّ السلطة لم تصدر حتي تلك اللحظة بياناً توضّح فيه ما إذا كانت راضية عنهما أم لا!
يتعب من الاعتراف فيناولونه وجبة من التعذيب، ويفرجون عنه في اللّيلة نفسها .. بعد أربعة أعوام.
- في كلّ مرّة لا تحسن البداية. أنت الآن وحدك. ليس معك إلاّ ضميرك. لا تخذل نفسك، لست مضطراً إلي تسريح دماغك. ابدأ كما تشاء، العب بذيلك كما تشاء. هو ذيلك وأنت حرّ فيه يا أخي.
انتصف اللّيل ومسعود منهمك في هرش رأسه.
- من أين أبدأ؟
تناول القلم، وكتب:
- (أنا مسعود بن عبد الواحد .... )
- هيه .. هيه .. لا تذكر اسم أبيك. أأنت مجنون؟
من يجبرك علي هذا؟ اشطبه، اشطبه. ثمّ ما حكاية (أنا مسعود) ؟ أأنت مضطر إلي هذا يا أبله؟ اختر لنفسك اسماً حركيّاً .. مَن يعرف؟ الفطنة يا مسعود شطب مسعود اسمه وكتب:
- (أنا أبو الرّيح ... )
- هيه .. أنت يا أبا الرّيح، لا تسرف في الكلام. اكتب ما قلّ ودًَلّ. انتبه جيّدا. ما قَلّ ودَلّ. لا تطيّنها كالعادة.
كتب مسعود:
- (أنا أبو الرّيح .. وقد واجهت كثيراً من الأهوال في حياتي، وذكرياتي عن هذه الأهوال لاتزال مطبوعة بالنّار في روحي وفي جسدي .. عزيزي القاريء .. أكتفي بهذا القدر من مذكّراتي المؤلمة هذه، وقد أكملت كتابتها في يوم ما .. التوقيع: أبو الرّيح - تمّت) !
أصل وصورة
علي القناة الرّابعة في التلفزيون البريطاني، قدّم نيك نايجل موضوعاً طريفاً عن الناس ذوي الأسماء المتشابهة، أولئك الذّين يكون الواحد منهم سميّاً للآخر ( Namesakes) .
وقد بدأت فكرة الموضوع لديه عندما قرأ رواية (نجم أمريكي) للكاتبة جاكي كولنز، فوجد أن بطلها يحمل اسمه كاملاً (نيك نايجل) ، ولأنّ هذا البطل، كما تصوّره الرّواية، صاحب سيرة جنسيّة فظيعة، فقد شعر نايجل بما يشبه الإغماء بسبب الاضطراب والإثارة معاً، وهو يتابع سلوك سَميّه القصصيّ الخيالي.
وانطلاقاً من هذه النقطة، تساءل عمّا يحدث في الواقع، عندما يجد المرء نفسه سَميّاً لشخص مشهور، وعن مدي ما يعكسه تشابه الأسماء من تشابه في الطباع، وعن الأثر النفسي الذي يحمله هذا التشابه للمغمورين، خاصّة إذا وجد الواحد منهم أنّه سَميّ لشخص ترتكز شهرته علي سوء السمعة؟.
وفي بحثه عن إجابات لهذه الأسئلة، عمد نايجل إلي التنّقيب في (كشوف الناخبين البريطانيّين) ، فإذا به يقع علي مهرجان من الطرافة.
لقد وجد أنّ الجزر البريطانيّة تحفل بالعديد من النّاس الذين يحملون (أصليّاً) أسماء المشاهير.
في البدء تتبّع الأسماء المألوفة جداً، فاكتشف أنّ هناك كثيرين ممّن يحملون اسم توني بلير و جورج بوش و مايكل جاكسون.
لكنّه سرعان ما دخل مغامرة البحث عن أسماء أخري ليس من الوارد التفكير بها، فطبع علي محرّك البحث في جهاز الكمبيوتر اسم دونالد دك، فظهر أنّ هناك ثلاثة يحملون هذا الاسم.
وعندئذ لم يترك اسماً مشهوراً من الماضي أو الحاضر، ومن الواقع أو الخيال، إلاّ وعرضه علي محرّكات البحث، فتوصّل إلي عدد كبير من الأسماء المتشابهة، وعلي ذلك قرّر أن يقابل هؤلاء الناس الذين يحملون أسماء المشاهير، فبدأ بالكتابة إليهم، أو الاتصّال بهم، وانتهي إلي الوقوف علي عتباتهم والطرق علي أبوابهم. وقد حفل هذا الأمر بالكثير من المواقف المضحكة والمحرجة.
أوّل شخص حاول نايجل أن يلتقيه هو السيّد فريد فلنتستون .. وهو سَميّ شخصية الكارتون المشهورة التي اخترعها الثنائي (هانّا - باربيرا) والتي تعيش في العصر الحجري بمواصفات العيش في المدينة الحديثة.
عندما وصل إلي عنوانه في (فولهام بالاس رود) أخبره أحد السكّان أنّ السيّد فلنتستون لم يعد يقيم في هذا العنوان، برغم أنّ صاحبة المنزل ما زالت تتلقّي الرّسائل الواردة إليه وتعيدها إلي مصدرها.
أمّا دونالد دك أو بطوط سَميّ الشخصيّة الكارتونية في أفلام ديزني، فقد وجده يعيش في الأطراف النائية من مرتفعات سكوتلندا، وهو طبيب عام متقاعد ذو منزلة رفيعة، ويتمتّع بروح دعابة عالية. وقد قال إنّه لم يخطر في باله أن يغيّر اسمه، لأنّه وجده مدعاة للفكاهة، ثمَ أنَه، في كلّ الأحوال، هو الأسبق، إذ ولد قبل عشرة أعوام من ميلاد شخصيّة ديزني الكارتونيّة.
وقال دونالد دك إنّ اسمه لم يسبّب له شخصيّاً أيّة مشكلة. لكنّه أشار إلي أنّ أحد مرضاه هو مَن وقع، للأسف، ضحيّة لهذا الالتباس. فقد أحاله مرّة إلي أحد مستشفيات أدنبره، وهناك قررّوا عرضه علي محلّل نفساني، لأنّه ظلّ مصّراً علي القول بأنّ طبيبه هو دونالد دك!.
وفي رحلة الاستكشاف هذه وجد نايجل زوجين عجوزين يحملان اسم دنيس و مارغريت ثاتشر. وهما لم يردّا علي رسالته، وحين اتصّل بهما أغلقا الخطّ في وجهه، ثم سرعان ما اتصّل به ابنهما المتزوّج ليقول له بجفاء: (نعم، لقد تلقيا رسالتك، وقد مزّقتها بنفسي. رجاءً لا تزعج أبي وأمّي ثانيةً) ، وصفق السمّاعة بعنف، دون أن يترك لنايجل فرصة لسؤاله عمّا إذا كان اسمه مارك أيضاً مثل ابن رئيسة الوزراء السابقة!.
وهناك اثنتان أخريان اسمهما مارغريت ثاتشر قالتا له إنّه خلال الانتخابات في الثمانينات كان بعض الناس يوقظونهما في منتصف الليّل لكي يوبّخوهما بسبب سياسات حزب المحافظين!.
وفي مهرجان الطرافة هذا كان مدرّس الجغرافيا ديفيد بيكهام من (سكاربره) ، قد تلقّي علي مدي عدّة أسابيع مكالمات هاتفية تشتمه وتهدّده، بعد أن تمّ طرد اللاعب ديفيد بيكهام من المباراة لسوء تصرّفه في بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 1996.
إنّها مسألة تبدو كنوع من سحر (الفودو) ، حيث يمكن للمشعوذ بإيذاء (السَمِيّ) أن يؤذي المُسمّي!.
في القائمة أيضاً نتعرّف علي نعومي كامبل الأخري، وهي مسؤولة تغذية في مدرسة بإحدي ضواحي لندن، ولها من طيبة النفس ما يكفي لأن تتحدّث بمرح عن الفرق الشاسع بينها وبين عارضة الأزياء الشهيرة.
فهي قالت بكلّ بساطة: (إنّني لست جميلة، ولست طويلة، ولست سمراء، وفوق هذا فأنا بدينة جَداً) .
وإلي جانب هذه المفارقات الفكاهية، كانت هناك قصص أخري تحمل غصص أصحابها، إذ يعاني أكثرهم من صعوبة إقناع الآخرين بأنّ أسماءهم هي أسماؤهم.
ومن هؤلاء السيّد روديارد كبلنغ سَمِيّ الشاعر والكاتب المعروف، صاحب المقولة الشّهيرة (الغرب غرب والشّرق شرق ولا يلتقيان إلاّ كما يلتقي عظيمان) .
فهذا السَميُّ المسكين أمضي ليلة كاملة في الحبس، لأنّ الشرطي اعتقد أنّه يسخر منه عندما قال له إنّ اسمه روديارد كبلنغ!.
أمّا جنكيز خان مراقب المستودعات في برمنغهام، والبالغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، فقد اعترف بالأثر الموجع لاسمه عليه، وأشار إلي أنّ اسمه يمثّل بالنسبة له (كابوساً) أو (فايروساً) ، لأنّه رجل مسالم وذو روح ساخرة، ويقف فطرّياً ضدّ الحروب. وقال إنّه، في سنوات الدّراسة، فكّر جدّياً بتغيير اسمه.
لكنّ الأكثر بؤساً هو من يجد نفسه سَمِيّاً لشخص رديء السّمعة، في البلد نفسه، إذ أنّ السمعة الرّديئة هذه تلاحقه أينما ذهب، وقد تشكّل له متاعب عبر الحدود الدوليّة، أو مصاعب في الحصول علي عمل.
ومن هؤلاء دزينة تقريباً ممّن اسمهن ماكسين كار اللّواتي عانين من كونهن سَميّات المعلمة في مدرسة سوهام، وصديقة إيّان هنتلي قاتل الطفلتين جيسيكا شابمان و هولي ويلز، والتي كانت قد أمضت مدّة في السجن، وغادرته باسم وهمي، بعد أن كذّبت في شهادتها أمام المحكمة، من أجل إنقاذ صديقها القاتل.
واحدة من هؤلاء الفتيات وجدت نفسها مضطرّة للزّواج، فقط، لكي تتخلّص من اسمها حين تحمل لقب زوجها!.
ظاهرة تشابه الأسماء هذه، بكلّ ما تحتويه من فكاهات وأحزان، جعلتني أعود بذاكرتي إلي الوراء، حيث كانت لي ذكري من طفولتي تنتظم في السّياق ذاته، ولا تزال حتي الآن تحملني علي الضحك كلمّا مرّت في ذهني.
في عام 1958 قامت ثورة 14 تموّز بقيادة الزّعيم الركن عبدالكريم قاسم، وسرعان ما أصبح هذا الرّجل موضع حبّ وإعجاب جميع الفقراء.
وفي تلك الأيّام، كان بالقرب من بيتنا دكّان لبيع الثلج يديره رجل اسمه قاسم، لم تبق علّة معروفة أو مجهولة إلاّ وطرقت باب بيته وحلّت ضيفة دائمة عليه وعلي جميع أفراد أسرته. وكان هذا الرّجل دائم الشوق لإنجاب ولد، بعد سلسلة طويلة من البنات.
وعندما حقّق اللّه أمنيته، سمّي الولد علي الفور عبدالكريم تيمّناً باسم قائد الثّورة المحبوب.
كان ذلك الصغير - وراثياً وبيئيّاً - أشبه بفأر مدهوس، ممّا جعله مبعثاً للخوف وللشفقة معاً.
وعندما جاء موسم التّطعيم ضدّ الأمراض المتوطّنة، حمل قاسم ابنه إلي المستوصف، كخرقة بائسة ملفوفة بخرقة أكثر بؤساً.
سأله كاتب المستوصف عن اسم الولد، فأجاب باعتزاز:
- عبدالكريم قاسم.
ولمّا كشف عن جثّته المفزعة، جفل الكاتب وارتدّ إلي الوراء قائلاً بلا مواربة أو تردّد:
- تف .. لا بارك اللّه.
ثمّ أردف متسائلاً باستنكار:
- هذا عبدالكريم قاسم؟! اللّه لا يسامحك. طيّحت حظّ الزّعيم!.
أمّا بالنّسبة لي، فأنا أعرف حتّي الآن أنّني سَميّ ثلاثة أشخاص، منهم موظّف كبير في الطيران السَعودي، وشاعر شعبي قطري، ولاعب كرة قدم كويتي.
وأنا سعيد لأنّ أحداً منهم لم يسبّب لي أيّة مشكلة. لكنني سأكون أكثر سعادة إذا علمت أنَ اسمي لم يُلحق بأحدهم أيّ أذي!.
منبع الخوف
في سالف الأعوام، كان صاحبنا إبراهيم يقطع المسافة الطويلة المظلمة بين محلّتنا والمحّلة المجاورة، وهو يركض بسرعة، مطلقاً صرخات متنوّعة عالية ومتلاحقة. حكمته في ذلك هي أنّه لكي لا يخاف، كان يوهم الخوف بأنّه ليس وحده، بل أنّ هناك حشداً من الناس يركض معه ويصرخ.
عندما سمع عبدون الزبّال بذلك ضحك كثيراً، وتساءل بدهشة: لماذا يخاف هذا الولد الغبيّ من وحدته؟ كان حَرّياً به أن يشعر بالخوف أكثر لوجود هذا الحشد من الناس الرّاكضين معه!
كانت مارلين ديتريتش ساحرة السينما الأمريكية في مطلع القرن العشرين، قد بلغت أرذل العمر، حين سألها صحفي من وراء الباب الذي رفضت فتحه، عمّا إذا كانت تخشي الموت، فأجابت بلا تردّد: الموت؟ كلاّ، علي الإطلاق. إن ما أخشاه هو الحياة!
ومثلها، في مصر، كانت النجمة فاطمة رشدي بطلة فيلم (العزيمة) قد رفضت في أعوامها الأخيرة أن تفتح بابها لأحد من الناس، حيث وجدت أن الوحدة هي ملاذها الآمن من الآخرين.
وليس بعيداً ذلك المغزي العميق الذي سجّله الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين كتبَ عن المذنب الذي حُكمَ عليه، يوم الحساب، بالذهاب إلي الجحيم، فوجد أنّ الجحيم مكان جميل ومريح وفيه كل ما يحتاجه المرء، لكنّه كان أيضاً يكتظ بالناس المناكفين الذين يُحوّلون حياة بعضهم البعض إلي عذاب حقيقي لا يُطاق، فاكتشف، عندئذ، أنّ الجحيم هو (الآخرون) ! عبدون الزبّال، ومارلين ديتريتش، وفاطمة رشدي، وجان بول سارتر، علي رغم تباعد الأزمنة والأماكن، توصّلوا إلي النتيجة نفسها، بعد أن وقفوا أمامها وجهاً لوجه، وأدركوها جيّداً.
لكنّّ إبراهيم المسكين حين توصّل إليها فيما بعد، لم يتسع له الوقت أبداً، لكي يدركها.
الوحدة لم تقتل إبراهيم، والظلام لم يقتله. قتله الإنسان المستبدّ، ذلك النوع المتفرد بين جميع الحيوانات، الذي لا يتورّع عن قتل أبناء النوع الذي ينتمي إليه!
عكس السَّير
في مدينة بيرن السويسرية، كان رجل في السادسة والثمانين من عمره، يقود سيّارته علي الطريق السريع.
وهذا أمر ليس فيه أيّة غرابة، لكنّ الغريب هو أنّ ذلك الرّجل كان يسير في الاتجّاه الخطأ بمواجهة طوفان من السيارات المسرعة!
هل أدرك أنّه ماضٍ في الطريق الخطأ؟
كلاّ .. بل كان مقتنعاً بأنّ جميع السّائقين الأخرين هم مَن كانوا يسيرون عكس الاتجّاه، ولذلك فإنّه كان يشعل المصابيح العالية في وجوه أولئك الحمقي القادمين نحوه لتنبيههم إلي خطأهم!
ولأنّ الشارع كان يبدو له مزدحماً بعدد هائل من هؤلاء المجانين الذين يقودون سيّاراتهم في الاتّجاه غير الصّحيح، فإنّ الرّجل الثمانيني الحكيم ما أن رأي دورية للشرطة متوقّفة علي جانب الطريق حتي توقّف
وعبّر لهم عن شكواه من مخالفة السّائقين الأخرين! بلطف شديد، انتزع رجال الدوريّة مفاتيح سيّارة العجوز، ثمّ أوصلوه بسيّارتهم إلي بيته.
تلك كانت هي الطريقة الوحيدة لإنقاذ الرّجل من نفسه، وإنقاذ النَاس من رعونته.
ومع أنّ حجم الكارثة التي كان ممكناً أن تتسبّب فيها قيادة هذا الرّجل، يظلّ صغيراً جدّاً بالمقارنة مع قيادة أمثاله لأوطان بكامل ما فيها من ملايين البشر، فإننّا إذ نضحك ساخرين من رعونة العجوز، نشعر بكلّ عار الدّنيا، ونصرخ مُحتجّين، إذا ما انتزعت دورية - أيّة دوريّة- مفاتيح القيادة من سائق مجنون يقود الوطن بأكمله علي طريق الهلاك المحقّق!
من حُسن حظّ الرّجل السويسري الثّمانيني أنّه لم يصطحب معه هيئة قضائية تشجب تصرّف رجال الشّرطة.
ومن حُسن حظّ النّاس أنّه لم يسحب وراءه قطيعاً من العُربان المُسمَّنين بالكوبونات، ليتظاهروا تضامناً معه، مستنكرين أن تغلق الدوريّة حنفية (الرّوح والدّم) التي فتحوها علي آخرها فداءً لكوارثه المقدّسة.
فالواضح من مجري حكاية العجوز السويسري أنّه استسلم في النهاية وأذعن للشرطة، لكنّ الأمر، للأسف، لا يجري بمثل هذه السهولة مع سائقي الأوطان المجانين.
فبالأمس، مثلاً، شاهدت، علي شاشة التلفزيون، جزّار شيلي البغيض (أوغستوبينوشيه) الذي كاد يبلغ التّسعين، وهو يُصرّح قائلاً: (إنّهم يريدون مِنّي الاعتذار عمّا فعلته. لكن ماذا فعلت لكي أعتذر؟!)
إنّه برغم انتزاعه لآلاف الأرواح، وبرغم أنّ الدورية قد سحبت منه المفاتيح ورخصة القيادة منذ عدّة أعوام، وبرغم كونه يستحق الإعدام ألف مرّة، لقاء حوادث القتل التي ارتكبها .. ما زال يعتقد أنّه كان يسير في الاتجّاه الصحيح، وأنّ جميع ضحاياه الأموات والأحياء، هم السّائرون في الاتَجاه الخطأ!
قائد الطيّارة الورقيّة
علي أحد رفوف قسم الرّوايات والقصص بإحدي المكتبات اللندنيّة الكبري، لفت انتباهي كتاب متوسّط الحجم طُويَ غلافه من منتصفه بورقة حمراء عريضة كادت تأكل العنوان كلّه وصورة الغلاف.
التقطت الكتاب، فوجدت أنّ الورقة تتضّمن سطوراً بقلم الرّوائية الشيليّة (إيزابيل أللّيندي) تقول فيها:
(رائعة .. إنَّها واحدة من تلك القصص التي لا تُنسي، والتي تبقي منطبعة في النّفس علي مدي سنوات.
كلّ الموضوعات العظيمة في الأدب وفي الحياة قد شكّلت نسيج هذه الرّواية غير العادية: الحبّ، الشّرف، الذّنب، الخوف، الفداء ...
إنّها رواية قويّة جدّاً، إلي درجة أنّ كلّ شيء قرأتهُ، بعد فترة طويلة من قراءتها، كان يبدو لي باهت التأثير)!.
تساءلت مأخوذاً: ما هذه الرّواية التي أخذت بمجامع قلب أللّيندي؟ ومَن هذا الرّوائي الذي استطاع أن يهزّ فروع هذه الشجرة الشاهقة الرّاسخة؟ وأيّة حرارة إبداعية هذه التي جعلت كلّ ما عداها يبدو بارداً بالنسبة لهذه المبدعة الكبيرة؟!.
الرّواية هي (قائد الطيّارة الورقيّة The Kite Runner) .
أمّا المؤلف فهو (خالد حسيني) .
مَن خالد حسيني؟!
هو طبيب أفغاني شاب يعيش في أمريكا، والرّواية هي عمله الإبداعي الأوّل، وقد رسم فيها، بقدرة عالية، صور مأساة الأفغان، علي مرّ العهود الحديثة، ابتداءً من أواخر العهد الملكي، مروراً بالحكم الشّيوعي والاحتلال الرّوسي ودويلات بارونات الجهاد، وانتهاء بالهجوم الأمريكي وسقوط إمارة طالبان .. وكلّ ذلك من خلال حكاية صبيّين ينتميان إلي قطبين اجتماعيين متنافرين (البشتون والهزارة) ويعيشان علاقة ملتبسة تفضي إلي أحداث مستقبليّة أكثر التباساً.
الطريقة المتميّزة في القَصّ لدي خالد حسيني، تجعل قارئه، عند نهاية كلّ فصل، يقفز بشوق ولهفة إلي الفصل الذي يليه، لأنّه يبرع في إقفال الفصول بجمل مفاجئة وصادمة ومستثيرة للرّغبة في المتابعة، شأن مؤلفي القصص البوليسيّة المُحكمة.
ولأنّه اختار أن يكون البطل هو الرّاوي، فقد استطاع بحذق ومهارة، أن يوهم القاريء بأنّه هو البطل، وأنّ الرّواية هي سيرته الشخصّية. لكنّه أكدّ في إحدي المقابلات التي أجريت معه، أنّ القصّة بشخوصها وأحداثها هي من نسج خياله، برغم كونها تستمد حبكتها من وقائع معروفة.
وقال، في هذا الشأن، إنّه إذا كان قد استطاع، فعلاً أن يوهم القاريء بأن الشخصيات حيّة وملموسة إلي هذا الحد، وأنّ الأحداث كلّها حقيقيّة، فهذا يعني أنّه (كذّاب كبير) .. أي أنّه بعبارة أخري (راوٍ جيّد) .
والحقّ أنّه راوٍ جيّد بالفعل، بل هو راوٍ من طراز فريد. وحتّي لو لم يكتب بعد هذه الرّواية شيئا آخر، فإنّها وحدها تؤهّله لحجز مكانه اللاّئق في صفّ أفضل الرّوائيين في العالم، وهي في الوقت نفسه تكفينا دليلاً علي أنّ نواحينا لا تفتقر إلي المواهب الجبارة لكنها تفتقر إلي البيئة الثقافية المتحرّرة من (شموليّات) أعداء اللّه وأعداء الإنسان،
سواء أولئك الذّين يدّعون أنّهم يحكمون بتفويض من اللّه، أو أولئك الذين يزعمون أنّهم يحكمون بتفويض من الإنسان!.
المكان في الرّواية عبارة عن مثلّث: قاعدته أفغانستان، وضلعاه باكستان وأمريكا. وحركة الأحداث والشخصّيات تتواصل في فضائه متنافرة بين هذه المواقع، لكنّها تتقارب في نموّها الحثيث، لتلتقي برغم تباعد الفصول، الأمر الذي ينمّ عن خبرة الرّاوي وكفاءته الفنيّة.
ومن جميل ما نلاحظه فيها أنّ (حسيني) الذّي كتب الرّواية بالإنجليزية كواحد من أهلها، لم ينسَ هوّيته كأفغاني مسلم، فضمّن كثيراً من سرده وحواراته عبارات هي من صميم بيئته، وهي في معظمها عبارات عربيّة خالصة، ترجمها للآخرين في سياق عفويّ لا يؤثّر في مجري السّرد. ولعلّه وجد في استخدامها (كما هي بلسانه)حاجة لتحقيق التوهّج والحرارة المعبّرين عن روح وهويّة الرّواية، ممّا لا تستطيع التعبير عنه أيّة لغة أخري.
خلال قراءتي لهذه الرّواية الممتعة جدّاً، شعرت بأننّي أتنقّل بين مواقع علي الأرض لا علي الورق، وبين بشر حقيقيين لا مجرد أشخاص مرسومين بالكلمات.
وفي خضم رحلتي هذه كان المؤلف يقودني، صعوداً وهبوطاً، عبر مختلف الانفعالات الإنسانية، فينجح، بفعل حرارة صدقه الفنّي، في استثارة غضبي هنا، أو انتزاع ضحكتي هنالك، أو إشعال كراهيتي هناك.
ولا أتردّد عن الاعتراف بأنّه في واحدة من ذُرا تلك الحوادث المحوريّة في قصّته، قد أسلمني إلي البكاء!.
كلا .. لا يذهبنّ الظنّ بعيداً. ليست الرّواية فيلماً هندياً، فلو أنّها كانت كذلك لوفّرت علي بطلها الكثير من العناء، ولأسعفته بحلول جاهزة للعقد المستحكمة التي واجهها، فتمنّي - وتمنّينا معه - لو أنّه كان شخصيّة في واحد من تلك الأفلام الهندية التي طالما شاهدها، والتي يعرف علي وجه الدقّة بأيّة حركة أو سلوك أو قول سيمكن للبطل فيها أن يخرج من محنته، لكنّه، إذ تمّر في ذهنه مثل هذه الخواطر، يتأسّف لأنّ ما يجري في الواقع هو شيء مختلف تماماً عمّا يجري في تلك الأفلام.
ولمناسبة ذكر الأفلام، أودّ أن أجتزيء هنا لمحة من الرّواية، يدخل فيها البطل محلّ أشرطة فيديو في أمريكا، فيسأله أحد الزّبائن عن رأيه بفيلم (العظماء السبعة) الذي ينوي استعارته. ولأنّ البطل كان قد شاهد هذا الفيلم مَرات عديدة حين كان في أفغانستان، فقد أسهب في إطرائه، إلي حدّ أنّه روي للزّبون قصته كاملة، مما جعل الزّبون يتمّيز غيظاً بدلاً من أن يبدي امتنانه، وذلك لأنّ البطل أفسد عليه لذّة مشاهدة الفيلم!.
أردت، باجتزائي هذه اللمحة، أن أبيّن السبب الذي دعاني للإحجام عن تلخيص مسار الرّواية أو عرض محاورها، أو نقل بعض تفاصيلها المؤثّرة. إنّه الحرص علي عدم إفساد لذّة قراءتها بالنسبة للقاريء العربي .. وهو حرص يصاحبه الأمل بترجمتها قريباً إلي اللغة العربيّة، ويسبقه الألم لصدور طبعتين إنجليزيتين وطبعتين أمريكيّتين منها حتّي الآن، إضافة إلي صدور ترجماتها للأسبانية والألمانية والهولندية والسويديّة والدانماركية .. واهتمام هوليوود بإعدادها للسّينما، فيما لم أسمع لها أيّ صدي في جنبات عالمنا الثقافي حتّي هذه السّاعة!.
أتمنّي أن يكون صوتها وصداه قد انطلقا عندنا، لكنّ صممي أنا هو الذي حال دون سماعهما.
أتمنّي ذلك من كلّ قلبي.
مداواة الحنين
كنت، في الأسبوع الماضي، قد تحدّثت عن رواية (قائد الطيّارة الورقيّة) للكاتب الأفغاني خالد حسيني، وذكرت أنّه جعل (البطل) راوياً للقصّة، الأمر الذي أوهم كثيراً من القرّاء بأنّه هو نفسه البطل، فيما أكدّ في إحدي المقابلات أنّ روايته متخيّلة تماماً، علي الرّغم من أنّ حبكتها مستمدّة من الواقع الأفغاني، وبرغم نقاط الشبه العامّة بينه وبين البطل من حيث البيئة وظروف التربية أو ظروف النزوح .. وعلي ذلك عقّب مفاخراً بأنّه إذا كان قد استطاع أن يوهم القاريء بأنّ الشخصيّات حيّة والحوادث حقيقيّة، فمعني ذلك أنّه (كذّاب كبير) أو بعبارة أخري (راوٍ جيّد) .
وقد وجدت خالد حسيني يعود قبل أيّام إلي إغناء هذا الموضوع، في مقالة له في الملحق الثقافي لجريدة (الغارديان) .
في هذه المقالة يُنبئنا (حسيني) بأنّ ذلك الوهم لدي القاريء قد أجّج الفضول لدي الرّاوي، إذ قرّر الأخير أن يتبع خطي بطله علي أرض الواقع، في محاولة لاستكشاف أوجه الشَّبه بينهما، فإذا به يتوصّل إلي نتائج مثيرة للدهشة.
يقول (حسيني) : (إنّ أمير سيكون أوّل مَن يُخبركم بأنّه ليس الأنبل ولا الأشجع بين الرّجال. لكنّه، قبل ثلاث سنوات مضت، قد قام بعمل جامع لصفتَي النّبل والشّجاعة معاً. فهو قد عاد إلي أفغانستان - التي كانت آنذاك تحت حكم طالبان - من أجل تصفية حساب قديم. عاد بعد عشرين عاماً من الغياب، للتكفير عن خطيئة كان قد اقترفها وهو صبيّ، وذلك بإنقاذ طفل لم يعرفه من قبل، وإنقاذ نفسه من اللّعنة.
وقد كادت رحلته تلك أن تكلّفه حياته .. والمسألة هنا هي أننّي أنا الشّخص الذي أرسله في هذه المهمّة، وقد كان الأمر سهلاً عليّ، لأنني، في النهاية، أنا مَن اخترع (أمير) .. فهو بطل روايتي (قائد الطيّارة الورقيّة) .
ويواصل قائلاَ: (لكنّني، بعد وضع اللّمسات الأخيرة علي مسودّة الرْواية، وجدت نفسي في مارس،2003 أترسّم خطي بطلي، فأخذت مكاني في الطائرة عائداً إلي أفغانستان، بعد غيبة طويلة امتدّت سبعة وعشرين عاماً تقريباً.
عندما غادرت بلادي كنت في نحو الحادية عشرة، صبيّاَ نحيف البنية في الصفّ السابع الابتدائي، وها أنا أعود إليها وعمري ثمانية وثلاثون عاماً، بوصفي رجلاً متزّوجاً وأباً لطفلين، حيث أعمل طبيباً وكاتباً، وأقيم في شمال كاليفورنيا) .
ما أن هبطت الطائرة في كابول حتّي تردّدت في ذهن (حسيني) بضعة أسطر من الرّواية، فإذا بأفكار (أمير) قد أصبحت، فجأة، أفكاره هو: (كنت أظنّ أننّي قد نسيت هذه الأرض .. لكنّ هذا لم يحدث. لعلّ أفغانستان لم تكن قد نسيتني هي أيضاَ) .
وفي غمرة ذهوله من هذا الإحساس الغريب الذي جعله يتماهي مع بطله، يقول (حسيني) : (إنّ العُرف القديم في الكتابة يقول إنّك تكتب حول ما جرّبته. أمّا في حالتي أنا فقد كنت ذاهباً لتجربة ما كتبته سَلفاً) !
وخلال زيارته القصيرة، يكتشف (حسيني) أنّ كثيراً ممّا تخيّله كان مُنتصباً أمامه في الواقع، وأنّ معظم الأحاسيس التي بثّها في روح البطل قد عادت حيّة وتلبّست روحه، حتي أنّه كان يمشي بقدمَيّ (أمير)ويتقمّص انفعالاته ويري الأشياء بعينيه.
يقول: (مثل أمير، كنت ممتلئاً بإحساس العائد إلي وطنه للقاء صديق قديم. لكن مثل أمير أيضاً شعرت قليلاً بأننّي مثل سائح في بلادي .. كلانا لم يشارك في الحروب، كلانا لم ينزف دمه مع الأفغانيين الآخرين. لقد كتبت عن شعور أمير بالذّنب .. وها أنا الآن أجرَبه بنفسي) .
وحين يعثر، بعد جهد، علي بيت أسرته القديم، يُحسّ في داخله بانكسار حاد، كذلك الانكسار الذي أحسّه بطله تماماً عند العودة إلي المنزل القديم. هو يعيد علينا ما جرّبه الكثيرون منّا من شعور بالصّدمة والحزن، إزاء الأماكن التي تعيش رحبة وشامخة في ذاكرتنا، ثم نراها، بعد طول غياب، صغيرة ومتضائلة.
لكنّه يُقسم أنّه رأي حتّي آثار زيت السّيارات يُغطّي أرض مرآب بيتهم القديم بالصورة نفسها التي رسمها خياله لمرآب بيت أمير.
وحين استدار مودّعاً بيته القديم بقلب مفعم بالحزن، أدرك (حسيني) أمراً غير عاديّ، هو أنَه لو لم يكتب (قائد الطّيارة الورقيّة) لكانت مشاهدته الأخيرة لبيت أبويه أشدّ وطأة علي نفسه، وأكثر إيلاماً لمشاعره. يقول: (في النهاية كنت قد مررت بهذه التجربة سلفاً: لقد وقفت، من قبل، مع أمير أمام بوّابة منزل والديه، وجرّبت شعوره
بالفقد، ورأيته وهو يضع يديه فوق القضبان الحديديّة الصدئة، وحدّقنا معاً في السّقف المتداعي، وفي درجات السلالم المكسورة.
إنّ كتابتي لهذا المنظر في الرّواية قد خفّفت كثيراً من قسوة ألم تجربتي الشخصّية في الواقع).
وقد توصّل (حسيني) من كلّ هذا إلي خلاصة مفادها أنَ الفنّ يعمل، في الخفاء، علي تلطيف آلام الحياة.
الصّادر .. والوارد
كنت قد بدأت تناول غدائي للتّو، عندما دخل (هادي) ذو السنوات الخمس البيضاء، وانتصب في باب الصّالة مثل بسطار عسكريّ ملطّخ بالوحل.
قال: (أمّي تريدك) .
نهضت بسرعة وتبعته مستكملاً بلع اللقمة في طريقي.
صاحت أمّي حانقةً: (أكمل طعامك .. إنّهم لن يطيروا) .
قلت لها وأنا أجري: (سأعود حالاً .. غطيّه واحرسيه من الذّباب) .
استقبلتني (أمّ جواد) متهلّلة عند باب البيت، وجرّتني من يدي إلي الدّاخل قائلة مثل كلّ مرّة:
(تعال .. جاءك رزق).
كنت أعرف هذا، لكنّ تصريحها كان يسعدني دائماً لأنّه تأكيد مسبق علي أنّ الأمر لن يكون لوجه الله.
طلبت منّي الجلوس علي البساط، فجلست، ومضت هي إلي زاوية الحجرة، وغمست يدها في صندوق من الكرتون، ما لبثت أن أخرجت منه مظروفاً وقلماً ودفتراً مدرسيّاً. عادت لتجلس قبالتي. رمت المظروف والقلم في حجري، وانتزعت ورقة من الدفتر ثم سوتها فوقه ووضعته فوق ركبتي.
قالت بعجلة ولهفة: (اكتبْ) .
أمسكت القلم وانتظرت.
رصّتْ قبضتها علي خدّها، وتنهّدت قائلة: (بسم الله الرحمن الرحيم .. صباح الخير. إن كان صباحاً .. ومساء الخير إن كان مساء .. حضرة جناب الأخ المحترم والدي العزيز أبو زهرة .. ) توقّفتُ عن الكتابة.
نخزتني بسبّابتها محتجة ومستحثة: (اكتبْ) .
قلت لها: (خالتي أم جواد .. كيف يصير جناب الأخ والدك؟!) .
قالت: (ما عليك .. هكذا كان عمي يكتب له) .
قلت لها: (لكنه أخوه!) .
قالت بحسم: (وهل أنا من فطر الحائط؟ أنا أيضاً ابنته .. اكتبْ) .
خشيت أن أواصل الجدل فيضيع رزقي، فعملت بكل ما أملكه من رداءة في الإملاء علي تصريف طوفان أحزانها ولوعتها وشكواها من نزق جواد وهادي، ومن فراق زوجها الجندي الذي لا تُرجي عودته من حرب الشمال، ومن عداوة الجيران، ومن سوء كل شيء تقريباً.
وحين انتهيت، ورفعت رأسي عن الورقة، رأيت عينيها الحمراوين طافحتين بالدّموع.
قامت، مثل كل مرة، وأشعلت سيجارة، ثم قدمتها إليّ قائلة: (لا أوصيك .. من هنا، ومن هنا، ومن هنا. لا تحرق الكلام) .
كانت تلك هي طريقتها في التعبير عملياً عن حرقة قلبها.
شرعت أثقب الورقة من أطرافها بجمرة السيجارة، محاذراً من اندلاع اللهب فيها، وحين انتهيت، بدأت في طيها، فانتبهت إلي أن ظهرها ممتليء بالكلمات المكررة: (نار .. نيران .. نور - دار .. دور - قدري قاد بقرنا)!.
أدركتُ حالاً أنّ الخالة قد انتزعت هذه الورقة من دفتر جواد، وعليها واجب القراءة. واكتشفت أن نار السيجارة قد أحرقت نار الدّرس، وشبّتَ في الدُّور، ولم تُبقِ من (بقرنا) سوي حروف الباء!
فكرت في أن أمام جواد ثلاث سنوات ليصبح مثلي في الصف الرابع الابتدائي، وعندئذ سيتولي وظيفتي ويقطع رزقي.
وتحت سطوة هذه الفكرة، شعرت بالغيظ، فدسستُ الورقة في المظروف، ولعقته بلساني وألصقته، دون أن أبدي للخالة أيّة ملاحظة علي واجب جواد المحترق. أعطتني عشرين فلساً، وقالت: (هذه العشرة للطابع .. وهذه العشرة لك) .
لم يمض أكثر من شهر، حتي انتصب (هادي) في باب الصالة، وقال باقتضاب: (جدّي يريدك) .
كنت قد تعشيت منذ ساعتين، ولذلك فقد انطلقت هذه المّرة دون خوف من حنق أمي، ودون حرج من تكليفها بحراسة طعامي.
ابتسم (أبو زهرة) عن ضرس واحد يكاد ينهدم من فرط الوحشة.
كان جالساً فوق البساط وسط الحوش، متكئاً علي وسادة غليظة، وكانت (أم جواد) جالسة أمامه تُعدّ الشاي علي منقلة الفحم.
دسّ يده في جيبه وأخرج مظروفاً مغلقاً، وقال لي بما يشبه الغمغمة: (تعال يا سبع .. اقرأ لي هذا المكتوب) .
حدّقتْ (أمّ جواد) في المظروف بريبة ظاهرة، لكنّها لم تنبس ببنت شفة.
فضضت المظروف، فاستحال شكّي علي الفور يقيناً قاطعاً. كانت الثقوب السوداء جاثمة فوق النار والدور وبقرنا.
ما أن شرعت بالقراءة حتي صرخت (أم جواد) كالملدوغة: (هذا مكتوبي!) رفع (أبو زهرة) يده مسكتاً إيّاها بالإشارة، لكي يستطيع مواصلة الاستماع، وكان في أثناء ذلك يهزّ رأسه بتأثر واضح.
وعندما انتهيت رأيت الدموع تلتمع فوق خدّيه، ورأيته يميل ناحية ابنته ويحضنها بحنان ويقبّل رأسها قائلاً: (مَن يدريني؟ المضمّد حمدان هو وحده الذي يستطيع قراءة المكاتيب. وقد التحق بعمله قبل ستّة أسابيع، ولم يعد إلي القرية منذ ذلك الحين. لو كنت أعلم أن المكتوب منك لفتحته وشممت رائحتك علي الأقلّ) .
حمدت الله لأنه لم يفتحه، إذ لو أنه فعل لما شَمَّ سوي رائحة احتراق بقرنا!
التفت إليَّ وابتسم: (هاه .. نسيتك .. خُذْ يا سبع) وأعطاني عشرة فلوس.
مددت يدي والتقطت العشرة بفرحة مشوبة بالخجل. (عشرتان لمكتوب واحد) .. هكذا قلت في نفسي وأنا أشعر بغبطة عارمة.
وضعت العشرة في جيبي، ومضيت نحو الباب، لكنّني قبل أن أخرج، التفتُّ بقلب خافق بالطمع، وسمعت صوتي الخفيض يتأوّد بوقاحة مثقلة بالحياء: (هل تريد أن أكتب لك جواباً علي المكتوب؟) .
ثقافة الإرهاب
يحكي الكاتب الأوروغواني إدواردو جاليانو في (كتاب المعانقات) أنه قرأ، مرةً، رواية يلتقي في أحد فصولها جد مسن جداً بأصغر أحفاده.
الجد الطاعن في السن هذا خرف تماماً (أفكاره هي لون الماء .. كما تصفه الرواية) ، وهو يبتسم ابتسامات لاهية تشبه ابتسامات حفيدة المولود حديثاً.
الجد الأكبر سعيد لأنه فاقد الذاكرة، وحفيده الأصغر سعيد لأنه لم يمتلك، بعد، أية ذاكرة.
ويعلق جاليانو علي ذلك قائلاً: إن هذه، كما أتصور، هي السعادة الكاملة .. لكنني لا أرغب في أي نصيب منها!
لا يريد جاليانو نصيباً من هذه السعادة، لأنها في الواقع سعادة البلهاء، أي أنها، بعبارة أخري، سعادة المواطنين الصالحين بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية ومن الطبيعي بالنسبة لرجل مثله، أمضي أعواماً عديدة من عمره بين المنافي والسجون، بسبب دفاعه عن الحرية، أن يرفض هذا الصلاح الفاسد، وأن يستخدم كل مواهبه من أجل تعريته، سواء أجاء بوجه أجنبي أم بوجه وطني.
هذا النوع من السعادة، عنده، هو معادل الارهاب الذي يتحول علي يد السلطة المستبدة الي (ثقافة) قائمة بذاتها، حيث تستخدم كل الوسائل الممكنة من أجل تجذيرها في بنية المجتمع، حتي تثمر، مع الأيام، يقيناً عاماً بأنها جزء لا يتجزأ من كينونة هذا المجتمع.
ولعل هذا هو ما يفسر لنا اختلاط المشاعر الذي يدعو المضطهدين الي الخوف من التحرر المفاجيء، أو يحمل الضحايا علي البكاء، لدي زوال جلاديهم فجأة!
إن (ثقافة الارهاب) تتحول، بعد تجذرها، الي حلقة تبادلية فعالة، تنتج الطغيان من الأعلي، وتنتج الطغاة من الأسفل!
وفي استعراضه لبعض عناصر هذه الثقافة يقول جاليانو:
إن الاستعمار الواضح يشوهك دون أية ذريعة: إنه يمنعك من الكلام، يمنعك من الفعل، ويمنعك من الوجود.
أما الاستعمار الخفي، فهو يقنعك، بأية طريقة، بأن العبودية هي قدرك، وأن العجز هو طبيعتك: إنه يقنعك بأن من غير الممكن أن تنطق، من غير الممكن أن تفعل، ومن غير الممكن أن توجد!
وماذا يكون الاستعمار الخفي سوي السلطة الوطنية الجائرة؟!
إن الكاتب لا يفاضل، هنا، بين جور وجور آخر، لكنه يصفع بشدة وجوه أولئك الذين يعتقدون ان الخضوع لسلطة القمع الداخلي هو البديل الوحيد والأهون عن الوقوع فريسة للغزو الخارجي، في محاولة لايقاظهم علي حقيقة مروعة: هي أن الفرق بين الاستعمار الخارجي والاستعمار الداخلي، هو أنهم في الثاني يشاركون، باقتناع تام، في حفلة اعدامهم!
ويسوق مثالاً علي تلقيم الخنوع، وتحويل المواطن الي مجرد رقم، من كتاب مدرستي كان يستعمل حتي وقت قريب في مدارس أورغواي: (في ما يتعلق بالطفل المثالي:
فتاة صغيرة تلعب بدميتين وتوبخهما لكي تظلا ساكنتين.
الطفلة نفسها تبدو مثل دمية: جميلة جداً، وطيبة، ولا تزعج أي أحد) .
إن صدي مثل هذا التأليف المدرسي المجرد يتردد في الواقع علي شكل دُمي حقيقية حية.
وذلك ما نجد مثاله في حكاية فتاة اسمها راميونا كارابالو كان أسيادها قد وهبوها الي بعض الناس كهدية، عندما كانت بالكاد تتعلم المشي!
وفي عام،1950 إذ كانت تلك الفتاة لا تزال طفلة، اشتغلت كعبدة في أحد بيوت مونتيفيديو عاصمة الأوروغواي، حيث كانت تعمل كل شيء مقابل لا شيء.
وذات يوم جاءت جدتها لزيارتها، ولم تكن راميونا تعرفها أو تتذكرها. وكان علي الجدة القادمة من الريف أن تعود الي قريتها بسرعة، ولهذا فإنها شرعت، حال دخولها البيت، بإنجاز مهمتها، إذ حملت السوط وراحت تجلد حفيدتها جلداً مبرحاً، ثم انصرفت، تاركة الطفلة تنحب وتنزف.
جدة راميونا كانت تصرخ بها وهي تنهال عليها بالسوط:
- (إنني لا أضربك بسبب ذنب ارتكبته .. إنني أضربك بسبب ما سوف ترتكبينه) !
هل ثمة فرق بين ما فعلته تلك الجدة وبين ما تفعله جميع السلطات في أوطاننا السعيدة، أو ما تفعله أمريكا علي مستوي العالم كله؟!
ان الفعّالية التي تتحرك بها دائرة التبادل بين الطغيان وضحاياه، لا تقتصر علي تلك النماذج الناتئة الواضحة، لأن ذلك التلقين المقدس يتناسل حتي في الأماكن التي يظنها المرء خارج هذه الدائرة.
يعدد جاليانو في هذا الاتجاه، طائفة من (المكرمات) : الابتزاز، الإهانة، التهديد، الصفع، الضرب، الجلد، الغرفة المظلمة، الدوش المثلج، التجويع، الاتخام بالقوة، الحرمان من مغادرة البيت، الحرمان من قول ما تعتقد، الحرمان من فعل ما ترغب، الاذلال العلني .. ثم يقرر بشكل صاعق أن تلك الاشياء كلها هي بعض مناهج العقاب التقليدية في الحياة الأسرية!
فمن أجل معاقبة التمرد، وتهذيب السلوك الخارج عن اللياقة، يعمد التقليد الأسري الي تخليد (ثقافة الارهاب)التي تهين المرأة، وتعلم الطفل علي الكذب، وتنشر حولها وباء الخوف.
ولهذا فإن أندريس دومينغيز أحد أصدقاء جاليانو لم يتعد الصواب حين قال له مرة: إن حقوق الانسان يجب أن تبدأ في البيت.
إن هذه البداية الصحيحة هي التي يمكن أن تحقق للانسان حصانة ضد الأوبئة المدمرة كلها، وفي مقدمتها وسائل الاعلام التي لم يسبق لعصر أن ابتلي بسيطرتها التامة والواسعة مثل عصرنا المنكود.
فإذا كان الناس علي دين ملوكهم، فإن ملك هذا الزمان، بلا منازع، هو الاعلام، وان سلطته الجبارة الأقوي من أية سلطة، هي في أغلبها لسان صدق في فم الكذاب، إذا تأكد شرط امتلاكه للقوة!
ولعل الحكاية النموذجية التالية التي يرويها جاليانو كافية تماماً لاظهار صورة الدمار الهائل الذي يخلفه هذا الوباء:
يقول جاليانو انه اطلع لدي محامٍ يدعي بيدرو ألغورتا علي ملف ضخم حول جريمة قتل امرأتين نفذت بالسكين في نهاية عام،1982 في احدي ضواحي مونتيفيديو.
المتهمة ألما دي أغوستو كانت قد اعترفت بجريمتها المزدوجة، وقد مر علي ايداعها السجن أكثر من عام، وكان من الجليّ أنها قد حُكم عليها بأن تتعفن هناك حتي آخر لحظة من حياتها.
وكما جرت العادة، فإن رجال الشرطة اغتصبوها وعذبوها، وبعد شهر من مواصلة ضربها بقسوة، استطاعوا ان ينتزعوا منها: عدة اعترافات!
لم تكن اعترافات ألما متطابقة، وبدت كما لو أنها ارتكبت الجريمة بطرق كثيرة مختلفة، فقد كان هناك أشخاص مختلفون يظهرون في كل اعتراف مثل خيالات وهمية لا أسماء لها ولا عناوين.
وذلك لأن التعذيب كان من شأنه أن يحول أي شخص الي مؤلف قصصي كثير الانتاج. والأكثر من ذلك فإن هذا المؤلف يقدم حكاياته برشاقة لاعب أولمبي، وبزينة مهرجان أمازوني، وببراعة مصارع ثيران محترف!
لكن الأكثر اثارة للدهشة كان غني التفاصيل. ففي كل اعتراف كانت ألما تصف بدقة بالغة: الملابس، الايماءات، الأجواء المحيطة، المواقع، والأشياء.
وموضع العجب في هذا كله هو أن ألما المسكينة كانت عمياء!
الأدهي من ذلك أن جيران المتهمة الذين يعرفونها جيداً ويحبونها كثيراً، كانوا مقتنعين تماماً بأنها هي القاتلة.
سألهم المحامي:
- لماذا؟!
- لأن الصحف قالت ذلك.
- لكن الصحف تكذب!
- ولكن الراديو قال ذلك أيضاً .. والتلفزيون!
هل يحق للغالبية العظمي منا أن ترفع اصبع اللوم في وجه أولئك الجيران؟
كلا .. لأننا في الواقع مثلهم تماماً، خيوط مرتبة بكل نعومة وتناسق في نسيج (ثقافة الارهاب) الشاملة!
هدّية للضمير المستتر
الزّلزال الآسيوي قتل ما يقارب مائة وسبعين ألفاً من النّاس في إثني عشر بلداً.
وصدّام الرّجيم قتل مليوني إنسان في بلد واحد.
الزّلزال الآسيوي شرّد خمسة ملايين إنسان في اثني عشر بلداً.
وصدّام الرجيم شرّد خمسة ملايين إنسان من بلد واحد.
الخسائر التي خلّفها دمار الزّلزال الآسيوي قدرت بما يقرب من مائتي بليون دولار.
والخسائر التي خلّفها دمار صدّام الرجيم حتّي عام 1991 فقط، قدّرت بما يزيد علي أربعة أضعاف خسائر الزلزال الآسيوي.
القوّة التدميرية للزّلزال الآسيوي، حسب تقديرات العلماء، كانت تعادل قوّة مليون قنبلة ذرية.
وعلي هذا المقياس يتبيّن لنا انّ قوة صدّام التدميرية كانت تعادل عشرين مليون قنبلة ذريّة.
ولمّا كان هذا هو، بالضبط، عدد سكان العراق، فإنّنا نخلص إلي أنّ عهده (الميمون) قد خصّص (قنبلة ذرية)كاملة لكلّ فرد عراقي!.
تلك أرقام بسيطة لا تحتاج إلي تحليل، ولا تحتمل التّحايل .. نضعها بكلّ تقدير أمام أنظار جميع الخصاونة الكرام .. لنسألهم بعد هذا:
هل كذّبت أمريكا حقّاً بشأن احتواء العراق علي سلاح الدّمار الشّامل؟
بعبارة أخري: أأنتم أدري من أمريكا بنوع السّلاح الذي اخترعته ونصبته في العراق طيلة ستّة وثلاثين عاماً؟!
أتمني من هيئة الدّفاع عن (محقان) أن تأخذ منه، في زيارتها المقبلة، القنبلة الذرية الخاصّة بي .. هديّة خالصةً لها، لكي تغسل بها ضميرها .. إذا استطاعت أن تعثر علي هذا الضمير!
بدايات خالدة
ليس هناك حصر للقصص والروايات الرائعة التي خلفها المبدعون، شرقا وغربا، علي مختلف العصور. لكن هناك مايشبه الاجماع علي روعة وتميز عدد محدود من البدايات التي افتتح بها بعض المبدعين اعمالهم القصصية.
وليس المقصود هنا قدرة الكاتب علي جذب قارئه وتشويقه منذ الصفحة الأولي للكتاب، اذ لاحصر ايضا، للموهوبين القادرين علي ذلك، خاصة ان البداية الجيدة والمحكمة كانت، ولاتزال، الهم الاكبر لجميع القصصيين، باعتبارها المؤشر الأول لانشداد القاريء أو تردده او تركه العمل الادبي برمته.
لكن المقصود هو تلك البدايات التي لاتتعدي فقرة صغيرة، او جملة قصيرة قد لاتكون غريبة او ذات بلاغة عالية، لكنها مع ذلك تملك من السحر وقوة التأثير، ما يجعلها تترك بصمتها المميزة في نفس القاريء، سواء بحمولتها الخاصة وحدها، او بأثر النص كله بعدما ينتهي القاريء من مطالعته، فاذا ترددت علي مسمعه عبارة الافتتاح تلك، في الأعوام اللاحقة، احس بحرارة الميسم التي احسها عند قراءة العمل الادبي من قبل، وعادت الي ذهنه حرارة العمل كله.
ولكي نعلم مقدار اثر مثل تلك البدايات التي تحولت الي مايشبه (الأيقونات) علينا ان نصغي باهتمام لما يقوله واحد من اعظم الروائيين في عصرنا، عن شدة الأثر الذي طبعه في نفسه المفتتح لقصة فرانز كافكا (المسخ) :
(عندما استيقظ غريغور سامسا ذات صباح من احلامه المزعجة، وجد نفسه وقد تحول، في فراشه، الي حشرة ضخمة جدا).
يقول غابرييل غارسيا ماركيز انه عندما قرأ هذا في بداياته، ادرك، من خلال دهشته وانبهاره، ان كل شيء ممكن في القص.
ولعله وجد في ذلك حافزا لايرد علي أن يمضي في سبيله بجرأه غير معهودة، ليطلع علينا في النهاية بشيء لاعهد لنا به من قبل اسمه (الواقعية السحرية) .
ولعل ماركيز يعلم ايضا ان جملته الاولي في عمله الكبير (مائة عام من العزلة) قد كان لها، علي بساطتها، التأثير ذاته في نفوس قرائه، مما سيجعلها واحدة من البدايات الخالدة:
بعد أعوام عديدة، فيما كان يواجه كتيبة الاعدام، تذكر العقيد أورلياندو بوينديا عصر ذلك اليوم البعيد الذي اخذه فيه والده لمشاهدة الثلج).
لكن هل كان الكاتب النرويجي كنوت هامسون يتخيل ان تعبيره الافتتاحي عن اثر مدينة كريستيانا علي نفس بطل روايته (الجوع) سيكون له الوقع ذاته علي نفوس قراء الرواية علي مر الاعوام؟. يفتتح هامسون روايته هكذا:
(حدث هذا في تلك الايام التي كنت فيها مشردا اتضور جوعا في مدينة كريستيانا، تلك المدينة العجيبة التي لايغادرها احد قبل ان تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها).
وكذلك لايغادر احد رواية (الجوع) دون ان تسمه بسماتها وتترك عليه آثارها، بحيث يكفي ان يسمع الفقرة الافتتاحية، لكي يستعيد الاثر الموجع للرواية كلها، مهما تباعدت الاعوام، اذ ان تلك الفقرة هي تلخيص مكثف للمرارة التي احتوتها الرواية، حيث انتصب التشرد والجوع بطلين اساسيين فيها.
وفي رأس قائمة تلك البدايات التي لاتنسي، تأتي بداية رواية (آنا كارنينا) لتولستوي:
(كل الأسر السعيدة متشابهة، أما الأسر التعيسة فلكل منها تعاستها الخاصة المميزة).
انها واحدة من (الأيقونات) التي تكرست علي مر العهود، سواء من قبل القراء العاديين او من قبل المبدعين الكبار. فعلي الرغم من عظمة جميع اعمال تولستوي، تبقي (آنا كارنينا) في قمة هذه الاعمال، وفي قمة جميع الاعمال الادبية الاوروبية ايضا، كما رأي ديستويفسكي وتبقي افتتاحيتها في الصف الأول من تلك الافتتاحيات ذات الاثر الدائم.
اما الكاتب الانجليزي تشارلز ديكنز فيأخذ مكانه في هذا الصف بفعل البداية الرائعة لروايته الخالدة (قصة مدينتين) :
(كانت افضل الأزمنة، وكانت اسوأ الازمنة.
كان عصر الحكمة، وكان عصر الحماقة. كان عهد الايمان، وكان عهد الشك. كان موسم النور، وكان موسم الظلام. كان ربيع الأمل، وكان شتاء القنوط. كنا نملك كل شيء أمامنا، وكنا لانملك شيئا مما امامنا.
كنا جميعا ذاهبين مباشرة الي الجنة، وكنا جميعا ذاهبين في الاتجاه الآخر)!.
ان قراء ديكنز قد ينسون كثيرا من تفاصيل قصصه المؤثرة، وقد ينسون حتي الموقف الموجع للصغير اليتيم الجائع أوليفر في مفتتح رواية (أوليفر تويست) وهو يطالب بمزيد من الحساء .. لكنهم لايمكن ان ينسوا مطلع (قصة مدينتين) الحافل بكل المتناقضات، والعابر من تشخيص حال مدينتين هما لندن وباريس، الي تشخيص موجز وحاد ومؤلم لحال الجنس الانساني الذي تنفصم مدينته نفسها الي مدينتين وينقسم زمنه ذاته الي زمنين!.
البدايات القصصية المميزة قد تكرست، غالبا، نتيجة تطاول العهود، وازدحام المارة علي دروب الاعمال الادبية المذكورة علي مختلف الازمان، واذا كنت قد ذكرت تلك البدايات فليس لانها البدايات المميزة حصرا، اذ لاريب ان هناك كثيرا مثلها، لكنني انحزت الي النماذج التي وجدتها اكثر شيوعا.
نتيجة متابعتي، وهي متابعة محكومة بسقف قراءاتي الذي اعترف بانه ليس عالياً بما يكفي للاحاطة بكل تلك البدايات.
بقي القول ان الحافز الذي حرك في ذهني شرارة هذا الموضوع هو مفتتح رواية (انتظار) للكاتب الصيني (ها-جن) .. إذ إنني حال وقوع عيني علي هذا الطُعم الذي وضعه لاصطياد القاريء، وجدته مؤهلا لدخول موسوعة البدايات المميزة من اوسع ابوابها، اذا اتسعت شهرة الرواية، وتعددت منافذ ترجمتها الي مختلف اللغات.
يقول (ها- جن) في السطر الأول من روايته:
كل صيف، كان لن كونغ يعود إلي قرية البجع من أجل تطليق زوجته شو - يو!.
هل يمكن لمثل هذه البداية أن تمر علي القاريء دون ان تنطبع في ذاكرته إلي الأبد؟ لا أعتقد
الإنجليز يتمرغون بتراب الميري
قبل أربعين عاماً بالضبط حصلت إنجلترا، للمرة الأولي والأخيرة، علي كأس العالم لكرة القدم، نتيجة هدف بقي طول تلك الأعوام مشكوكاً في صحته، حتي أثبتت الأجهزة الدقيقة، حديثاً وبشكل قاطع، انه بالفعل هدف غير صحيح.
ومنذ ذلك الوقت ظل منتخب إنجلترا يواصل الاشتراك في البطولة العالمية قانعاً من الغنيمة بالإياب في كل مرة.
وفي البطولة الأخيرة، لم يخالف المنتخب تقاليده العريقة في الخروج من التصفيات مبكراً.
وعلي الرغم من ان انجلترا هي التي اخترعت كرة القدم الحديثة، ونشرت قواعدها في جميع انحاء العالم، فإن منتخباتها علي مرّ الأعوام، لم تكن لتهدد أحداً أو لتحظي بتنبؤات الفوز بالكأس، كغيرها من منتخبات أوروبا أو أمريكا اللاتينية.
وقد اعتاد الناس علي عودة منتخب إنجلترا ساحباً ذيله بين رجليه، مثلما اعتادوا علي تصريحاته النارية التي تضع الحق دائماً علي الطليان!
لكنه في الدورة الأخيرة وضع الحق، لأول مرة، علي مدربه السويدي إريكسون، وهو، للمناسبة، مستحق تماماً لأكبر كمية من اللوم والتعنيف.
لكنّ المضحك المبكي في الأمر، هو أن الإنجليز لم يكتفوا بإعفاء الطليان من اللوم فقط، بل بلغت بهم الضعة والصغار وقلة الحيلة، حد التعلق باقدامهم من أجل الفوز بشيء من رائحة الكأس.
بعبارة أكثر وضوحاً ان الانجليز آمنوا بأن فوز إيطاليا بالكأس هو، بصورة أو بأخري، فوز محقق لإنجلترا نفسها!
كيف؟!
يُحكي ان هناك لاعباً ضمن صفوف المنتخب الإيطالي اسمه سيمون بيروتا كان قد ولد، ذات مصادفة عمياء، في مانشستر!
نعم .. هكذا، ومن يبحث عن صورة كاملة للهوان وقلة الحياء، يجد في هذه الصورة غاية الاكتمال.
والأكثر من هذا ان الانجليز لم يكتفوا من هذه الصلة الواهية بالحديث عن سيمون باعتباره بريطاني الجنسية، بل اقترفوا المستحيل بادعائهم انه إنجليزي!
ولن نعرف أبداً سر هذه التركيبة الإنجليزية السحرية التي تجعل المواطنة عرقاً، هذا إذا صح في الأصل انه مواطن بريطاني!
فعلي مساحة ثلاث صفحات كاملة، نشرت احدي الصحف الإنجليزية تحقيقاً عن هذا اللاعب بالكلام والصور، غايته استدراج تاريخ ميلاده للالتصاق بالعرق الانجلوسكسوني، أو محاولة ذلك العرق اللحاق بميري سيمون أو التمرغ في ترابه .. لكن التحقيق، مع ذلك، لم يخرج، برغم الجهد، إلا بنتيجة واحدة مذلة ومخجلة، وهي أن ليلي التي يدّعي الإنجليز وصلاً بها، لا تعرف من لغة الغرام سوي الهجران!
اسم الولد أولاً سيمون وليس سايمون، واسم عائلته بيروتا هو اسم إيطالي صرف .. وعليه، فمنذ المطلع لا يجد المرء أية دلالة سكسونية في قصيدة هذا اللاعب.
وثانياً ان أبويه الايطاليين كانا قد وصلا إلي بريطانيا في منتصف الستينات ثم عادا إلي موطنهما الأصلي القح في بداية الثمانينات. وفي أثناء إقامتهما المؤقتة أنجبا درّة التاج هذا، ثم غادرا وهو لم يبلغ الخامسة من عمره، حيث عاش ثلاثة وعشرين عاماً هناك، في موطنه الأصلي. وعليه فإنه لم يتوفر له الوقت الكافي حتي ليكون مجرد مواطن بريطاني.
وثالثة الأثافي هي ان الحوار مع اللاعب ووالديه قد أعطي الثلاثة فرصة لرفع العلم الإيطالي عالياً علي الخلفية الإنجليزية، ولخرق بالون التحقيق بمسمار غليظ وتفريغه من محتواه تماماً.
سيمون قال: انني لا أتذكر من إنجلترا سوي ان السماء كانت رمادية وممطرة علي الدوام. أما في إيطاليا، فإن الطقس مشمس دائماً لحسن الحظ، فأنا لا استطيع العيش دون ذلك.
وأضاف: أتمني لو كنت استطيع التحدث بالإنجليزية لكنني لا أعرف كيف، فصحيح انني ولدت في بريطانيا، لكنني غادرتها وأنا في الخامسة فقط.
ولقد قيل لي، بناء علي هذا، انني استطيع ان ألعب للمنتخب الإنجليزي، لكن ليس هناك أي شك، بالنسبة لي في انني أحب أن ألعب لإيطاليا، وانني لفخور جداً لأني مواطن إيطالي!
وبعد هذا الهدف الساحق، تطوع أبوه لتسجيل الهدف الثاني في مرمي التحقيق، إذ قال فرانسيسكو بيروتا: من الطبيعي ان يشعر ابني قليلاً بأنه بريطاني، لكن ليس إلي حد كبير.
ثم اختتمت والدته آنا ماريا الشوط الثاني من التحقيق بهدف إيطالي ثالث، عندما قالت: لقد تلقي سيمون منذ سنوات عرضا من نادي أفرتون الإنجليزي، لكنه قرر البقاء في إيطاليا. ان ابني قد ولد في بريطانيا لكنني أعرف انه فخور بانتمائه لإيطاليا.
وبرغم جميع هذه الركلات الموجهة من الثلاثي إلي خاصرة الإنجليز، ظلت الصحيفة تعلن، بين فقرة وأخري، ذلك الدعاء: إن إنجلترا لا تزال قادرة علي حمل كأس العالم هذه المرة، والشكر كل الشكر في ذلك .. لسيمون بيروتا!
هناك مثل يتحدث عن قرعاء تفاخر بشعر ابنة اختها، وأنا لم أعرف إلا الآن أن هذه القرعاء هي إنجلترا بجلدها وعظمها.
إن سيمون وانجلترا يلخصان حال الدنيا في إقبالها وإدبارها، ولو كانا يفهمان العربية، لوجهت إلي سيمون الشطر الأول من القول العربي المأثور:
إذا أقبلت .. باض الحمامُ علي الوتدْ.
ولاحتفظت بالشطر الثاني لإنجلترا العتيدة:
وإن أدبرتْ .. بال الحمارُ علي الأسدْ!!
أفلام أصيلة
معظم الأفلام العربية الجيدة - إذا استثنينا منها المأخوذة عن نصوص أصليّة - قد عاشت طول عمرها تقتات فضلات مائدة السينما الغربيّة، والأمريكية منها علي وجه الخصوص. فقد أتيح لي خلال السنوات العشرين الأخيرة أن أشاهد عدداً كبيراً من أفلام الفترة الذهبية لهوليوود، وكثيراً ما انكسرت متعتي تحت وطأة الغيظ حين يذكرني الفيلم الذي أشاهده بأننا سلخناه وقدمناه علي أنه من بنات أفكارنا.
إنني لست في معرض الإحصاء، ولو تطلّب الأمر منّي ذلك لأمكنني أن أشير إلي أفلام عربية كثيرة وشهيرة هي ليست إلاّ تقليداً حرفيّاً لأفلام أمريكية قديمة جداً - ربما لم تشاهدها الغالبية العظمي من جمهور الترسو - لكنني مع ذلك أجد ما يشفع لها تجاوزاً فتقليد الفن هو فن أيضاً، إذ أنّ هوليوود - قبل أن يسيطر عليها المحاسبون، وقبل أن تستهلكها المؤثرات الخاصة وحيل الكمبيوتر - كانت تقدّم أفلاماً توازن بدقة بالغة بين الكفاءة التقنية والحمولة الإنسانية، أمّا الآن، فمن بين أكثر من أربعمائة فيلم تنتجها هوليوود سنوياً، لا تعثر إلاّ علي أفلام تعدّ علي أصابع اليدين، تحمل ذلك التوازن الدقيق بين القدرة التكنولوجية والبعد الإنساني.
ولأننا لا نستطيع مجاراة الإبهار التقني للسينما الأمريكية، فقد وقف جهدنا علي مشارف تقليد التفاهات وحدها، أو اصطناع تفاهاتنا الخاصة التي لا تحتاج إلي جهد كبير، لحسن الحظ، فهي تكاد تكون صفة أصلية فينا!.
العلّة، كما أري، لا تكمن في العوائق المالية أو الرقابية أو التقنية، بل في الزحف المغولي الأهوج علي مواقع الفن الخالص والفنانين المخلصين، وانكفاء الطاقات الأصليّة عن النضال (نعم النضال) لاستنقاذ جوهرة الفن من أيدي الغوغاء، واستسلامها لهذا الدجل الفاقع من أجل إشباع بطونها دون أن تعلم أنّ الموت الحقيقي للفنان يكمن في جوعه إلي الفن أكثر من جوعه إلي الطعام.
لقد تيسّر لي في الفترة الأخيرة أن أشاهد ثلاثة أفلام من أقطار يحكمها فقر الإمكانات التقنية واستبداد الرقابة وندرة الأسواق، لكنها كانت تخفي وراء الصور كنوزاً من المشاعر الإنسانية النبيلة، والنقد الاجتماعي الذي يذبح بريشة النعامة.
الفيلم الأول صيني، عنوانه (معاً) ، كاتب قصته ومخرجه هو تشين كيج، وبرغم قلّة أشخاصه فقد كان ممتلئاً بالحركة. وهو يحكي، عبر ثلاثة رجال وصبي، حكاية عامل بسيط يبذل كلّ جهده وماله من أجل توفير مدرسين أكفاء لولده الموهوب بعزف الكمان. ومع الموسيقي التي لها دور بطولة لا مناص منه، هناك امرأة جميلة أيضاً، لكننا - لبراعة النصّ والإخراج - ننصرف عن وجهها وملابسها الحديثة، لندخل، بفعل موهبة التمثيل العالية، إلي أعماقها ونشهد جمال الروح الأخّاذ.
أمّا الفيلم الثاني فهو إيراني، عنوانه (أين بيت صديقي؟) ، كاتب قصته ومخرجه عباس كيارستمي، وهو يحكي قصّة تلميذ صغير يحاول أن يرجع دفتر زميله الذي نسيه معه في زحمة الخروج من الصف، وهو يعلم أن المدرّس سيعاقبه في اليوم التالي إذا لم يكن قد كتب واجبه المدرسي، وذلك لأنه قد كرّر نسيان دفاتره أكثر من مرّة.
ولأنّ بطل الفيلم لا يعرف عنواناً محدداً لزميله سوي أنّ بيته يقع خلف التلال البعيدة، فإن استغراقه في البحث عن العنوان طول اليوم، يأخذنا معه في رحلة إنسانية رائعة، عمادها الشخصيات المبثوثة في البيت والطرقات والقري النائية. وفي غضون ذلك تعمل مباضع النقد الاجتماعي البنّاء برهافة في الفيلم، فنحسّ بأثرها عميقاً دون أن نراها تسيل دماً. ونخلص إلي حقيقة قالها الفيلم دون أن ينطق بها، وهي أنّ هناك اثنين في المجتمع لا يجدان من يصغي إليهما: الطفل والمرأة.
أما الفيلم الثالث فهو تركي عنوانه (بعيد) ، وكاتب قصته ومخرجه أيضاً هو نوري جيلان .. وجوهر القصّة استقاه المخرج من حياته الشخصية وتجاربه وقراءاته. والعجيب أنّ هناك شخصيتين رئيسيتين فقط، طول الفيلم، غير أن المشاهد، مع ذلك، لا يشعر بالملل. وقصّة الفيلم تدور حول رجل يعيش وحيداً في شقته باسطنبول، حتي يأتيه يوماً شاب من أقاربه في الريف باحثاً عن عمل في العاصمة، فيقيم معه مؤقتاً. وهنا تبدأ العقدة، إذ يقع الرجل في صراع بين شعوره بانتهاك خصوصيته، وبين واجبه في إكرام ضيفه .. وعلي مدار الأيّام التي يقضيها الشاب معه، قبل أن يغادره فجر أحد الأيام تحت وطأة سوء طبعه، نعيش دراسة تشريحية حيّة علي الصعد النفسية والاجتماعية والأخلاقية، فنكاد نلمس عناصرها بأصابعنا، ونكاد نري جوانب كثيرة من أنفسنا فيها.
الأفلام الثلاثة السالفة كلها لم تعتمد علي أية مؤثرات خاصة، بل اعتمدت علي عين وقلب المخرج، وعدسة آلة التصوير العادية. ولم تعرِّ جسد امرأة لكنها عرّت خفايا النفس الإنسانية ببراعة تامّة، والأكثر من هذا إنها بأجمعها لم تحرق علماً أمريكياً مثلاً، لكنها - وليس عندي أي شكّ - قد أحرقت قلب السينما الأمريكية، لمقدرتها علي صنع فيلم لا يملك مئات الملايين من الدولارات، لكنّه في النهاية ينثر غناه الفنّي الفاحش علي كل الشاشات ويحصد جوائز المهرجانات السينمائية المحترمة، بقرارات نخبة النقّاد، وهي قرارات برغم كونها متطلبة، لا تمنع من أن يكون الفيلم شعبياً ومحققاً لمتعة الناس .. جميع الناس.
يبدو لي أن سبب نجاح تلك الأفلام هو أنّ مخرجيها، الذين كتبوا قصصها أيضاً، هم علي اختلاف ميولهم واتجاهاتهم، ينتمون إلي أمم تشترك في صفة محرّكة كنار المرجل، وهي أنها أمم تقرأ بشراهة، وهذا سبب حيوي لإبقاء جمرة الإبداع متّقدة.
ولأن أمّة (اقرأ) لا تقرأ، وتحلف بالطلاق علي ألاّ تقرأ، فإننا سنظل بحاجة دائمة إلي إحراق المزيد من الأعلام .. والأفلام!.
لا تأكل فيلاً!
منذ أكثر من ألف عام كان العرب يروون القصص، لكنهم يسمونها أخباراً، غير عابئين بتطوير تقنياتها الفنية، فهي في تراكيبها تكاد تكون واحدة، لولا اختلاف الموضوعات. وذلك لأنهم لم يطلبوا من ورائها سوي الطّرافة والغرابة والفكاهة، باعتبارها وسائل الترفيه الوحيدة المتاحة لسواد الناس المضغوطين بين مدينة خانقة يزحمها عسس الخليفة وجباته، وصحراء قاحلة تتحكم فيها غزوات القبائل وهجمات الضواري.
وكانت تلك الأخبار تروي علي أنها أحداث حقيقية وقعت لأشخاص حقيقيين، خاصة ان المصنفين هم رجال أفاضل لا ترقي إليهم شبهة الاختلاق والكذب. والحق أن كثيراً من تلك الحكايات يمكن قبوله علي انه حقائق بالفعل، لكن جانباً كبيراً منها أيضاً لا يمكن لعاقل أن يسلم بصحة وقوعه، وحيث انه لا يمكنه كذلك أن يُكذب صاحب الخبر، فإنه سيحيله إلي الحذق وسعة الخيال .. أي انه سيدخله في دائرة الكذب الجميل الذي نسميه فناً.
غير أن أكذب تلك الحكايات هي تلك التي وردت في الجزء الثالث من (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة)للقاضي المحسّن بن علي التنوخي، وهي مرويّة عن الطبري عن جعفر الخلدي عن أبي اسحاق الخوّاص الصوفي.
ذلك (الخواص الصوفي) يحكي عن رحلة له في البحر مع جماعة من الصوفية فلما أوغلوا في الرحلة تحطمت السفينة، فركب بعض الناجين أخشابها فرمتهم إلي ساحل لا يعلمون أين هو ولا ما هو .. وأقاموا أياماً لا يجدون ما يأكلونه، حتي أدركهم الهلاك، فاجتمعوا لينذروا لله علي انفسهم نذورا إذا أنجاهم وخلصهم من ذلك المكان. فنذر بعضهم أن يصوم الدهر، وقال بعضهم انه سيصلي كل يوم كذا وكذا ركعة، وقال بعضهم سأدع الكذب ما حييت، وهكذا، إلي أن سئل الخواص عما يقول فقال: نذرت لله ألا آكل لحم فيل أبداً.
وعاب عليه الجماعة هزله في مثل هذا الموقف، فقال بصراحة: والله ما تعمدت الهزل، ولكني منذ بدأتم صرت أعرض علي نفسي شيئا أدعه لله عز وجل، فلا تطاوعني نفسي إلي غير هذا الذي تلفظت به، وما قلت إلا ما اعتقدته.
المهم أن الجماعة انتشروا يبحثون عن طعام، فوقعوا - ويا للمصادفة الهندية! - علي فرخ فيل، فاحتالوا فيه حتي ذبحوه وشووه، ووقعوا فيه نهشاً، ودعوا الخواص لمشاركتهم فأبي، متعللاً بأنه قد تركه منذ ساعة لله، ولعل الله قد أراد هلاكه بهذا وهو راض بما قدره البارئ.
فلم يكن إلا ساعة، وإذا بفيل أقبل من الموضع الذي استخرجوا منه الفرخ، وهو ينعر وقد امتلأت الأرض بنعيره وشدة وطأته. وراح ذلك الفيل يتشمم الجماعة واحداً واحداً، ثم يشيل إحدي قوائمه ويضعها علي الرجل حتي يفسخه فإذا علم انه قد مات تركه إلي غيره، وهكذا فعل بالجميع، فلما وصل الدور إلي الخواص تشممه من سائر أعضائه، وبعد وقت من التفحص لفّه بخرطومه ورفعه في الهواء وأقعده علي ظهره، وجعل يهرول ويسرع إلي أن أضاء الفجر، فوقف وأنزله برفق إلي الأرض، ثم تركه وانقلب عائداً في الطريق التي جاء منها.
فلما بعُد الفيل، تأمل الخواص موضعه فإذا هو علي القرب من بلد عظيم من بلدان الهند. فقصده وفاز بالحياة. وعندما روي قصته للناس هناك زعموا له أن الفيل قد سار به في تلك الليلة الواحدة مسيرة عدة أيام!
انتهت الحكاية .. ولنا الآن أن نأتي للنظر في عناصرها العجيبة: إن هذا الخواص الصوفي هو في نظري أكبر خبّاص، فعلي الرغم من صوفيته فان نفسه لم تطاوعه علي نذر العبادة التي هي هواه الطبيعي، ولم يجد في موقفه العصيب من شيء يتركه لربه إذا نجا إلا التعهد بعدم أكل لحم فيل!
أما جماعته - الذين تقربوا إلي الله بأفضل ما يتقرب به العبد - فلم يجدوا لطعامهم إلا ابن الفيل
وأما الفيل الأب - أو الأم - فقد كان من حقه ان يثأر من آكلي ضناه .. لكنه بالغ كثيرا في إكرام ذلك الخواص الخباص. وقد كان يكفيه ان يتركه ليموت في موضعه أو ليجد من رحمة البارئ ما ينزل عليه من السماء دجاجة مشوية .. نظير نذره السخيف.
إن ذلك الفيل المنتقم، تحول في لحظة واحدة من قاتل إلي راهب في إرسالية خيرية، ومن فيل إلي طائرة كونكورد .. وهي معجزات لا سبب لها ولا ضرورة إلا إنقاذ ذلك الخواص البهلوان!
هناك فائدة واحدة يمكن ان نستخلصها من هذه الحكاية المثقلة بالدسم .. وهي تختص بنوع النذر الذي نذره ذلك الصوفي .. إذ حصر كل وعوده لله في امتناعه عن أكل لحم الفيل.
ليت جميع حكامنا المؤبدين وزعماء أحزابنا التوابيت يقتصرون في شعاراتهم ووعودهم لجماهير أمتنا المجيدة علي وعد واحد يتمثل بعدم أكل لحم الفيل. ولأن الأطعمة علي اختلافها، متاحة في الواقع دون لحم الفيل فإننا سنحظي، لأول مرة في التاريخ، بساسة لا يكذبون في وعودهم، أما إذا أراد الله ألا يتوفر طعام سوي لحم الفيل، فإنهم سيموتون جوعاً، وعندئذ سنسعد بالتخلص منهم سلمياً إلي الأبد!
كانت لدينا مواسم للمشمش
قال لي أحد الأصدقاء ضاحكاً، بعد أن قرأ الجزء الخاص برجل السلطة من نص بالمشمش الذي نشر هنا في الأسابيع الماضية:
- الآن عرفت سبب ما أنت فيه من آلام .. إنك تبالغ في أحلامك وآمالك إلي حد السرف المهلك، كمن يطلب قرص الشمس من أجل أن يقلي فوقه بيضة. الدنيا ظلمة دامسة وأنت تريد منها أن تمنحك سراجين اثنين .. العاقل يا صاحبي يطلب عقب شمعة أو حتي عود ثقاب.
قاطعته:
- علي رسلك .. ما ضيرك أو ضير الدنيا من أن أحلم بسيادة الأمور الصحيحة؟
ضحك مجدداً:
- لكنك لا تتذكر أبداً أن هناك حداً أدني للأمور. إنك حتي لم تطلب الحد الأعلي، بل بالغت فتجاوزته إلي طلب ما فوق العادة بأميال .. يا رجل، كيف استطعت أن توقف رئيس الجمهورية وهو عجوز وقور في الطابور الطويل أمام مخزن التموين شأنه شأن عبادالله الآخرين؟ ثم كيف بالغت في تعريضه للسخرية من قبل شاب نزق واقف في الطابور هو أيضاً، ويتبين لنا أنه ابن وزير الداخلية، ومع ذلك فهو لا يعرف رئيس الجمهورية؟! قلت بجد:
- من أين له أن يعرف؟ الشوارع والمكاتب خالية من صور وتماثيل الرئيس، والصحف لا تضيع صفحاتها الأولي في استعراض صورته يومياً، والتلفزيونات لا تخنق أنفاس الفضاء باستقبالاته وتوديعاته .. إنه مجرد موظف. صحيح أن وظيفته كبيرة ومتعبة، لكنها تبقي وظيفة كغيرها من الوظائف، فلماذا يتميز عن بقية الموظفين بجعل صورته قرينة للشمس والقمر؟
إذا كان لابد من ظهور الرئيس فإن أعماله هي التي تملك حق الظهور، وإذا كان لابد أن يتحدث فإن نتائج أعماله هي التي يجب أن تتحدث.
استغرق صديقي في الضحك، ثم أقفل الموضوع قائلاً:
- اسمع .. لقد قلتها أنت، وها أنا أقولها لك: بالمشمش!
قلت علي الفور:
- عسانا علي خير إذن، فلعلك لا تدري أنه كانت لدينا بالفعل مواسم حقيقية للمشمش؟ إنني حين أحلم لست أبالغ في طلب المستحيلات، بل أوسع الأمل في اجتلاب تلك المواسم.
هاك مثلاً هو ليس إلا حبة في مسبحة أمثال: ذات زمان استعماري بغيض، كان لدينا رئيس جعلته منشورات الثوريين أخاً بالرضاعة للشيطان، لكنه مع ذلك كان ينطوي علي كثير من شمائل رئيس الجمهورية الذي ذكرتُه في رجل السلطة.
كان ذلك الرجل ضابطاً كبيراً مشاركاً في الثورة العربية ضد العثمانيين. وعند تأسيس الدولة الحديثة، شارك في هندسة بنائها بحرفنة بالغة، وأثبت أنه رجل دولة من الطراز الأول.
أما علي الصعيد الاجتماعي فقد كان من صفوة أبناء الأصول الرفيعة، وموقعه علي سلم الطبقات كان يقف به علي رتبة الباشا.
وعلي الرغم من خطورةمنصبه، وكثرة أعدائه من اليساريين والقوميين في الداخل والخارج، فقد كان بيت ذلك الرجل ملاصقاً لبيوت الناس العاديين. وكان لا يطيب له أن يأكل لقمته إلا مما تخبزه نساء الجيران، دون أن يقف في بلعومه متذوق فدائي يأكل نصف الرغيف قبله، خوفاً من أن يكون السم معجوناً به لقتل الباشا.
والأطرف من هذا هو أن ذلك الرئيس الخطير كان ينزل من بيته في الصباح، مرتدياً الروب فوق بيجامته، حاملاً زنبيلاً مثل كل الناس البسطاء، ليتجول في السوق ويبتاع احتياجات بيته اليومية، ولا تكاد تميزه أبداً عن غيره من المتسوقين، فليس من أمامه مدرعة، ولا من خلفه قطيع حماية.
رجل علي سجيته، يتزاحم بالمناكب مع الناس ويفاصل الباعة علي أسعار البضائع بلا حرج، ثم يعود إلي بيته ويرتدي ملابس الوظيفة، ويذهب إلي عمله، ليدير شؤون بلد بكامله ببراعة منقطعة النظير.
حسناً .. لقد أسقطت الثورة المباركة عهد ذلك الرجل، لتفتح الباب واسعاً لعهود رهيبة من حكم أولاد الشوارع والشطار والعيارين.
لكنه عندما أحاط به العامة الذين تخصصوا في التمثيل بجثث الموتي بعد استلامها من أيدي الجنود. أخرج مسدسه وأطلق النار علي نفسه بكل شجاعة، فمات بكرامة مثلما عاش بكرامة، وهو الأمر الذي لم تسمح أصول صدام الرجيم ولا تربيته بأن يفعله، فقد قُبض عليه في بالوعة، ورشاشته معه مذخورة لوقت الشدة!
سألني صاحبي وهو بين مصدق ومكذب:
- عمن تتحدث؟!
أجبته بنبرة هادئة وقاطعة ومفعمة بالوجع:
- أتحدث عن صنيعة الاستعمار وربيب الامبريالية العميل الخائن نوري السعيد رئيس وزراء العراق المزمن في العهد الملكي، رحمة الله عليه .. وعلينا.
تحيا مصر
بعد وفاة محمد علي باشا، مؤسس الدولة المصرية الحديثة، توالت علي الحكم من بعده سلسلة من ذريّته.
وعلي الرغم من أنّ النظام كان ملكيّاً وراثياً، فقد تسنَّي للمصريين -وياللعجب- أن يشهدوا خلال أعوام حكم الأسرة فواصل ترفيهية كثيرة تمثّلت في التغييرات السريعة أو متوسطة السرعة لوجوه الحكّام. ولم يكن بقوّة الموت وحدها، ولكن بقوّة العزل أيضاً، ممّا أتاح للأجيال الغاربة المحظوظة أن تتمتّع برؤية حكّام سابقين أحياء، وهو ما لم تحظ الأجيال اللاحقة برؤيته حتّي في الأحلام.
لقد دفعني الفضول الي استطلاع سجّل الحكّام الملكيّين والجمهوريين في مصر، فهالني الفارق الشّاسع بين وقائع الأنظمة الغريبة المستبدّة المتوارثة العميلة للاستعمار، وبين مزاعم الأنظمة الثورية الوطنية المستقلّة المبشّرة بالغد الأفضل، وهو فارق لم يكن علي الإطلاق في صالح الوطنية والاستقلال:
إبراهيم باشا بن محمّد علي: حكم تسعة أشهر فقط .. (مارس 1848 - نوفمبر 1848) .
عبّاس حلمي الأوّل: حكم ست سنوات تقريباً .. (نوفمبر 1848 - يوليو 1854) .
محمّد سعيد باشا: حكم ثماني سنوات وسبعة أشهر .. (يوليو 1854 - يناير 1863) .
الخديوي إسماعيل: حكم خمسة عشر عاماً وستة أشهر .. (يناير 1863 - يونيو 1879) .
الخديوي محمّد توفيق: حكم أحد عشر عاماً وستة أشهر (يونيو 1879 - يناير 1892) .
الخديوي عبّاس حلمي الثاني: حكم إحدي وعشرين سنة وتسعة أشهر .. (يناير 1892 - سبتمبر 1914) .
السلطان حسين كامل: حكم سنتين وعشرة أشهر .. (ديسمبر 1914 - اكتوبر1917) .
الملك فؤاد الأوّل: حكم ثمانية عشر عاماً وستة أشهر .. (أكتوبر 1917 - أبريل 1936) .
الملك فاروق: حكم ستة عشر عاماً وثلاثة أشهر .. (أبريل 1936 - يوليو 1952) .
الملك أحمد فؤاد الثاني: حكم أحد عشر شهراً فقط .. (يوليو 1952 - يونيو 1953) .
أما الحكام الجمهوريون فقد كان سجلهم كالتالي:
محمد نجيب: حكم خسة عشر شهراً، ويمكن اعتبار فترة حكمه القصيرة التي لا تليق بعسكري ثوري، مجرد غلطة مطبعية خارجة عن إرادته وداخله في إرادة قيادة الثورة التي صححتها بأخذ مكانه في المقعد الأبدي حتي الموت من أجل غد مشرق وضاء (في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ أمتنا المجيدة .. التي نسأل الله أن يعافيها من أمجادها، وأن يعافي التاريخ من وجودها كزائدة دودية في خاصرته) .
جمال عبدالناصر: حكم ستة عشر عاماً .. (1954 - 1970) .
أنور السادات: حكم أحد عشر عاماً .. (1970 - 1981) .
حسني مبارك: حكم، حتي الآن، أربعة وعشرين عاماً (أي أكثر من أي حاكم ملكي أو جمهوري سبقه) ولا يزال يحكم، وسيظل يحكم إلي ما شاء الباريء، وإني لأدعو الله مخلصاً أن يمنحه عمر نوح، وأن يرزقه كثيراً من الأحفاد الأصحاء، لكي يواصلوا، بعده وبعد بنيه، حمل شعلة القيادة الحكيمة التي لم يُخلق مثلها في البلاد، حتي يصلوا بها إلي أبواب يوم القيامة، تحقيقاً للافتة المستفزّة التي رفعها صاحب مخزن في القاهرة، والتي تقول: (نعم لمبارك ولابن ابن مبارك) !
ولِمَ لا؟
مَن في البلد أحسن من هذا الولد؟!
أحزاب المعارضة؟
أهي أحزاب (الياميش) و (الفرقع لوز) التي طلعت علينا فجأة من باطن الأرض مثل الفطر، مرتدية الستر الخاكية فوق الجلابيب المخططة كفرق حسب الله، لتشارك في زفة الحزب الحاكم؟!
أم هي تلك الأحزاب الأرضية التي يمكن عد أفرادها علي طريقة جحا في عدّ غنمه، والتي لا تتعدي عدتها: صحيفة تصدر في المناسبات السعيدة، ومقهي يفتح في المناسبات التعيسة؟
أم هي تلك الأحزاب السماوية التي لا علاقة لها بالدنيا، وكل علاقتها بالأرض مستمدة من استنباطها حكمة الحياة من رميم الموتي الغابرين؟
إن تلك الأحزاب كلها، وعلي تنوع جعجعاتها، هي صور مزورة عن صورة السلطة: قادتها مومياءات نسي الأثريون اكتشافها، وأهدافها المغلّفة بطبقة رقيقة من السكر، هي في النهاية استبدادية خالصة تحاول نقل الحكم الأبدي من اليمين إلي اليسار أو إلي الوراء أو إلي أسفل سافلين.
أما الشعب المهمش برغم كونه جوهر المسألة، فيبدو أنه قد استدار بعيداً جداً عن ضجة هذه الكرنفالات الخاوية.
لقد تعود هذا الشعب، دائماً، علي الخروج من المر إلي الأمر منه، ولذلك فإنه لم يعد في طاقته ولا في رغبته أن يراوح أو يصفّق من جديد بين دواليب المرارات.
لا توجد أدلة!
قال الطبيب الشرعي: لم نتوصل حتي الآن إلي دليل واحد علي أن ابنك مات نتيجة التعذيب. تساءل والد الضحية: كيف مات إذن؟
قال الطبيب: هذا ما يحيرني .. المشكلة، يا سيد، هي أن من المستحيل علينا أن نعثر علي أي دليل بغياب الجثة.
تساءل الوالد مذهولاً: لكن الجثة عندكم!
قال الطبيب بلهجة قاطعة: كلا يا سيد .. ليس لدينا سوي الرأس.
صرخ الوالد: أليس هذا دليلاً مؤكداً علي أنه مات تحت التعذيب؟!
قال الطبيب: مَن يدرينا؟ ربما كانت الجثة سليمة .. لو وجدنا جثته لأمكننا بفحصها أن نعرف ما إذا كان قد مات تحت التعذيب أم لا.
صاح الوالد: افحصوا الرأس.
قال الطبيب ببرود علمي خالص: فحصناه يا سيد، لكننا لم نتوصل إلي أية نتيجة. من الصعب جداً أن يظهر فيه أي دليل .. إنه مهشم تماماً.
الشيخ عبد يؤبن!
مات القصاب عبدالباري بن مزبان صبيحة يوم الجمعة الموافق ... الحق أن كل إنسان وكل شيء في منطقتنا موافق حتي الأيام.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان عن عمر يناهز الخامسة والأربعين، قضاه في البر والتقوي، كما يزعم الإعلان المنشور في الجريدة التي أطلعنا عليها المعلم أيوب.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان ولا أحد يدري من دفع ثمن إعلان وفاته، ولا أحد يعلم لماذا أعلنوا عن وفاته. إن بقاء المرء حياً في بلادنا هو وحده الشيء العجيب الموجب لتنبيه الغافلين.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان وترك موته حسرة عظيمة في قلوب عدد كبير من عارفيه ومحبيه، ذلك أن منطقتنا تكاد تكون الأولي بين المناطق في قدرتها علي استيعاب الكلاب السائبة.
مات القصاب عبدالباري بن مزبان لكي لا يكون له أي دور فاعل في هذه الحكاية، فها هو يظهر فيها ساعة موته .. كأي مشروع حكومي، وها نحن نحتفل بسيرته بعد وفاته .. كأي رجل عظيم. وللمناسبة فإننا لا نجانب الواقع كثيراً، فإن لم يكن عبدالباري من الرجال العظام حقاً، فإن كلاب المنطقة تشهد له بأنه كان من رجال العظام بلا منازع.
مات عبدالباري بن مزبان وإشارة شك كبيرة تدور حول حقيقة انتمائه إلي منطقتنا، فمجرد نظرة عابرة إلي اسمه تؤكد أن جده لم يستشر الشيخ عبد في شأن تسمية أبيه، مثلما تؤكد أن ذلك الجد الذي لا نعرف اسمه لم يكن ذا موهبة في اختيار الأسماء، و لولا ذلك لتغير شيء ما في التاريخ .. شيء ليس مهماً كثيراً، لكنه كان كفيلاً بأن يساعدنا علي قراءة العبارة، مثلاً، علي النحو التالي:
مات القصاب عبدالباري بن لؤي!
وتبقي المسألة، علي أية حالة، مسألة تجميل لا أكثر، فعبدالباري مات، ومزبان لن يستفيد من ذلك التغيير التاريخي قطعاً، لأنه مات قبل عبدالباري بزمن بعيد. أما الشيخ عبد الذي ينبغي أن يموت ذات يوم، فقد عوض وقفته المفترضة عند ميلاد مزبان، بوقفته المؤكدة الآن لتأبين عبدالباري.
أول مظهر للصنعة اقتضي أن يقف الشيخ عبد صامتاً محتقن الوجه، قبل أن يغافل الحاضرين فينسف اسماعهم بصرخة جزع حادة:
- لا ااااا.
واشرأبت الأعناق إليه، فواصل صراخه كالمجنون:
- عبدالباري مات؟ لا ااااا، عبدالباري ما مات.
والتمعت الدموع في حدقتيه الفاغرتين:
- هيهات. مستحيل. لا يمكن. لا أصدق. من قال إنه مات؟ هاه؟ من قال؟ كلا ثم كلا .. عبدالباري ما مات.
لم يكن ما يقوله الشيخ صحيحاً أبداً، لكن كان علي الحاضرين أن يهزوا رؤوسهم مؤمنين علي قوله، تأميماً للكذب المقدس المفترض احترامه في مثل هذه المناسبة الجليلة. غير أن أحداً لا يستطيع التحكم في آلية العطار حميد ذي الأسنان الغاربة، فبعد الصمت العميق الذي أعقب الصرخة العميقة، تطوع العطار بتصحيح المعلومة. قال ببرود تام:
- والله العظيم مات. الطبيب الشرعي أكد ذلك. وإذا لم يكن قد فطس فعلاً فلماذا نحن هنا؟ إذا كنت في شك من الأمر فاسأل زوجته بدرية.
صرخ الشيخ بأعلي ما يستطيع:
- لا اااا .. مثل عبدالباري لا يموت.
قال العطار محتداً:
- بل يموت ويشبع موتاً. يموت ورجله علي رقبته .. لماذا لا يموت؟ يموت غصباً عن الذين خلفوه. هل هو أحسن من الأنبياء؟!.
صرخ الشيخ:
- مستحيل. لا يمكن.
قال العطار بتسليم اليائس:
- حسناً يا شيخ عبد، كما تحب. لكن تولَّ وحدك مهمة إرجاعه الليلة إلي مخدع الزوجية. إن بدرية لن تغفر له ولا لك.
جذبه الحاج عبدالعزيز، وطلب منه أن يسكت، موضحاً له بالإشارة أن هذه ليست ساعة الحقائق.
عندئذ استرسل الشيخ عبد في رثائه:
- يقولون إنك مت يا حبيبنا .. وهل يموت مثلك؟ أنت الورع التقي الطيب الصادق الشريف المحسن، كيف تموت؟!.
ردد الحاضرون ببكائية مفرطة:
- إي والله .. إي والله.
قال الشيخ:
- هب أنك كنت تسكر وتعربد .. وماذا في ذلك؟ الله غفور رحيم. وهل كنت تسكر إلا بسبب العذاب النفسي الذي كنت تعانيه وأنت تري ابتعاد الناس عن دينهم؟ آه وألف آه .. كم كنت تأسي لذنبك، ولا تنجو من سوء الظنون بك حتي وأنت تقوم بالإحسان. أتذكر عندما أوقفك الشرطي ماهود قبل سنتين، وأنت خارج من بيت العاهرات؟ ماذا كنت تعمل هناك يا عبدالباري؟ آه من وساوس الشيطان ومن لؤم الإنسان .. ماذا كان يعتقد الشرطي؟ لكن مصير الحق أن يظهر، وإن الباطل كان زهوقاً. لقداقتنع ماهود بأنك كنت توزع الصدقات هناك فأطلقك واعتذر منك. هل شملته هو أيضاً بصدقاتك يا عبدالباري؟! ألا رحمة الله عليك، كم كنت عطوفاً وكريماً!
ماذا أقول فيك؟ ماذا أقول عنك؟ قالوا، وبئس ما قالوا، إنك كنت تذبح، في بعض الأيام، كلاباً. أشهد. إي والله أشهد .. لكن آه من لؤم البشر، لماذا لم يصدقوك عندما أعلنت أنك تذبحها لإطعام الكلاب المسكينة الضالة التي ليس لها معيل؟ مازال صدي حكمتك يرن في أذني .. كأني أسمع صوتك الآن. هل تذكر؟ هل تذكر؟
اندفع العطار من جديد:
- يذكر ماذا؟ قلنا لك إنه ميت يا شيخ.
صاح الجميع:
- هش.
وواصل الشيخ:
- هل تذكر يوم قلت: الكلاب للكلاب والخراف للخراف؟ أنت وربك يا عبدالباري. إذا أراد الله أن يرحمك فماذا يطلع في أيدينا؟ ربما كنت من الصادقين. نعم يا عزيزنا .. الكلاب للكلاب والخراف للزبائن.
صاح النجار سبتي.
- لا .. لقد قال إن الخراف للخراف.
قاطعه المعلم أيوب:
- كان ابن نكتة.
قلت:
- هذا افتراء. أبوه مزبان لم يكن نكتة .. مزبان القبيح الكئيب كان نكبة.
قال المعلم أيوب:
- لم أقصد هذا.
قلت:
- أدري .. لكنني أنكت ..
وَلولَ الشيخ عبد متوعداً:
- أتنكتون في هذا الموقف العصيب؟ أتنكتون وجثة الميت لم تبرد بعد؟!.
قاطعه العطار متهللاً:
- نشكر الله علي أنك صدقت أخيراً أنه قد مات. لكن من قال إن جثته لم تبرد؟ صدقني .. إنها الآن قالب ثلج. أنا شاهدتهم بعينيَّ هاتين وهم يضعونه في ثلاجة المستشفي.
هز الشيخ يده واستطرد:
- رحمة الله عليك، كم ظلمناك. لقد اتهمناك بسرقة لحاف أم جوني، ولم يخطر في بال أحد منا أنك كنت تنوي تجديده لدي النداف .. آه من لؤم البشر. لك الجنة يا عبد الباري، ولأم جوني العوض في لحافها، ولا أقول فيك إلا كما قال الشاعر:
مكر مفر مقبل مدبر معاً
كجلمود صخر حطه السيل من عل.
همس المعلم أيوب في أذني ونحن خارجان من مجلس التأبين:
- لقد كانت تلك أروع خطبة تأنيب سمعتها في حياتي!
استطلاعات
نستورد كل شيء من الغرب، وعلي رغم ارتفاع الكلفة وطول الاستعمال، فإننا لا نحسن، إطلاقاً، تنمية أو تطوير أو إصلاح ما نستورده، لكننا نستطيع تخريبه بكل جدارة .. وهل في الدنياة أمة أقدر منا علي التخريب أو علي الاحتفاء بالخراب؟
من ذلك ظاهرة استطلاعات الرأي في وسائل الإعلام العربية.
إن استطلاع الرأي و حده يعد أمراً غريباً في عالم لم يتعود أهله علي أن يُسألوا عن ر أيهم، ولم يملكوا منذ ألف وخمسمائة عام فرصة التفكير وإنتاج الآراء، لكن الأغرب من هذا هو أن مَن يجرون الاستطلاعات - في هذه الحفلة التنكرية- هم في الأغلب أغبياء بالفطرة الطبيعية، أو متغابون بالفطرة الحكومية،. الأمر الذي ينتج عنه ما يحرق قلب الضحك من الحزن، ويجري دموع الحزن من شدة الضحك.
المسألة في هذا الشأن- و في كل شأن- أننا بتقليدنا الأعمي أو المتعامي، نبدو كطفل يلبس حذاء أبيه، فهو في الظاهر يبدو مرتدياً الحذاء، لكن منظره المثير للضحك يقول إن الحذاء هو الذي يرتديه. وأياً كان اللابس، فإن كلاًمنهما يعطل فاعلية الآخر.
مرة قرأت استطلاعاً في جريدة سلطوية، لمناسبة البدء بمفاوضات سلام بين السلطة والمعارضة المتهمة باستنادها إلي دعم غربي. وكان الاستطلاع علي النحو التالي: بمناسبة بدء الحوار بين الحكومة والجبهة الفلانية العميلة، هل تري أن الجبهة: مستندة إلي ضغوط غربية مشبوهة، أم مدفوعة بتكتيك خياني؟
إن الجريدة، بعد أن عبأت القاريء سلفاً بالعداوة للمعارضة، وأبدت رأيها العدواني قبل أن تسأله، وضعته أمام إجابتين هما في الواقع إجابة واحدة، وهي إجابة ستنزل بالمعارضة إلي الحضيض، حتي لو كان المشاركون في الاستطلاع قارئاً واحداً فقط!
وفي صحيفة أخري كان الاستطلاع ثقافياً أنصح القاريء الحصيف أن يغطي دماغه في هذه المناسبة لكي لا يخجل إذا تذكر أننا أمة أميةحتي النخاع، وهو استطلاع يسأل القراء عن أعظم كاتب عربي، لكنه لم يضع لهم للاختيار سوي اسمي كاتبين اثنين فقط فلان .. أم علان؟ .. وهناك خانة يتيمة مرمية بعيداً مثل برميل قمامة، تقول لهم: أم لا أحد منهما؟.
وقد جاءت النتيجة بالطبع: لا أحد منهما.
والسؤال المهم هنا: من الأعظم إذن؟!
إن صيغة الاستطلاع غبية أو متغابية، وهي لا تُحمد في الحالتين، ووجودها مثل عدمها تماماً، إذ لم تستفد الصحيفة ولم يستفد القاريء ولم تستفد الثقافة .. فعلام كان الاستطلاع؟!
وحتي لو أن الصحيفة تركت الأمر مشاعاً ليختار كل قاريء الكاتب الذي يراه عظيماً، فإن استطلاعاً كهذا أبعد ما يكون عن الثقافة وأقرب ما يكون إلي لعبة اللوتو. إذ ماذا تستفيد الثقافة إذا اختار سبعة من اثني عشر قارئاً، كاتباً ما واعتبروه الأعظم؟
وفي الصحيفة نفسها ظهر استطلاع جديد فرضته سطوة الإرهاب، وهو برغم ما يوحيه موضوعه من رعب، صالح لأن يُؤتي من بلاد بعيدة ليُضحك ربات الحداد البواكيا كما قال المتنبي.
يقول الاستطلاع: هل تعتبر الإرهاب عملاً سيئاً إذا: وقع عليك .. أم إذا وقع علي غيرك؟
إن هذا هو أغبي استطلاع رأيته في حياتي، ولو لم أكن موقناً بأن الصحيفة ضد الإرهابيين لقر في يقيني أن الذهنية المنتجة له هي ذهنية إرهابي خالص.
مثل هذا الأمر، وبصيغته الآنفة، لا يُسأل عنه عامة الناس، لأن الغالبية العظمي منهم هي علي فطرتها السوية، وهم بأغلبيتهم يرفضون الارهاب جملة وتفصيلاً، سواء أوقع عليهم أم و قع علي غيرهم، وأن اختيارهم لأحد الجوابين لا يتيح لهم أبداً أن يكونوا بشراً أسوياء، فهم إما أن يكونوا أدنياء أنانيين، وإما أن يكونوا متوحشين كارهين لحياتهم.
ولو أن الصحيفة طلبت رأيي، لنصحتها بتوجيه ذلك السؤال إلي مكائن فتاوي الإرهاب وحدهم .. لأن واقع الحال قد أرانا من قبيح أفعالهم ما ينم عن بهجتهم للاختيار بين السيئين.
ومن نماذج هؤلاء واحد دعاه انفجار بعض أصابع الألعاب النارية في بلده إلي تركيب مكبر صوت لحنجرته المكبرة أصلاً، من أجل تصعيد استنكاره للسماء السابعة، لكن سقوط عشرات الآلاف من المدنيين العراقيين الأبرياء ضحايا للتفجيرات الحقيقية التي يقوم بها مجرمون حقيقيون، لم يحرك شعرة واحدة من هدبه!
وواحد آخر جرف مئات الشبان الأغرار في غفلة من ذويهم، لكي يقتلوا الأبرياء في العراق ويقتلوا أنفسهم، لكنه ما أن سمع أن ولده سيذهب في ركابهم- وكان الولد يمزح- حتي رمي دفتر فتاواه، وركض نحو رجال أمن بلاده لاهثاً، متوسلاً إليهم أن يعتقلوا الولد العاق الذي يريد أن يثكله بارتكاب الجهاد في سبيل الله.
مثل هذا الاستطلاع يجب أن يوجه إلي أمثال هؤلاء وحدهم فقط .. فالسؤال الوحشي المتلفح بثوب الاستطلاع لا يليق إلا بالوحوش المتسترة بثوب الدين.
ولعل الاستطلاع الأمثل الذي يليق بالقاريء السوي، والذي ينسجم مع نمط الاستطلاعات العربية، هو التالي:
هل تري أن الإعلام العربي الدميم اللئيم المستعير من الببغاء تقليده للأصوات، ومن القرد تقليده للحركات: كذاب .. أم مزيف للحقائق .. أم كلاهما؟!
أين هي القِربة؟!
المؤتمر القطري العاثر للحزب القائد بلا توقف نحو الهاوية، أعلن عن توقفه الاضطراري عند محطة التغيير، بعد رحلة استغرقت أكثر من أربعين عاماً علي طريق الصمود والتصدي.
وفي هذه المناسبة التاريخية، بشرنا بأنه قد أعطي الركاب كامل الحرية في أن يتزودوا من المكاسب التي طال انتظارهم للحصول عليها، وعلي رأسها: دخول قفص الزوجية، ودخول ساحة المدرسة، ودخول صالون الحلاقة .. دون حاجة إلي الخروج من الدنيا إذا لم يستأذنوا المخابرات قبل ذلك!
كل من تابع الأخبار وغص بها يعلم أنني لا أسخر، بل أنقل القرارات الجادة التي تمخط عنها المؤتمر، كما هي. وهو أمر يعني أن الحزب القائد قد تغير فعلاً، فها هو، لأول مرة في تاريخه المجيد، يسخر من نفسه علناً نيابة عن جميع الساخرين!
ومثلما مارس، قبل التغيير، نظرية خميس كمش خشم حبش فأغلق صحيفة الدومري، ها هو الآن، وبكل شجاعة، يمارس بالعكس منها نظرية حبش كمش خشم خميس فيغلق صحيفة المبكي!
وربما يتبادر إلي ظن ذوي النيات الحسنة أن الحزب القائد لا يحب أن يبكي الناس في محطة التغيير الزاهرة، وأنه قد عزم جدياً علي السماح للركاب بأن يتزودوا حتي من الضحك دون إذن المخابرات .. لكن هذا ظن كله
إثم، فقد علمنا أن أخاه شهاب الدين القائد الأبدي في الناحية الأخري، قد أغلق من قبل صحيفة أضحك للدنيا، مما يعني أن الضحك في جميع أدبيات الإصلاحات الداخلية الشفافة هو عيب وقلة أدب .. لسبب أو لغير سبب.
وعليه فلماذا ينزعج الحزب ممن يساعده علي إبكاء الناس تطوعاً لوجه الله و علي حسابه الخاص؟
الجواب علي ذلك، كما أعتقد، متضمن في السؤال نفسه .. وهو أن المبكي قاتله الله، قد انتحل، مع سبق الإصرار صفة هي من صلب اختصاص الحزب القائد وحده لا شريك له!
كل هذا وصاحبي الطيب يعاتبني قائلاً: كُفّ عما أنت فيه. إنها أمة موات، و أنت يا صاحبي تنفخ في قربة مثقوبة.
أية قربة مثقوبة؟!
لقد ذابت منذ زمان بعيد .. وأنا، الآن، إنما أنفخ في ثقبها الذي لم يبق منها سواه!
أرزقنا مقاومة غير شريفة!
أحمد مطر عندما استُخرج صدام من الكنيف الذي كان يختبئ فيه، جري وصف حفرته في التقارير الإعلامية بأنها (حفرة العنكبوت) . وعلي الرغم مما يحمله هذا الوصف من تحقير للقائد الضرورة، فإن بعض مؤرخي الحروب قد احتجوا علي تحقير الحفرة بإقرانها بذلك الجبان، وقالوا إنّ تعبير (حفرة العنكبوت) قد برز خلال حرب فيتنام، وقد كانت الحفرة عبارة عن كمين ضيق يختبئ فيه مقاتل فيتنامي شجاع، ليباغت الجنود الأمريكيين فيطلق النار عليهم ثم يلقي مصرعه. أي أن الحفرة جزء من ميدان معركة يقيم فيها جندي انتحاري لمواجهة جنود معتدين. وذلك منتهي الشرف للمقاتل وللحفرة، وهو ما لم يكن متحققاً إطلاقاً في حالة (سيف العرب) !.
وفي أعقاب تلك الاحتجاجات، تصاعدت أصوات علماء الحشرات دفاعاً عن كرامة العنكبوت، فقالوا إن أهم ما تمتاز به حفرة العنكبوت هو انها بالغة النظافة، وهو ما لم يكن متحققا في حفرة صدام، فهي قذرة أصلاً، وهي أكثر قذارة لوجوده فيها!
نحن الآن في مأزق جديد - وهذه ال نحن عائدة إلي العربان المترعين بالمقاومة الشريفة علي طريقة الفاضلتين حسنة ملص وزهرة الطويلة! (مع استبعاد المحامية بشري وجوقتها المشغولين بالنضال علي جبهة تنظيف سجل القائد الأسود، وهي مقاومة من نوع يصعب علي الكلمات وصفه!) - فها هي وكالة الانباء الفرنسية تطرح تقريراً من اليابان يبدي فيه الأحياء اليابانيون من انتحاريي الحرب العالمية الثانية (الكاميكاز) احتجاجهم الشديد وشعورهم بالإهانة وغضبهم العارم، لتلويث مبادئهم القتالية بتشبيههم بالانتحاريين السفلة الذين يستهدفون المدنيين الأبرياء في العراق خصوصاً وفي غيره من الأقطار عموماً، بدعوي كونهم مقاومة ضد قوات الاحتلال!
الكاميكاز (هيروشي شينجو) ، البالغ من العمر ثلاثة وثمانين عاماً، والذي انتهت الحرب قبل أن ينفذ مهمته الانتحارية، يعبر عن غضبه في هذا الصدد قائلاً: انني أشعر بالإهانة عندما توصف مهماتنا وكأنها شيء يشبه الاعتداءات الانتحارية التي تنفذ باسم الإسلام .. إن ما قمنا به كان في غمار الحرب، وكنا مقاتلين في مواجهة مقاتلين، أما ما يقوم به هؤلاء المتشددون فهو هجمات عمياء ترمي إلي قتل الأبرياء!.
أما نظيره (شيغي يوشي) البالغ من العمر واحداً وثمانين عاماً فيقول لا يحق لأحد أن يقتل الأبرياء، وخصوصاً الأطفال .. والفرق هائل بين ما كنا نفعله وما يفعله الإرهابيون في هذه الأيام، ذلك أن مهماتنا قد انتهت مع انتهاء الحرب، لكن الإرهاب لا نهاية له.
مشكلة اليابانيين انهم لا يعرفون لغتنا، ولم يدرسوا في عشرات الآلاف من المدارس (الدينية) في باكستان، ولم يتمولوا من الفكر المظلم كأقرانهم هؤلاء مصحوباً بمليارات الدولارات المنزوعة من جلود الفقراء المضطهدين في (سفينة الصحراء البرمائية) . ولو كانوا كذلك لاستطاعوا ببساطة أن يعرفوا طريقتنا العجيبة في تشطير معاني المفردات وتحويلها - بعمامة ولحية ساحر - إلي تشكيلة واسعة من الألوان السوداء. إذ يصبح الشرف قريناًَ للجبن والجريمة، و الأمن دائرة لفنون التعذيب، و التنمية تأميماً للجوع، و الإصلاح تأبيداً للحاكم، وحيث تصبح الديمقراطية بلفظها الأصلي Democracy - حسب تفسير عميد الحكماء - ديمومة الجلوس علي الكراسي .. وهلم جرا وزحفاً وانبطاحاً.
قرأت قبل عامين خبراً عن رجل ياباني يعمل دفاناً للموتي، كان قد التقط مضرباً للغولف وانهال به ضرباً علي رأس عمته حتي ماتت .. وعند القبض عليه أفاد بأنه قد فعل ذلك لأنه كان بحاجة إلي عمل!
مسكين هذا الدّفان، لأنه ياباني من سلالة (الساموراي) الذين يعتبر الشرف عندهم كعود الكبريت لا كولاعة كارتيير مثلما هو عندنا، وإلا لحظي بدعاء مكائن الفتاوي في طول و عرض البلاد العربية، وبتصفيق فضائيات ريّا وسكينة، وبتطبيل مرتادي أحزاب العصر الحجري، لأن ما فعله - بقياسات كل هؤلاء - لا يمكن أن يوصف إلا بكونه (مقاومة شريفة) !
الرّجل الموسوعة!
بعد تخرّجه في الجامعة، عمل الأمريكي (أي. جي. جيكوب) محرّراً في مجلّة فنيّة تعني بشؤون السينما والتليفزيون والموسيقي. وعلي مرّ السنوات اكتظّ ذهنه بكلّ شاردة وواردة من أخبار الفنانين والفنّانات، إلي حدّ دعاه إلي التوقّف ومساءلة نفسه عمّا آل إليه من طالب مثقّف وذكي إلي مجرّد كيس ممتليء بالقَش.
وإذ تنبّه، وهو في منتصف الثلاثينات، إلي أنّه بات يعرف عن (هومر سيمبسون) بطل المسلسل الكارتوني الشهير أكثر ممّا يعرف عن (هومر) الشاعر الأغريقي المعروف، أدرك أنّه ماض إلي وهدة الجهل المطلق.
وعند هذه النقطة قرّر بحسم أن يشرع بعملية تنظيف لدماغه من تفاهات عمله، وأن يعيد تأثيثه بأكبر قدر من الحقائق والمعلومات في هذا العالم.
ماذا فعل؟
قرّر أن يقرأ (دائرة المعارف البريطانية) كلّها من الألف إلي الياء!
وبعناد عجيب أمكنه، فعلاً، أن يختمها في غضون عام واحد .. أي أنّه، في هذه المدّة، قرأ بعناية وتركيز اثنين وثلاثين مجلّداً، تضمّ ثلاثة وثلاثين ألف صفحة، وخمسة وستين ألف مادّة، وأربعة وعشرين ألف لوحة، وأربعة وأربعين مليون كلمة!
ولمّا كانت الأمم المتّحدة قد عرّفت (الكتاب) بكونه النَصّ الذي يتألف من تسعة وأربعين صفحة علي الأقل، فإنّ (جيكوب) وفقاً لهذا التعريف قد قرأ 673 كتاباً في ذلك العام، أي بواقع كتابين تقريباً في اليوم الواحد!
عن تجربته المدهشة هذه، ألّف (جيكوب) كتاباً بعنوان (العارف بكلّ شيء) ذيّله بعنوان فرعي يقول: (مطلب متواضع لرجل يريد أن يكون أذكي شخص في العالم) .
وكما يوحي عنوان الكتاب الذي صدر هذا العام، فقد تضمّن قدراً كبيراً من المعلومات المدهشة التي ستجعله، دون شك، واحداً من أكثر الكتب مبيعاً، وتقدّم لنا مؤلفه كاتباً جديداً من نمط (بيل برايسون) صاحب الكتب
الغرائبية المشهورة مثل (صنع في أمريكا) و (تاريخ كلّ شيء تقريباً) .. لكنّ روح الفكاهة والسخرية التي عرض بها قصّته وعلّق بها علي المعلومات التي أوردها في الكتاب، تكشف -بعيداً عن المعارف المكتسبة- عن موهبة (جيكوب) الأصيلة والعالية في ميدان الكتابة الساخرة.
علي مرّ صفحات الكتاب يسخر (جيكوب) من كلّ شيء ومن كلّ شخص، وبخاصة من نفسه، حيث ينبئنا بأنّه منذ بدئه بقراءة مادة الحرف الأوّل من (الإنسيكلوبيديا) ، صار يغتنم أيّة فرصة للمباهاة بمعلوماته، وإذا لم يجد مثل هذه الفرصة فإنّه يخترعها. وهو إذ يروي لنا قصص انتصاراته في بعض المناسبات، لا يتورّع عن ذكر انتكاساته وخيباته وهزائمه المذلّة في مناسبات أخري.
وفي هذا السياق نعلم أنّ (جيكوب) ليس نسيج وحده في الغرائبية، فهناك أبوه المهندس المتقاعد الذي ألّف سبعة وعشرين كتاباً في مجال اختصاصه، وهي كلّها تمتاز بأنّ المتن فيها لا يتعدّي ربع الصفحة، فيما يلتهم الهامش ثلاثة أرباعها، الأمر الذي يستغرب معه (جيكوب) من عدم دخول كتب أبيه موسوعة (غينيس)للأرقام القياسية، باعتبارها الكتب ذات الهوامش الأطول في التاريخ! وهناك أيضاً ابن أخته (دوغلاس) الذي لا يتعدّي الحادية عشرة من عمره، والذي يحتفظ في جيبه دائماً بكتيّب لشوارد القواعد اللغوية، بحيث يقف في بلعوم أيّ شخص وفي أيّة مناسبة، مصحّحاً له العبارات الخارجة عن القواعد، ولم تنج من تصحيحاته حتي أستاذته في المدرسة!
وبين هذين القوسين (الأب وابن الأخت) كثيراً ما وقع (جيكوب) في حرج الهزيمة من غير احتساب، برغم تدرّعه بكلّ معلومات الدّنيا!
ففي إحدي الجلسات العائلية التي حضرها هذا (الولد النحو) حاول (جيكوب) أن يقوم بضربة استباقية، تلجم ابن أخته عن أيّ هجوم، فقال إنّ ( gh) في كلمة ( Light) في الإنجليزية القديمة لم تكن صامتة، بل كانت تنطق، وما زال بعض أهالي اسكتلندا ينطقونها ( Licht) .
غير أنّ أحداً من الجالسين لم يُبد دهشة من هذه المعلومة، وخاصّة ابن الأخت الذي انبري لسؤال خاله:
- ما أطول كلمة في اللّغة الإنجليزية؟
ابتهج (جيكوب) بهذا السؤال، وأجاب بسرعة:
- إنها ( Smiles) .. ذلك لأنّ هناك ( Mile) أي (ميل) بين الحرفين الأول والأخير.
لكنّ (دوغلاس) لم يتراجع أمام هذه الإجابة الذكّية، بل قال متململاً:
- ما رأيك بهذه الكلمة؟
وتهجّي له كلمة من خمسة وأربعين حرفاً، مع أنّ من الصعب جداً إن لم يكن من المستحيل نطقها.
ثم شرحها قائلاً إنّها اسم المرض الذي يسبّبه غبار ثاني أكسيد السليكون الناشيء عن انفجار البراكين!
وعلي ذلك علّق (جيكوب) بأنّ المعركة انتهت في بدايتها، وهو يعني أنّه انهزم هزيمة ساحقة.
وفي أحد الأعياد، التأم شمل العائلة في بيت أبوي (جيكوب) ، وكان من بين الحاضرين أخته وزوجها (بيريل)الذي يطابق اسمه اسم أحد الأحجار الكريمة.
وعند تبادل الهدايا، قدّم (جيكوب) هدية لزوج أخته مرفقة ببطاقة كتب فيها: (إلي عزيزي: ( Be3 Al2 (sio3) 6.
وعندما قرأها الرّجل تساءل: أهذه البطاقة لي؟! أجاب (جيكوب) مزهواً: نعم .. والمكتوب فيها هو الرّمز الكيمياوي لحجر البيريل الكريم!
ثمّ واصل قائلاً: إنّ واحدة من أكبر قطع هذا المعدن النفّيس وجدت في البرازيل، وكان وزنها مئتي طن .. وعلي هذا فإنَك بالمقارنة معها .. مجرّد شيء ضئيل جدّاً! ولم يكد (جيكوب) يستكمل ارتشاف حلاوة زهوه بمعلوماته، حتّي عاجله أبوه قائلاً:
- عندي لك معلومة جيّدة .. أنت تعرف سرعة الضوء، أليس كذلك؟
أجاب (جيكوب) بلا تردد:
- نعم .. إنها 186 ألف ميل في الثانية.
لكنّ أباه قاطعه: نعم هذا صحيح. لكن هل تعرف كم سرعة الضوء بالقامة في مدّة نصف شهر؟
وقبل أن يخرج (جيكوب) من ذهوله أخبره أبوه بأنه قد حسب هذه السرعة بالقامة في هذه المدّة، وعلي هذا فإنّه يعتبر نفسه الشخص الوحيد في العالم الذي يعرف هذه المعلومة.
ثمّ حدّدها له قائلاً: (إنّها: (1.98 x1014!
لقد تقبّل (جيكوب) هذه النكبة صاغراً، متذرّعاً بما تفرضه روح السّماحة في الأعياد المقدّسة!
ولعلّه أراد بذلك أن يقول لنا بأنّ الحقائق والمعلومات أضخم من أن تستوعبها أكبر دائرة للمعارف، وأنّ المرء مهما تدرّع بالعلم، يظلّ بحاجة إلي التعلّم دائماً.
ليست ضخامة المعلومات هي كلّ شيء في الحياة، بل العبرة تكمن في الاستفادة بأيّ قدر منها عند وضعه في المكان المناسب.
وربّما أمكننا استخلاص هذه الحكمة من المعلومة التالية التي وردت في الكتاب:
إنَ أكبر جرس في العالم قد تمّ بناؤه في موسكو عام،1733 ويقدَر وزنه بحوالي مئتي ألف كيلوغرام.
لكنّ ذلك الجرس لم تصدر عنه حتي رنّة واحدة .. فقد تكسّر، خلال صنعه، بفعل حرارة النّار!
كلّ تلك الجهود والتكاليف والتخطيطات والآمال، تحوّلت في لحظة إلي لا شيء .. وغدت مجرّد كومة من السكراب تنتصب في روسيا كرمز للفشل.
إنّ ذلك الجرس الضخم بقي مجرّد عملاق كسيح وأخرس، لكنّ الرّشاقة وفصاحة (الرّنين) كانتا من نصيب الأجراس الأصغر.
ألا تقول لنا هذه الحكاية شيئاً
منهج في الانتحال!
في روايته الغريبة والممتعة (أوبابا كواك) يمارس الكاتب الباسكي المشاغب (برناردو أتشاغا) هواية اقتطاف القصص من حقول الآخرين، مُستخدماً ما يقطفه عضاداتٍ لحبكته، معتذراً في أثناء ذلك بأنّ تلك القصص المقتطفة هي نفسها منتحلة في الأصل أيضاً، حيث يري أنّ الحكايات تتكاثر بالانتحال، وأنّ وجود المنتحلين المبدعين هو سبب غزارة القصص علي مرّ الأزمان .. والأعجب من هذا أنّه لا يتورّع، في هذا السبيل، عن تخصيص فصل كامل يؤسّس فيه أحد شخوص الرواية (منهجاً في الانتحال) .. فلا يعود الانتحال عند ذلك أمراً مشروعاً فقط، بل ينتصب كعلم له قواعده وأصوله!
إنّ ما يقصده (أتشاغا) بالانتحال هو ليس المفهوم المستقر في أذهاننا كمعادل للسطو الفاقع والوقح، بل هو البناء علي الأصل وتوجيهه وجهة أخري مختلفة تماماً، وهو في النهاية أمر لا ينجح فيه إلاّ مبدع حقيقي.
ومن أمثلة ما يرد في هذا السّياق قصّة (الخادم والتاجر الثري) .. وهي القصّة التي كثر مُتبنّوها حتي لم يعد أحد يعرف أباها الأصلي. فالإيرانيون يروونها علي أنّها حكمة فارسية، والهنود يتداولونها باعتبارها تراثاً هندياً، وهي بالطبع قصّة عربية أصلية بالنسبة لنا نحن العرب. وبرغم الانتحال الفجّ الذي لايغيّر سوي أسماء الأماكن والأشخاص، فإنّ القصّة بكلّ هوّياتها القومية، تبقي ممتعة ومؤثرة، لارتكازها علي فكرة (استحالة فرار الإنسان من قدره) .
تقول القصّة:
(كان يا ما كان، في مدينة بغداد، خادم يعمل في خدمة تاجر غني. وفي أحد الأيّام توجّه الخادم منذ الصباح الباكر إلي السّوق لشراء لوازم البيت. ولكنّ ذلك الصباح لم يكن مثل غيره من الصباحات الأخري، لأنّه رأي في ذلك الصباح الموت، ولأنّ الموت أومأ إليه، فقد رجع الخادم مذعوراً إلي بيت التاجر وقال له:
- سيّدي، أعطني أسرع حصان في البيت. أريد أن أبتعد عن بغداد هذه اللّيلة. أريد الذّهاب إلي مدينة أصفهان البعيدة.
- ولماذا تريد الهرب؟
- لأنّي رأيت الموت في السّوق وأومأ لي متوعّداً.
أشفق التاجر عليه وأعطاه الحصان، فانطلق الخادم آملاً في الوصول إلي أصفهان في الليل.
وفي المساء خرج التاجر نفسه إلي السوق، ورأي الموت هو أيضاً، فقال له وهو يدنو منه:
- أيّها الموت .. لماذا أومأت إلي خادمي متوعّداً؟
فردّ عليه الموت:
- أتقول إنّي أومأت متوعّداً؟ لا، لم تكن إيماءة توعّد، وإنما إيماءة استغراب ودهشة، فقد فوجئت برؤيته هنا، بعيداً عن أصفهان، لأنّه يتوجّب عليّ أن أقبض روح خادمك هذه الليلة في أصفهان)!
هكذا تنتهي القصّة بجميع أزيائها وألسنتها، غير أنّ بطل رواية أتشاغا المؤمن بضرورة أن يكون المنتحل مبدعاً، يبدو غير مؤمن علي الإطلاق بقدرية القصّة، فهو يراها قدرّية لا ترحم، بتصويرها الحياة مثل رمية (نرد) ، وكأنها تريد أن تقول بأنّ مصير المرء محسوم منذ الولادة، وأنّ إرادته لا تفيد في شيء.
وبناءً علي هذا فإنّه لم يقتنع بأنّ نهاية القصّة هي النهاية الوحيدة الممكنة.
ماذا فعل ذلك البطل (أو أتشاغا .. بالأحري) ؟
لم يفعل سوي أن يثني القصّة من طرفها ثنية صغيرة، فكان أن انتحلها بجدارة وجعلها قصّة أخري، إذ بدلاً من أن يكون القدر ماحقاً، أصبح من الممكن أن تتدخّل إرادة الإنسان في تغييره. وشتّان ما بين نهاية أبوابها مؤدية للاستسلام لقبضة الموت، ونهاية أبوابها مفتوحة علي أشواق الحياة.
في الثنية الصغيرة نري أنّ الخادم يصل إلي أصفهان، وهناك يخبّئه رجل في دكانه قائلاً له:
- لا تيأس .. إذا استطعت البقاء حيّاً حتي شروق الشمس فسوف تنجو. إذا كان الموت قد صمّم علي أخذك هذه الليلة ولم يتوصّل إلي تحقيق هدفه، فإنّه لن يستطيع ذلك مطلقاً. هذا هو القانون.
شَمَّ الموت آلاف الرّوائح، وفي الحال اكتشف مخبأ الخادم، ففتح باب الدكّان بالقوّة .. لكنّ الدهشة ملأت عينيه، لأنّه رأي أكثر من عشرة خدم يشبهون ذلك الذي يبحث عنه!
كانت أولي خيوط الشمس قد بدأت تلمع، ولم يبق أمام الموت وقت للاستقصاء، فقبض علي واحد من أولئك الخدم وخرج إلي الشارع.
وفي الصّباح نعلم أنّ الموت لم يحمل معه عند خروجه سوي (مرآة) ، وذلك لأنّ مخبأ الخادم كان دكّاناً للمرايا، وأنّ صورته كانت منطبعة عليها كلّها.
قبض الموت علي المرآة .. ونجا الخادم!
ها هو ذا باسكيّ عفريت قد وَلَّدَ لنا من رحم القصّة الحبلي المتعسّرة قصّة جديدة. وهو ما كان له أن يفعل ذلك لولا أنه منتحل حقيقي .. منتحل عظيم الموهبة.
المسيسبّي!
تقدّمت إلي الامتحان ولم أنجح.
صبرت حتّي نما شاربي فسوّيته بالمقصّ، ثمّ بعت المقصّ ومكواة الفحم لقاء مبلغ زهيد اشتريت به من محلّ الخردة نفسه قميصاً رثّاً تنبيء رائحته عن أنّ كميّة النفثالين فيه أكبر كثيراً من كميّة خيوط القطن.
كان البرد قارساً في الخارج، فحرصت قبل مغادرة المحلّ علي ارتداء القميص ذي النفحة التّاريخية فوق قميصي الميّت. ثمّ انطلقت إلي الشركة للمرّة الثانية.
قال لي الموظّف البدين:
- لقد جئت إلينا قبل هذا، وفشلت في المقابلة.
قلت له بحدّة مؤدّبة:
- أنت مخطيء يا سيّد. لم يسبق لي أن وطئت عتبة شركتكم الموقرة أبداً. ألا تري شاربي وقميصي؟
قال باسماً:
- أراهما بالطبع .. وفي المرّة
السابقة أيضاً رأيت قميصك ولو جئت ألف مرّة لأمكنني أن أري قميصك. النّاس لا يأتون إلينا عراة.
استبدّ بي غيظ مسعور، وأنا أشهد بأمّ عيني ضياع كلّ ما تكلّفته من أجل إتقان التزوير.
بادلته ابتسامة باهتة، ونهرته بلهجة مستجدية:
- يا سبحان اللّه! إنني لم أشترِ هذا القميص إلاّ اليوم.
كيف أمكنك أن تري ما في الغيب؟ انظر، انظر، إنّه. قاطعني قائلاً ببرود:
- لم أكن أقصد هذا.
هجمت عليه ثانية:
- دَقّقْ في وجهي يا سيّد. دقّق جيّداً ..
لا تقل لي إنّك قد رأيت هذا الشّارب من قبل أيضاً.
حدّق بي، ثمّ ما لبث أن انقلب علي ظهره في الكرسيّ الدوّار، ومَدّ إصبعه نحو شاربي، وهو يقهقه:
- أتظنّ أنّ عصارة تمر الهند هذه كافية لتغيير خلقتك؟!
ثمّ اعتدل، وجذب أنفاسه، وربّت علي كتفي مواسياً، ومَدّ يده نحو سمّاعه الهاتف قائلاً:
- انتظر لحظة .. ربما كان بمستطاعي أن أجد لك فرصة جديدة.
أدار القرص، وتحدّث هامساً، ثم أقفل الخطّ، والتفت إليّ ووجهه طافح بالبشاشة:
- لقد أعطاك الأستاذ فرصة .. هل أنت مستعد؟
ابتسمت ممتنّاً:
- ولماذا تظنّني جئت؟
طلب منّي أن أجلس علي كرسيّ قبالته، ثمّ سألني:
- ما طول نهر المسيسبّي؟
شعرت كأننّي تلقّيت صفعة عنيفة، فلم أملك إلاّ أن أصرخ به محتجّاً:
- ماذا تريدون أن تصنعوا بالمسيسبّي؟! ماذا يفيدكم إذا كان طوله مليون ميل أو أربعة أشبار؟
لقد سُئلت هذا السؤال عندما كنت حليق الشارب، وقلت لا أعرف .. فأيّ ضرر سيحيق بشركتكم إذا لم أعرف؟ أنتم تبيعون أدوات كهربائية لا أكثر، وأنا أطلب وظيفة فرّاش لا أكثر .. وحتّي لو كنتم تريدون منّي تحضير الشاي بماء المسيسبّي فإنّ تقدير طوله لن يشكّل أيّة عقبة .. يمكنكم أن تسحبوا المياه من أيّة نقطة فيه ..
قاطعني محتّداً وهو يكفكف رُشاش كلماتي بيديه:
- رجاءً، رجاءً، رجاءً .. إننّي أتّبع قواعد الشركة. أجب عن السؤال أو اترك الفرصة لغيرك. هل تعرف ما طول المسيسبّي؟
قلت مسلّماً بالفشل:
- لا أعرف.
قال بلطف:
- انتهت المقابلة.
في اللحظة ذاتها نزل من الطابق الأعلي شاب أنيق، بدا لي أننّي رأيته من قبل. وفيما هو يتقدّم نحونا، أعملت ذهني بضراوة، وسرعان ما تذكّرته .. لقد كان أغبي تلميذ في صفّنا الابتدائي.
وبسرعة ومضت في ذهني واقعة إجابته في امتحان التّاريخ عن سؤال يتعلّق بجيوش الحلفاء، إذ كان الوحيد من بيننا الذي انفرد بالقول إنّ الحلفاء الرّاشدين أربعة، وعدّد أسماءهم بكل دقة! وجدتني أندفع نحوه مأخوذاً بمفاجأة لقائه، وابتسمت وأنا أبسط ذراعيّ إليه تهيئة لاحتضانه.
- عدنان؟!
ارتدّ خطوة كالجافل، فيما هبّ الموظّف البدين قائماً، ورفع يده إلي رأسه بالتحّية، وقد ملأ الذّعر وجهه.
سدّد عدنان إليّ نظرة استنكار، وقال باقتضاب:
- نعم؟
- أنا ماجد .. ألا تذكرني؟
اغتصب من نفسه ردّاً كالصّدقة:
- آسف .. لا أتذكرّ.
ألحفت وقد شعرت بالمهانة:
- مدرسة الأشبال .. ألا تذكر؟!
قطع الموضوع بكلمة باردة كالثلج:
- المعذرة. لا أعتقد أنني رأيتك من قبل.
تطوّع الموظّف لاستنقاذه من براثن إلحاحي:
- كُفَّ عن مضايقة الأستاذ .. الأستاذ لا يعرفك، وقد أعطاك فرصة ثانية ولم تنجح. توكّل علي اللّه.
الأستاذ؟!
صعقت لما قاله الموظّف، وأحسست بالأرض تميد من تحتي. لكنني اجتهدت ما وسعتني الطّاقة أن أحتفظ بتوازني، ووجدتني أنقضّ عليه انقضاضاً. جذبته من جانبي سترته ورحت أهزه بعنف:
- أنا ماجد الشاوي يا أستاذ عدنان .. ماجد الذي لم ينجح بالفرصة. كيف لا تتذكّرني؟ قاتل اللّه النسيان. يبدو أنّ آفته اللئيمة قد أكلتك تماماً فلم تعد تذكر حتّي الحلفاء الرّاشدين!
تداعي الموظفون والسعاة، فجأة، من كلّ ناحية، وجرّوني بمساعدة الموظّف البدين كالخرقة البالية خارج مبني الشركة. وكنت في تلك الأثناء أتلفّت فأري عدنان يعدّل سترته، مرسلاً نحوي نظرة تحمل مزيجاً من الغضب والاحتقار والاستغراب.
ابتعدت عن مبني الشركة بخطي حثيثة، وأنا مفعم بالكرامة. كان لي من شفاء الغليل ما أنساني الإهانة، وكان لي من فوران دمي مدفأة حامية أنستني البرد القارس.
بعد ساعة من التسكّع اللاهث في متاهات الدروب الملتوية، خلوت إلي زقاق ضيّق غارق في العتمة، فتوقّفت، ومددت يدي في جيب بنطلوني، وأخرجت محفظة عدنان.
استندت إلي الجدار، ورحت اتفحّص محتوياتها:
بطاقتان شخصيتان، عدد من بطاقات الائتمان، صور فتيات لا أمل لهنّ بالجنّة، رزمة كبيرة من الأوراق النقدية.
التقطت رزمة النقود بعناية ووضعتها في جيبي، ثمّ انطلقت إلي ضوء النهار، ومشيت علي رصيف الشارع العام.
هطل المطر بغزارة، لكنّني واصلت المشي تحت وابله ببطء شديد وكأننّي في نزهة.
نبّهني أحد مجارير الشارع بخريره الهادر، فتوقّفت، وألقيت المحفظة بكلّ حمولتها الفارغة فيه. وفيما هي تصطرع مندفعة في فمه تحت وطأة التّيار، همستّ للمجرور بلطف بالغ أن يحملها معه إلي المسيسبّي!
المحروم!
في غضارة الثمانينات من عمره، يرحل (رينيه الثالث) أمير موناكو، وهو جاهل تماماً بكلّ ما فاته من أطايب الحكم ومُقبّلاته.
أكاد أري أرواح حكّامنا الغابرين والقابرين (أعندهم أرواح؟) تتلاطم فوق جثمانه مُعنِّفة ومُشفقة في الوقت نفسه.
بعد ستة وخمسين عاماً في الحكم .. يرحل رينيه المسكين دون أن تكحّل ناظريه، يوماً، عبارة في صحيفة، ودون أن تُشنّف أذنيه عبارة من بوق تذكّره بأنّه (قيادة تاريخية) !
يرحل (الرّجل الأمير) دون أن يتذوّق في حياته طعم القضاء علي أيّة (مؤامرة دنيئة) ، ودون أن يتلذّذ في عمره كلّه حتّي بوجبة إعدام واحدة لخائن واحد من عملاء الإمبريالية .. فيما يستطيع أتفه واحد من أولاد الشوّارع عندنا أن يُنشيء جيشاً مليونيّاً في نصف مدّة حكمه، وأن يقتل مليونين في ربع تلك المدّة!
يرحل رينيه المنكود دون أن يخطر في سمعه أبداً النشيد القومي الذي يردّده الموتي عندنا للقتلة الأحياء، والمقبورين أيضاً: (بالرّوح بالدّم نفديك يا رينيه) .. ربّما لأنّ نشيداً كهذا كان سيبدو نكتة أو فضيحة، لأنّ شعب موناكو كلّه (بروحه ودمه) لا يكاد يملأ نصف ملعب كرة قدم، فكيف إذا ضحّي بنفسه فداءً لرينيه؟!
يرحل رينيه المغبون دون أن يسمح له عدد مواطنيه الذي لا يزيد كثيراً عن ثلاثين ألفاً، بأن يتلمّظ، ولو مرّة، بكونه (حبيب الملايين) ، مع أنّ إمارته التي بحجم الكفِ هي حبيبة الملايين فعلاً (باليورو والدولار) .
وبرغم خلّو إمارته من أيّة ثروة طبيعية أو ثورة اصطناعية، فإنّه لم يتنعّم قَط بثمار أية (خطّة خمسية) أو ببركات أيّ (تقشّف) ، ولم يخطر في ذهنه اطلاقاً أنّ (ربط الأحزمة) و (تأميم المجاعة) هما توأمان سياميان!.
إمارة رينيه بشعبها ليست أكبر من شركة بموظّفيها، وهي لا تحتاج لأكثر من مجلس إدارة لتصريف شؤونها لكنّه، واحسرتاه، أتي إلي الدنيا وعاش في الدّنيا، وها هو يغادر الدنيا، وتلك الإمارة تُدار بواسطة حكومة منتخبة!
وهنا أيضاً أكاد ألمح حكّامنا الصالحين يُنشبون نواجذهم في جثّته التي لم تبرد، زاعقين بكلّ ما في أوتارهم الصوتية من (عنف ثوريّ) : حكومة مُنتخبة؟ لماذا يا ناقص العقل والدّين؟ ألا تعرف شيئاً اسمه (الإصلاح من الدّاخل) ؟!
يرحل رينيه وإمارته التي بحجم الكف بقيت عصيّة علي الترويض في محيط الأقوياء، دون مارشات عسكرية في الإذاعة، وظلّت مستقلة دون شعارات ثورية علي الجدران، وحجزت لمؤخرتها مقعداً في الأمم المتّحدةبحجم مقعد الصين بالضبط، وكلّ ذلك دون أن يقدّم كوبون نفط لهذا أو كوبون دم لذاك.
يرحل رينيه، دون أن يمتّع قلبه أبداً بلعبة (تمديد فترة الحكم) لأنّها، واأسفاه، ممتدة أصلاً بحكم الدستور، ودون أن يترك من بعده (مجلس خيّاطين)
منتخباً بالتعيين، لكي يقصقص الدستور ويفصّل منه بذلة علي مقاس ابنه المحروس .. ذلك لأنّ ميراث الابن محفوظ هو أيضاً بحكم الدستور، بل الأنكي من ذلك أنّ الدستور نفسه محفوظ من كلّ فنون التّفصيل والخياطة.
وأخيراً، وليس آخراً، يرحل رينيه المسكين بحسرته دون أن تسعده الأقدار بضمّ (موناكو) إلي (جامعة الدول المونيكيّة) ، بشفاعة القيادات التاريخيّة التي طالما وضعت دماءنا علي موائد القمار في إمارته .. فيمضي بغفلة حظّه ويقظة منيّته، حارماً شعبه (المجيد) من قمم التخت الشرقي، وحارماً نفسه (الضّرورة) من فكاهات عميده الأخضر!
أيّها المرحوم رينيه .. لَكَم كنتَ محروماً!
دور المُخيَّلة
في إحدي مقالاته النقدية تحدّث الفيلسوف والرّوائي الإيطالي أمبرتو إيكو صاحب (اسم الوردة) عن العلاقة الصحيّة المفترضة بين القاريء والنصّ الأدبي، فمنح القاريء مكانة مميّزة علي قدر المسؤولية التي حمّله إيّاها .. وهي مسؤولية تتطلب منه ألاّ يكون مجرّد تابع أو مسافر منقاد، بل أن يكون جزءاً من النَصّ، وشرط ذلك هو أن يكون ذا مُخيَّلة واسعة. فبهذه المُخيَّلة وحدها يستطيع القاريء أن يكون جزءاً من النّص الذي يقرؤه.
ولفرط ثقته بهذا القاريء المفترض، لا يكتفي (إيكو) باعتباره جزءاً من النّص، بل إنّه يكافئه، نظير سعة خياله، باعتباره شريكاً في التأليف أيضاً!
ويضرب مثلاً علي ذلك بقوله إنّنا عند النظر إلي الخريطة يمكننا أن نتخيّل رحلات خارقة ومغامرات عظيمة بين بحار وجزر مجهولة، لكن الخريطة في هذه الحالة هي مجرّد محرّض أو ملهم، بينما قاريء الخريطة هو الرّاوي الحقيقي لتلك المغامرات.
يبدو هذا المثل عويصاً ومبهماً مثل متاهة المكتبة في رواية (اسم الوردة) . ذلك لأنّ الفرق شاسع جداً بين خطوط الخريطة الصمّاء وبين العوالم اللّصيقة بالواقع والشخصيات الحيّة التي نكاد نسمع أصواتها في الأعمال القصصيّة.
قد يمكن القول، مثلاً، إنّ صور الأماكن والشخصيّات التي يرسمها الرّاوي، تكتسب لدي القاريء ألواناً وأشكالاًوملامح وطبائع إضافية مستقاة من تجربته الحياتية الخاصّة، لكنّه لا يمكن أن يتعدّي حدود هذه المشاركة الرمزية التي تجعله كمن يملأ الرّسوم المخطوطة بألوانه الأثيرة، وبخلاف هذا ليس له إلاّ أن يكون تابعاً طائعاً علي قدر سطوة سيّد الحبكة.
وفي تركيزه علي أهمية المُخيَّلة يقول (إيكو) : كلّما سُئلتُ عن الكتاب الذي سأختار أن أحمله معي إذا ما رمتني الأقدار إلي جزيرة نائية، فإن إجابتي هي .. (دليل الهاتف) ذلك لأنني، مع كلّ هذه الشخصيات التي يضمّها الدليل، سيمكنني اختلاق عدد لا نهائي من القصص.
إنّ هذا الجواب هو آخر ما يتوقع المرء سماعه من كاتب كبير مثل (أمبرتو إيكو) ، وهو لابُدّ أن يدفع المرء لأن يتساءل متعجّباً: هل يحتاج كاتب موهوب واسع الخيال إلي أسماء دليل الهاتف لكي يمكنه أن يتخيّل قصص أصحابها؟ أليس من الأسهل علي مَن سيبتدع عدداً غير نهائي من القصص، أن يختلق قبل هذا عدداً غير نهائي من الأسماء؟
إنّ الكاتب الموهوب لا يحتاج في جزيرته النائية إلاّ إلي قلم وأوراق .. ما دام رأسه معه.
نطاق الشَّفَق
في أوائل ستّينات القرن الماضي، ابتكر الأمريكي (رود سيرلنغ) سلسلة من القصص الغرائبيّة، قدّمها التلفزيون علي شكل حلقات تمثيليّة، كان (سيرلنغ) يشارك في التعليق عليها شخصيّاً، من خلال ظهوره المفاجيء والسريع في واحد من مَشاهد كلّ حلقة.
وقد استقطبت تلك الحلقات التي تجاوزت المائة والخمسين، جمهوراً عريضاً سواء من الأمريكيين أو غيرهم من سكّان المعمورة، وذلك لأنّها كانت تقدّم بحِرفية عالية قصصاً جميلة وقصيرة وفائقة الغرابة، يؤديها عدد كبير من نجوم هوليوود.
وقد اشتهرت تلك الحلقات بعنوان (توايلايت زون) أو ما يمكن ترجمته إلي (نطاق الشّفق) . والدلالة المتضمنة في العنوان هي أنّ أحداث القصص تقع في ذلك النطاق الغامض المبهم الذي تتداخل فيه الأزمنة والأمكنة علي نحو غير معقول، وكأنّه نطاق سادس يضاف إلي أقاليم الأرض المعروفة، شأنه شأن الحاسّة السادسة بالنسبة لحواسّ الإنسان الخمس.
إنّ غرائبية (توايلايت زون) غير مجانيّة، فهي ليست مؤلّفة لإبهار المتفرجين فقط، ولكنّها تترك وراءها سلسلة من التساؤلات حول حقيقة ومقاصد الوجود الإنساني، وحول موقع الإنسان في كوكب الأرض من هذا الكون الفسيح الغامض .. وتترك في نهاية كلٍّ منها مغزي حيّاً وعميقاً، يتمثّله المرء ببساطة في مجري حياته البسيطة، دون حاجة منه إلي اللّهاث في صحاري الفلسفة الجافّة.
تبدو قصص (توايلايت زون) سهلة المأخذ، أليفة وممتعة، لكنّها في ألفتها تقود المتفرّج المطمئن خطوة خطوة، حتّي تدخله بوّابة الغرابة والحيرة. وهي في ذلك تشبه - علي وجه ما - لوحات سلفادور دالي، فكلَ جزء من تلك اللوحات يبدو طبيعياً ومألوفاً، لكنه يتحوّل إلي غرائبي عند اتصّاله بالأجزاء الأخري التي تبدو، هي أيضاً، طبيعية ومعقولة إذا فُصلت عن اللوحة الكليّة!
وهذه القصص تذكّر أيضاً-مع اختلافها الواضح في التوجّه والبناء - بقصص الفرنسي (هنري تروايا) الذي يأخذ القاريء إلي عالم قصّته بسهولة ويسر، فيدخله، علي سبيل المثال، إلي مدينة ما، حيث الناس هم الناس الذين يعرفهم، وحيث الشوارع هي نفسها التي يألفها، والقضايا الحياتية هي ذاتها التي يعيشها، لكنّه في نهاية المطاف، ودون سابق إنذار، يكتشف في السطر الأخير، مثلاً، أنّ أرجل جميع الناس هي حوافر ماعز!
في واحدة من حلقات (توايلايت زون) يضعنا (سيرلنغ) أمام محنة عجوز يحبّ القراءة جّداً، لكنّ كلّ من حوله يمنعه من ممارسة هذا الحبّ. ففي البيت تحرص زوجته المتسلّطة علي إخفاء أيّ كتاب أو صحيفة، وتنقِّب عن أيّ كتاب يخفيه لكي تلطّخ صفحاته بالحبر .. وفي عمله كمحاسب في أحد المصارف، يهدّده رئيسه بالطّرد كلّما
رأي في يده كتاباً أو مجلّة. ولذلك فهو يحاول دائماً أن يضع كتاباً صغيراً مفتوحاً فوق ركبتيه، ليسترق إليه نظرة، من وراء نظارته السميكة، كلّما خلا من خدمة زبون .. الأمر الذي يكتشفه رئيسه فينذره، لآخر مرّة، بالطّرد.
وفي بليّته المركّبة هذه، يغتنم الرّجل فرصة الغداء، فيحمل جريدته ويختبيء في خزانة المصرف الكبري المدّرعة، مستغنياً عن الأكل بالقراءة. وفي تلك الجريدة يقرأ خبراً عن احتمال هجوم نووّي .. وبعد ذلك بلحظات يشعر بهزّة عنيفة ترتجّ لها الخزانة الثقيلة المدرّعة.
وعند انتهاء فرصة الغداء، يخرج صاحبنا من الخزانة، فيري أنّ كلّ ما حوله خراب في خراب. ويأخذ طريقه بين الأنقاض، ليكتشف، مذعوراً، أنّ المدينة كلّها ركام مَبانٍ، وأنّها خالية من البشر، فيسعي كالغريب التّائه بين حطام المتاجر التي تناثرت فيها كميّات هائلة من علب الطعام المحفوظ، فيطمئن إلي أنّه سيكون بمنأي عن الجوع مدّة طويلة، لكنّ اطمئنانه هذا لا يعود شيئاً مذكوراً إزاء بهجته برؤية أبواب الجنة مفتوحة أمامه .. ذلك لأنّه يجد نفسه وجهاً لوجه أمام ذخائر المكتبات الملقاة أكداساً من الكتب التي طالما تمنّي قراءتها!
يجلس العجوز بين الكتب متصفّحاً بعضها ومستعرضاً عناوينها علي مهل. ولم العجلة؟ جميع الكتب طوع يده، وكلّ الوقت ملكه، ولا أحد هناك ليمنعه من القراءة.
يمدّ الرّجل أصابعه لالتقاط نظّارته، لكنّها تسقط فوق ركام الكونكريت فتتكسّر!
عندئذ يحتقن وجه العجوز ببؤس الدّنيا كلّه، ويحدّق في الفراغ بعينين زائغتين، ولا نسمع منه سوي عبارة واحدة، يطلقها بزفرة كأنها آخر أنفاسه: (هذا ليس عدلاً) !
القصّة طريفة وممتعة ومؤلمة في الوقت ذاته، لكنّ أعظم ما فيها هو المغزي الذي تنطوي عليه. دعك من الأثر الموجع الذي تتركه في نفس القاريء المدمن، فليس جميع الناس قرّاءً شرهين. لكنّ المغزي هنا يمكن أن ينطلق علي مختلف الموجات: سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، حيث ينشطر إلي عدد غير محدود من التساؤلات، مثل: ما معني أن يكون الإنسان حرّاً إذا كان شاهداً علي فناء كلّ النّاس؟ وما جدوي امتلاك المرء للطعام بعد تهتّك معدته وسقوط أسنانه؟ وأيَة فائدة ترجي من حصول المريض علي دوائه في ساعة موته:؟!
لنستعرض، علي عجالة، مثلاً آخر: قصّة امرأة دخلت المستشفي لإجراء جراحة تجميل لوجهها، ولكنّ الطبيب الجّراح وطاقمه، وهم كلّهم يعملون في مكان شبه معتم، يدركون أنّ العمليّة لم تنجح، ولذلك فإنّ الطبيب يُمضي وقتاً لتهيئة المرأة لمواجهة هذا الأمر، ويدرّبها علي التعايش مع قبحها.
عند نزع الأربطة عن وجه المرأة يتأكدّ للطبيب فشل العملية، فيردّد مع نفسه بمرارة أنّه كان يعلم ذلك. لكنّنا بعد اكتمال نزع الأربطة نري أنّ وجه المرأة باهر الجمال، فنعجب من رأي الطبيب، وندهش أكثر من صرخة الفزع التي تطلقها المرأة حين تري صورتها في المرآة.
بعد هذه اللقطة .. نري، لأوّل مرّة، وجه الطبيب ووجوه طاقمه، ووجوه العاملين والمرضي، ووجوه النّاس في الشوارع، فإذا نحن أمام مسوخ يبدو وجه كلٍّ منهم خلطة من ملامح القرد والخنزير والإنسان!
أهذه غرابة مجانّية؟ ماذا لو وضعناها في سياق آخر؟ لنقل مثلاً .. ماذا لو وضعنا إنساناً حرّاً وسط قطعان من العبيد؟ أو عاقلاً وسط أمّة من المغفّلين؟ أو مبصراً بين شعب من العميان؟
إنّ مغزي القصّة يمكن أن يُحمل علي ألف محمل، وسيبدو ثميناً في كلّ الأحوال. وتلك هي لمسة السحّر التي تتصّف بها أعمال (سيرلنغ) ، وذلك هو سرّ نجاحه. والدليل علي ذلك هو أنّ حلقات كثيرة جداً من (توايلايت زون) انتجت بالألوان، بعد وفاة سيرلنغ، لكنّها بأجمعها لا تضارع عملاً واحداً من أعماله التي صُوّرت بالأبيض والأسود .. الأمر الذي يقنعنا تماماً بصواب المثل القائل بإعطاء الخبز لخبّازه، وهذا مغزي كلّي آخر تقررّه أعمال (سيرلنغ) بالجملة.
مشكلة .. في جميع أحواله!
هذا القائد الضّرورة مخزن أضرار .. ويبدو أنّنا سنظل نواجه بسببه موجات لا تنتهي من الإحراجات، حتي وهو معتقل.
فبعد أن أعرب أحد رجال الفاتيكان عن حزنه وهو يري مهيبنا يُعامَل كالبقرة بين يَدَي البيطري، وضعت يدي علي قلبي .. إذ توقّعت نشوب أزمة بين هولندا والفاتيكان .. فلمّا مَرّ الأمر بسلام تذكرّت، فوراً، صورة البقرة الضاحكة فأرجعت هدوء الأوضاع إلي أنّ الأبقار بطبيعتها مسالمة ومتسامحة.
لكن سرعان ما اكتشفت أن توقّعاتي انتظرت البلاء من الشرق، فإذا به يجيء من الغرب!
فها هو ليبي كوبلاند محَرر الواشنطن بوست يمضي قُدماً في استقصاء التعبيرات العسكرية الملتبسة، مدفوعاً بعبارة حفرة العنكبوت التي استخدمها المتحدّث العسكري الأميركي في وصف الحفرة التي انتشل منها صّدام.
وفي بدء حملته الاستقصائية ينبّهنا كوبلاند إلي أنّ عبارة حفرة العنكبوت لم تُفصّل خصيصاً من أجل صدّام، بل هي قديمة، وتعود إلي فترة الحرب العالمية الثانية، وقد استخدمتها، لأوّل مرّة، قوّات مشاة البحرية الأميركية أثناء القتال في المحيط الهادي.
وبناء علي ذلك يشرع في مساءلة المؤرخين عن المعني المحدّد لهذه العبارة، فيرّر وليام بريست وهو مؤلف كتاب قاموس العبارات العسكرية، أنّه كان من عادة الجنود اليابانيين أن يحفروا حُفراً صغيرة جداً لا تتّسع الواحدة منها إلاّ لرجل واحد، ليختبيء فيها المقاتل حتي يظهر جنود العدو، فيخرج لهم بشكل مفاجيء، ويطلق النّار ليقتل أكبر عدد منهم قبل أن يصرعوه. وعلي هذا فإنّ حفرة العنكبوت اليابانية هي حفرة انتحارية.
وطبقاً لمعلومات معهد التاريخ العسكري الأميركي، فإنّ عبارة حفرة العنكبوت كانت تستعمل أيضاً في فيتنام، لوصف مكامن القنّاصة الفيتناميين.
وعلي ذلك فإنّ استخدام هذه العبارة في حالة صّدام يعتبر مُجافياً للدقّة .. فالأخير كان يستخدم حفرته للاختباء وليس للقنص، كما أنّه استسلم دون مقاومة .. ولذلك فلا مجال لوصفه هنا بكونه عنكبوتاً في حفرة، ولعلّ الوصف الأمثل لحالته هو أنّه دجاجة في سلّة!.
ولا يخفت احتجاج المؤرخين العسكريين حتي يُدّوي احتجاج علماء الحشرات!.
تقول ليندا رايور الأستاذ المساعد في علم الحشرات بجامعة كورنيل: إنّ حفر العناكب باردة ومدثّرة بالحرير ونظيفة جداً، علي عكس حفرة صّدام القذرة.
وأعربت رايور عن أنها أحسّت بالانزعاج عند سماعها لعبارة حفرة العنكبوت بعد اعتقال صّدام، واعتبرت هذا الوصف إساءة للعناكب!.
وإذا كنّا قد عرفنا رأي علماء الحشرات في هذه القضيّة، فإننا ننتظر أن نعرف رأي علماء الدواجن بالنسبة لوصف أخينا بالدّجاجة!.
وفي الوقت الذي تدور هذه الاستقصاءات في أميركا مُتزامنة مع استقصاءات العراقيين عن قوائم الإعدامات لدي مراكز التوثيق، وعن عظام قتلاهم في المقابر الجماعية، يدور الحديث أيضاً عن عزم اتّحاد المحامين العرب إرسال فريق من أعضائه للدفاع عن صّدام الرّجيم خلال محاكمته المرتقبة!.
وما دام لدينا مثل هذا الفريق الرّكن من حماة العدالة الذين يهبّون تطوّعا للدفاع عن أكبر مجرم عرفه زماننا، فإنّ علينا أن نتوقّع المزيد من الحفر، والمزيد المزيد من احتجاجات المدافعين عن كرامة الحشرات والزواحف!.
الهاربان!
جلسا علي مقعد في الحديقة القريبة من شارع السّفارات.
كان الأوّل طويل القامة وضّاء الوجه ذا لحية مُهذّبة بيضاء، وكان الثاني مربوع القامة وضّاح السّحنة ذا لحية مهذّبة غرّاء.
علي المقعد القائم قبالتهما كان يجلس رجل مكوّر ذو لحية كثّة مستطيلة تكاد ترتطم بكرشه، فيما جلبابه يكاد يرتفع حتي ركبتيه.
قال الأوّل لصاحبه: بَشِّرْ؟
قال الثاني: الحمد للّه. لقد وافقوا علي لجوئي إنسانياً إلي هولندا .. وأنت؟
قال الأوّل: هذا خبر طيّب. سنكون قريبين من بعضنا، وسيمكننا أن نتزاور بين وقت وآخر، فقد حصلت أنا علي حق اللجوء إلي السّويد.
ثمّ أردف مازحاً: من الآن فصاعداً سأسميك (أخي في هولندا) !
زفر الثاني مبتئساً: ألا تري أنّنا كان يمكن أن نمكث هنا بسلام لو أننا التزمنا بأدب الصحوة ولم نفعل ما فعلنا؟
قال الأوّل متذمّراً: لقد فات أوان الندم. ونحمد اللّه علي أنّنا وجدنا من يُلجئنا، وإلاّ فلا أمل لنا بالنّجاة إذا بقينا هنا.
قال الثاني: آه لو أنّك كبحتَ حِدّتك قليلاً يا أبا عبداللّه .. هل كان من الضروري أن تقول للرّجل إنّ زهده مضحك لأنّ جلبابه قصير وسيّارته طويلة؟
هتف الأول بحدّة: اسكت يا أبا حسن.
أنت آخر من يعاتبني. أنسيت ما فعلته أنت؟
هل كان ضرورياً أن (تبتسم) ونحن خارجان من المسجد؟ لقد عكّرتَ عبوس القوم وكدت توردنا التهّلكة!
اندفع الرّجل الجالس قبالتهما إلي القول دون استئذان: ألا تستحيان أن تفعلا ذلك وأنتما إسلاميان؟
قال الرّجل الطويل: نحن لسنا إسلاميين .. نحن مسلمان.
صرخ الغريب مغضباً: أعوذ باللّه.
تساءل الرّجل الطويل: ما الذي دعاك إلي الاستعاذة باللّه؟!
قال الغريب: فعلكما الشّنيع. إنكما لم تكتفيا، ونحن في زمن الصحوة المباركة، بممارسة الابتسام أمام المسجد، أو إهانة سيّارة أخيكم في اللّه، بل لبستما لباس المشركين، وطلبتما اللّجوء إلي فسطاط الكفر، وفوق هذا كلّه يستنكر كلّ منكما أن يكون إسلامياً، ويكتفي بأن يكون مجرّد مسلم!
قال الرّجل الطويل: لباسنا هو لباس عصرنا .. ولا علاقة لهيئة الثوب بجوهر المعتقد. ثم أنّ الإسلام عقيدة تستقر في القلب، وتتبدّي مظاهرها في فعل الخير والرّْحمة. إنّه ليس بطاقة انتساب حزبيّ يشبكها المرء علي صدره بدبّوس (ياء النَّسَب) .
وَلوَلَ الرّجل المكوّر بحدّة: أستغفر اللّه ... هذا انحراف صريح عن سنّة السّلف رضي اللّه عنهم. توبا إلي اللّه .. توبا إلي اللّه.
التفت الرّجل الطويل وهمس في أذن صاحبه: عن أيّ سَلَف يتحدث هذا القنفذ؟! أأقول له مَن نحن؟
ردّ صاحبه هامساً: كلاّ. أرجوك. ربّما ستحيق بنا الكارثة حقّاً إذا تفوّهت بهذا. دعنا نغادر هذا المكان بأسرع ما نستطيع. كفانا ما لقيناه من عَنَت حتّي هذه اللحظة.
ودون أدني التفاته نحو الرّجل المكوّر، قام عمربن الخطّاب وعلي بن أبي طالب .. وتوجّها بخطي حثيثة نحو باب الحديقة!
قَها .. قَها!
منذ ثلاثة أعوام تقريباً، تبدّي أوّل وآخر مظهر للإصلاح الدّاخلي في سوريا، من خلال الترخيص بإصدار جريدة (الدّومري) الساخرة المستقلة، بقرار خاص من رئيس الجمهورية المنتخب بالوراثة.
و (الدومري) كلمة شاعت في العهد العثماني، وكانت تطلق علي الشخص المكلّف بإيقاد مصابيح الشوارع .. ولعلّ رسام الكاريكاتير المعروف (علي فرزات) ورفاقه المشاركين معه في إصدار الجريدة قد اختاروا هذا العنوان للدّلالة علي إشاعة نور الوعي والنقد الصّريح بين الناس، إضافة إلي إعادة الضوء إلي هذا النوع المنقرض من المطبوعات التي تختلف تماماً عن مطبوعات الزّي الموحّد الرسمية.
لكنّ هذا (الدومري) نفسه قد تمّ إطفاؤه في بدء شروعه بإشعال المصابيح. إذ سُحبت رخصته في زمن الإصلاح السعيد، قبل إتمام سنته الثالثة في الوظيفة، علي الرّغم من أنّه كان يؤدّي هذه الوظيفة وهو يمشي علي حبل مشدود. وكانت التهمة الموجّهة للمطبوعة هي أنّها قد خالفت (قانون المطبوعات) .. وهي تهمة لا تعني في التّفسير النهائي إلاّ أنّ المطبوعة قد خالفت قانون التَّعتيم!
غلطة (الدّومري) هي أنّه لم يدرك أنّ مهنته قد ولّت مع أهلها، وأنّ أنظمة الحداثة عندنا لم تعد تعترف علي الإطلاق إلاّ بالإضاءة الحديثة، وهي إضاءة لا تستطيع صنعها أو التفنّن في إشاعتها إلاّ صواريخ الغزو الأمريكي!
ومع ذلك، فإنّ لدينا ما يواسيه .. فإذا كان هذا (الدّومري) لا يزال حيّاً، وإذا كان يملك شمعة لكي يوقدها (بدلاً من أن يلعن الظلام المديد) .. فإنه سيستطيع أن يقرأ في ضوئها خبر بكاء شقيقته المصرية (اضحك للدّنيا).. فيضحك من أعماقه، شاكراً ربّه علي حسن الحظّ الذي أمهله حتّي يُضيء أكثر من مائة مصباح (هي أعداد الدومري التي صدرت) قبل أن تُطفئه ظلمة الإصلاح الداخلي الباهرة .. في حين أن صحيفة (اضحك للدّنيا) التي صدر عددها الأول في مطلع ربيع هذا العام، قد ماتت بالسكتة القلميّة في نفس الرّبيع والجوّ البديع. إذ قررّت إدارة الرّقابة علي المطبوعات إعدام جميع نسخ العدد الثاني وهو في المطبعة.
وقيل إنّ سبب (الإعدام) هو أنّ الصحيفة نشرت تحقيقاً حول تشابه الأسماء بين بعض المواطنين المصريين البسطاء والرئيس المصري ونجله، وهو تحقيق رجع مُعدّهُ إلي (دليل الهاتف) ليجد أنّ هناك موظفاً بسيطاً وبائع خبز يحملان اسم نجل الرئيس جمال مبارك (رضي اللّه عنهما) !
ينبغي القول، في السّياق، انّ هذا التحقيق ليس أصليّ المنشأ، بل هو منسوخ حرفيّاً (كعادتنا في كلّ شيء) من تحقيق تلفزيوني مماثل قام به الصحفي البريطاني (نيك نايجل) قبل عدّة أشهر، وقد سبق لي في حينه أن استعرضت تفاصيله الطريفة في مقالة بعنوان (أصل وصورة) ضمّنتها عاصفة (نايجل) الصحفية التي لم توفّر رئيساً أو أميراً أو خفيراً .. غير أنّ النّاس في بريطانيا -بمختلف طبقاتهم- قد استقبلوا تلك العاصفة بعاصفة من الضحك، وذلك لأنّ البريطانيين -وياللغرابة- ينظرون إلي الأشخاص البارزين، مهما علت مقاماتهم، باعتبارهم بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، لا باعتبارهم آلهة، مثلما تنظر إليهم عندنا أحزاب السّلف الصّالح أو أنظمة الخلف الطّالح!
أتذكّر نكتة جرت علي لسان الفنّان الراحل (يوسف وهبي) في أحد الأفلام، عن مسافر نسي اسم المحطّة التي يريد الوصول إليها، وبعد أن فرك رأسه مفكراً استطاع أن يقول لرفيقه في السّفر: (هيّ زي ما بتكون نصّ ضحكة) .
فردّ عليه رفيقه: (قصدك تقول محطّة .. قها) !
وما دام الضّحك للدنيا 0بمقاييس الإصلاح الداخلي -لا يعني سوي عدد واحد، فإنني أقترح علي ناشر الصحيفة السيّد عادل المصري، أن يتواضع فيسمّيها (قها) .. وحَسْبُه أنّ نصف الضّحكة أفضل كثيراً من الحسرة الكاملة!
ترام بجنيهين!
نضحك كثيراً من طرفة القروي المصري الذي اشتري الترام، ونعجب كثيراً من فرط حمقه وغفلته. ومشكلة هذا الكروي هي أنّه وُجد في بيئة ووقت يساعدان بغلظتهما علي تجريده من نقوده وعقله ..
لكن لو أن خللاً بسيطاً اعتري حركة الزمان والمكان، فألقي بهذا الكروي في الريف البريطاني خلال ثلاثينات القرن الماضي، لأمكنه، بكلّ بساطة، أن يشتري ذلك الترام، بل لأمكنه، فوق ذلك، ان يشتريه بجنيهين لا أكثر!
نعم. ليس في الأمر أيّة مبالغة .. أو هذا في الأقل ما يؤكده لنا الكاتب البريطاني (وليم نيوتن) في روايته الجميلة (ترام بجنيهين) !
ما نعرفه عن (وليم نيوتين) هو أنّه طبيب متقاعد من (أكسفورد شاير) ، وأنّ هذه هي روايته الأولي التي نال بها عند صدورها قبل عامين، جائزة (ساجترياس) التي تمنح لأوّل عمل روائي لمؤلف فوق الستّين.
لكن لأنّ بطل الرّواية الذي يتولّي سرد أحداثها ينتهي إلي أن يكون طبيباً، فإنّ (نيوتن) يتوصّل إلي إثارة شكّنا في أنّه هو البطل، وأنّ تلك الأحداث لا تعدو كونها ذكرياته الخاصّة عن مرحلتي الطفولة والصّبا .. فعلي الرّغم من احتواء الرّواية علي وقائع تبدو غير مألوفة، فإنّ الحميميّة والصدق والبساطة في السّرد، تنبيء بأنها في جوهرها حكايته الشخصية التي سكنت أعماقه طيلة العمر، وأنّه قرّر، بعد اختمارها، أن يطرحها كتعويذة في وجه الشيخوخة، وأن يقيم بواسطتها معادلاً نفسياً بين عالم العشرينات والثلاثينات الذي عاشه بكلّ بساطته وبراءته، وبين عالم المتغيّرات الفظّ الذي يحياه اليوم.
تتحدث الرواية عن شقيقين من الرّيف البريطاني هما (ويلفريد) و (دانكن) ولدا في العشرينات وترعرعا في الثلاثينات، في كنف والدين لم تكن صلتهما بهما تتعدّي مشاركتهما الطعام في بعض الأحيان، في حين كانا يقضيان معظم أوقاتهما، بعد المدرسة، في التجوّل خلال الحقول لاصطياد الطيور والحيوانات البريّة، أو لاصطياد الفراشات من أجل تحنيطها.
وفي أثناء ممارستهما لهوايتهما الأخيرة، يسوقهما الجري وراء فراشة نادرة إلي اجتياز ممتلكات ثريّ ألماني مقيم في الجوار هرباً من النّازي، فيقبض عليهما مدبّر المنزل، ويحاولان جاهدين إقناع ذلك الثريّ بأنّهما جامعا فراشات وليسا لصّين.
وتنتهي المشكلة بعد ان يهدياه الفراشة النادرة، حين يعلمان أنّه جامع فراشات محترف وأنّ له اتصّالات دوليّة في هذا المجال .. فتنشأ بينه وبينهما صداقة متينة تكون ملاذاً لهما في سنوات محنتهما التي تبدأ في أوّل بلوغهما، إذ يضطرب عالمهما الهاديء المعهود باختفاء أمّهما من حياتهما فجأة والي الأبد، بعد انفصالها عن أبيهما الذي يكدّر أيّامهما، بعدها، بسلسلة من النساء القاسيات، ثم ينتهي في واحدة من ثورات غضبه إلي طردهما نهائياً من المنزل.
وممّا زاد في قسوة تشردهما المبكّر أنّ الأخ الأكبر (دانكن) الذي كان قد أصيب بالتهاب السّحايا ونجا منه بأعجوبة، لم يعد بعد شفائه قادراً علي النطق، الأمر الذي اضطّر الأخوين إلي اختراع لغة خاصة يتفاهمان بها بواسطة الإشارات.
منذ بدء الرّواية نعلم أن الأخوين كان يحتفظان بقصاصة إعلان اقتطعاها من إحدي الصحف، تحتوي علي صورة ترام قديم خارج الخدمة، معروض للبيع، في محطّة بادنغتون، بجنيهين استرلينيين.
وقدكان هذا الإعلان حلمهما الذي يتعلقان به في ساعات النوم واليقظة، ويدّخران من أجله كلّ بنس ينالانه، حتّي تجمّع لهما، بعد طول توفير، جنيهان وبضعة شلنات.
وفي اللحظة التي طردا فيها من المنزل، انطلقا نحو الحلم، قاطعين عشرات الأميال من مقاطعة ساسكس إلي محطة بادنغتون في لندن، سيراً علي الأقدام.
وعند وصولهما وجدا الترام المعروض في الإعلان، رابضاً ضمن مجموعة أخري من العربات القديمة، لكنهما اكتشفا حالاً أنّ من المستحيل نقله من مكانه، لأنّ الأمر يحتاج إلي سكّة والي شريط كهربائي .. فقنعا بالاستعاضة عنه بترام آخر من جيل سابق ممّا تجره الخيول علي عجلات فوق كلّ الطرق، وبالشلنات الباقية استطاعا ان يشتريا حصاناً عجوزاً، فربطاه بالعربة وعادا إلي مقاطعتهما عبر خطوط الترام القديمة المهملة .. ليتخّذا من الترام مركبةً ومصدر رزق ومأوي لهما.
ذلك ليس كلّ الحكاية، بل هو في الحقيقة بداية فصول تتلاطم فيها المغامرات العجيبة والحوادث المضحكة المبكية في عالم يصفه المؤلف بأنّه (عالم قد صار إلي زوال) .. لكنه برغم زواله يبدو حاضراً وحيّاً وبهيّاً بكلّ تفاصيله التي قد يصعب تصديق بعضها، لكنّها تظلّ قابلة للتصّديق بفعل براعة القصّ التي تطّرز الوقائع بتخييل قادر علي لجم أيّ تكذيب.
وسواء أكانت الرّواية ذكريات حقيقية أم خيالاً محضاً، فإن مؤلّفها الستيني (وليم نيوتن) يرسل إلينا من خلالها إشارة مهمّة مفادها أنّ التقاعد عن العمل لا يعني التقاعد عن الحياة، وأنّ لدي كلّ إنسان قصّة والسعيد هو من يستطيع أن يرويها، وأنّ مراحل العمر علي اختلافها صالحة لتحقيق رغبات الذّات العميقة، إذا ترك المرء وراء ظهره كلّ احتمالات الإخفاق، ومضي إلي هدفه بعزيمة وجدّ، مؤمناً من كلّ قلبه بأنّ شراء الترام ليس من الحتم أن يكون نكتة دائماً، بل يمكن، مع بذل الجهد، أن يكون رواية ممتازة.
مَشارط وأقلام
هناك مشهدان مستقران في نفسي للعلاقة بين الطبيب والمريض، رسمهما كاتبان خلال سردهما لتجاربهما العملية الأولي في العقد الثاني من القرن العشرين، عندما وضعتهما الظروف كشاهدين علي تلك العلاقة.
وعلي الرّغم من أنّ الكاتبين لم يكونا غير شاهدَين محايدين لا يملكان سوي نظرة العين وخفقة القلب الحسّاس، فإنّهما بتسجيلهما للمشهدين قد أثبتا أنّ قلم الكاتب أقوي أثراً من مشرط الطبيب، وأنّ لشهادتهما المجرّدة حكماً أمضي من كلّ أحكام القضاء، وأبقي من عمر الكاتب والطبيب والمريض علي السّواء.
يروي الأديب العظيم (يحيي حقّي) رحمه اللَّه، في كتابه (خلّيها علي اللَّه) تجربة لقائه، خلال فترة عمله كوكيل إدارة في الأرياف، بطبيب مركز كان كلّ همّه الإثراء العاجل بأيّ ثمن .. فيقول:
(لا تبرح ذهني ذكري جلسة لي مع هذا الطبيب فوق مقعدين علي الجسر عند القرية، ننتظر إصلاح السّيارة. تلفّنا ليلة غطيسة غابت نجومها .. وجري بيننا -دفعاً للانقباض- سمر لذيذ، تتخلّله الضحكات العالية، ثم إذا بأذني تسمع من تحت الجسر صوتاً خفيضاً يهمس بتوسّل ذليل:
- يا دكتور، سايق عليك النبي، أنا في عرضك إعمل معروف ..
قطع الدكتور كلامه لي والتفت الي مصدر الصوت -وأنا لا أري صاحبه- وصرخ:
- هات الرّيال وتعال ..
- ما عنديش الليلة دي، ما احكمش علي قرش واحد، من فضلك وإحسانك .. أنا تعبان بالحيل .. حاتفرتك.
- ذنبك علي جنبك.
سألت الدكتور عن الذي يطلبه منه الرّجل، والعجيب أنّه أجابني بلا خجل وهو يضحك .. انّه فلاّح عنده حصوة في المثانة، تتحرّك أحياناً فتمنعه من التبوّل، فإذا حدث له هذا جري اليه في المركز فسلك له مجري البول بالقسطرة لقاء ريال كلّ مرة.
- والقسطرة مش معاك دلوقتي؟
- أيوه ..
- وفيها إيه لو تريّحه، حرام عليك.
- سيبه ده ابن كلب، الرّيال أحسن من عينه.
وقمنا الي السّيارة ولا يزال الشبح تحت الجسر ينادي:
- يا دكتور سايق عليك النبي، أنا ح اتفرتك)! وفي الفترة ذاتها علي الجانب الآخر من المحيط، كانت هناك تجربة أخري جمعت الرّوائي الأمريكي الشهير (أرسكين كالدويل) صاحب (طريق التّبغ) بطبيب محلّي من الجنوب، وهو يرويها عرضاً في كتاب سيرته المهنية ككاتب (سَمّها خبرة) . يقول كالدويل:
(في فترة مبكرّة من صيف 1919 بدأت أقوم بجولات يوميّة خلال الأرياف، بصحبة طبيب محلّي، كان مرضاه منتشرين في أماكن متباعدة قد تفصل الواحد منهم والآخر عدّة أميال.
كانت مهمّتي هي أن أقود السيّارة دون مقابل، ودون أن أتقاضي حتي تكاليف الإصلاحات الصغيرة التي كانت تحتاجها السيّارة. كما لم أكن أتوقّع أيّة مكافأة من وراء ذلك، فقد كان محلّ اهتمامي منحصراً في رؤية كيف يعيش النّاس في الأرياف، وقد كنت سعيداً بأن تُتاح لي فرصة كهذه.
في بعض المرّات كان الطبيب يتنقّل بين بيوت المرضي طول اللّيل، وكان ينام نوماً عميقاً خلال انشغالي بتبديل إحدي العجلات المعطوبة، أو في أثناء قيادتي للسيّارة من منزل الي آخر.
ولم يكن ذلك الطبيب ليميّز بين أولئك الذين يستطيعون دفع ثمن خدمته أو أولئك الذين لا يستطيعون. فإضافة إلي عدم تقاضيه أجراً عن فحص المرضي المعوزين، كان كثيراً ما يوفّر لهم الأدوية الضرورية كذلك، وغالباً ما رأيته يضع دولاراً أو دولارين علي كرسي أو منضدة قبل أن يغادر بيتاً من بيوت هؤلاء)!.
وبعيداً عن هذين المشهدين المتنافرين لوقوف الكاتب بين الطبيب والمريض، تلوح في الذهن ذكري لقاء آخر بين هذه الأطراف الثلاثة، تم في فترة سابقة قليلاً علي اللقاءين السّالفين، في صقيع بعيد من أصقاع شرق أوروبا.
المفارقة في هذا اللقاء هي أنّ جميع أطرافه كانوا شخصاً واحداً، وأنّ كل طرف منهم كان شديد الحسّاسية!
فالكاتب، في هذا المشهد، إنسان عظيم الموهبة بالغ النّبل، يُجري الكلمات علي الورق لحناً إنسانياً خالد الأثر في جميع النّاس قرّاءً وكتّاباً .. والطبيب كذلك إنسان كبير القلب فائض الرّقة، يُطفيء صحته من أجل رعاية مرضاه، وغالباً ما يأخذ سمت ذلك الطبيب الأمريكي في تجربة (كالدويل) .
أمّا المريض فهو إنسان رقيق جداً وحسّاس جداً، وعلي معرفة دقيقة بتفاصيل مرضه، ولعلّه لذلك لم يستطع مقاومة المرض، الأمر الذي جعله يرحل شهيداً، ويجرّ معه الي بارئه الكاتب الشاهد والطبيب المشهود!
وربّما بسبب من هذا التوحّد، لم يستطع القلم في هذه الحالة أن يكتب شهادته علي المشرط والعلّة. لكن آثار الفيض الإنساني لكلّ هذه الأطراف الموحَّدة جعلت الكثيرين، في مشارق الأرض ومغاربها، يتطوّعون لكتابة هذه الشهادة في صفحات لا انقطاع لها ملؤها الحبّ والتقدير.
إنّه الكاتب الروسي الفذّ (أنطون تشيخوف) .
ولو في الصّين ... !
هناك، بعيداً، في أقاصي شرقنا السّارب في سعادته اللاّنهائية .. فوجئت بحضوره دون أن أطلبه أو أتمنّاه أو أتوقعّه.
كنت بعد فراغي من قراءة كتاب (بجعات بريّة) للكاتبة الصينية (يونغ تشانغ) الذي تناول محنة ثلاثة أجيال من أسرتها، وبعده كتب (آنتشي مين) الخمسة التي تناولت أحوال الصين منذ غروب امبراطورية أبناء السّماء حتي قيام امبراطورية أولاد الشوارع .. قد بدأتُ، بإصرار، رحلة جديدة إلي ربوع الأوجاع المركّبة، عبر كتاب (ورقة في الرّيح القارسة) للكاتبة (تنغ- هسنغ يي) .
ولم يكن يدفعني إلي استطلاع كُلّ هذه العذابات الصينيّة إلاّ الطمع في العثور علي السلوي، تبعاً للمأثور القائل بأنّ مَن رأي مصائب غيره هانت مصيبته.
ومع أنّ مصيبتي لم تهن - لا في عهد سلالة الهان ولا في عهد رفاق الهوان - فإنني كنت أواسي النفس، خلال رحلتي المؤلمة، بأننّي لا أري في ما أري إلاّ مآتم الغرباء، وحسبي من ذلك أن أتشاغل، ولو إلي حين، عن مآتمي الشخصيّة التي عشت عمري كُلّه وأنا أراها منصوبة في طول وعرض (بلاد العُرب أوطاني) بفضل عدد من قُطّاع الطرق الأميّين المدجّجين بالنياشين والأوسمة!
غير أنني لم أنعم حتي بهذه المواساة المصطنعة التي وطّنت نفسي علي إغماض عينيّ وبلعها .. إذ أنني وجدته أمامي، بكلّ حصافته ولطفه وثقافته ولياقته، وقدرته الهائلة علي إشعاري بالخجل من نفسي، وبأثر رجعي، لا لشيء إلاّ لانتسابي إلي الأرض نفسها التي ابتليت به وبأمثاله.
ولأنّ (السَّيّءَ بالسَّيّءَ) يُذكر، دعني أقل أوّلاً إنّ مآسي المواطنين الصّينيين في عهد ماوتسي تونغ، لا يمكن حصرها في كتاب واحد، فعلي الرّغم من تشابه سِيَر هؤلاء المواطنين، فإنّ باستطاعة المرء أن يعثر في تجربة كُلًّ منهم علي مشاهد جديدة توسّع الجرح وتعمّق الألم. وذلك بالضبط ما وجدته في كتاب (تنغ- هسنغ يي) ، برغم أنّ تخمتي بالآلام التي صبّتها (يونغ تشانغ) و (آنتشي مين) في نفسي قد جعلتني أعتقد أنني قد أحطت بالمأساة الصينية كلّها ولم أعد بحاجة إلي مزيد.
لن أستعرض هذا الكتاب، لأنني إذا شئت ذلك فسأحتاج إلي تأليف كتاب جديد، لكنّني سأكتفي بعبرة ونموذج .. فأمّا العبرة فهي أنّ ما نلقاه من عنت وعذاب تحت أيدي قطّاع طرق الإصلاح الداخلي عندنا هو ليس إلاّ ترجمات عربية رديئة، مزيدة أحياناً، ومكبّرة أحياناً أخري، وغير منقحّة دائماً، للنسخة الصينية المترجمة بدورها عن أسوأ نسخ الشموليات البغيضة في الشرق أو في الغرب.
وأمّا النموذج فهو ظاهرة هيام الطغاة بالألوان، علي الرّغم من كونهم أبناء الظلام وحارسيه!
في تجربة الصين المُرّة، قام اللّون الأحمر بديلاً لبوذا، وانتصب الكتاب الأحمر بديلاً لكونفوشيوس. الأحمر هو اللّون المقدّس الذي انتظم أسماء البشر، والمعاني، والمباني، وجميع المناسبات.
وبأثر من هذا الولع المرَضَي الخارج علي المنطق والذّوق، نجد أنّ بعض القادة العقائديين جداً في صين ماو، قد اقترحوا بحماسة ثوريّة منقطعة النظير، تصحيح عمل إشارات المرور، لتستقيم وفق النهج الثوري، وذلك بجعل اللّون الأحمر إشارة للانطلاق، واللّون الأخضر اشارة للتوقّف، علي نقيض ما يجري في جميع أنحاء العالم!
ولأعد، الآن، إلي ذكر البلاء الذي فاجأني بطلَّته فيما كنت أحاول التشاغل عنه بمواجهة بلاء الآخرين: لقد انتهت (تنغ- هسنغ يي) في أواخر تجربتها المريرة، إلي العمل مترجمة للوفود الرسميّة الزّائرة للصين. وهو عمل كانت تقوم به تحت سطوة رقباء عليهم هم أيضاً رقباء لا يغفلون!
تروي الكاتبة بعض وقائع مرافقتها لمسؤولين أجانب كبار، وشخصيات ملكيّة من الشرق والغرب، فتدهشنا بذكر بساطة هؤلاء النّاس وعفويتهم وتواضعهم، وتميّز زياراتهم باللّطف والهدوء، وانصرافهم كمقدمهم مثل نسمات عذبة.
ومن أمثلة ذلك أنّ ملكة إسبانيا شكرت كاتب مخزن لأنّه لفت نظرها إلي تنسيل في جواربها، وأنّ السيدة شولتز. زوجة وزير خارجية أمريكا كانت امرأة لطيفة وودودة، وأنّ إيد كوغ عمدة نيويورك، لم يتورّع عن مغافلة حرّاسه، ليجرّب كنس أحد شوارع شنغهاي بمكنسة من صنع صيني، لتجربتها من أجل عقد صفقة لشراء عدد منها لمدينته!
لكنّ الكاتبة - سامحها اللّه- لا تلبث أن تنصرف عن هذا كلّه، لتوجّه صفعة عنيفة إلي وجهي.
تقول: (أمّا القائد اللّيبي العقيد القذّافي، فقد كان يمثّل نوعاً آخر من المشاكل .. كنت أتطلّع إلي رؤية رجل سمعت عنه كثيراً، ووصفته البلدان الغربية بأنّه مجنون، بينما اعتبرته الصّين صديقاً عظيماً (قرين الشيء منجذب إليه) .. ففي خريف 1982 تلقّي ترحيباً حارّاً عندما زار بكّين. وقبل عودته إلي ليبيا أقيمت وليمة كبري علي شرفه في شنغهاي بدعوة من عمدة المدينة. وعندما وصلت إلي قاعة الولائم علمت أنّ القذّافي رفض الحضور. كان غير راضٍ عن المحادثات في بكّين. وكان رفضه حالة غير مسبوقة في خرق البروتوكول .. وقد حاول أناس مختلفون ثنيه عن قراره، ففشل الجميع، واختصر القذّافي زيارته وغادر في اليوم التالي، وفي المطار كان جلّ ما رأيت منه هو حركة عباءته السوداء الملتفّة وهو يركب الطائرة)!
أمّا عن خرقه البروتوكول فذلك أمر لا يدهشني، لأنني وجميع العرب الكرام نعلم أنّه من أصحاب السوابق واللواحق في خرق كلّ شيء .. لكنني أتساءل عمّا جري حقّاً في محادثاته مع المسؤولين الصينيين في بكين، حتّي بلغ به الأمر هذا الحدّ من عدم الرّضا، ولا أستطيع منع نفسي من التفكير في مسألة الألوان .. فهل يكون قد نمي إلي علمه تفكير القيادة الصّينية بالإصلاح الدّاخلي لإشارات المرور، فشعر من جرّاء ذلك بالإهانة الشاملة التي تنسف كلّ المكاسب الثوريّة التي بذل الغالي والنفيس من أجل أن يحيا اللّيبيون في نعمها الخضراء .. من الثورة إلي السّاحة إلي الزّحف إلي الكتاب إلي تفسيرات الكتاب؟!
كلّ شيء في ليبيا كان ولا يزال أخضر .. إلاّ ليبيا، وسبب ذلك بالتأكيد هو أنّ حظّها العاثر الذي جعلها من مكاسبه، لم يجعله في يوم من الأيّام واحداً من مكاسبها!
للكتب أرواح!
في صباي المبكر كان يداخلني دائماً إحساس غريب ولذيذ بأن الكتب مُدنٌُ حية حافلة بأنواع الأماكن وأصناف الناس، وكنت أتخيل أن انطباق أغلفتها لا يوقف علي الإطلاق ما فيها من ضجة الأصوات وحركة الناس والمركبات، أوإيناع النبات وذبوله، بل أن الأغلفة لا تعدو كونها أبواباً تخفت بإغلاقها الضجة وتختفي من ورائها الصور.
كان الأمر بالنسبة لي سراً شخصياً، إذ كنت من خلال الحروف السوداء الصماء أري الصور بكل الألوان، وأسمع الأصوات بكل النبرات. لكنني، في الوقت نفسه، كنت أضمر أن كل قاريء شغف ربما كان ينطوي هو أيضاً علي سره الشخصي المماثل، لكنه يري ألوانه الخاصة ويسمع أصواته المميزة.
وقد صدق اعتقادي هذا بعد أعوام طويلة، عندما قرأت كلمات لأحد النقاد، علق فيها علي أول فيلم للأطفال مأخوذ من قصص المغامرات المصورة التي برع بانجازها الرسام البلجيكي العبقري هيرجيه وجعل بطلها صحفياً شاباً اسمه تان تان .. وهي القصص التي قرأتها بكاملها في صباي وأوائل شبابي، ومازلت إلي اليوم أعود إليها بين الحين والآخر بدافع الحنين.
أتذكر مما ورد في تعليق ذلك الناقد أن أحد الأطفال الذين شاهدوا الفيلم، خرج من صالة العرض متعلقاً بيد أبيه، وقد بدا ساهماً وحزيناً وممتلئاً بالخيبة.
وعندما سأله أبوه عن سبب حزنه قال: لقد خُدعنا .. إن صوت ذلك الشخص في الفيلم لا يشبه صوت تان تان!
واختتم الناقد تعليقه بالقول: إنه إذا لم يكن هيرجيه قدحظي بأي نوع من التقدير علي أعماله، فإن كلام هذا الصغير هو جائزته الكبري التي تغنيه عن كل جوائز التقدير وكلمات الثناء .. لأنه بخطوط ريشته وبكلماته المكتوبة قد استطاع أن يسمع ذلك الصغير صوت شخصيته القصصية!
الواقع أن شخصيات الكتب ليست وحدها التي تبدو حية للقاريء الولوع، بل إن الكتب بحد ذاتها تبدو للمتعلقين بها كائنات حية يستمدون منها الحياة، بالقدر الذي يمدونها فيه بالحياة.
ولعل أصدق تعبير وأدق تصوير لهذه الحالة هو ما نجده في مفتتح رواية ظل الريح للكاتب الاسباني كارلوس رويث ثافون الذي يضع علي لسان الراوي حديثاً عن كيفية عثوره علي نص تلك الرواية، يخبرنا فيه أنه في طفولته عاش مع أبيه بعد وفاة أمه في شقة تعلو محلاً لبيع الكتب المستعملة يملكه الأب .. وعند بلوغه العاشرة أخذه أبوه ذات يوم، قبل بزوغ الفجر، لزيارة مكان خاص، من أجل أن يضع خطواته الأولي علي طريق وراثته
في المهنة، قائلاً له: إنه يريد أن يريه مقبرة الكتب المنسية .. وبعد مسيرة طويلة عبر دروب وأزقة ضيقة، يقفان أمام باب خشبي ضخم منحوت، فيقرع الأب الباب ويفتح له .. وما يكادان يعبران ممراً فخماً ومديداً حتي يفاجأ الطفل بوصولهما إلي باحة واسعة تطرزها الممرات، وتنعقد علي جدرانها العالية رفوف طويلة غاصة بالكتب ترتفع حتي تلامس السقوف البعيدة جداً.
عندئذ يبتسم الأب قائلاً لولده: أهلاً بك يا دانيال في مقبرة الكتب المنسية.
ثم يبدأ في تلقينه ما تعلمه هو نفسه من أبيه، موضحاً له أن هذا المكان هو موضع الأسرار، وهو علي ذلك موضع مقدس: إن كل كتاب تراه هنا له روح .. هي روح الشخص الذي كتبه، ومعها أرواح أولئك الذين قرؤوه وعاشوا معه وحلموا به .. وفي كل مرة تتبادل فيها الأيدي كتاباً، أو تجري فوق صفحاته نظرات شخص ما، فإن روح الكتاب تزداد نمواً وقوة.
ويضيف إلي ذلك قائلاً: سأخبرك بما أخبرني به أبي: عندما تختفي مكتبة عامة، أو يُغلق محل كتب، وعندما يودع كتاب في مخزن ما ليطويه النسيان، فإننا نحن الذين نعرف هذا المكان- نحن رعاته وحراسه- علينا واجب التأكد من أن تلك الكتب سوف تنتهي إلي هنا.
في هذا المكان كتب لم تعد في ذاكرة أحد، وكتب فقدت مع الزمن، تعيش هنا إلي الأبد في انتظار اليوم الذي تصل فيه إلي أيدي قراء جدد.
وينبهه إلي حقيقة مهمة، تغرب برغم بساطتها عن أذهان جميع الناس: إننا في المكتبة نبيع الكتب ونشتريها، لكن الحقيقة هي أن الكتب لا مالك لها. فكل كتاب هنا كان ذات يوم أفضل صديق لشخص ما، لكنها، الآن، ليس لها سوانا .. أتعرف ما أفضل شيء نصنعه بها؟ طبقاً للتقاليد فإن أي شخص يزور هذا المكان لأول مرة، عليه أن يختار كتاباً ثم يتبناه، وأن يكون واثقاً من قدرته علي حمايته من الاختفاء، فذلك ما سيبقيه حياً. إنه تعهد في غاية الأهمية ينبغي للمرء أن يلتزم به مدي الحياة .. وعليك اليوم أن تؤدي هذا الدور.
وعن سعيه لتأدية دوره الذي قد حان، يقول الراوي: أخذت أتجول بين تلال الكتب المرصوفة بحثاً عن كتاب أتبناه أو يتبناني، فيما كان الناس خارج جدران هذا المكان يسمحون للحياة بأن تتبدد عبر مشاهدة مباريات كرة القدم أو الاستماع إلي التمثيليات الإذاعية، وهم لا يفعلون شيئاً سوي التحديق إلي مواضع حبل السرة في بطونهم!
وبعد نصف ساعة من التجوال، ظهر لي العنوان بالأحرف المذهبة: ظل الريح .. بقلم جوليان كاركاس .. ولم أكن قد سمعت بهذا العنوان ولا بمؤلفه من قبل، لكنني لم أهتم، فقد اتخذت قراري وأنزلت الكتاب بكل عناية وحذر، وحالما حررته من سجن الرف ومن سحابة الغبار، شعرت بالغبطة لاختياري، فوضعته تحت ذراعي وانقلبت علي أعقابي خلال ممرات المكتبة والابتسامة تعلو شفتي .. لقد كنت واثقاً من أن ظل الريح كان ينتظرني هنا منذ أعوام، ومن المحتمل أنه كان ينتظرني من قبل أن أولد!
إن ما مر بنا في مفتتح رواية كارلوس ثافون، ينتهك في أذهاننا غشاوة العادة التي فرضت علينا رؤية الكتاب باعتباره مجرد ورق و حبر، وينقل إلينا عدوي اليقين بأن الكتاب كائن حي يعيش حراً برغم تعدد مالكيه، وأنه معرض للنسيان أو المرض أو الموت، وأنه قابل للتبني و الرعاية والحماية.
قد يبدو هذا مجرد خيال، أو لعباً في ساحة المجازات، لكن تجربة الكاتبة البريطانية مارغريت فورستر خلال كتابتها لسيرة دافني دومورييه مؤلفة الرواية الشهيرة ربيكا .. تضعنا أمام حقائق واقعية مذهلة من هذه الناحية، لا نملك معها سوي التسليم بأن الكتب، علي نحو ما، هي كائنات حية بالفعل!
وتلك حكاية أخري تستحق أن تُروي.
رواية تنعي كاتبتها!
قال بائع الكتب المستعملة لولده الصغير: إن كل كتاب تراه هنا له روح .. هي روح الشخص الذي كتبه وأرواح القراء الذين تداولوه وعاشوا معه وحلموا به.
ذلك ما ورد في مفتتح رواية ظل الريح للاسباني كارلوس ثافون .. ومثل هذا التعبير عن أرواح الكتب كثيراً ما يلوح لنا علي صفحات العديد من المؤلفات، وعلي ألسنة العديد من المشتغلين بالكتابة أو القراء المدمنين، ولا ريب أن كل واحد منا، مهما بلغت درجة اقتناعه بصدق التعبير، سيسارع إلي إدخاله في درج المقاربة المجازية، إذ ليس من المعقول أن يبلغ الاقتناع بالمرء حد التصديق، واقعياً، بأن الكتاب كائن حي بالفعل يمكنه مثلاً أن يحمل للآخرين رسالة من صاحبه، أو ينعيه لهم وهو علي فراش الموت مذكراً إياهم بأن الوقت قد حان لتأبينه.
لكن ماذا نقول إذا علمنا أن كتاب ربيكا لدافني دومورييه قد فعل ذلك بالضبط؟!
لنبدأ الحكاية من أولها:
تضمن كتاب حيوان للبيع لمارك بوستريدج، حكاية الكاتبة مارغريت فورستر عن تجربتها في كتابة سيرة دافني دومورييه وهي روائية بريطانية معروفة لها كثير من الأعمال المميزة التي تحول معظمها إلي أفلام سينمائية، مثل: الطيور، نزل جامايكا، بيت علي الشاطيء، ربيكا .. وغيرها.
لكن ربيكا تظل أشهر رواياتها وأبقاها أثراً، وقد نال الفيلم الذي اقتبس منها بالعنوان نفسه وأخرجه الفريد هيتشكوك جائزة الأوسكار كأفضل فيلم لعام 1940.
تقول فورستر إنها في يوم الأحد 16 أبريل 1989 كانت تحاول أن تتناول كتاباً من علي رف المكتبة، عندما سقط كتاب آخر علي الأرض، وحين التقطت ذلك الكتاب وجدت أنه رواية ربيكا .. التي سبق أن قرأتها وهي في نحو الثالثة عشرة من عمرها، ولم تعاود قراءتها بعد ذلك.
وقفت في مكانها، وبدأت تقرأ الرواية من جديد، مستعيدة الإثارة التي اعترتها أثناء قراءتها أول مرة .. ثم وجدت نفسها تتساءل عما إذا كانت دافني دومورييه لاتزال علي قيد الحياة، وما إذا كان هناك أي كتاب سيرة عنها.
ولأن لها تجارب في كتابة السير، فقد رغبت فورستر أن تستطلع هذا الأمر، مؤملة بأن تكون أول من يحظي بإذن كتابة سيرتها لكي يكون لها الحق الحصري بالاطلاع علي كل أوراق الكاتبة.
وفي الحال كتبت بطاقة إلي ناشرة كتبها تبدي لها فيها رغبتها في كتابة سيرة دافني، وتسألها عما إذا كان ذلك سيروق لدار النشر.
في صباح اليوم التالي وضعت البطاقة في البريد، ثم عكفت علي إعادة قراءة أعمال دافني .. وفي يوم الثلاثاء تلقت رداً من الناشرة أبدت فيه ترحيبها بالفكرة، وأنبأتها بأن دافني لاتزال حية، وأنها تعرف وكيل أعمالها، وستتصل به لترتيب الأمر.
تقول مارغريت فورستر:
الصدفة الغريبة هي أن سقوط رواية ربيكا من رف المكتبة بدا كما لو أنه إشارة إلي أن دافني كانت قد بدأت تستعد لموتها!
ففي يوم الأحد 16 أبريل نفسه، عندما استيقظت دافني من النوم قالت إنها تريد أن تذهب إلي الشاطيء حيث كانت ربيكا بطلة الرواية قد واجهت منيتها.
وبالرغم من أن الوقت كان ربيعاً، فإن الطقس كان متوحشاً في ذلك اليوم كما في الرواية، حيث هبت الرياح هوجاء، وهطل المطر بغزارة وشدة.
وقفت دافني هناك لفترة تحدق في البحر كشاخص تراجيدي ضئيل وصامت، ثم عادت لزيارة عدد من الصديقات من أجل توديعهن.
وفي اليوم نفسه الذي و صلتها فيه بطاقة الناشرة، تلقت فورستر اتصالين من راديو 4 وصحيفة صاندي تايمز يطلبان منها فيهما كتابة نعي لدافني دمورييه التي ماتت للتو!
تلك ثلاث مصادفت غريبة تتصل بنفس الروائية منذ سقطت روايتها من علي الرف .. وبفورستر التي فكرت بكتابة سيرتها!
تقول فورستر: لم أكن، بالطبع، أعرف أي شيء عن هذا، عندما طلبت أن أكون الكاتبة المخولة لسيرة دافني، لكنني أحببت الاحساس بأن القدر قد تدخل، بطريقة ما، في هذا الأمر .. فاحتفظت ببطاقة الناشرة بطوابعها المؤرخة بوضوح، وذلك خوفاً من أن يداخلني الاعتقاد بأنني أنا من اختلقت هذه البداية.
بعد أربعة أعوام، حين نشرت سيرة دافني كان علي مارغريت فورستر أن تهيئ نفسها للظهور في المناسبات الخاصة بترويج الكتاب. وقد حملها ذلك علي أن تتجول بين المحلات لشراء ثياب جديدة لارتدائها في زياراتها لتسع مدن كان مقرراً أن تتحدث فيها عن كتابها.
وبعد جولة طويلة علي محلات الألبسة وقع اختيارها علي سترة أعجبتها لكنها لم تكن تحمل بطاقة توضح ثمنها، فتوجهت فورستر إلي البائعة وسألتها عن الثمن، فقالت لها إنه موجود علي الرقعة الخاصة بالمقاييس وهي داخل جيب السترة، ثم سحبتها من الجيب لكي تريها إياها.
رأت فورستر الثمن علي جانب من الرقعة، لكن الغريب أن الجانب الآخر من الرقعة الخاص باسم مصممة الأزياء، كان يحمل اسم .. ربيكا!
تقول فورستر عن هذه المصادفة المذهلة أنها لاتزال تود الاعتقاد بأنها لم تكن مصادفة إطلاقاً. إن هذا يذكرني بفلسفة الروائي الأمريكي المميز بول أوستر التي تقول بأن أحداث الحياة الواقعية هي ليست إلا سلسلة من المصادفات.
وعلي أساس هذه النظرة، فإن ترادف المصادفات في حكاية فورستر إنما يشكل حقائق واقعية خالصة، الأمر الذي قد يقنعنا بأن للكتب أرواحاً بالفعل!
يا خالق الجرادة!
هناك حكاية شعبية عراقية عن رجل أمّي بليد متبطّل لا يحسن أيّة صنعة وليس له أدني حظّ من المعرفة. وكانت له زوجة اسمها (جرادة) هي علي النقيض منه تماماً، راجحة العقل سريعة الفهم.
ولكي تخرجه من بطالته أشارت (جرادة) علي بعلها بأن يمتهن السّحر وقراءة الطالع، فهي مهنة لا تحتاج إلي كفاءة، إذ ليس عليه سوي أن يجلس في السّوق ويعلن للناس أنّه يطرد الحسد ويشفي الأمراض ويجلب الحظّ بواسطة التمائم. وليس مهّماً إذا كان لا يعرف الكتابة، لأنّ النّاس سُذّج، وأيّة خربشة علي الورق ستبدو لهم طلسماً سريّاً!.
وانصاع البليد لمشورة جرادة فكسب كثيراً من المال، وذاعت شهرته في الآفاق.
ولأنّ الحكايات الشعبية أوسع ذمّة من الأفلام الهندية، فقد تهيّأت للبليد سلسلة من المصادفات التي جعلته يكشف عن خاتم الخليفة الضائع، وعن صندوق مجوهراته المسروق، فأمر له بمنزل جميل وراتب ثابت، وقرّبه، وصار يباهي به بين الأمراء، فرغب أحدهم مرّة في أن يشهد بعض خوارقه، فاستدعاه الخليفة، ولمّا مثل بين يديه مَدّ له قبضته مضمومةً وسأله: (ماذا في يدي؟) .
عندئذ ارتمي البليد علي الأرض منهاراً جزعاً يندب سوء حظّه الّذي أوصله إلي هذا المأزق، وصار يبكي قائلاً: (لقد وقعنا في الفخّ أخيراً يا جرادة) .
وهنا أيضاً يطيب للحكاية أن تمسح الأرض بجميع أفلام الهند، إذ أنّ الخليفة ما أن فتح قبضته حتّي طارت منها جرادة كان يُخفيها!.
وبعد هذه المحنة، طلب البليد من (جرادة) أن تجد له مخرجاً من المآزق الآتية، فأشارت عليه بأن يَدّعي الجنون .. وبهذا تمّ له أن ينعم بالمنزل والما بعيداً عن أيّ خطر.
علي هامش تلك الحكاية، نستعيد حكاية غبيّنا العاطل عن أيّة قيمة، فيبدو لنا أنّ حظّنا العاثر قد وهبه حظّاً لم يحلم به غبي الحكاية الشعبية علي الإطلاق.
غبيّنا هذا تيسّرت له جرادة أمريكية بدينة، تضع وترفع وتبلع ولا تبشع، وكلّ الفرق بينها وبين جرادة الحكاية هو أنّها لم تستند الي سذاجة الناس، لأنها تعلم أنّ بليدها الفذّ ليس سوي نفاية في مقلب زبالة مهد الحضارة الإنسانية، ولذلك فإنها بدلاً من أن تعطيه قلماً ليخربش، وضعت في قبضته مسدّساً، فكان كفيلاً بأن يُحدث أثراً أقوي من جميع طلاسم البشر، ومن كلّ خوارق الجنّ.
في جميع خطبه النحاسيّة، لم يستطع هذا الجاهل أن يقيم جملة مفيدة واحدة. لكنّ عشرات الكتب والأطروحات الجامعية تناولت شرح فكره الثاقب وفلسفته العميقة!.
ولم يخدم هذا البليد الرّعديد يوماً واحداً في الجيش، إذ كان هارباً أبديّاً من التجنيد، لكنّه حمل فجأة أرفع رتبة عسكرية في العالم، توجب علي (رومل) و (مونتغمري) لو قاما من قبريهما أن يؤدّيا له التحيّة!.
وعندما احتاج، مضطرّاً، إلي ارتداء قناع الدّين، لم يكن قادراً علي أداء أبسط مقتضياته، فقد كان يسجد دون ركوع، ويردّد خاشعاً (نريد أن نكون عند حسن ظنّ اللّه) .. أي أنّ هذا الفدم يظنّ أنّ اللّه يظنّ .. وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم!.
بل حتّي عندما تمادي في التدثّر بعباءة الدِّين لكي ينجو من مآزق حمقه، فقرّر أن يكتب بخطّه علي علم البلاد عبارة (اللّه أكبر) .. جعل همزة لفظ الجلاة همزة قطع.
ومع ذلك فقد جاءته وفود القنافذ الإسلاحيين (بإلحاء لا بالميم رجاءً) لتبايعه خليفة للمسلمين، وسُمّي (عبداللّه المؤمن) ، وحمل تسعة وتسعين اسماً لا تنقص عن أسماء الله الحسني. ولم يجرؤ أيّ واحد من أولئك القنافذ الذين يُكفّرون عباد اللّه حتي علي شرب الماء، أن يشير علي خليفته بالرّكوع قبل السجود، أو أن يصحّح له همزة لفظ الجلالة علي العلم، فظلّت همزة القطع كما هي يكرّرها الخطاطون بكل تقديس حتّي بعدما قطع اللّه دابره، وأكرمنا بوصول (غير المحافظين الجدد) إلي سدّة الخلافة!.
هل أضمرت (جرادة) الأمريكية، كعادتها مع سحرتها الآفلين، أن تدعه ينجو؟ وهل فكّرت، من أجل ذلك، في صياغة دعوي جنونه بسلسلة من المضحكات المبكيات؟
كلّ شيء ممكن .. ففي البداية أخرجته من الكنيف بما هو أسوأ من هيئة المجنون.
ثمّ أجّلت محاكمته ما يزيد علي عامين، بدعوي جمع الأدلَة .. وكأنّ النهار يحتاج إلي دليل!.
ثمّ عرضته علينا مربوطاً بالسلاسل، وهو يضحك لحارس المحكمة (نعم يضحك) وكأنّ أحداً يدغدغه!.
ثمّ جاءت إلينا به عارياً إلا من لباسه الدّاخلي (ربّما إكراماً للخصاونة) ، ثمّ لم تلبث أن نشرت أخيراً حديثه إلي سجّانيه وهو يعدهم فيه بدعوتهم إلي القصر عندما يعود إلي السّلطة!.
نحن لا نحتاج إلي كلّ هذا لنعلم أنّه مجنون. نحن لم نعش في عذاب مقيم إلاّ لأننا كنّا نؤمن إيماناً قاطعاً بأنّ تحت قحف رأسه كومة تبن، وإلاّ لأننا أردنا أن يكون عصف جنونه علي أهله وحدهم لا علينا.
وإذا كان غبيّ الحكاية قد نجا بجنونه فهنيئاً له .. لأنّه، فوق كونه خياليّاً، لم يقتل أحداً، ولم يسرق مال أحد، ولم يهتك عرض أحد .. لكنّ مجنوننا هذا قد زرع البلاد كلّها بالمقابر الجماعيّة، حتي أصبحت القبور المفردة المعلومة نوعاً من البدع الدّاعية إلي التعجّب والاستغراب.
وحتّي إذا عددناه كلباً شرساً، فإنّ جميع قوانين السماء والأرض، لا تبيح أبداً الإبقاء علي حياة الكلب المسعور.
في القول العراقي الشائع: (لك بها إرادة يا خالق الجرادة) .. ونحن نحمداللّه علي أنّ (إرادته بها) قد خلّصتنا من صنيعتها الجاهل الأفّاق .. لكن حاشي لها أن تبقيه علي قيد الحياة، لأنّ من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً .. فكيف بمن قتل الناس جميعاً؟!.
العهد الزّاهر!
تناقشت مع المدير، هذا الصباح، حول خرائط المبني الجديد .. لم يعجبه الشكل الهندسي الذي و ضعته للكافتيريا الملحقة بالمبني.
سألني بازدراء: ما هذا؟!
قلت له موضحاً: قدرت أن تصميم الكافتيريا علي شكل شبه منحرف سيوفر في مادة البناء من ناحية، وسيجعلها أكثر حميمية ودفئاً من ناحية أخري. صاح محتجاً: اخرس يا وغد .. لا مكان، في هذا العهد الزاهر، للانحراف أو شبه الانحراف .. إن هذه المباني لا توجد إلا في عهد الاستعمار. اذهب ونظف أفكارك، واحذر أن تلوث الخريطة ثانية بأي شكل من أشكال العمالة والرجعية .. اخرج.
خرجت مكفهراً .. لاحظ رئيس القسم علامات الضيق علي وجهي.
سألني: ماذا حصل؟
قلت له: يبدو أن المدير منحرف المزاج هذا اليوم.
صرخ في وجهي: اخرس يا وغد .. لا تصف المدير بمثل هذا الوصف القبيح .. لقد ولي الانحراف مع عهد الاستعمار البغيض. مديرنا رجل وطني مخلص وأمين. قلت مدافعاً عن نفسي: إنني أصف مزاجه فقط .. لقد عاملني بمنتهي العنف لأتفه سبب.
قال رئيس القسم: بإمكانك، إذن، أن تقول إنه عنيف .. خليق بمدير وطني مثله أن يكون عنيفاً في زمن العنف الثوري.
أستأذنت لمراجعة الطبيب .. طلبت سيارة أجرة، قلت للسائق، وأنا أشير إلي مدخل العمارة التي تقع فيها العيادة:
انحرف إلي اليمين رجاء.
أوقف السائق سيارته فجأة، والتفت إلي معنفاً: أخرس يا وغد .. انني سائق وطني مخلص من زمن الاستقلال. إنني قد أستدير ألف مرة، لكنني لن أنحرف ولو ذقت الموت. لقد ولي زمان الانحراف مع أسيادك المستعمرين. أنزل هنا. لقد لوثت سيارتي.
قطعت المسافة المتبقية سيراً علي قدمي .. وصلت إلي العيادة وأنا ألهث. لبس الطبيب ابتسامته، وسألني: مم تشكو؟
قلت: أشكو من انحراف في الصحة يا دكتور.
نزع الطبيب ابتسامته فوراً، وضرب الطاولة بجمع كفه: اخرس يا وغد .. الصحة لا تنحرف في هذا العهد الزاهر .. الصحة قد تمرض، قد تسوء، قد تنعدم، لكن أن تنحرف فلا وكلا ولن .. لقد ولي الانحراف مع جلاوزة الاستعمار. اخرج من عندي. أنا لا أعالج العملاء أمثالك.
خرجت من العيادة مثقلاً .. مشيت كالنائم. كانت شاحنة مسرعة قد انحرفت عن الخط، واندفعت قاطعة الرصيف في اتجاهي .. قفزت مبتعداً عن طريقها بكل ما أستطيع من سرعة، ونجوت باعجوبة.
خرج بائع الخضار الذي ارتطمت بصناديق دكانه.
سألني بهلع: ماذا حصل؟
فكرت هذه المرة قبل أن أجيب.
قلت له: لقد أستقامت الشاحنة عن الطريق، وكادت تدهسني.
قطب البائع حاجبيه: استقامت عن الطريق؟ ماذا تعني؟!
قلت وأنا أنهض مبتعداً: كما قلت لك .. لا تجرجرني بالكلام. كل شيء مستقيم في هذا العهد الزاهر. الشاحنات لا تنحرف عن طريقها .. افهم هذا جيداً.
صفق البائع بكفيه، ثم رفعهما عالياً:
اللهم اكفنا شر الجنون.
لامسني علي الرصيف المقابل طن من الأصباغ متنكر بهيئة امرأة .. كانت شفتاها تؤرجحان العلكة ببطء واتساع. غمزتني، وشقت حلقها ضاحكة.
تجاهلتها، لكنها لم تتجاهلني .. مشت بإزائي وهي تصفر، ثم لم تلبث أن قرصتني بلطف، وسألتني بلهجة مذيعة فضائية: ما رأي بعض الناس في الحب؟
رددت بسأم: ماذا تريدين مني؟
قهقهت برقاعة وصفعت كتفي: أريدك كلك.
ابتسمت بمرارة: هذه ارادة مكلفة.
قالت: أقبل بأي مبلغ تدفعه.
شعرت بالحرارة تشوي وجهي: ماذا تقولين؟!
قالت: بأي مبلغ.
صرخت بوجهها: أنت عديمة الأدب.
ضحكت بلا مبالاة: هذا صحيح .. أنا منحرفة.
استوقفتها محققاً: ماذا؟
قالت بكل ثقة: أنا منحرفة.
صرخت بكل قوتي: اخرسي يا وغدة .. لا تنطقي بمثل هذا الكلام القبيح. قولي إنك عاهرة .. عاهرة وطنية مخلصة من زمن الاستقلال .. لا توجد عاهرة منحرفة في هذا العهد الزاهر. الانحراف ولي مع الاستعمار.
بالمشمش (1 - 3) (رجل الأمن)
التفت أحدهما فجأة، وصرخ في وجه الرجل الغامض الذي كان يتبعهما:
- مكانك. من أنت؟ وما هدفك من السير وراءنا منذ تركنا المقهي؟
قال الرجل بهدوء وثقة:
- أنا رجل أمن يا سيد. وهدفي واضح جداً. أريد أن أعرف بالضبط ما هي وجهتكما، وماذا تنويان أن تفعلا.
- ما الذي دعاك إلي هذا؟
- أنتما دعوتماني. صوتكما كان خافتاً للغاية. لم أستطع أن أفهم من كلامكما شيئاً. كل ما سمعته منكما هو .. لابد من فعل شيء ما. حسناً. أنا وراءكما لكي أعرف هذا الشيء ألما. أعتقد أني معذور يا سيد. لو لم أتبعكما علي الفور لضحك مني حتي الأطفال.
- معك حق .. في الواقع يا أخ .. نحن لدينا مؤامرة. نريد أن نسقط نظام الحكم بأية طريقة. أرجوك ألا تلاحقنا، فالطريق طويل وسوف تتعب. مكان اجتماعنا مع قادة المجموعة يقع علي أطراف البساتين.
تنهد رجل الأمن:
- أخزي الله شيطانك. أما كان بإمكانكما أن تتحدثا بصوت أكثر ارتفاعاً؟ لو فعلتما ذلك لما داخلني سوء الظن، ولما تورمت قدماي من طول المشي وراءكما. لقد حسبتكما تدبران لعملية سطو أو قتل. سامحكما الله. الآن فقط طمأنتني. مع السلامة.
- مهلاً .. ألا يهمك أن نتآمر لإسقاط النظام؟!
- كلا. لا يهمني علي الاطلاق. واجبي هو أن أحفظ أمن الناس لا أمن النظام. النظام كفيل بالحفاظ علي نفسه، ثم أنكم لن تستطيعوا إسقاطه إذا كان مستنداً إلي تأييد الناس وحبهم، لأن الناس سيسقطونكم في الحال. أما إذا استطعتم أن تسقطوه بسهولة، ولم يفكر الناس بإسقاطكم، فذلك يعني أن النظام متهريء وبغيض وجدير بالسقوط. وفي هذه الحالة .. ألف مبروك لكم، وشكر الله سعيكم!
بالمشمش (2/ 3)
(رجل الرّقابة)
قال مدير الرّقابة:
- آسف. لا يمكننا السّماح بنشر كتابك.
قال الكاتب متعجّباً:
- هل وجدتم فيه شيئاً لا يُعجبكم؟!
- كلاّ .. لم نجد فيه شيئاً.
- لماذا لا تسمحون بنشره إذن؟!
- لأننا لم نجد فيه شيئاً. بصراحة يا أخ، كتابك تافه. وإذا شئت الدقّة .. كتابك نوع من الزّبالة النظيفة.
- زبالة؟! كتابي زبالة؟! أنت تقول ذلك؟!
لقد سكبت فيه عصارة قلبي من أجل إبراز منجزات الثورة العظيمة.
- آسف. لم نجد فيه عصارة قلب، بل وجدنا فيه ما يشبه عصارة شيء آخر!
إنّ ما يهمّنا قبل كلّ شيء يا أخ هو منجزات أسلوبك ولغتك وفنّك وصدقك. دع منجزات الثورة تتحدّث عن نفسها، وتحدّث عن منجزاتك أنت.
- هذا فظيع .. لقد سمحتم منذ أيّام بنشر ديوان شعر يسفّه الدّولة، فكيف تمنعون كتاباً يمجّد الدولة؟!
- أنت مخطيء يا أخ. ذلك الديوان، في الواقع، كان يمجّد الدّولة، ولكن بطريقته الخاصّة. إنّ كلّ سطر فيه يشير إلي موهبة فذّة. فأيّ مجد يمكن أن تحصل عليه الدولة سيكون أكبر من كون صاحب هذه الموهبة واحداً من مواطنيها؟
- أيّ زمن هذا؟ وأيّة رقابة هذه؟
سأنشر كتابي في الخارج.
- انشره.
- لكنكم ستمنعون دخوله.
- كلاّ .. ليس هذا من عاداتنا.
- لماذا، إذن، تمنعون نشره هنا؟!
- لكي نبريء ذمّتنا فقط. لكي لا يقالَ إنّنا دولة سيّئة الذوق إلي درجة تجعلها تسمح بنشر كتاب متخم بالنّفاق وساقط من الناحية الفنيّة!
بالمشمش 3/ 3 (رجل السّلطة)
قفز الشّاب الأنيق، فجأة، إلي مقدمة الطابور الطويل أمام مخزن التموين.
ارتفعت أصوات الواقفين بالاحتجاج، وحاولوا دفعه إلي الوراء دون جدوي.
من منتصف الطابور اشرأب عجوز وقور وناداه بلطف:
- بالدّور يا ولدي. نحن واقفون هنا منذ ساعتين، وليس من العدل أن تتخطّانا إلي المقدّمة وقد جئت لتوّك.
قهقه الشاب ساخراً:
- العدل في وزارة العدل يا جدّي.
صاح العجوز:
- أعلم ذلك .. وينبغي أن يكون العدل في الطابور أيضاً.
عفط الشاب، ولزم مكانه.
عندئذ ترك العجوز موضعه، ومشي نحو الشّاب بتؤدة، حتّي إذا حاذاه قال بصوت خفيض:
- خذ محلّك في آخر الطابور. نحن جميعاً غير راضين عمّا فعلت.
نفر الشّاب وأمسك بياقة العجوز:
- وصلتنا رسالتك. والآن عد إلي مكانك، وإلاّ فسأمسح بك الأرض. هل تعرف مَن أنا؟
- لا أعرف مَن أنت، لكنني أعرف أنّ ما فعلته خطأ.
- اقفل فمك، وعد إلي مكانك قبل أن تندم.
- لن أندم علي قول الحقّ أبداً.
- أنصحك لوجه اللَّه أن تغرب عن وجهي، وإلاّ فإنَك ستبول بملابسك إذا عرفت مَن أنا.
- سامحك اللَّه. ليس فعلك وحده القبيح .. أقوالك أقبح. للمناسبة .. مَن أنت؟
- أنا ابن وزير الدّاخلية؟!
- ابن وزير الدّاخلية؟!
- نعم .. وزير الدّاخلية.
- يا للويل. لم يخطر في بالي شيء من هذا علي الإطلاق .. يا للويل.
- ألم أقل لك إنّك ستندم؟
- صدقت. ليس في الدنيا من هو أكثر ندماً منّي.
استدر يا ولدي وطأطئ؟!
- نعم .. تطأطئ، لكي استطيع أن أركلك بقوّة تكفي لإرسالك إلي أحضان أبيك الذي لم يعرف كيف يربيّك.
احتقن وجه الشّاب غضباً، وتطاير الشّرر من عينيه:
- ضيّعتَ عمرك .. ضيّعتَ عمرك.
- نعم. ضيّعته مع أمثالكم.
- أيّها العجوز الخرف، كيف تواتيك الجرأة علي مخاطبتي بهذه الطريقة؟ مَن تظنّ نفسك؟!
- إنّني لا أظنّ نفسي. إننّي أعرفها حقّ المعرفة ..
أنا رئيس الجمهورية!
تمّت الموافقة
قالوا يا عبد المجيد أحضر صورتين للوجه. أحضرت. وصورتين للقَفا. من فوق أم من تحت؟ من فوق يا قليل الأدب. فعلت يا أخي. تنفع. ألا تنفع؟ منعاً للالتباس. علي الأقل إذا أرادوا صفعي، ذات مرّات، فستكون الصّفعات علي حجم قفاي.
حوّلوني إلي قسم البصمات. رفعوا بصمات أصابع يديّ. حسناً، ارفعوها. قالوا ارفعْ رجليك. قلت لهم هذا لا يحدث في بلد متحضّر. مغطوا أُذنيّ، مع أنهما غير مشمولتين برفع البصمات. لا بأس. تنفع ألا تنفع؟ علي الأقل صرت أسمع وأطيع بشكل أفضل. رفعت رجليّ فرفعوا بصماتهما، وعرفت حينئذٍ أنّه رفع من أجل الرّفع.
استخرج شهادة حُسن السلوك يا عبد المجيد. لا بأس. وإن كنت سأدفع ربع دينار للمختار من أجل ذلك. يا مختار ما رأيك بسلوكي؟ سلوكك جيّد يا عبد المجيد. إذن، أشهد أنّه جيّد. حاضر .. الناس للناس. وربع الدينار لك يا مختار. ماذا تقول يا وسخ؟ أنا آخذ منك ربع دينار؟ ليس أقل من خمسة دنانير. كيف تظن يا مختار أنني أملك خمسة دنانير، مع أنك تشهد بأنّ سلوكي جيّد؟ إذن سلوكك سيّء يا عبد المجيد. وستري أنّه سيّئ حتي لو شهدت لك مجاناً. الآخرون سيطلبون أكثر. آخرون؟ هل هناك آخرون؟ طبعاً يا عبد المجيد، كأنّك لست من هذا البلد. وراءك مركز الشرطة، وبيت الحزب، ودائرة الأمن، وشعبة العمل الوطني، وقسم الهجرة، والاتحاد النسائي. سامحك اللَّه يا مختار .. أنا لست امرأة.
ما لها المرأة يا ولد؟ المواطنون سواسية مثل أسنان الرئيس. لكنّ المرأة يا مختار ناقصة عقل ودين. وهل عندك أنت عقل ودين؟ إيّاك أن تبوح بهذا لأحد. إياك. نصيحة لوجه اللَّه. سوف تضيع يا ولد.
بماذا سيشهد الاتحاد النسائي يا مختار؟ من باب الاحتياط يا بني. سيعرضون صورتك علي جميع نساء البلاد من يدري .. ربما كنت قد تحرشت بواحدة. أيّ الصورتين يا مختار؟ كلاهما يا حمار. فإذا كانت ثيابك قُدّت من قُبُل فقد صدقت وأنت من الكاذبين. وما شأن قفاي؟ ربما تكون قد غازلتها وأنت مُدبر عنها. أأنا مجنون؟ طبعاً مجنون يا عبد المجيد. تغازل امرأة وأنت مُعطيها ظهرك .. ماذا تكون سوي مجنون؟ علي رسلك يا مختار. أنا لم أفعل شيئاً كهذا. فقط أنبهك يا بُني. كلّ نساء البلاد يا مختار؟ طبعاً.
متي ستنتهي الشهادة إذن؟ تنتهي وقتما تنتهي، لماذا العجلة؟ قوانين الدولة أكبر من رأس الذي خلفك.
بعتُ سريرنا يا أخي. وعندئذ اقتنع المختار بحسن سلوكي. قلت لنفسي وأنا أتخيل القائمة: ماذا أبيع أكثر؟ لم أحتج إلي بيع أي شيء. تبين أن المختار سيء السلوك. لم يُطالبني الآخرون بشيء. كذّاب. كادوا يحبسونني حين هممت بفتح الموضوع. لا يقبلون الرشوة. موظفون عقائديون. كل ما طلبوه مني هو أن أكون (متعاوناً).. قلت لهم أنا مؤمن جداً بالتعاون .. (قوم تعاونوا ماذلّوا) . قالوا بارك اللَّه فيك. وانهالت البركة أكثر مما يجب. كان عليّ أن أكتب تقريراً يومياً لكل دائرة علي حدة. عمّن؟ عن الخونة أعداء الجماهير. كيف أعرف الخونة يا جماعة؟ الخونة معروفون يا عبد المجيد. المواطن الجيد يعرف الخائن من نظرات عينيه. ما علامة ذلك؟ العلامة تدركها بضميرك اليقظ الصّافي.
وكان علي ضميري أن يُدرك. المسألة يا أخي مثل التنّور. حطب، حطب، حطب. لابد أن تلقي حطباً كُلّ يوم. ثلاثمائة وخمسة وستون خائناً في السنة، بخلاف السنوات الكبيسة. للمناسبة دعني أنظر في عينيك.
قالوا في مركز الشرطة أأنت مجنون يا عبد المجيد؟ تجاوزت الثلاثين ولم تستخرج حتي الآن شهادة الجنسيّة.
قلت معي الجنسية. قالوا لا تنفع. يجب أن تكون لديك شهادة للجنسية والشهادة من يشهد لها؟ قالوا لا تتصنع خفة الدّم.
أربعة أشهر يا أخي. بحثوا في كشوف المواليد من حمورابي وفرعون الأكبر مروراً بقطز. للمناسبة مَن قُطز هذا؟ أربعة أشهر ومائة دينار حتي شهدوا أنّ جنسيّتي هي جنسيتي، مع أنّ الامبرياليين أعداء الجماهير يكتفون ببطاقة الهوية.
أملأ هذه الاستمارة يا عبد المجيد. هذه عشر استمارات كلاّ إنهّا واحدة يا عبد المجيد. استمارة واحدة من عشر صفحات. وملأتُ عبد المجيد. الاسم الكامل حتي الجد السابع والثلاثين. اسم أبيك وجميع إخوانه. إنه وحيد أبويه. اذكر أولاد عمّه وخاله، ولا تنس أشقاءك وأولاد عمك وخالك. وأمي؟ وأمك وجميع أقاربها. اذكر انتماءات الجميع، وميولهم، واتجاهاتهم عنوانك الحالي والسابق والذي قبله. أين كان يسكن أهلك قبل أن تولد؟ ولماذا؟ ماذا كان يطبخ جيرانكم في ساعة مولدك؟ حدّد نوعية الزفر. أين بدأت الدراسة؟ وأين أنهيتها؟ إذا كنت لم تبدأ الدراسة اذكر أين لم تبدأها؟ ماذا كان يفعل المدرس إذا انقطع رباط حذائه؟ ولماذا؟ اذكر سبعة أبيات للشنفري. لم أعرف يا أخي أنّ لعائلتي كلّ هذا التاريخ العريق إلا بعدما انتهيت من ملء الاستمارة. استحق الدكتوراه بامتياز علي الجهد الذي بذلته. ومع ذلك كدت ارتكب الخيانة العظمي. نسيت، وجل من لا ينسي. سامحوني بعد أن دبغوا جلدي، وأضافوا المعلومة الناقصة عن قطتنا التي أنجبت قبل ثلاث سنوات وماتت لها هرّة بعد أيام من الولادة. نسيتُ اسم الهرّة، لكنهم مازالوا يتذكرونه. قلت لهم إنها (قطقوطة) . قالوا كلاّ إنها (قطّوطة) . قلت لنفسي: آه يا قُطز. إذن هم الذين بلّعوك القاف. كنت أظنها قاف التّشبيه. ويلك يا (طُزّ) .. إنها قاف هرّتنا المرحومة. قالوا لي في بيت الحزب إنّ كل مواطن شريف هو عضو في الحزب وإن لم ينتم. طعنوني في شرفي يا أخي جعلوني (عضواً) !
لم تشهد لي شعبة العمل الوطني حتي تطوعت في مصنع النسيج، وفي هيئة المجاري، وفي مصلحة الألبان لمدة ثلاثة أشهر.
أصبح عندي طن من الورق. حملته في شاحنة إلي المؤسسة العامة للأجهزة الدقيقة. قلت لهم: ها هي الموافقة. قالوا نفدت الكمية. انتظر دورك يا عبد المجيد. وانتظرت يا عبد المجيد. تسعة أشهر يا عبد المجيد، وحين جاء دوري يا عبد المجيد، عطوني (الآلة الطابعة) ولم يعطوني الشريط!
كيف أطبع يا جماعة؟ ماذا تريد أن تطبع يا عبد المجيد؟ الحقيقة نسيت. يا جماعة لكنّ الشريط ينفع. ألا ينفع؟ علي الأقلّ سأطبع به تقاريري اليوميّة عن الخونة. عيب يا عبد المجيد. الاعتماد علي النفس فضيلة. لماذا خلق اللَّه الأصابع يا عبد المجيد؟
خلقها لرفع البصمات يا جماعة!
كتب مشاكسة!
أحمد مطر
من الظواهر الغريبة في عالم التأليف، أنّ بعض الكتب تمارس علي مؤلفيها نوعاً غليظاً من المشاكسة، وتستحيل أحياناً إلي شِراك يصعب التخلّص منها، أو إلي عُقد مستحكمة ترافق الكاتب طول حياته دون أن يفلح في حلّها برغم كثرة المحاولات.
وأطرف ما في هذه الظاهرة هو أنها تختص بالكتب الناجحة جداً. والمفارقة هنا هي أنّ فرحة الكاتب بنجاحه تشبه إلي حدٍ بعيد شعوره بغصّة الفشل، ذلك لأنّ نجاح الكتاب يقوم كحائط سميك من الكونكريت يحجب وراءه جميع الإبداعات التالية للكاتب، أو ربّما يتطاول حتي يحجب الكاتب نفسه.
وتلك الظاهرة قد تتعلّق بروعة مضمون الكتاب بأكمله، أو بروعة بناء إحدي شخصياته.
خذ مثلاً علي ذلك أنّ السير آرثر كونان دويل مبتكر شخصيّة شرلوك هولمز قد بلغ من النجاح حداً جعله أسيراً بالفعل لهذا المفتش الخاص المختلق، ذلك أنّه بعد سلسلة طويلة من القصص حاول أن يستريح، فدبّر محاولة لقتل هولمز، لكنّه لم يدرك عقم محاولته هذه إلاّ عندما وجد أن جمهور القرّاء قد حاصر بيته في مظاهرة احتجاج مندداً فيها، بجدية بالغة، بدويل المجرم الذي قتل هولمز، ولم ينجُ دويل من غضب الجمهور إلا حين ابتكر، برغم أنفه، حيلة أدبية، أعاد فيها شخصية هولمز إلي الحياة، وربط رقبته في حبلها إلي آخر حياته!.
ومن أمثلة هذا، عندنا، تلك العقدة الحادة التي عاناها الأديب العظيم يحيي حقّي، بسبب قصّته (قنديل أم هاشم) .. فعلي رغم كونه أحد أبرز روّاد القصّة القصيرة في العالم العربي، وله منها رصيد ضخم ومهم، وعلي رغم إبداعه للعديد من القصص الطويلة المهمّة الأخري، وعلي رغم إتحافه المكتبة العربية بعشرات الكتب التي تضمّنت مئات المقالات في شتّي النواحي التاريخية والأدبية والفنيّة، فإنّه عاش ومات وهو مدموغ بهذه القصّة، ولا يشار إليه إلاّ بأنّه (صاحب القنديل) !.
وأحسب أنني قرأت له في أكثر من موضع تعبيره عن الضيق والنفور من هذا الوصف الخانق الذي لا يريد أن يتزحزح قليلاً ليفسح المجال لبروز إبداعاته الأخري. ومن طريف ما قرأت، في هذا المجال، كتاب (فرنسا والفرنسيون .. علي لسان الرائد طومسون) للكاتب الفرنسي بيير دانينوس .. فهذا الكتاب الذي نقله إلي العربية الدكتور ثروت عكاشة، يقف في مثابة واحدة مع تلك الكتب التي شكّل نجاحها مقلباً لأصحابها!.
كان دانينوس قد نشر فصول هذا الكتاب عام 1954 كمقالات متتابعة في صحيفة فيجارو الباريسية، ثمّ ما لبث أن أصدرها في كتاب في السنة ذاتها، فإذا به ينجح نجاحاً مذهلاً، ويترجم إلي العديد من اللغات، ويباع من طبعته الفرنسية وحدها، في ذلك الوقت، أكثر من أربعة ملايين نسخة.
وأعجب ما في أمر هذا الكتاب هو أنّه ليس عملاً روائياً، بل مجرد مقالات تستقصي بالنقد الساخر جميع ما وقع للمؤلف عن فرنسا والفرنسيين، لكنّه، مع ذلك، أُعِدَّ ليصبح مسرحية، ثمّ سُجّل علي اسطوانات، وتحوّل بعد ذلك إلي فيلم سينمائي!.
ولأنّ دانينوس قد خشي من غضبة الجمهور الفرنسي عليه إذا هو صارحه بآرائه، فإنه ابتكر شخصية ضابط انجليزي متقاعد اسمه (طومسون وليام مارماديوك) ، وزوّجه من امرأة فرنسية، وجعله يعيش في باريس، ثمّ وضع علي لسانه جميع الآراء الساخرة في الحياة الاجتماعية الفرنسية، واكتفي بأن يكون مساعداً للضابط المتقاعد ومترجماً لمذكّراته!.
ولأنّه نجح جداً في بناء شخصيّة طومسون، ونجح إلي حد بعيد في رصد تفاصيل الحياة الفرنسية وتناولها بالنقد بأسلوب ساخر بالغ الروعة، فإنّ شخصيّة ذلك الرائد الإنجليزي قد طغت علي شخصيته جداً، بل استطاعت أن تمحوه تماماً، علي الرغم من كونه قد حاول، من خلال شخصيته كمساعد ومترجم فرنسي، أن يرصد حياة الإنجليز وسلوكهم بالنقد الساخر في موازاة نقده للفرنسيين.
وبلغ من طغيان شخصية الرائد طومسون، أنّ الناس باتوا يذكرونه وينسون المؤلف، حتي أنّ سفير بريطانيا في باريس قد كتب إليه بعد صدور الكتاب قائلاً: (كم أنا شاكر لو أبلغت تهنئتي للرائد طومسون، وكم كنت سأكون سعيداً لو أنّي رأيت توقيعه علي الإهداء) !.
بل إن إحدي القارئات الفرنسيات ضاقت ذرعاً بعبارات النقد الساخرة التي وجهها ذلك الضابط الإنجليزي (الخيالي) إلي الفرنسيين، فعابت علي دانينوس اهتمامه بترجمة ذلك الكتاب الذي لا يُقبل فرنسي علي ترجمته إلاّ إذا كان مرتشياً!.
ومن الطبيعي، بعد ذلك، أن تصبح شخصية طومسون المختلقة مثيرة لغيرة دانينوس لأنّها استأثرت بالشهرة من دونه .. وهذا ما عبّر عنه في كلمته أمام إحدي الجمعيات البريطانية التي استضافته في ذلك الوقت .. إذ قال: (ما أشدّ حُمقي حين استضفت إنجليزياً في كتابي، فإذا هو ينحّيني جانباً ليأخذ مكانه في الكتاب، وإذا أنا لا مكان لي فيه، حتي بتُّ أتساءل عن دعوتكم: هل كانت لي أم للرائد طومسون؟) !.
وكلمة دانينوس هذه تذكّرنا بكلمة مماثلة للكاتب الكبير الطيّب صالح، المُبتلي هو أيضاً بنجاح روايته (موسم الهجرة إلي الشمال) التي حجبت بشهرتها رواياته وكتبه الرائعة الأخري.
ففي منتصف الثمانينيات كان الطيّب صالح قد دعي إلي تونس، وكان حينذاك موظفاً في اليونسكو، فروي في كلمته أمام مضيفيه أنّ رجلاً عربياً استوقفه ذات يوم ليسأله: أأنت أبوصالح الطيّب؟
وتجاوز الطيّب عن ذلك التصحيف الذي لحق باسمه، وأجاب: نعم .. أية خدمة؟
فإذا بذلك الرجل يسرف في إبداء حفاوته بالكاتب قائلاً إنّه من أشدّ المعجبين به وإنّه قرأ له ديوان شعر اسمه (هجرة الشمال إلي الجنوب) وقد أُعجب به كثيراً!.
وبعد هذه اللخبطة التي سببتها شهرة روايته حتي جعلت رجلاً لم يقرأه يحوّلها إلي ديوان شعر بعنوان مختلف ولمؤلف مختلف، خلص كاتبنا إلي مخاطبة مضيفيه قائلاً: إن هناك موظفاً في اليونسكو اسمه الطيّب صالح، كما إنّ هناك رجلاً آخر يحمل الاسم ذاته يكتب القصص وما إلي ذلك .. وإنه يخشي أن يكونوا قد وجّهوا الدعوة إلي الأول فجاءهم الثاني!.
البطّة التي ماتت من الضحك
عثر رجل فقير على (بيضة) ، وعلى الرغم من كونه جائعاً جداً، فإنه امتنع عن أكلها، واستخدم الذرّة الوحيدة الباقية من عقله لاستعادة الحكمة الصينية القائلة بتعلم الصيد بدلاً من ابتلاع السمكة المهداة من الصياد.
قال لنفسه: ليس عندي أكثر من وقت الفراغ، ولذلك سأجلس فوق هذه البيضة الى أن تفقس، وكل ما سيأتي منها سأتبناه.
وفكر في الأمر على النحو التالي: إذا كان الوليد فرخ دجاج فسأطعمه أفخر انواع الديدان ليكبر ويصبح دجاجة سمينة تبيض لي بيضاً كثيراً آكل بعضه وأبيع بعضه الآخر للملحنين ليسلقوه ويقدموه أغاني شبابية.
وإذا تبيّن انه ديك فسأبيعه لأحد احزاب المعارضة ليتخذه رمزاً له، كأن يضعه فوق مزبلة لكي يصيح، فالديك مثل تلك الاحزاب تماماً، يؤمن بأن الشمس لا تشرق إلا استجابة لصياحه.
وإذا تبيّن ان الوليد أوزّة، فسأهديها لأحد معسكرات الحركات التصحيحية من أجل ان يتدرب القادة على (مشية الأوزة) .. أمّا إذا كانت من تلك الأوزات التي تبيض ذهباً، فستصادرها السلطة مني، وستعطيني بدلاً منها وساماً من النحاس، وهو كل ما ينقصني في هذه الحياة.
وإذا تبيّن أن الوليد أفعى، فستلدغني قبل ان أتبنّاها، وعندئذ سأدخل الجنة باعتباري من شهداء العمليات الجهادية (المتترّسة) كأيِّ واحد من أطفال العراق السعداء.
أمّا إذا كان الوليد سلحفاة، فسأهديها الى وزارة الاقتصاد، من أجل دفع عجلة التنمية، وبذلك سأكسب الأجر والثواب، اضافة الى تنمية ثوبي برقعة جديدة.
بعد أسابيع من جلوسه فوق البيضة، فقست عن بطّة صغيرة جداً، وبرغم مرور أشهر على خروجها من القشرة، بقيت البطّة ضامرة وبائسة مثل كرة مضرب. وتبيّن للفقير أنها معاقة وعاقر وحولاء أيضاً ولا تعرف السباحة على الاطلاق، لكنّها، والحقّ يُقال، كانت تستطيع أن تقول: (واك) .
رضي الرجل بقسمته صاغراً، وقال في نفسه: إنها ابنتي على كل حال، وإذا أنكرت بنوّتها فإنني لن أهنأ بأكلها لأنها أقلّ من لقمة. وعليه فإنني سأبقيها معي لكي تؤنسني.
ولم يدر الرجل ذو النية الطيبة بما تخبئه له الأقدار، فما أن سمعت وسائل الاعلام بخبر البطّة المعاقة الحولاء، حتى هبّت جميعها في منافسة حامية من أجل توقيع عقود عمل معها.
وفي النهاية فازت فضائية (آكلك منين يابطة) بتوقيع عقد مع الرجل تدفع له بمقتضاه مبلغاً ضخماً من المال، مقابل ان تحتكر طلّة البطلة المعجزة على شاشتها (حصرياً) كقائدة للتغيير، من خلال تقديمها للبرنامج الاجتماعي الهادف (أكاديمية البطّ) .
لكن المحطة نبّهت الرجل الى أنه ليس بالـ (واك) وحده يحيا البطّ، وأنّ شرط المذيعة الناجحة هو أن تضحك عند إطلالتها على الجمهور .. حتّى لو كانت تذيع خبراً عن مصرع مائة طفل بانفجار سيارة مفخخة. وأبلغته بأنَّ القناة تضع مسألة الضحك، في هذه الحالة، ضمن بند (شر البليّة) .
وأمام هذا الشرط اضطرّ الرجل إلى تدريب البطّة على الضحك، لكي تستكمل المؤهلات الضرورية للنجاح الفني، خاصة أنها جاءت إلى الدنيا وكلّ مؤهلاتها الاصلية معها: عارية .. وتهزّ.
ظل يكرّر عليها صبح مساء: (قاه قاه قاه) .. وبعد وقت طويل وجهد جهيد تعلمت كيف تضحك. لكن لأنها معاقة وغبية وحولاء، فقد تعلّمت أن تضحك بالمقلوب: (هاق .. هاق) .
وقد كان هذا نذير كارثة لم تكن في الحسبان، إذ لم يمض زمن حتّى سمعتها إحدى الحركات الجهادية، فاختطفتها على الفور، وحكمت باعدامها لأنها سكرانة!
وفي مفاوضة يائسة حاول الرجل اقناع هيئة عملاء المسلحين - التي كانت تتوسط بينه وبين المجاهدين - بأنّ بطته عندما قالت (هاق هاق) لم تكن سكرانة، لكنها غبية تضحك بالمقلوب.
ولم تصل المفاوضات الى نهاية طيبة، ذلك لأن الضحك في مفهوم المجاهدين لم يكن أقل إثماً من السكر!
وعلى الفور قامت المجموعة الخاطفة بذبح البطّة، وأرسلت شريط ذبحها إلى فضائية (الذئب الوديع) .. لكن الأخيرة امتنعت عن عرض الشريط، لأنه، حسب تصريح الناطق باسمها، يصدم المشاعر الانسانية، ويحرّض على قتل البطّ، الأمر الذي يعتبر خروجاً على القواعد المهنية!
الموت لنا
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
تأتي الانقلابات لها بقادة من رحم المجهول فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق، وتذهب الانقلابات المضادة بالمجهولين، فتخرج الأمّة لتهتف وتصفّق للمجهولين الجدد .. وهكذا دواليك، حتى تضجر البنادق، وتسأم الدّبابات، وتملّ البلاغات الأولي، وتبقى الأمّة النشطة وحدها صامدة ضدّ الملل والضجر والسأم. ولفرط إخلاصها للهتاف العتيد، لا تنتبه للموت وهو يلملم وفاتها المعتّقة، فتموت وهي تهتف: يعيش .. يعيش!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة. الحياة ليست عملة نقدية صغيرة ترمى للشحّاذين، ولا هي بضاعة رخيصة تباع في سوق السلع المستعملة.
الحياة قيمة كبرى لا يستأهل امتلاكها إلاّ من يستطيع دفع ثمنها.
ومَن لا يملك الكرامة لا يملك ثمن الحياة ولو امتلك أموال قارون.
وحتّى لو ابتاع أحد الكرام المحسنين هذه القيمة بغية توزيعها على المعوزين، لوجه اللّه، فإنها ستركن في حوزة هؤلاء حتى تصدأ، إذ لا يعرفون كيفية تشغيلها، ولا يعرفون ما إذا كانت تصلح للتبريد أم للتدفئة.
الحياة خسارة في هؤلاء، لأنّ مَن لا يتقنون استخدام الحطب للطبخ، من العسير عليهم أن يستخدموا شيئاً يسمّى (المايكروويف) ، وكلّ ما سيمكنهم فعله عندما يمتلكونه هو أنهم سيباهون أمام الجيران بأنّ لديهم جهاز تلفزيون بلا هوائي!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنها تحلف بالطلاق على طغاتها بألاّ يموتوا وألاّ يمرضوا وألاّ ينهزموا، لكي لا تقع الطامّة عليها بالاحتلال الأجنبي.
هي أمّة منزلية .. تفلفل على الاحتلال الداخلي، وتنتشي لمن يهتك عرضها إذا كان منها، وتتفجّر احتراماً وتوقيراً لمن يسرق لقمتها الوحيدة من بين أسنانها إذا كان من العائلة، وتفرفح لمن يحبسها في صندوق زبالة ويساقيها العصيّ في مؤخراتها، بشرط أن يكون واحداً من أبنائها البررة!.
هي أمّة ترى الاغتصاب الوطني عفّة، والسرقة الوطنية مجرّد اقتباس، والتعذيب الوطني شأن داخلي من العيب أن تشكو منه للغرباء. كلّه عسل .. إلاّ الاحتلال الأجنبي.
مليون طاغية .. ولا محتّل غريب واحد!.
وتنسى هذه الأمة الممحونة المفلفلة أنّ الطغيان الداخلي كان دائماً البوابة العريضة التي يدخل منها المحتل الخارجي. وتنسى هذه الأمّة المهتوكة العرض ذاتياً أنّ معظم الاحتلالات الأجنبية كانت رحمة من الله على عباده، مقابل نقمة الاستقلال الوطني المستبد.
لأنّ ذلك الاحتلال ينشغل عن النفوس بابتلاع الخيرات، فيما ينهض هذا الاستقلال علىبتلاع الأنفاس والنفوس والخيرات معاً.
وتنسى هذه الأمّة الفاجرة بالمجّان أنّ مَن يمّد نحره لكي يُذبح بسيف أخيه، ليس من حقه أن يتأوّه من سطوة سيف الغريب، إذ لا فرق بين السيوف في اللغة والعمل.
ومَن يستنكر الذبح العدواني ويستمرىء الذبح الأخوي هو ليس فيلسوفاً ولا حكيماً ولا وطنياً. بل هو كائن ساقط تماماً من سجلّ الحياء والحياة.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنّها تباهي بفضلها على العالم، وهي قاعدة تشحذ الصّدقات على أرصفته.
أسلافها الذين تفضّلوا ماتوا وماتت مآثرهم، وهي لا تزال منذ ذلك الوقت تأكل وتشرب وتلبس وترى وتسمع وتتداوى وتسافر بفضل كرم الأجنبي الذي استفاد من فضل أسلافها ونمّاه وطوّره وجَمّل به حياته.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنّ أمتن وأجمل الأبنية التي نراها في بلادنا، وأفضل مشروعات العمران والزراعة والرّي، وأدقّ النظم الإدارية التي نطبعها (بالكوبيا) عاماً بعد عام، بل وحتى نظم التسلّح والتدريب التي تعلفها بؤر تفقيس الانقلابات التصحيحية والتخطيئية المباركة لدينا .. بل وحتي أزياء ضبّاطنا وجنودنا، هي كلّها من مخلّفات الاحتلال الأجنبي البغيض الذي بذلنا الغالي والنفيس للخلاص منه، ثم استبدلناه بمومياءات لا تعرف حتى كتابة أسمائها!.
نحن أمّة لا تستحق الحياة.
لأنها تغرف من الغرب كلّ سيّئاته، ولا تغلط مرّة واحدة بأخذ شيء مفيد منه، وما أكثر الأشياء المفيدة لديه.
ما إن تظهر صرعة عري أو شذوذ أو تهتك أو عبادة شيطان في الغرب، حتى تجد ترجمتها الفورية لدينا، وبأسوأ وأبشع ممّا لدى الغرب نفسه.
في الوقت الذي ظهر برنامج (بوب آيدل) في بريطانيا، طلع لدينا (سوبرستار) ، وزدنا عليه القبعة الأكاديمية فأصبح لدينا (ستار أكاديمي) ، وقلّدنا حتى برنامج العهر الصريح (بلايند ديت) أو ما يمكن ترجمته إلي (موعد أعمى) ، فلم نقصّر في أن نكون أكثر تخلّعاً من أهله.
حسناً .. إنّها عولمة، ولا بُدّ لنا أن نلحق بالرّكب (ولو بكشف ما فوق الرُّكب) .. لكن ألم يسمع أحد عن البرنامج الكبير ذي الضجّة العارمة الذي نظمته محطة BBC تحت عنوان The Big Read أو (القراءة الكبرى) ؟
لقد كان القوم يتنطّطون ويتراقصون على جانب، لكنهم في الوقت ذاته كانوا منهمكين في شأن أدمغتهم على الجانب الآخر، وكانوا يلهثون بنفس الطريقة في سباق ترشيح الكتب التي طالعوها وأثّرت فيهم.
على مدى عدّة أسابيع، تمّ اختيار آلاف العناوين، وتمّ خضوعها للتصفيات ليتفوّق منها مائة عنوان، وليفوز من بينها عنوان واحد بكونه الكتاب الأكثر قراءة.
على مدى عدّة أسابيع، والمكتبات التي بعدد محّلات أشرطة الكاسيت لدينا، تعرض في واجهاتها الكتب المرشحة، وتجري حسماً على أثمانها الرخيصة أصلاً، لتكون في متناول القراء.
على مدى عدّة أسابيع والدنيا قائمة وقاعدة في بريطانيا، وموضوع قيامها وقعودها هو الكتاب ولا شيء غيره!.
ألم تسمع عروبتنا بذلك؟
بل سمعت. لأنّ الضجيج كان أقوى مِن صوت المتنبي الذي أسمعتْ كلماته مَن به صمم.
لكنّ المشكلة هي أننا أمّة بدأ الوحي لديها بكلمة (إقرأ) وكأنه يلهب ظهرها بالسوط آمراً إيّاها بأن تكون أمّة أميّة حتى النخاع. إنّ أمّة (إقرأ) التي لا تقرأ .. لا تستحق الحياة.
إنّ أمّةً نسبة الأميّة فيها 43 بالمائة، بعد عشرات الأعوام من النفط والاستقلال الوطني والقومية العربية والشرعية الثورية والصحوة الإظلامية هي أمّة لا تستحق الحياة.
نحن أمّة لا تستحق الحياة ... لأنّنا أنهينا الخلافة الرّاشدة بالاغتيال، ووضعنا الإسلام بعدها في صندوق ربطناه بمليون سلسلة ورميناه في بحر الظلمات، وجعلنا القرآن العظيم مجّرد آيات تتلى في المآتم، ووضعناه على منصّة الشهود ليحلفوا في المحاكم على أن يقولوا الحقّ، وهو الشيء الذي لم نعرفه قط، منذ قتلنا الإسلام غيلة واستبدلناه بشيء لا علاقة له بالسماء ولا بالأرض، إكراماً لعيون السفلة المستبدين المستحوذين علي خير الناس ورقاب الناس.
واحد من أبطالنا الميامين الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن نسف مئات الأبرياء في قطار مدريد، أعلن بعد حمد اللّه والثناء عليه، عن وقف العمليات حتى حين في بلاد الأندلس.
بلاد الأندلس؟!
أكانت ملك الذين خلّفوكم؟!
لماذا لا يصرّ الصهاينة المجرمون علي تسمية أرض فلسطين بإسرائيل، إذا كنّا لا نزال، حتى بعد خيبتنا التي طولها سبعمائة سنة، ندّعي ملكية أرض ليست لنا، احتللناها ظلماً وعدواناً باسم الإسلام البريء الذي اغتلناه، ومضينا نوقّع ببصمة إبهامه كلّ فعل قبيح لا تصدر فتواه إلاّ من شيطان؟
علي مدي سبعة قرون، لم نترك في أرض الناس تلك علماً ولا عدالة ولا لغة ولا ديناً، بل انهمكنا في امتصاص خيراتها قطرة قطرة، واستعباد أبنائها، واستحياء نسائها، وتبادلهن إماءً بيعاً وإهداءً للتسرية عن أمير المؤمنين المثقل بالجهاد الليلي الوثير، والمتحلّي من الدين كلّه بمجرد ختم على رقعة يلعلع دون حاجة أو مناسبة: لا غالب إلاّ اللّه.
وقد صدق اللّه وعده، فكنسنا بكلّ قبائحنا وفجورنا وأمّيتنا عن وجه تلك الأرض، فثابت إلى نفسها، وكأنّنا لم نكن قد أثقلناها بوجودنا لسبعة قرون!.
البطل الميمون الذي أجزم أنّه لم يقرأ في حياته أكثر من ثلاثة كتب تكفيرية، يرفع يده متفضّلاً عن بلاد الأندلس!.
وهي بلاد ستكون متفضّلة لو بصقت في وجهه احتقاراً، لأنّ بصقتها نفحة حياة لا يستحقها ميّت مثله، يمشي ليوزّع الموت بين الأحياء.
تقول تقارير صندوق الأمم المتحدة للتنمية، وتزمّر لها مؤيدةً تقارير الصندوق العربي للتنمية إنّ ما ترجمته إسبانيا من الكتب خلال عام واحد يعادل عدد الكتب التي ترجمتها الدول العربية كلّها في ألف عام!.
هذا في إسبانيا وحدها .. فماذا إذن عن أمريكا وبريطانيا وفرنسا .. ودول الغرب الأخرى ومع ذلك فإننا نخرج ألسنتنا بكل وقاحة في وجوه هؤلاء الكفّار، ونحرمهم من بركة رضانا ونتركهم كاليتامى في فسطاطهم البائس، مستفيدين لوحدنا بنعمة فسطاط الإيمان!.
نحن الجثث المكدّسة التي لم تجد مُحسناً يكرمها بالدفن، تتباهى على الأحياء بعفنها، وتعتدي على رب السماوات والأرض بحيازة رحمته بأيديها، لتوزّعها بمعرفتها وبمزاجها على من تشاء وتحرم منها من تشاء.
مَن إذن للموتى بامتلاك مقادير الحياة؟!
لغة الأضداد!
الاوروبيّون ليسوا جادّين حقا في مسألة الوحدة. كلاّ. إنّهم فقط يفعلون ذلك نكاية بي. دول مثل سوق الخردة، كلّ دولة لها في رقبة الاخرى طوفان من الدّم، خلطة متنافرة من الألسن مثل بهارات كالكوتا .. ومع ذلك، يتسمّت هؤلاء الخبثاء حول الطاولة، ويتصنّعون المودّة والألفة، وينفقون الوقت والمال والجهد، ولاهدف لهم من وراء ذلك إلاّ أن يجعلوني أتسمّم من الغيظ.
هراء. لن اترك لهم فرصة للفتك بي. لن اشاهد التلفزيون، ولن أقرأ الصّحف، ولن اسمح بدخول (اليورو) الي مطبخنا حتّى لومتنا من الجوع. دعهم يكملوا وحدتهم. دعهم يخسروا الوقت والمال والجهد، ليكتشفوا في النهاية انني لم أرَ ولم اسمع ولم أتسمّم من الغيظ، وأن مؤامرتهم لم تنجح.
ثمّ تعالوا .. لماذا اغتاظ؟
ماذا عندهم احسن ممّا عندنا؟
عندهم (بطاطا) ؟ عندنا (بتاتاً) ، واحذية (باتا) ايضا! عندهم شبكات مواصلات متلاحمة؟ عندنا شبكات كلمات متقاطعة: كلّ ثلاث او اربع خانات تقف في بلعومها خانة سوداء: (الموت للخونة) !
- أفقيا: يحاول زيارة بلد شقيق (ملحوظة: اسمك على الكومبيوتر. هل تودّ الرّجوع من حيث جئت، ام تُفضّل الدّخول في هذه الخانة الناصعة السّواد؟) :
أربعة حروف: (يُحَبس) !
- عموديا: يطمح إلى المعالي: اربعة حروف: (يُشنق) !
ماذا عندهم؟ هاه؟ قوس (الرّخام؟ عندنا قوس قزح، ونجوم الظهر ايضا. عندهم (انتخابات) ؟ عندنا (انتحابات) . عندهم بيتزا؟ عندنا خارطة الوطن العربي! هل عندهم (لغة ضاد) ؟ هيهات. نحن فقط عندنا، ومرفق طيّها شاعر أشعث أيضاً ينطّ في وجهك كلّما فتحت الاطلس:
فلا حَدٌّ يُباعدُنا
ولا دينٌ يُفرّقُنا
لِسانُ الضّادِ يجمعنا
بعدنانِ وقحطانِ
أمّا الدّين الذي لا يفرّقنا فمعلوم!
وأمّا (الضّاد) فنحن بفضل الباري ننطق به مثل الكناري: في الخليج والعراق نٌدلّله فنجعله (ظاءً) . وفي مصر والشام ندلّلهُ أيضاً فنجعله (طاءً) . أمّا في المغارب المزيانة ف .. (إشنو يعني الدّاد؟) .
هذا ليس مُمهّاً. المهم أن الضاد يجمعنا بعدنان وقحطان. ولأننا اسريّون جدا، فنحن لا نجتمع في العادة الا في (بيت خالتنا) !
قل لي .. هل عند الاوروبيين اسماء اضداد؟
مستحيل. ليس على وجه الارض أمّة عندها اسماء (زهيرية) أكثر منّا.
مثلاً: مولى: سيّد مطاع، وأيضا عبد مملوك.
مثلاً: سليم: صحيح البدن، وايضا ملدوغ.
مثلاً: جُونه أبيض خالص، وايضا اسود خالص.
مثلا: مهيب: رتبة عليا للعسكري الاصيل المخضرم في الجندية، وايضا لابن الشوارع الهارب من التجنيد .. وهَلمجّرا ..
وعلى فكرة، ليس لدى الاوروبيين (هَلُمَّ جَرّاً) . المواطن عندهم لا يأتي جَرّاً حتى لو أرادت اجهزة المخابرات ان تطمئن على صحّته!
كلّ هذا، والمرحوم عبدالله القصيمي ظل يردد حتى آخر حياته ان العرب ظاهرة صوتية!
غفرالله لك يا رجل. هذا افتراء فمتى كان لنا صوت حتى يكون ظاهرة؟!
الصوت الوحيد الذي امكن للعرب ان يطلقوه خلال اربعة عشر قرناً هو .. (صوت السهارى) !
البحث عن الذات
- أيها العصفور الجميل .. أريد أن أصدح بالغناء مثلك، وأن أتنقّل بحرية مثلك.
قال العصفور:
- لكي تفعل كل هذا، ينبغي أن تكون عصفوراً مثلي .. أأنت عصفور؟
- لا أدري .. ما رأيك أنت؟
- إني أراك مخلوقاً مختلفاً. حاول أن تغني وأن تتنقل على طريقة جنسك.
- وما هو جنسي؟
- إذا كنت لا تعرف ما جنسك، فأنت، بلا ريب، حمار.
***
- أيها الحمار الطيب .. أريد أن انهق بحرية مثلك، وأن أتنقّل دون هوية أو جواز سفر، مثلك.
قال الحمار:
- لكي تفعل هذا .. يجب أن تكون حماراً مثلي. هل أنت حمار؟
- ماذا تعتقد؟
- قل عني حماراً يا ولدي، لكن صدّقني .. هيئتك لا تدلُّ على أنك حمار.
- فماذا أكون؟
- إذا كنت لا تعرف ماذا تكون .. فأنت أكثر حموريّةً مني! لعلك بغل.
***
- أيها البغل الصنديد .. أريد أن أكون قوياً مثلك، لكي أستطيع أن أتحمّل كل هذا القهر،
وأريد أن أكون بليداً مثلك، لكي لا أتألم ممّا أراه في هذا الوطن.
قال البغل:
- كُنْ .. مَن يمنعك؟
- تمنعني ذلَّتي وشدّة طاعتي.
- إذن أنت لست بغلاً.
- وماذا أكون؟
- أعتقد أنك كلب.
***
- أيها الكلب الهُمام .. أريد أن اطلق عقيرتي بالنباح مثلك، وأن اعقر مَن يُغضبني مثلك.
- هل أنت كلب؟
- لا أدري .. طول عمري أسمع المسؤولين ينادونني بهذا الاسم، لكنني لا أستطيع النباح أو العقر.
- لماذا لا تستطيع؟
- لا أملك الشجاعة لذلك .. إنهم هم الذين يبادرون إلى عقري دائماً.
- ما دمت لا تملك الشجاعة فأنت لست كلباً.
- إذَن فماذا أكون؟
- هذا ليس شغلي .. إعرف نفسك بنفسك .. قم وابحث عن ذاتك.
- بحثت كثيراً دون جدوى.
- ما دمتَ تافهاً إلى هذا الحد .. فلا بُدَّ أنك من جنس زَبَد البحر.
***
- أيُّها البحر العظيم .. إنني تافه إلى هذا الحد .. إنفِني من هذه الأرض أيها البحر العظيم.
إحملني فوق ظهرك واقذفني بعيداً كما تقذف الزَّبَد.
قال البحر:
- أأنت زَبَد؟
- لا أدري .. ماذا تعتقد؟
- لحظةً واحدة .. دعني أبسط موجتي لكي أستطيع أن أراك في مرآتها .. هه .. حسناً، أدنُ قليلاً.
أوووه .. اللعنة .. أنت مواطن عربي!
- وما العمل؟
- تسألني ما العمل؟! أنت إذن مواطن عربي جداً. بصراحة .. لو كنت مكانك لانتحرت.
- إبلعني، إذن، أيها البحر العظيم.
- آسف .. لا أستطيع هضم مواطن مثلك.
- كيف أنتحر إذن؟
- أسهل طريقة هي أن تضع إصبعك في مجرى الكهرباء.
- ليس في بيتي كهرباء.
- ألقِ بنفسك من فوق بيتك.
- وهل أموت إذا ألقيت بنفسي من فوق الرصيف؟!
- مشرَّد إلى هذه الدرجة؟! لماذا لا تشنق نفسك؟
- ومن يعطيني ثمن الحبل؟
- لا تملك حتى حبلاً؟ أخنق نفسك بثيابك.
- ألا تراني عارياً أيها البحر العظيم؟!
- إسمع .. لم تبقَ إلاّ طريقة واحدة. إنها طريقة مجانية وسهلة، لكنها ستجعل انتحارك مُدويّاً.
- أرجوك أيها البحر العظيم .. قل لي بسرعة .. ماهي هذه الطريقة؟
- إبقَ حَيّاً!
فيلم واقعي
قرّر كاتب السيناريو أن يصنع فيلماً واقعياً حقاً. وقرر الناقد السينمائي أن ينقد السيناريو نقداً واقعياً حقاً.
جلس الكاتب، وجلس الناقد.
الكاتب: (منظر خارجي - نهار: الموظف يحمل أكياس فاكهة، واقف يقرع باب بيته)
الناقد: بداية سيئة. في الواقع، ليس هناك موظف يعود إلى بيته نهاراً. لا بد له أن يدوخ الدوخات السبع بين طوابير الجمعيات ومواقف الباصات، فإذا هبط المساء وعاد إلى بيته - إذا عاد في هذا الزمن المكتظ بالمؤامرات والخونة - فليس إلاّ مجنوناً ذلك الذي يصدّق أنه يحمل أكياس فاكهة!
الواقع انّه مفلس على الدوام. وإذا تصادف انه أخذ رشوة في ذلك اليوم، فالواقع أن الفاكهة غير موجودة في السوق.
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يقف ليقرع باب بيته) .
الناقد: هذا أحسن .. وإذا أردت رأيي فالأفضل أن تُزوّدهُ بمفتاح. لا داعي لقرع الباب في هذا الوقت. انت تعرف أن قرع الباب - في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة - يرعب أهل الدار ويجعل قلوبهم في بلاعيمهم. الموظف نفسه لن يكون واقعياً إذا فعل ذلك بأهله كلّ يوم. نعم .. يمكنك التمسّك بمسألة قرع الباب، على شرط أن تبدل الموظف بشرطي أو مخبر.
الكاتب: (منظر خارجي - ليل: الموظف يضع المفتاح في قفل باب بيته ويدخل .. ) لكن يا صديقي الناقد، ما ضرورة هذا المنظر؟ إنه يستهلك ثلاثين متراً من الفيلم الخام بلا فائدة. لماذا لا أضع الموظف في البيت منذ البداية؟
الناقد: هذا ممكن، لكن الأفضل أن تُبقي على هذا المنظر. فالواقع ان جاره يراقب أوقات خروجه وعودته، وإذا لم يظهر عائداً، وفي نفس موعد عودته كل يوم، فإنك تفترض أن تقرير الجار سيكون ناقصاً. وهذا في الواقع أمر غير واقعي، بل ربما سيدعو الجار إلى اختلاق معلومات لا أصل لها.
الكاتب: (منظر داخلي - متوسط: الموظف يخطو داخل الممر ... )
الناقد: خطأ، خطأ .. ينبغي أن يدخل مباشرة إلى غرفة النوم.
الكاتب: لكنَّ هذا غير واقعي على الإطلاق!
الناقد: بل واقعي على الإطلاق. أنت غير الواقعي. إنك تفترض دخول الموظف إلى بيت، وهنا وجه الخطأ. الموظف عادةً يدخل إلى وجر كلاب. نعم. هذا هو الواقع. البيت غرفة واحدة تبدأ من الشارع .. دعك من أدونيس، البيت ثابت لكنّه متحوّل. فهو غرفة النوم وهو المطبخ وهو حجرة الجلوس وهو الحوش.
الكاتب: (منظر داخلي - قريب: الموظف يخطو على أجساد أولاده النائمين - تنتقل الكاميرا إلى وجه الزوجة وهي تبدو واقفة وسط البيت "كلوزآب" تبدو الزوجة مبتسمة، وعلى وجهها امارات الطيبة ...
الزوجة: أهلاً .. أهلاً .. مساء الورد)
الناقد: إقطع .. بدأت بداية حسنة لكنك طيَّنتها. في الواقع ليس هناك زوجات طيبات، والزوجات أصلاً لا يبتسمن، خاصّة زوجات الموظفين .. ثم ماهذا الحوار الذي مثل قلّته؟ مَن هذه التي تقول لزوجها أهلاً ثم تكرر الأهلاً ثم تشفع كل هذا بمساء الورد؟!
أيّة واقعيّة في هذا؟ دعها تنهض من بين أولادها نصف مغمضة، مشعثة الشعر، بالعة نصف كلامها ضمن وجبة كاملة من التثاؤب .. ثم اتركها تولول كالمعتاد ..
(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا بلا عشاء، وأنت آتٍ في هذه الساعة ويداك فارغتان. مصيبتك بألف ياسنيّة .. )
الكاتب: انظر ماذا فعلت .. لو تركتني أزوّده بكيس واحد من الفاكهة على الأقل، لما اضطرَّ إلى مواجهة أناشيد سنيّة.
الناقد: زوّده يا أخي. لكنك لن تكون واقعياً. ثم أن أناشيد سنيّة لن تنقص حرفاً واحداً .. بل ستزيد. إن كيس الفاكهة ليس حذاءً جديداً لابنته التي تهرّأ حذاؤها، ولا هو مصروفات الجامعة لابنه الأكبر، ولا أجرة الرحلة المدرسية التي عجز ابنه الأوسط عن دفعها حتى الآن.
الكاتب: يصعب بناء الحبكة المشوّقة بوجود مثل هذه المشاكل التي لا حلَّ لها في الواقع.
الناقد: اجتهدْ .. حاول أن تتخلّص من أولاده قبل مجيئه.
الكاتب: إنهم نائمون أصلاً. ماذا أفعل بهم أكثر من ذلك؟
الناقد: دعهم نائمين .. ولكن في مكان آخر. في السجن مثلاً. هذا منتهى الواقعيّة. لا يمكن أن يكونوا في هذا العمر ولم ينطقوا حتى الآن بكلمة معكّرة لأمن الدولة!
الكاتب: وماذا أفعل بسنيّة؟ إنَّ اناشيدها ستكون أشدَّ حماسةً في هذه الحالة.
الناقد: اقتلْها بالسكتة القلبية .. من الواقعي أن تموت الأم الرؤوم مصدومةً باعتقال جميع أبنائها دفعةً واحدة.
الكاتب: ماذا يبقى من الفيلم إذن؟!
الناقد: عندك الموظف.
الكاتب: ماذا أفعل بالموظف؟
الناقد: لا تفعلْ أنت .. دَعْ جاره يفعل. تخلّصْ من الجميع بضربة واحدة. الزوجة في ذمّة الله، والموظف وأولاده في ذمّة الدولة. ونصيحتي أن تقف عند هذا الحد. فإذا فكّرتَ أن تذهب أبعد من هذا فستلحق بهم.
الكاتب: كأنّك تقول لي ضع كلمة (النهاية) في بداية الفيلم. أيُّ فيلم هذا؟ لا يا أخي، دعنا نواصل حبكتنا كما كنا، وبعيداً عن السياسة.
الناقد: كما تشاء. واصل.
الكاتب: (كلوز - وجه الزوجة وهي غاضبة)
(الزوجة: هذا أنت؟ إييه ماذا عليك؟ الأولاد ناموا جائعين، وأنت آتٍ كالبغل في مثل هذه الساعة ويداك فارغتان كقلب أمِّ موسى. مصيبتك سوداء يا سنيّة)
(قطع - الكاميرا على وجه الزوج - يبدو هادئاً)
(الموظف: ماذا أفعل يا عزيزتي؟ هذا قدرنا. الصبر طيّب. نامي يا عزيزتي. الصباح رباح)
الناقد: هراء .. هذا ليس موظفاً. هذا نبي! بشرفك هل بإمكانك أن تتحلّى بمثل هذه الرقّة حين تختتم يومك الشاق بوجه سنيّة؟ إنقل الكاميرا إلى وجه الموظف. كلوز رجاءً، حتى أريك كيف تكون الواقعيّة ...
(الموظف حانقاً يكاد وجهه يتفجّر بالدّم: عُدنا يا سنيّة يا بنت ال .. ؟ أكلّ ليلة تفتحين لي باب جهنم؟ ألا يكفيني يوم كامل من العذاب؟ تعبت يا بنت السعالي. تعبت. إذهبي إلى الجحيم (يصفعها) إذهبي .. أنتِ طالق طالق طالق. طالق بالألف. طالق بالمليون .. هه)
(الزوجة تتسع عيناها كمصائب الوطن العربي، أو كذمّة الحكومات. وتصرخ: وآآآآي .. وآآآآي)
(الكاميرا تنتقل إلى الأولاد. يستيقظون مذعورين على صوت امهم الحنون. يصرخ الأولاد. يزداد صراخ الموظف. قرع على الباب ولغط وراءه. تنتقل الكاميرا إلى الباب لكنها لا تلحق، الباب ينهدم تحت ضغط الجيران، وتمتلئ الغرفة بهم، ويتعلّق بعضهم بالمروحة لضيق المكان. ضجة الجيران تعلو. أحد الجيران - ولعلّه الذي يكتب التقارير - يحاول تهدئة الموقف)
(الجار: ماذا حصل؟ ماذا حصل يا أخي؟ ماذا حصل يا أختي؟
الموظف: لعنة الله عليها.
الجار: تعوّذ من الشيطان .. ماالحكاية؟
الزوجة: هووووء. طلَّقَني .. بعد كلِّ المرّ الذي تحمّلته منه، طلّقني.
الجار: لا. انت عاقل يا أخي. ليس الطلاق أمراً بسيطاً.
الموظف: أبسط من مقابلتها كلّ يوم. لعنة الله عليها.
الزوجة: إسألوه يا ناس .. ماذا فعلتُ له؟
الموظف: انقبري.
الجار: لكل مشكلة حل يا جماعة.
الموظف: لا حل.
الزوجة: يا ناس. يابني آدم. هل هي جريمة أن اقول له لا تشتم الرئيس؟!
(الجار فاغر الفم والعينين .. يحدّق في وجه الموظف .. إظلام)
الكاتب: وبعد؟!
الناقد: ليست هناك مشكلة .. بعد إعدام الزوج، سيمكن الزوجة أن تعمل خادمةً لتعيل أولادها قبل إلقاء القبض عليهم في المستقبل. تصرَّفْ يا أخي. دع أحداً من الأولاد يترك الدراسة ليعمل سمكريّاً. أدخله في النقابة وعلّمه كتابة التقارير. أو دعه يواصل دراسته، لكن اجعل اخته تنخرط في الإتّحاد النسائي. بحبحها يا أخي. كل هذه الأمور واقعية.
الكاتب: واقعية تُوقع المصائب على رأسي .. أيّة رقابة ستجيز هذا السيناريو؟!
الناقد: إذا أردت الواقع .. أعترف لك بأنَّ الرقابة لن توافق.
الكاتب: ما العمل إذن؟
الناقد: الواقعيّة المأمونة هي ألاّ يعود الموظف، ولا توجد سنيّة وأولادها، ولا يوجد البيت.
الكاتب: هذا أفضل.
يرفع الكاتب يده عن الدفتر .. ويرفع الناقد لسانه عن النقد.
***
في اليوم التالي .. يرفع الكاتب رجليه على الفلقة، ويرفع الناقد رجليه على المروحة.
في هذا الزمن المليء بالمؤامرات والخونة .. كلُّ شيء مُراقَب!
وجه
في ليلة من الليالي ...
لحظة واحدة .. كان بمستطاعنا - في الحقيقة - أن نقول (في ليلة من الصباحات) ، فالكلام ملك أيدينا، ولا سلطة لأحد علينا، إذا أردنا تفجير اللغة قرباناً للتفاؤل. لكنَّ المشكلة - في الحقيقة - هي أن الصباحات لدينا لا تختلف عن الليالي.
نعود إلى القول إنه في ليلة من الليالي، خرج ثلاثة رجال للبحث عن الحقيقة.
وإنصافاً للحقيقة، نقول إنهم خرجوا للبحث عن الحقيقة في بلادنا بالذات، لأنها البلاد الوحيدة التي لم تكن تعرف الحقيقة.
ولمّا كان الظلام حالكاً، فقد تاه الرجال الثلاثة:
واحد منهم سقط في بئر، وذلك لأنه -في الحقيقة- لم يكن يحمل فانوساً. ويحسن بنا الإنتباه إلى أن الرجل كان يملك فانوساً، لكنه لم يكن يملك نفطاً وسبب ذلك هو أزمة النفط في بلادنا!
أمّا الرجل الثاني فقد زلق في طين أحد البساتين، فوقع على وجهه، وحين تمالك نفسه واستطاع أن يقف من جديد، لم ينسَ أن يقتلع معه شيئاً مكوّراً وبارداً، كان يستقر بين بطنه وبين الطين.
هو - في الحقيقة - لم يكن يعرف أين وقع، لأنه، هو أيضاً، لم يكن يحمل فانوساً، لغلاء النفط كما ذكرنا، ولأنه، من شدة جوعه لم يكن يحمل رأساً، وذلك - في الحقيقة - لغلاء الطعام، كما لم نذكر.
وعندما طلع الصباح، كان الرجل الأول قد وصل إلى مبنى البلدية يقطر زفتاً .. أما الرجل الثاني فقد وصل بعده وهو يحمل بطيخة.
لكنَّ الرجل الثالث لم يصل إلاّ بعد ساعات من انعقاد المجلس البلدي.
لم يكن يقطر زفتاً، ولم يكن يحمل بطيخة.
سأله رئيس البلدية: ماذا وجدت؟
أطبق عينيه من فرط التعب، وزفر قائلاً: (لا شيء) .
عندئذ أطرق رئيس البلدية قليلاً، ثم رفع رأسه ببطء، وأعلن بمنتهى الهدوء والحسم: معنى هذا، أيها الأخوة، أن للحقيقة أكثر من وجه. ومنذ ذلك الوقت، نشأت في بلادنا ظاهرة التحزب.
المؤمنون بحقيقة الأول شكّلوا حزباً للزفت .. ومنهم تكوّنت الحكومة.
والمؤمنون بحقيقة الثاني شكّلوا حزباً للبطيخ .. ومنهم تكونت المعارضة.
أمّا المؤمنون بحقيقة الثالث فقد شكّلوا حزباً محايداً، جيبه يستعطي الزفت، وقلبه يتعاطى البطيخ، ورأسه يعطي (اللاشيء) .
ومن هؤلاء تكونت (الحداثة) !
يحدث في بلادنا
* ضبط إيقاع:
تعلّمتْ أختي العزف على الكمان، وتعلّمتُ أنا العزف على العود. كانت أمّي تعزف على الرِّق بمهارة، وكان أبي طبالاً مرموقاً.
توسّلت إلينا المعارضة أن ننضم إلى صفوفها، حيث أن مواهبنا ضرورية جداً لمواكبة الرّقص على الحبال.
وفي الوقت نفسه توسلت إلينا الحكومة أن ننضم إلى صفوفها، حيث أن مواهبنا ضرورية جداً لمواكبة القانون.
ولا نزال في حيرة شديدة ..
ما أشد حيرة أصحاب المواهب في هذا البلد المحب للفن!
* مجاملة:
دعاني صديقي إلى العشاء، امس، وقدّم لي طبقاً فارغاً.
ولمّا كانت الأصول في بلادنا تقضي بردِّ الدعوة، فإنني دعوته إلى الغداء عندنا، هذا اليوم، دون أن يكون في نيّتي أن أقدّم له طبقاً فارغاً كما فعل .. ذلك لأن تراثنا العائلي لا يسمح لنا باقتناء الأطباق!
لم أدر ماذا أصنع .. كان الموقف محرجاً جداً .. ولكي أحفظ ماء وجهي، استقبلت صديقي عند الباب بابتسامة عريضة، وصافحته بحرارة .. ثم طردته فوراً.
أغلقت الباب وراءه، ثم ازدردتُ، بشهيّة، حلاوة ابتسامتي، ورحت ألعق من أصابعي حرارة المصافحة!
* ما نتعلّمه من الدنيا:
في إحصاء السكان الماضي كانت أسرتنا تتكوّن من عشرة أشخاص.
وفي الإحصاء الأخير قامت الدولة بحذف الصِّفر من العشرة!
أنا الواحد المتبقّي سأعدم بعد يومين، أمّا الصفر المحذوف فقد أُعدموا لأنهم، قبل القبض عليَّ، لم يُبلّغوا السلطة بأني خائن.
حتى الآن أستطيع القول انَّ العمر لم يذهب دون فائدة .. لقد تعلّمت من الدنيا أنَّ الصفر في بلادنا يُساوي تسعة.
ولا ريب عندي في أن الناس، بعد إعدامي، سيتعلّمون من الدنيا أنَّ العشرة في بلادنا تساوي صفراً.
قضيّة دعبول
استلقى "دعبول" على الأرض، وشرع في تقويس ظهره ببراعة لاعب "يوغا" .. وظل يتدرج في تقوّسه شيئاً فشيئاً، حتى تم له في النهاية أن يُطبق رجليه على فمه.
وحالما استكمل شكله الدائري، فتح شدقيه بشهية بالغة، ثم ابتلع نفسه.
***
ولأن العالم أصبح قرية صغيرة، فإن الخبر وصل إلى القطب الشمالي، حتى قبل أن يصل إلى "دعبول" نفسه!
جاءت، على الفور، وفود من شتى أنحاء العالم، واكتظ بيت دعبول على اتساعه بالصحافيين وعدسات التصوير وكاميرات التلفزيون وميكروفونات الإذاعات ولجان الحقوق المختلفة، حتى دعت الحاجة إلى تعطيل حركة المرور .. ذلك لأن بيت دعبول هو رصيف الشارع العام.
كانت أنظار العالم كلها مصوبة إلى دعبول .. وكان دعبول كلّه عبارة عن كرة مبهمة راقدة بسكون وسط الضجة العارمة.
***
صرخت مندوبة الجمعية العالمية للدفاع عن حقوق الأحذية:
من حق هذا المتوحش أن يفعل بنفسه مايريد، لكن ليس من حقه أن يبتلع الأحذية المسكينة .. إنني أطالبه، باسم جمعيتنا الموقرة، بأن يطلق سراح الفردتين حالاً .. من غير نقصان نعل أو مسمار.
***
وفي تلك الأثناء أصدر صندوق النقد الدولي احتجاجاً شديد اللهجة على هذا العمل الوحشي الجبان .. وقال ناطق طلب عدم ذكر اسمه أن وراء احتجاج الصندوق أسباباً تنافسية، لكنه لم يُعطِ توضيحات أكثر.
***
وأصدر رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الأزرار بياناً استنكر فيه العمل البربري الذي قام به دعبول، وركز على ضرورة إنقاذ الأزرار بأسرع وقت ممكن، كما ناشد الضمير العالمي الوقوف وقفة حازمة بوجه مثل هذه الأعمال اللا مسؤولة. وختم بيانه بالقول: إننا نحترم رغبة هذا الدعبول في ابتلاع قميصه وبنطلونه، بل وحتى حذائه .. لكن ما ذنب هذه الأزرار الصغيرة المغلوبة على أمرها، والتي لا تستطيع النطق أو الدفاع عن نفسها بأية وسيلة؟!
***
وفي كوالالمبور .. أعدمت السلطات رجلاً حاول أن يقلِّد دعبول .. وقال مسؤولون إنَّ هذا العمل يُعطي صورة بشعة للغربيين عن تخلّف سكان آسيا، وذلك حين يشاهدون واحداً منا وهو يأكل نفسه دون استعمال الشوكة والسكّين!
***
وأدلى مندوب جمعية الدفاع عن المصارين بحديث لإذاعة مونت كارلو، قال فيه إن جمعيته تندد بهذا العمل الآثم .. وتطالب دعبول بالخروج حالاً من مصارينه الدقيقة والغليظة على حد سواء.
ومما جاء في الحديث قوله: إنني لم أرَ في حياتي كلها مثل هذه القسوة .. ولا أدري كيف تأتّى لهذا البغل أن يخنق هذه المصارين الرقيقة بحشر نفسه فيها! هل يظن نفسه قالباً من "الآيس كريم" ؟!
***
وناقش البيت الأبيض، في جلسات مطوّلة ما سمّاه ب "دابولز سيتيويشن" .. وحذّر من احتمالات أن تعطل هذه المسألة مسيرة السلام في الشرق الأوسط .. وأنحى باللاّئمة على بكين، كما حذّر إيران من مغبّة اللعب بالنار.
وفي الوقت نفسه أصدر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بياناً أكّد فيه أن "بلعة دعبول" تعتبر تهديداً صارخاً لأمن إسرائيل.
***
وارتفع سعر الدولار إلى أعلى معدّل له منذ سبع سنوات، فيما انخفضت أسهم نفط بحر الشمال إلى أدنى معدل لها، ولم تتوفر على الفور أية معلومات عمّا إذا كان لقضية دعبول تأثير مباشر في هذا الشأن.
***
وأدلى مندوب لجنة الدفاع عن حقوق الأقمشة بتصريح قال فيه: لا يهمنا نوع قماش قميصه أو بنطلونه .. إنها مسألة مبدأ بالنسبة لنا، لا فرق إن كان قميصه من الحرير أو من الخيش .. كلُّها في النهاية، أقمشة بكماء ضعيفة لا تحسن الدفاع عن نفسها .. وعليه فإننا نطالب هذا الدعبول الأجرب بالإفراج عن قميصه وبنطلونه فوراً.
إن أنظار العالم تراقب معنا، بقلق شديد، معاناة هذه الأقمشة المرتهنة في جوف هذا الأحمق.
***
وأعلن أكثر من فصيل عربي معارض مسؤوليته عن بلع دعبول لنفسه، دون أن يتعرّض أيٌّ منها إلى مسألة بلع الأموال من أيّة جهة كانت .. فيما نفت جميع الحكومات العربية أن يكون لها أي دور في مثل هذه (البلعة) .
وعززَّ هذا النفيَ تصريح لدبلوماسي غربي (رفض فقدان عمولاته) حيث قال أن خبرته الطويلة في الشؤون العربية تجعله يعتقد بأن هذا النوع من البلع غير متعارف عليه رسمياً لدى جميع حكومات المنطقة.
***
وأعربت الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق (البنكرياس) عن قلقها البالغ على مصير الغدّة المسكينة، واتخذت بالتعاون مع حركة الدفاع عن حقوق (الأنزيمات) إجراءات فورية لتقديم شكوى عاجلة إلى منظمة (الفيفا) على اعتبار أن دعبول في شكله الكروي الراهن، يدخل ضمن مسؤوليتها.
***
وفيما كان العالم يتابع هذه القضية بذهول وترقّب وقلق .. بدا فجأة، أن كرة دعبول قد أخذت تتمدّد ..
وعلى حين غرّة، انطلق منها صوت صاعق أقرب ما يكون إلى (تفوووو) .. ثم استوى دعبول قائماً على قدميه حافياً عارياً!
بهت الجمهور الغفير .. ولمعت فلاشات أجهزة التصوير، وتراكض مندوبو وسائل الإعلام لتسجيل صورة إفراج دعبول عن نفسه .. لحظة بلحظة.
زمجر دعبول: يا أولاد الكلب المحترمين ... ما أنا إلاّ جائع، عارٍ، مشرّد، عاطل عن العمل .. فماذا أفعل سوى أن آكل نفسي، لأكون أنا طعامي وأنا بيتي؟!
إنني ضحيّة كل هذه الجهات التي أنكرت واستنكرت واحتجت ونددّت ونفت وأعلنت وادّعت وحذّرت، في الوقت الذي كان فمي مغلقاً بجسمي، ولا قدرة لي على الشكوى أو نفي الإتهامات.
لقد تشرّفت، هذا اليوم، برؤية منظمات للدفاع عن حقوق كل شيء في هذه القرية الصغيرة .. وها أنتم ترون أن الأحذية بخير، والأقمشة بخير، والمصارين بخير، والبنكرياس بخير، وإسرائيل بخير .. وأنا الوحيد الذي ليس بخير .. فلماذا لا أرى، وسط كل هذه القيامة، منظمة واحدة للدفاع عن حقوق دعبول؟!
ستقولون، يا أولاد الكلب المحترمين، إنَّ الضغط الدولي قد أجبرني على الإفراج عن جسمي.
لا والله .. إنني، ببساطة شديدة، تقيّأت نفسي قَرَفاً من هذا العالم!
***
تقول أنباء غير مؤكّدة إن السلطات أجبرت دعبول على ابتلاع نفسه .. عقوبة له لوقوفه عارياً وسط الشارع .. الأمر الذي يعتبر خدشاً للحياء العام!
ما بعد الزوال
كان بين الأنقاض ثلاثة رجال، هم كلُّ من تبقّى بعد المذبحة الأرضية. التراب تحت أرجلهم رماد، والسماء فوق رؤوسهم دخان.
الأول: فعلها الأشرار. طمعوا بها فدمّروها. لم يعيشوا ولم يتركوا الأبرياء يعيشون. ها نحن أولاء وحدنا على هذه الأرض. دعونا نفكّر في طريقة للحياة.
الثاني: أشتهي أن أدخّن.
الأول: دخّن كما تشاء .. الهواء كلُّه تحت أمرك.
الثاني: كلاّ. أريد سيجارة. حبّذا لو كانت سيجارة أجنبية.
الثالث: ليس في الأرض أجانب يصنعون السجاير. نحن وحدنا الأحياء، وليس بيننا أجنبي.
الأول: كفاكما جدلاً. ليس هذا وقته. المهم الآن أن نجد ما نأكله.
الثالث: هذا صحيح. يجب أن نجد ما نأكله.
الثاني: أنا جائع في الحقيقة، لكن لا تظنّا أنني سأنسى رغبتي إذا ما شبعت. التدخين يكون أشهى بعد الطعام. ثم إنني أرغب في كوب من الشاي بعد أن آكل.
الأول: أيّها الطيبان، هذه كماليات. الأمر الضروري هو أن نجد ما نأكله. لاحظا أننا سيمكننا مواصلة العيش بلا تبغ أو شاي، لكننا لن نعيش بلا طعام.
الثالث: السجاير أصلاً اختراع هولندي. هي أصل الشر. ليست سوى وسيلة من وسائل الإستعمار.
الأول: والشاي كذلك. صحيح انه اختراع صيني، إلاّ أن الإنجليز برعوا في جعله وسيلة من وسائل الإستعمار.
الثاني: يسقط الإستعمار.
الأول: لقد سقط فعلاً، لكنّه واأسفاه أسقط الدنيا كلَّها معه.
الثاني: لندخّن إذَن على شرف سقوط الإستعمار.
الأول: حاول أن تصبر يا صديقي، ودعنا الآن نفكّر في طريقة لاستعمار الأرض.
الثاني: فكّر وحدك. لن أسلك طريق الإمبريالية حتى لو مِتُّ جوعاً.
الأول: أنت مخطئ يا عزيزي. الإستعمار عمل عظيم. الإستعمار هو أصل وجود آدم على هذه الأرض، لكنَّ قراصنة الغرب هم الذين شوّهوا سمعته.
الثاني: إذن فهو مشوّه السمعة.
الأول: لنبدأ سمعته من جديد. دعونا نحسّنها على أيدينا.
الثالث: نعم. إنه مشوّه السمعة. نعم .. دعونا نحسّن سمعته على أيدينا.
الثاني: إرفع قدمك عن أعصابي. إنك تؤلمني. أأنت معي أم معه؟
الثالث: أنا معكما.
الأول: وأنا أيضاً معكما.
الثاني: أنا أكره وجهة نظرك، لكنني أحترمها. أمّا هذا فليس لديه وجهة نظر .. ولذلك فأنا مضطر لأن أكرهه.
الأول: ينبغي ألاّ يكره أحدنا الآخر. ألا ترون أن الكراهية هي التي أوصلت الأرض إلى هذه النتيجة؟
الثاني: إذن، أنا مضطر لأن لا أكرهه، وأحسب أن هذا الأمر سيجعلني محتاجاً إلى التدخين.
الثالث: التدخين مضر بالصحة.
الثاني: صحّتك أم صحّتي؟
الثالث: صحّتك طبعاً. لكنني أتضايق أيضاً من رائحة التبغ.
الثاني: إبتعد عنّي حين أدخّن. بإمكانك مثلاً أن تخرج إلى القطب الشمالي.
الأول: في الواقع نحن لا نعرف موقعنا على الأرض بالضبط. ربّما نحن في القطب الشمالي فعلاً!
الثاني: ليذهب إلى خط الإستواء. هناك سعة لمن لا يحب رائحة التبغ.
الأول: أووه .. لا يعنيني تدخينك، ولا كراهيته للتدخين. إنني مهتم الآن بتحديد موقعنا على هذه الأرض.
الثاني: هل أنت متأكّد من أننا فوق الأرض حقّاً؟
الأول: وأين يمكن أن نكون؟!
الثاني: على المرّيخ مثلاً.
الثالث: لا يمكن. ليس على المريخ حياة.
الثاني: اسكت أنت. ماذا نعرف عن المريخ؟ كلُّ ما نعرفه الآن هو أن ليس على الأرض حياة.
الثالث: عليها .. نحن الثلاثة لا نزال أحياء.
الثاني: أيها الغبي، لم نتحقق بعد من أننا فوق الأرض. ثم مَن يستطيع أن يؤكد أننا أحياء؟!
الأول: أعتقد أننا أحياء. فالموتى لا يتكلمون.
الثاني: هل مِتَّ من قبل لتعرف أن الموتى لا يتكلمون؟ ربّما لم نكن نفهم كلام الموتى لأننا كنا أحياء. وها نحن أولاء يفهم بعضنا بعضاً لأننا ميتون!
هل تتذكرون؟ عندما كنا نحيا في الوطن العربي لم نكن نتكلم إطلاقاً.
الثالث: هذا صحيح، أذكر ذلك جيداً.
الثاني: إذن فليس الموتى وحدهم الذين لا يتكلمون. كلُّ المسائل نسبيّة يا جماعة.
الثالث: لا أتفق معك. فنحن مازلنا عرباً .. ومع ذلك فنحن نتكلّم.
الثاني: طبعاً لا تتفق معي، لأنّك مصّر على أن تظلَّ عربياً. إسمع يا رجل، ينبغي أن تدرك أنك تتكلم الآن لأنك لم تعد عربياً. أنت الآن عالمي. إذا أردت الدقّة أنت الآن ثلث نفوس العالم.
الثالث: أيُّ عالم؟
الثاني: إذا لم نكن على المريخ، وإذا كنّا أحياء، فليس عندي شك في أنك العالم الثالث!
الأول: نحن جميعاً في موقع واحد.
الثاني: في اللحظة الراهنة نعم. لكنني أعتقد أنه جاءنا لاجئاً. ألا ترى أنه بلا رأي؟
الأول: لقد عبَّر عن رأيه بكل وضوح.
الثاني: أيُّ رأي؟ إنه يردّد ما أقوله أو ما تقوله. لم يقل شيئاً سوى أن التدخين مضر بالصحّة.
الثالث: وبالبيئة أيضاً.
الثاني: البيئة؟!
الأول: اسكتا .. البيئة نفسها تدخّن الآن. ينبغي أن نفكّر ريثما يزول هذا الدخان.
الثاني: لا أستطيع التفكير وهذا (الأخضر) مغروز في خاصرتي. قل له أن يشفق على أعصابي بقدر إشفاقه على البيئة.
الأول: إذا واصلنا الجدال فسنهلك.
الثاني: لا بأس، إذا كان الهلاك سيخلصني من هذا الببغاء.
الأول: الجدل مفيد إذا كان مفيداً.
الثالث: حكمة والله!
الأول: علينا أن ننظّم تفكيرنا وحوارنا.
الثاني: الإختلاف قائم لا محالة.
الثالث: نعم نحن نختلف لا محالة. علينا أن ننظّم تفكيرنا.
الثاني: وحوارنا كما قال.
الثالث: وحوارنا.
الثاني: ألم أقل إنك ببغاء؟!
الأول: إننا ندور في حلقة مفرغة. لماذا لا ننتخب واحداً منّا ليكون هو القائد، ويكون على الآخَرين احترام رأيه؟
الثاني: مَن يضمن لي أن يجري الإنتخاب دون تزوير؟
الأول: أنا أضمن ذلك. إننا لم نعد في الوطن العربي، كما اننا جميعاً سنراقب العملية عن كثب.
الثالث: نحتاج إلى صندوق.
الثاني: ما حاجتنا للصندوق؟!
الثالث: هه .. كيف يجري الإنتخاب دون صندوق للاقتراع؟
االثاني: إذا عثرنا على صندوق فأول ما سأفعله هو أن أضعك فيه وأشيّعك إلى مثواك الأخير.
الثالث: أنت دكتاتور.
الأول: كلاّ .. هو ديمقراطي.
الثالث: لماذا يقف ضدَّ فكرة صندوق الاقتراع؟
الثاني: يا كائن. ألا ترى أنه لا يوجد صندوق؟
الثالث: نبحث عن صندوق.
الأول: حسناً .. لننتخب أحدنا ليقود عملية البحث.
الثالث: هذا أحسن حل.
الثاني: كيف ننتخب؟!
الأول: بالاقتراع.
الثالث: نحتاج إلى صندوق.
الأول: نحن نحاول انتخاب أحدنا ليقود عملية البحث عن صندوق.
الثالث: حل جيّد.
الثاني: سأقتل هذا الببغاء.
الأول: لا تشتبكا. بإمكاننا في هذه المرّة أن نجري الانتخاب بالتصويت المباشر.
الثالث: في هذه المرحلة فقط.
الثاني: أنا أرشّح نفسي.
الأول: وأنا ارشّح نفسي.
الثالث: وأنا أرشّح نفسي.
الثاني: أنت لا.
الثالث: لماذا؟ أأنتما أحسن منّي؟!
الثاني: إذا رشّحنا جميعاً فمن سيراقب سير الانتخاب؟ لابدَّ أن يتولّى أحدنا مهمة الرقابة.
الثالث: لننتخب أحدنا لهذه المهمة.
الثاني: أنا أرشّحك وأصوّت لصالحك.
الأول: سأصوّت ضدّه.
الثاني: إذن، أعيّنك أنت رئيساً للجنة الرقابية.
الثالث: مَن أنت حتى تعيّنه؟ كلاّ .. يجب أن يجرى انتخاب.
الأول: لا شأن لي بانتخابات رئاسة اللجنة الرقابية، أنا مرشّح قيادة للبحث عن صندوق اقتراع لانتخابات القيادة العامة.
الثاني: أنا منسحب.
الأول: في هذه الحالة رشّح نفسك لانتخابات اللجنة الرقابية.
الثاني: لن أرشّح في أي انتخاب.
الثالث: إذن إدلِ بصوتك كمواطن عادي.
الثاني: لا ثقة لي بأي مرشّح. أنت مثلاً .. ما هو برنامجك الانتخابي؟
الثالث: برنامجي؟!
الأول: ... ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الطيبَين. وأعد بشرفي انني إذا تمّ انتخابي، سأعمل بكل طاقاتي وبتفانٍ وإخلاص لتحقيق المكاسب التالية: أولاً: العثور على صندوق للاقتراع، ثانياً: إجراء انتخابات حرة مستندة إلى صندوق الاقتراع، ثالثاً: توحيد الصّف ومحاربة الأميّة وتوفير الوظائف وإطلاق حرية الرأي.
الثالث: ماذا يقول؟!
الثاني: أحسن منك. رجل عنده برنامج.
الثالث: أهذا هو البرنامج؟
الثاني: نعم. هذا هو. أم كنت تظنه برنامج (ما يطلبه المستمعون) ؟
الثالث: ويحي. هذا سهل. أنا أيضاً أستطيع أن أقول مثل هذا البرنامج.
الثاني: هات ما عندك.
الثالث: .. ومن أبرز أهدافي أن أكون في خدمة هذين الرفيقين الثلاثة. وأقسم بشرفي أن أحقق المنجزات التالية: أولاً: العثور على صندوق، ثانياً: العثور على طعام، ثالثاً: توحيد الصف ومحاربة الإمبريالية.
الأول: حسناً .. أمامك برنامجان.
الثاني: ليس في البرنامجين ما يغريني بانتخاب أحدكما. لم يتطرق أيّ منكما إلى ضرورة توفير السجاير لي.
الأول: الطعام أوّلاً.
الثالث: السجاير مضيعة للمال والصحّة.
الثاني: انتخبا لوحدكما.
الأول: وماذا ستفعل أنت؟
الثاني: مقاطعة الانتخابات.
الأول: موقف غير حضاري. لا يجوز للمواطن الأصيل أن يتخذ موقفاً سلبيّاً من قضيّة الانتخابات.
الثاني: لست سلبياً. أنا على الحياد. الحياد الإيجابي.
الأول: أعتقد أن لا مفر من القيادة الجماعية.
الثالث: كنا هكذا منذ البداية!
الأول: نعم. لكن بطريقة بدائية. أمّا الآن وقد تبلورت القضيّة، فإننا نستطيع أن نسمّي أنفسنا مجلس قيادة.
الثاني: نقود مَن؟!
الأول: أنفسنا.
الثاني: هذه بدعة عربية. نحن الآن عالميون.
الأول: ماذا نفعل إذن؟
الثاني: احسن شيء هو أن يمضي كل واحد منا في اتجاه.
الثالث: فكرة جيدة .. لكنها أيضاً فكرة عربية.
الأول: لماذا انتما معقّدان من العروبة؟ لماذا لا نكون عرباً وعالميين في الوقت نفسه؟ ألا يكفي العرب كرامة عند الله أن يكون منهم الثلاثة الوحيدون الذين بقوا على قيد الحياة فوق الأرض؟!
الثاني: على قيد الحياة؟ من قال إننا أحياء حقاً؟ فوق الأرض؟ من قال إن هذه هي الأرض حقاً؟ كرامة؟ أينبغي أن يزول جميع البشر لكي يستطيع ثلاثة من العرب أن يشعروا بكرامتهم؟!
الثالث: إثنان فقط. أنا لا أشعر بالكرامة. كيف أشعر بها وأنت عاكف على إهانتي؟
الثاني: إذا كانت كلمتي ثقيلة عليك فبإمكانك أن تطلب حقَّ اللجوء من هذا ..
الأول: لا تحرجني. أنت تعلم أنني لا أستطيع البتَّ في طلبات اللجوء قبل الانتخابات.
الثاني: أقترح في هذه الحالة أن تجرى انتخابات مبكّرة.
الثالث: سنحتاج إلى صندوق ..
الأول: وإلى ناخبين ..
الثاني: وإلى لجنة رقابية ...
مكان شاغر على القمة
تلقّى الكاتب الشهير رسالة من كاتب ناشىء، يشكو فيها بمرارة من ثقل شعوره بالإخفاق على الرغم من بذله غاية الجهد، قائلاً إنه قد أرسل العديد من قصصه القصيرة إلى جميع المجلات المعروفة، لكنّه، مع طول انتظاره، لم يحظ بنشر أيّة واحدة منها، الأمر الذي جعله يفقد الثقة في نفسه. ولأنه لا يعرف ماذا يصنع، فقد توجّه إليه طالباً منه النصيحة.
وقد ردّ عليه الكاتب الشهير قائلاً: هناك دائماً مكان شاغر على القمّة لكاتب جيّد جديد. والطريقة المُثلى للوصول إلى هناك هي أن تبدأ من أسفل السفح. وإذا لم تكن ممن يروق لهم الابتداء من الأسفل، فهذا يعني أنّك لست ممن يروق لهم اتّخاذ الكتابة مهنة. وعلى أيّة حال، فإن هناك آلافاً من الصحف الأسبوعية، والمطبوعات التجارية، والمجلاّت الصغيرة، والمنشورات الإعلانية، ولابدّ لمن كانت لديه درجة معقولة من القدرة على الكتابة، أن يجد، ذات يوم، فرصة للنشر في واحدة منها.
وإذا كان أهمّ شيء في حياتك هو أن يظهر عملك بالأحرف المطبعية، فإن الأمر سيبدو لك جيداً، مهما كان المكان الذي يظهر فيه. وإذا بدا ذلك العمل جيداً للقارىء أيضاً، فإنك لابُدّ أن تجد كثيراً من المحرّرين والناشرين الذين يرغبون في مساعدتك على الصعود قُدُماً إلى القمّة.
تلك هي نصيحة الروائي الأمريكي الكبير (أرسكين كالدويل) لواحد من قراّئه المتطلّعين لأن يكونوا كُتّاباً، وقد جاءت في سياق ردّه على مجموعة من الأسئلة الشائعة التي تجمّعت لديه عبر سنوات عمله، فأفرد لها فصلاً ختاميّاً في كتابه (سمِّها خبرة) ، الذي روى فيه تفاصيل تجربته الشخصيّة في تعلّم الكتابة.
والواقع أنّ تلك الإجابات هي ليست سوى خلاصات لوقائع تجربته المريرة التي حفر خلالها الصخر بأظافره، من أجل أن يستوي أخيراً على مقعد الشهرة والاكتفاء المالي.
إنّه لا يطرح المواعظ الجوفاء من برجه العاجيّ، لتطمين أبناء الشقاء المتزاحمين في أسفل المبنى. ولكنّه يخبرهم بتواضع خالص، بأنه كان واقفاً، ذات يوم، في مثابتهم، وقد اقتضاه الوصول إلى موقعه الحالي أن يدفع كل الضرائب المترتّبة على من يبتغي الوصول .. وهي كما يرويها كانت ضرائب فادحة. أي أنه يقول لهم باختصار: "من الممكن أن تصبحوا مثلي اليوم، إذا استطعتم أن تكونوا مثلي بالأمس" .
لقد عاش هذا الرجل أعواماً طويلة وهو جالس وراء آلته الكاتبة، كلّ يوم، في البرد أو في الحر، لينتج مئات القصص ويرسلها إلى مئات المطبوعات، لتلقى نهايتها في سلال المهملات، دون أن يداخله اليأس أو الملل. وكان، عاماً بعد عام، يختصر نفقات الطعام، ليزيد في نفقات الطوابع التي يحتاجها لإرسال قصصه.
والعمل الوحيد الذي استطاع أن يحصل عليه، من أجل أن يعيش، هو كتابة عروض سريعة للكتب الجديدة، لحساب إحدى المجلاّت التي كانت ترسل إليه رزماً منها كلّ شهر، غير أنّها بدلاً من أن تدفع له مالاً نظير ما يكتبه، كانت تسمح له بأن يحتفظ بالكتب المرسلة إليه، فكان بدوره يبيع بعضها لتجّار الكتب المستعملة مقابل بضعة سنتات لكلّ كتاب.
وللمرء أن يتخيّل بشاعة ما كان يعانيه من فاقة، حين يقرأ البهجة العارمة في السطور التي يصف فيها ذكرى نشر أول قصّة له، وتلقّيه ثلاثة دولارات مكافأة عنها من المجلّة التي نشرتها، إذ يقول: "لقد أُتيح لنا في ذلك اليوم أن نتذوّق طعم اللحم، بعد زمن طويل من الحرمان" !
والكتاب بجملته درس لكلّ كاتب، فهو يقرّر أنّ على من يريد أن يكون كاتباً، أن يكون مخلصاً للكتابة حتى الرمق الأخير، على الرغم من كل العوائق والمحبطات.
ولعلّ جوابه القصير على سؤال حول مقدار المال الذي يكسبه من عمله، يبيّن لنا بإيجاز المعنى الكبير للرسالة التي تضمنها كتابه.
يقول أرسكين كالدويل: "ليس لي دخل منتظم، لأن ما أكسبه يعتمد على المكافآت التي أتقاضاها لقاء ما أكتبه. فأحياناً أكسب عشرة دولارات في عام كامل، وأحياناً أكسب ثلاثة آلاف دولار في أسبوع" !
والمعنى الكامن وراء هذه الإجابة هو أنه ليس مهمّاً أن يكون النشر منتظراً لدى الباب، وليس مهماً أن يكون المكسب في متناول اليد .. بل المهم هو أن تكتب وتكتب وتكتب، مضمراً في قرارة نفسك أنّ الكتابة، بحدّ ذاتها، هي الوسيلة والغاية معاً.
نوع العقوبة
في عام 1973 قام الجنرال الشيلي السفاح (أوغستو بينوشيه) بانقلاب عسكري، بدأه بإطلاق نيران المدفعية علي بيت الرئيس المنتخب (سلفادور ألليندي) .. مما ادي الي مصرع الاخير وغرق شيلي في مستنقع الرعب والقتل الجماعي طيلة اعوام لم تنته إلا في وقت قريب، بعد ان كنست عواصف التغيير شيخوخة الجنرال ونظامه الي مزبلة التاريخ.
وقد كاد هذا الوحش يواجه العقاب في لندن مؤخرا، بعد احتجازه للمحاكمة بدعاوي اهل ضحاياه وانصارهم، لولا ان شفعت له عمالته القديمة، يوم ان سخر ارض بلاده للبريطانيين في (حرب الفوكلاند) .. فتم تهريبه من العقاب، تحت جنح ظلام العدالة!
والمرء يتساءل عن العبرة من محاكمته في بريطانيا؟ ان عدالتها لن تعدمه، لأن عقوبة الاعدام ملغاة فيها. وحتي اذا اعدمته فما الفائدة؟ انه في ارذل العمر، وموته راحة له. وفي الحالين لن يكون في عقوبته ما يطفيء غلّ ضحاياه.
الروائية الشيلية الفذة (إيزابيل ألليندي) ، وهي ابنة عم الرئيس المغدور سلفادور، وواحدة من ضحايا بينوشيه، قررت عقوبة للدكتاتور علي طريقتها، ففي مقابلة لها مع صحيفة (التايمز) البريطانية قالت: لقد سُئلت في شيلي مؤخرا عن النهاية التي أود كتابتها للجنرال بينوشيه، فأجبت بأنني اتمني له ان يصبح عجوزا جدا جدا، حتي يتجاوز عمره المائة عام، وان يكون طيلة هذا الوقت محاطا بأشباح ضحاياه ممن خانهم اوأرهبهم او قتلهم، ومحاطا ايضا بأبناء هؤلاء حتي آخر لحظة من حياته الطويلة.
وقاطعها المحرر قائلا: انت تفترضين ان السفاح يمتلك نوعا من الضمير.
فردت: لو كان يملك ضميرا حقا، لما كانت هناك حاجة لإحاطته بالاشباح!
أتأمل كلامها، ويخطر في ذهني رئيسنا المناضل، الذي اخرجه الاميركان من جحره علي هيئة نشال، وبصحبته مسدسه ورشاشاته التي كان يدخرها لوقت الشدة الذي لم يأت ابدا!!
وأتساءل في نفسي: بأية اشباح سنخيف هذا الأشعث الاغبر الذي كان نائما في حفرة ضب بصحبة الجرذان؟ انه برغم ذلته وهوانه ما زال يسمي ضحاياه من الاهل والجيران لصوصا وخونة وغوغاء.
ثم ماذا سيفيدنا عذابه بهذه الطريقة الرومانسية، اذا كنا لا نزال غارقين في توابع زلزاله من المرتزقة الانذال الذين يرقصون علي دمائنا في وسائل الاعلام، ومن الجهلة الذين ما زالوا يصدقونهم برغم ظهور كل محتويات جحيمنا للقاصي والداني؟ بالنسبة لي .. اتمني انا ايضا لهذا السفاح ان يعيش مائة عام فوق عمره، بشرط ان يوزع علي جميع الدول العربية، ليحكمها دوريا (علي طريقة مجلس حكمنا الانتقالي) .. لكن بواقع خمس سنوات لكل دولة، علي ان يوظف يتاماه الطبالون اعضاء في مجلس قيادته.
أخمن ان سنة واحدة ستكون كافية ووافية تماما، لكي يعرف شعب كل دولة ان الله حق، وان الشعب العراقي (معجزة) بالتأكيد .. حين استطاع ان يبقي حيا، وهو علي قيد الوفاة طيلة ستة وثلاثين عاما!
أما اعضاء مجلس قيادته، فانهم سوف لن يعرفوا اطلاقا ما ستعرفه الشعوب، وذلك لأن الصورة ستخلو منهم تدريجيا بارسالهم الي السماء -بنظام الشفتات- حسب (حسابات الحاضر والماضي) كما كان يقول مهيبنا الهارب من الخدمة العسكرية!
فاذا اكمل القائد دورات حكمه، وامكن ان يجدوا فيه نفسا يتردد، بعد استخراجه من الحفرة العشرين، فلا بأس، عندئذ، من البدء بمحاكمته.
مابين خفقٍ في الفؤاد .. وكلمة فوق اللسان ..
في أول هدأة للمرض كنت أنوي أن أنفض الليل المطبق على الأوراق وأشرع في الكتابة، مهما كلفني ذلك من جهد، أنا الذي وجدتني أخوض صراعات شاقة من أجل القيام بأمور معتادة وبسيطة كالصلاة، أو القراءة أو حتى مشاهدة فيلم مسلٍّ لتخفيف حمّى الوقت.
كنت سأقول: أليس من الغريب أن يصطفي المرض من عمري سنواته الأقسى والأكثر ألماً ويدسّ سمّه فيها؟
أن يتسلّل على أطراف أصابعه ويعبث بكريات دمي فيما أنا واقف على أطراف أصابعي أتأمل من نافذة غربتي "عراقي" الحزين، وقد آل إلى ضياع جديد، وأفكر في جدوى أن أعرق كلما ارتفعت حرارة الوطن فيما العصابات هناك تعيث في روحه فساداً وتسرق الحياة من شرايينه؟
كنت سأقول: أليس من المؤلم جداً، ولم تمض أربعة أشهر بعد، على كتابتي قصيدة (ثلاثون) ، تلك السيرة القصيرة الطويلة التي ضبطت نفسي وأنا أغالب عبرتي أثناء كتابتها، أن يؤمّن المرض على رحلة السندباد ويهديني زوبعة جديدة بغرض التلهّي عن الزوبعة الأولى ربما؟
هل يملك من يحمل في داخله وطناً كالعراق طاقة إضافية للصراع مع مرض آخر، وهل يستطيع حقاً أن ينشغل بعلاج بدنه عن علاج روحه؟
كنت سأقول وأسهب عن موسم واحدٍ فقط يعرفه سرير المرض وهو موسم الشتاء، فلا صيف ولا ربيع ولا حتى خريف وإنما برودة ضارية تتخلل الأغطية البيضاء وتوسع قاموس الأدوية والمضادات وتحيل حتى كأس الماء إلى قطعة جليد.
كنت سأقول أنّ (سبتمبر) ، الذي وعيت فيه على مرضي، هو أقسى الشهور وليس (أبريل) ، وإنّ "إليوت"مات قبل أن يرى الأرض الخراب الحقيقية.
كنت سأضحك من شرّ البلية وأنا في البرزخ بين جرعة علاج وأخرى وقد رجتني الطبيبة أن أغمض عينيّ وأسترخي قليلاً كأن ألوذ بالتفكير في شيء جميل "فكر مثلاً في بلدك .." قالت ذلك قبل أن تستدرك وهي ترى معالم الدهشة على وجهي وتتذكر أنني من البلد الذي يلعب الآن دور البطولة التراجيدية على شاشات التلفزيون "لا لا .. بل فكّر في أي شيء آخر عدا بلدك!" ثم تتحول الضحكة إلى نوبة نشيج مكتوم عندما يعيد ابني الأكبر على إخوته رواية الحادثة مرة واثنتين وثلاثاً!
كنت سأقول ألست أنا من أردّد - صادقاً - أنني لم أعتد على الإستسلام، منذ كنت طفلاً غرّاً، وأنني أستطيع الوقوف وحيداً في وجه أقسى الهزائم لأحيلها إلى انتصارات تشبه إرادتي، وأنني لم أتخلّ يوماً عن إيماني العميق برحمة الله التي أنجتني أيضاً، منذ كنت يافعاً، من شرّ خلق الله، وأنّ هذه الأشهر هي اختبار لا مفرّ منه لصلابة نفسي؟
كنت سأقول إنه لو كان للمرض من حسنة فهي أنه أبعدني - قسراً- عن الاستماع إلى نشرات الأخبار وعن قراءة الصحف وعن كل ما له صلة بالموت هناك، سواء بوجهه الفيزيائي من خلال المجازر التي ترتكب بشكل يومي أو بوجهه الآخر المتبدي جلياً في الضمائر الملوثة التي تبيع وتشتري باسم الوطن والوطنية، لولا أنّ الأخبار تتسلل، رغم حيطة المقربين، عن طريق ملاحظة عابرة أو هامش صغير أو تداع لكلمة من هنا وصوت من هناك أو عنوان رئيسي لصحيفة مهملة، وأن كل ذلك كاف لأيقاظ الآلام التي تتصنّع الغفوة داخلي وعودة
أبنائي إلى التوسّل إليّ أن أضرب عرض الحائط بكل شيء وأفكر فقط في نفسي "على الأقل في فترة مرضك، حاول أن تنسى كل ما من شأنه أن يثير انفعالك وأساك" !
كنت سأقول أشياء كثيرة عن خطورة المرض والشروط القاسية التي يمليها على أبسط طقوس الحياة وعن جبهته الواسعة والمفتوحة على معارك شتى، وعن الوطن الذي يبتعد كلما اقتربت وعن اللصوص المتنفذين بداخله والمحيطين به من كلّ جانب، وعن الإرادة والوقت وأشياء أخرى مصطفة بأدب جم في انتظار أن أفضح صمتها، غير أن كلّ هذه الأشياء، كلها دون استثناء، يمكن تأجيلها، أو بالأحرى يجب عليها أن تجلس على كراسي الصفّ الثاني وتشخص بأعينٍ ممتلئة بالامتنان لأصحاب الصفّ الأول، أولئك الذين رافقوني مع أسرتي طيلة الرحلة الصعبة، فكانوا وطناً آمناً وشفاءً، وكانوا كل ما يجب أن يقال الآن في هذه اللحظة: صحيفة الراية ورئيس تحريرها الصديق الأستاذ يوسف درويش، الذي لم يكفّ عن السؤال والاطمئنان، والذي احتوى فترة مرضي وانقطاعي الطويل عن الكتابة بكثير من النُبل والأريحية وأصرّ على أن أبقى بينهم حاضراً في الغياب وكأنّ قلمي لم يتوقف عن النبض لحظة وكأنّ صوتي لم يتحشرج لثانية.
ثم ثلّة الأصدقاء والصديقات الذين تركوا العواصم المتباعدة خلفهم وطووا المسافات الطويلة لكي يغتالوا وحشتي بحضورهم ويمدوا أيديهم، ولو لبضع ساعات، إلى كتفي ويهمسوا في أذني لعلّ المرض يسمعهم فينكمش خجلاً: إننا هنا يا أحمد.
ومثلهم ذلك الجيش الملائكي الذي أسميه مجازاً (قرائي) ، وهم شعب من الأجناس المختلفة والأعمار المختلفة والمستويات المختلفة وربما القلوب المختلفة أيضاً، الذين بلغني أنهم يتابعون أخباري بكل الوسائل المتاحة لديهم، وهي أكثر صدقاً ونقاء من جميع وسائل الإعلام العربية، ويتبادلون الدعاء من أجلي عبر رسائلهم الهاتفية، ويلاحقون أنباء صحتي في مواقعهم الشخصية على الإنترنت، والذين اجتمعوا على أن يوصلوا إليّ حبّهم وكلماتهم ودعواتهم التي كان لها فعل السحر عند رجلٍ يعلمون جيداً أنه أعزل!
أنتم جميعاً، أيها الأعزاء، سندي وقرّة عيني، وأنتم الرهان الذي لا يخيب، وأنتم الوطن الخافق في الفؤاد والساكن تحت المداد.
هذا تماماً ما أريد قوله في أول هدأة للمرض، ومن دفء هذا الإحساس يمكنني أن أقتبس النور في بلدٍ لا تزوره الشمس إلا بشكلٍ عابر.
من كل قلبي: شكراً لكم.
أحمد مطر
إهداء الى اسرة الساخر وجميع الاعضاء
مع تحيات محبكم "لست بساخر!"
المجلد (1)
الصفحة (6)
عبد الذات
بنينا من ضحايا أمسنا جسرا ،
وقدمنا ضحايا يومنا نذرا ،
لنلقى في غد نصرا ،
ويممنا إلى المسرى،
وكدنا نبلغ المسرى ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر قتلانا ،
وقلنا إنه أدرى ،
وبعد الصبر ألفينا العدى قد حطموا الجسرا ،
فقمنا نطلب الثأرا ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر آلافا من القتلى،
وآلافا من الجرحى ،
وآلافا من الأسرى ،
وهد الحمل رحم الصبر حتى لم يطق صبرا ،
فأنجب صبرنا صبرا ،
وعبدالذات لم يرجع لنا من أرضنا شبرا،
ولم يضمن لقتلانا بها قبرا ،
ولم يلق العدا في البحر، بل ألقى دمانا وامتطى البحرا،
فسبحان الذي أسرى بعبدالذات من صبرا إلى مصرا،
. وما أسرى به للضفة الأخرى
Email: ahmedmatar@usa.net
أحمَد مَطَر
إنّى المشنوق أعْلاه
المُوجزْ
ليسَ فى النّاسِ أمانْ .
ليسَ للنّاسِ أمانْ .
نِصفُهم يَعْملُ شرطّياً لدى الحاكمِ
. . و النصفُ مُدانْ !
أحمد مطر
ما قبل البدَاية
كنتُ فى (الرَحْمِ) حزيناً
دونَ أن أعرفَ للأحزانِ أدنى سببِ !
لَمْ أكنْ أعرفُ جنسيَّةَ أُمّى
لَمْ أكنْ أعرفُ ما دينُ أبى
لَمْ أكنْ أعلمُ أنّى عَرَبى !
آهِ .. لو كنتُ على عِلْمٍ بأمرى
كُنْتُ قَطَّعْتُ بنفسى (حَبْلَ سِرّى)
كُنتُ نَفَّسْتُ بنفسى و بأُمّى غَضَبى
خَوفَ أن تَمْخُضَ بى
خَوفَ أن تقذفَ بى فى الوطنِ المغتربِ
خَوفَ أن تحبلَ من بَعْدى بغيرى
ثُمَّ يغدو - دونَ ذنبٍ -
عربيّاً .. فى بلادِ العَرَبِ !
علامة الموت
يَومَ ميلادى
تَعَلَّقْتُ بأجراسِ البُكاءْ
فأفاقَتْ حُزَمُ الوردِ , على صوتى ,
وفَزَّتْ فى ظَلامِ البيتِ أسرابُ الضِياءْ
وتداعى الأصدقاءْ
يَتَقَصَّونَ الخَبْر .
ثُمَّ لَّما عَلِموا أنّى ذَكَرْ
أجهشوا .. بالضحك ,
قالوا لأبى ساعةَ تقديمِ التهانى :
يا لها من كبرياء
صوتُهُ جاوزَ أعنان السَماءْ .
عَظَّمَ اللهُ لكَ الأجر
على قَدْرِ البَلاءْ !
الختان
ألبسونى بُردَةً شَفّافَةً
يَومَ الخِتانْ .
ثُمَّ كانْ
بَدءُ تاريخ الهَوانْ !
شَفَّتِ البُرْدَةُ عن سِرّى ,
وفى بِضْعِ ثوانْ
ذَبَحوا سِرّى .
و سالَ الدَمُ فى حِجْرى
فقامَ الصوتُ من كُلِّ مكانْ :
ألفَ مبروكٍ
. . وعُقبى لِلِّسانْ !
توبَة
صاحبى كانَ يُصَلِّى
- دونَ ترخيصٍ -
و يتلو بعضَ آياتِ الكتابْ .
كان طفلاً
و لذا لم يَتعرَّضْ للعقابْ .
فلقد عَزَّرَهُ القاضى
. . وَ تابْ !
مرسُوم
نحنُ لسنا فُقَراءْ .
بَلَغَتْ ثَروتُنا مليونَ فَقْرِ
وغدا الفَقْرُ لدى أمثالِنا
وصفاً جديداً للثَّراءْ !
وَحْدَهُ الفقرُ لدينا
كانَ أغنى الأغنياءْ !
* *
بَيتُنا كانَ عراءْ .
و الشبابيكُ هواءٌ قارسٌ
و السقفُ ماءْ !
فشكونا أمرَنا عندَ ولىِّ الأمرِ
فاغتنمَّ
و نادى الخبراءْ
و جميعَ الوزراءْ
و أُقيمت نَدوةٌ واسعةٌ
نُوقِشَ فيها وَضْعُ (إيرْلَندا)
و أنفُ (الجيوكندا)
و فَساتينُ (أميلدا)
و قضايا (هونو لولو)
و بطولاتُ جيوش الحُلفاء !
ثُمَّ بَعدَ الأخذِ و الرّدِّ
صباحاً و مساءْ
أصدر الحاكمُ مرسوماً
بإلغاءِ الشتاءْ !
ملحوظَة
تَركَ اللّصُ لنا ملحوظةً
فوقَ الَحصير
جاءَ فيها :
لَعَن الله الأمير
لم يَدَع شيئاً لنا نَسرقهُ
. .. إلاّ الشَخيرْ !
الرّحمة فوق القَانونْ
ذاتَ يومٍ
رقَصَ الشعبُ وغَنّى
واحتسى بَهجَتَهُ حتّى الثمالَةْ
إذ رأى أوَّل حالَة
تَنْعم ُالبلدةُ فيها بالعدالَةْ :
زَعَموا أنَّ فتًى سبَّ نِعالَهْ
فأحالوهُ إلى القاضى
ولم يُعْدَمْ
بدعوى شَتْمِ أصحابِ الجلالَةْ !
تبْليط !
رَصَفوا البَلْدةَ ، يوماً ،
بالبَلاط
ثُمَّ لمّا وضعوا فيهِ الِملاط
مَنَعوا أىَّ نَشاطْ
فالتزمْنا الدورَ
حتّى يتأتّى للمُلاطْ
زمَنٌ كافٍ لكى يَلصُقَ جِدّاً
بالبِلاطْ!
مجهُود حَربى
لأبى كانَ مَعاشٌ
هو أدنى من معاشِ المَيِّتيْن !
نِصفُهُ يَذهَبُ للدَّينِ
وما يَبقى
لِغوثِ اللاّجئينْ
ولتحريرِ فلسطينَ من المُغتَصبِين .
وعلى مَرِّ السنين
كانَ يزدادُ ثَراءُ الثائرينْ !
والثرى ينقصُ من حينٍ لحينْ
وسُيوفُ الفتحِ تَندقُّ إلى المقبضِ
فى أدبارِ جيشِ ( الفاتحينْ )
فَتَلِين
ثُمَّ تَنحَلُّ إلى أغصانِ زيتونٍ
وتَنحَلُّ إلى أوراقِ تينْ
تتدلّى أسفلَ البطنِ
وفى أعلى الجبَينْ !
وأخيراً قَبِلَ الناقِصُ بالتقسيمِ
فانشقَّتْ فَلَسطينُ إلى شقّينِ :
للثوّارِ : فَلْسٌ
ولإسرائيلَ : طِينْ !
وأبى الحافى المَدينْ
أبىَ المغصوبُ من أخمصِ رجليهِ
إلى حبل الوَتينْ
ظَلَّ - لايدرى لماذا -
وَحْدَهُ
يَقبضُ باليُسرى ويُلْقى باليَمين ْ
نفقاتِ الحربِ والغوثِ
بأيدى الخلفاءِ الشاردينْ !
بَدائل
فَتَحَتْ شُبّاكَها جارَتُنا .
فَتَحَتْ قلبى أنا
لمَحْةٌ ..
واندلعتْ نافورةُ الشمسِ
وغاصَ الغدُ فى الأمسِ
وقامتْ ضجّةٌ صامتةٌ ما بينَنا !
لَمْ نَقُلْ شيئاً..
وقُلنا كُلَّ شئٍ عِندنا !
* *
- يا أباها المؤمنا
سالتِ النارُ من الشُبّاكِ
فافتحْ جَنَّةَ البابِ لَنا
يا أباها إنّنا ..
لَستُم على مذهبِنا .
- لكنّنا ...
- لَستُم ذوى جاهٍ
ولا أهلَ غِنَى .
- لكنّنا ...
- لَستُم تَليقونَ بِنا .
- لكنّنا ..
- شَرَّفتنَا !
* * *
أُغلقَ البابُ ..
وظَلَّتْ فتحةُ الشُبَّاكِ جُرْحاً فاغِراً
يَنزفُ أشلاءَ مُنى
وخيالاتِ انتحارٍ
ومواعيدَ زِنى !
جَدليَّة
كانَ جارى
مُلْحداً
لكنَّهُ يُؤمِنُ جداً
بأبى ذَرِّ الغِفارى .
ويَرى أنَّ الغِفارى
"بروليتارىْ" !
رائدٌ للاشتراكيَّةِ فى هذى
الصحارى !
كانَ جارى
يَضَعُ الراكِبَ من تحتِ الحمارِ !
قُلتُ : هذا رَجُلٌ آمَنَ باللهِ
وقد جاهَدَ فى اللِه
بأمرِ اللهِ
فى عَصْرِ الغُبارِ
قَبلَ تدليكِ "الديالتكتيكِ"
أو عَصْرِ البخارِ !
قالَ : إنْ صَحَّ وجودُ اللهِ ،
فاللهُ إذَنْ ..
أوَّلُ موجودٍ يَسارى !
العهْد الجَديد
كان حتَّى الإكتِئابْ
غارقاً في الإكتئابْ
فَجميعُ الناسِ في بلدتِنا
بينَ قَتيلٍ ومُصابْ
والّذي ليسَ على جُثَّتهِ بصمةُ ظُفْرٍ
فعلى جُثّتهِ بَصمةُ نابْ
كُلُّنا يحملُ خَتْمَ الدولةِ الرسمىِّ
من تحتِ الثيابْ !
ذاتَ فَجرٍ
مادتِ الأرضُ
وسَادَ الإضطرابْ
واستفزَّ الناسَ من مَرْقَدِهمْ
صوتٌ مُجَنْزَرْ:
( تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ
تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ)
إنقلاب.
تُمْ تِرَمْ تَمْ . . .
وانتهىعَهْدُ الكِلابْ !
بَعْدَ شَهْرٍ
لَمْ نَعُدنخرجُ للشارعِ لَيْلاً .
لَمْ نَعُدْ نَحْمِلُ ظِلاً .
لَمْ نَعُدْ نَمْشي فُرادى .
لَمْ نَعُدْ نَمْلِكُ زادا .
لَمْ نَعُدْ نَفْرحُ بالضيفِ
إذا ما دُقَّ عندَ الفجرِ بابْ
لَمْ يَعُدْ للفجرِ بابْ !
فُصُّ مِلْحِ الصُبحِ
في مُسْتَنقَع الظُلْمةِ ذابْ .
هذهِ الأنجمُ أحْداقٌ
وهذا البَدرُ كَشَّافٌ
وهذي الريحُ سَوطٌ
والسماواتُ نِقابْ !
تُمْ
تِرَمْ
تَمْ
كُلَّنا من آدمٍ نحنُ
وما آدمُ إلاَّ من تُرابْ
فَوقَهُ تَسرحُ .. قِطعانُ الذئابْ!
حَبيبُ الشَعبْ
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ
أينَما سِرْنا نراهْ !
في المقاهي
في الملاهي
في الوزاراتِ
وفي الحاراتِ
وا لبارا تِ
وا لأسوا قِ
وا لتلفازِ
والمسرحِ
والمبغى
وفي ظاهرِ جدران المصحّاتِ
وفي داخلِ دوراتِ المياهْ .
أيَنما سِرْنا نَراهْ !
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتجّاهْ
باسِمٌ
في بَلَدٍ يبكي من القهرِ بُكاهْ !
مُشرقٌ
في بَلدٍ تلهوالليالي في ضُحاهْ !
ناعِمٌ
في بَلدٍ حتى بَلاياهُ
بأنواعِ البلايا مبتلاهْ !
صادحٌ
فى بَلدٍ مُعتَقلِ الصَوتِ .
ومنزوعِ الشِّفَاهْ !
سالمٌ
في بَلدٍ يُعْدَمُ فيهِ الناسُ
بالآلا فِ ، يوميّاً
بدعوى الإشتباهْ .
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ ؟
نِعمةٌ منهُ عَلَينا
إذْ نَرى ، حين نراهْ ،
أنَّهُ لَمَّا يَزَلْ حَيَّاً
. . وما زِلنا على قيدِ الَحياهْ !
إصلاح زراعى !
قرَّرَ الحاكِمُ إصلاحَ الزراعَةْ .
عُيِّنَ الفَلاَّحُ شُرطيَ مُرورٍ ،
وابنةُ الفلاَّحِ بيّاعةَ فولٍ ،
وابنهُ نادِلَ مقهى
في نقاباتِ الصناعَةْ !
وأخيرأ
عُيِّنَ المحراثُ في القِسمِ الفُولوكْلوريِّ
والثورُ. . مُديرأ للإذاعَهْ !
قَفْزةٌ نَوعيَّةٌ في الإقتصادْ
أصبحتْ بَلدتُنا الأولى
بتصديرِ الجَرادْ
وبإنتاجِ المجاعةْ !
صَاحِبَة الجهَالة
مَرَّةً ، فَكَّرتُ في نَشْرِ مَقالْ
عن مآسي الإحتلالْ
عن دفاعِ الحجرِ الأعزلِ ،
عن مِدفَعِ أربابِ النِضالْ !
وعن الطِفل الذي يُحرَقُ في الثورةِ
كي يَغرَقَ في الثروةِ ، أشباهُ الرّجالْ !
قَلَّبِ المسؤولُ أوراقي ، وقالْ :
إجتَنِبْ أىَّ عباراتٍ تُثيرُ الإنفعالْ .
مَثَلاً:
خَفِّفْ (ماسي )
لِمَ لا تَكْتُبُ ( ماسي ) ؟
أو ( مُوا سي ) ؟
أو ( أ ما سي ) ؟
شَكْلُها الحاضِرُ إحراجٌ لأصحابِ الكراسي !
إحْذِفْ ( الأعْزَلَ ) . .
فالأعْزَلَ تحريضٌ على عَزْلِ السلاطيِن
وتعريضٌ بِخَطِّ الإنعزالْ !
إحْذِ فِ ( المِد فعَ ) . .
كي تدفعَ عنكَ الاعتقالْ .
نحنُ في مرحلةِ السِّلمِ
وَقَدْ حُرِّمَ فى السِّلْمِ القِتالْ
إحْذِفِ ( الأربا بَ )
لا ربَّ سوى اللهِ العظيم المُتَعالْ !
إحذِفِ (ا لطِفلَ ) . .
فلا يحَسُنُ خَلْطُ الجِدِّ في لُعْبِ العِيالْ !
إحذ فِ ( الثورةَ )
فالأوطانُ في افضلِ حالْ !
إحذفِ ( الثروةَ ) و ( الأ شباهَ )
ما كُلُّ الذي يُعْرفُ ، يا هذا ، يُقالْ !
قُلتُ : إنيِّ لَستُ إبليسَ
وأنتمْ لا يُجاريكم سوى إبليس
في هذا المجالْ .
قالَ لي : كانَ هُنا . .
لكنّهُ لم يتأقلَمْ
فاستقالْ !
المُعْجِزَة
ماتَ خالي !
هكذا ! !
دونَ اغتيالِ !
دونَ أن يُشنَقَ سهواً !
دونَ أن يسقطَ ، بالصدفةِ ، مسموماً
خلالَ الإِعتقالِ !
ماتَ خالي
ميتةً أغربَ مِمّا في الخيالِ !
أسْلَمَ الروحَ لعزرائيلَ سِرّاً
ومضى حُرّاً . . محاطاً بالأمانِ !
فدفنّاهُ
وعُدْنا نَتَلقّى فيهِ من أصحابِنا
. . أسمى التهاني !
المُنشَقّ!
أكثرُ الأشياءِ في بَلدتِنا
الأحزا بُ
والفقرُ
وحالاتُ الطلاقِ .
عِندَنا عَشْرةُ أحزابٍ وَنِصفُ الحِزبِ
فى كُلِّ زُقاقِ !
كلُّها يَسعى الى نَبْذِ الشِّقاقِ !
كلُّها يَنشَقُّ في الساعةِ شَقّينِ
وَيَنشقُّ على الشَّقّينِ شقّانِ
وَيَنشقّانِ عن شَقَّيْهما . .
من أجلِ تحقيقِ الوفاقِ !
جَمَراتٌ تتهاوى شَرَراً
وَالبَردُ باقِ
ثُمَّ لايبقى لها
إلاَّ رَمَادُ الإحتراقِ !
* *
لم يَعُدْ عندي رفيقٌ
رُغْمَ أنَّ البلدَةَ اكتظَّتْ
بآلافِ الرفاقِ !
وَلِذ ا
شَكَّلتُ من نَفسيَ حِزباً
ثُمّ انيّ
- مثلَ كلِّ الناسِ -
أعلنتُ عن الحزبِ انشقاقي !
الجريمة وَالعِقْاب
مَرَّةً ، قالَ أبي :
إنَّ الذُباب
لا يُعابْ .
إنَّهُ أفضَلُ مِنَّا
فَهوَ لا يقبَلُ مَنَّا
وهوَ لا ينكِصُ جُبْنا
وهوَ إنْ لم يلقَ ما يأكُلُ
يَستَوفِ الحسابْ
يُنشِبُ الأرجُلَ في الأرجُلِ
والأعيُنِ
والأيدي
وَيجتاحُ الرِّقَابْ .
فَلَهُ الجِلْدُ سِماطٌ
وَدَمُ الناسِ شَرابْ !
* *
مَرَّةً قالَ أبي . . .
لكنَّهُ قالَ وغابْ .
وَلقد طالَ الغيابْ !
* *
قيلَ لي انَّ أبي ماتَ غريقاً
في السَرابْ !
قيلَ : بلْ ماتَ بداءِ ( التراخوما ) !
قيلَ : جَرَّاءَ اصطدامٍ
بالضبابْ !
قيلَ ما قيلَ ، وما اكثرَما قيلَ
فراجَعنا أطبّاءَ الحكومَة
فأفادوا أنّها ليستْ ملومَة
ورأوا أنَّ أبى
أهلكَهُ "حَبُ الشَبابْ" !
الغَريبْ
كّلُّ ما في بلدتي
يَملأُ قلبي بالكَمَدْ .
بَلدتي غُربةُ روحٍ وجَسَدْ
غربةٌ من غيِر حَدّْ
غربةٌ فيها الملايينُ
وما فيها أحَدْ .
غربةٌ موصولةٌ
تبدأُ في المهْدِ
ولا عودةَ منها . . للأبدْ !
شِئتُ أن أغتالَ مَوتى
فَتسلّحتُ بِصوتي :
أيُّها الشِعرُ لقد طالَ الأمَدْ
أهلَكَتنْي غُربتي ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فكُنْ أنتَ البَلَدْ .
نَجِّني من بلدةٍ لا صوتَ يَغشاها
سوى صوتَ السكوتْ !
أهلُها موتى يخافونَ المنايا
والقبورُ انتشرتْ فيها على شَكْلِ بُيوتْ
ماتَ حتّى الموتُ
. . والحاكمُ فيها لا يموتْ !
ذُرَّ صوتي ، أيُّها الشِعرُ ، بُروقاً
في مفازات ِالرَمَدْ .
صُبَّهُ رعداً على الصمتِ
ونارأ فى شرايينِ الَبَرْد .
ألقِهِ أفعى
الى أفئدةِ الحُكّاِم تسعى
وافلِقِ البحرَ
وأطبِقْةُ على نَحْرِ الأساطيلِ
وأعناقِ المساطيلِ
وَطَهِّرْ من بقاياهُم قَذاراتِ الزَبَذْ .
إنَّ فرعونَ طغى ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فأيقِظْ من رَقَدْ .
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ .
قالَها الشِعرُ
وَمَدَّ الصوتَ ، والصوتُ نَفَذْ
وأتى من بَعْد بَعدْ
واهنَ الروحِ مُحاطأ بالرَصَدْ
فوقَ أشداقِ دراويشٍ
يَمُدُّونَ صدى صوتى على نحريَ
حبلاًمن مَسَدْ
ويصيحونَ "مَدَ ْد"
مَا بَعد النهَاية
إنَّني المشنوقُ أعلاهُ
على حبلِ القوافى
خُنتُ خوفي وارتجافي
وتَعرَّيتُ من الزيفِ
وأعلنتُ عن العهْرِ انحرافى .
وأرتكبتُ الصِدقَ كيْ أكتُبَ شِعرا
واقترفتُ الشِعرَكَيْ أكتُبَ فجرا
وَتَمَرَّدتُ على أنظمةِ خَرفى
وحُكامٍ خِرافِ .
وعلى ذلِكَ . .
وَقَّعْتُ اعترافى!
حين وقفت بباب الشعر ،
فتش أحلامي الحراس ،
أمروني أن أخلع رأسي،
وأريق بقايا الإحساس ،
ثم دعوني أن أكتب شعرا للناس ،
فخلعت نعالي بالباب وقلت خلعت الأخطر ياحراس ،
. هذا النعل يدوس ولكن هذا الرأس يداس
Email: ahmedmatar@usa.net
ياقدس معذرة ومثلي ليس يعتذر،
مالي يد في ما جرى فالأمر ما أمروا ،
وأنا ضعيف ليس لي أثر ،
عار علي السمع والبصر ،
وأنا بسيف الحرف أنتحر ،
وأنا اللهيب وقادتي المطر ،
فمتى سأستعر ؟
لو أن أرباب الحمى حجر ،
لحملت فأسا فوقها القدر ،
هوجاء لا تبقي ولا تذر ؛
لكنما أصنامنا بشر ،
الغدر منهم خائف حذر ،
والمكر يشكو الضعف إن مكروا ؛
فالحرب أغنية يجن بلحنها الوتر ،
والسلم مختصر ،
ساق على ساق ، وأقداح يعرش فوقها الخدر ،
وموائد من حولها بقر ،
ويكون مؤتمر ؛
هزي إليك بجذع مؤتمر يساقط حولك الهذر ،
. عاش اللهيب ويسقط المطر
Email: ahmedmatar@usa.net
يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه ،
يلطمني ويدعي أن فمي قام بلطم كفه ،
يطعنني ويدعي أن دمي لوث حد سيفه ،
فأخرج القانون من متحفه ،
وأمسح الغبار عن جبينه ،
أطلب بعض عطفه ،
لكنه يهرب نحو قاتلي وينحني في صفه ،
يقول حبري ودمي : "لا تندهش ،"
".من يملك القانون في أوطاننا ، هو الذي يملك حق عزفه"
Email: ahmedmatar@usa.net
أسرتنا بالغة الكرم ،
تحت ثراها غنم حلوبة، وفوقه غنم ،
تأكل من أثدائها وتشرب الألم ،
لكي تفوز بالرضى من عمنا صنم ،
أسرتنا فريدة القيم ،
وجودها عدم ،
جحورها قمم ،
لاآتها نعم ،
والكل فيها سادة لكنهم خدم ،
أسرنا مؤمنة تطيل من ركوعها، تطيل من سجودها ،
وتطلب النصر على عدوها من هيئة الأمم ،
أسرتنا واحدة تجمعها أصالة، ولهجة، ودم ،
وبيتنا عشرون غرفة به ، لكن كل غرفة من فوقها علم ،
يقول إن دخلت في غرفتنا فأنت متهم ،
. أسرتنا كبيرة ، وليس من عافية أن يكبر الورم
Email: ahmedmatar@usa.net
بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب ،
نبذة عن وطن مغترب ،
تاه في ارض الحضارات من المشرق حتى المغرب ،
باحثا عن دوحة الصدق ولكن عندما كاد يراها حية مدفونة وسط بحار اللهب ،
قرب جثمان النبي ،
مات مشنوقا عليها بحبال الكذب ،
وطن لم يبق من آثاره غير جدار خرب ،
لم تزل لاصقة فيه بقايا من نفايات الشعارات وروث الخطب ،
عاش حزب الـ...، يسقط الخا...، عائدو...، والموت للمغتصب ،
وعلى الهامش سطر ،
أثر ليس له اسم ،
. إنما كان اسمه يوما بلاد العرب
Email: ahmedmatar@usa.net
وقفت مابين يدي مفسر الأحلام ،
قلت له : "ياسيدي رأيت في المنام ،"
أني أعيش كالبشر ،
وأن من حولي بشر ،
وأن صوتي بفمي، وفي يدي الطعام ،
وأنني أمشي ولا يتبع من خلفي أثر "،"
فصاح بي مرتعدا : "ياولدي حرام ،"
لقد هزئت بالقدر ،
ياولدي ، نم عندما تنام "؛"
وقبل أن أتركه تسللت من أذني أصابع النظام ،
. واهتز رأسي وانفجر
Email: ahmedmatar@usa.net
حي على الجهاد ؛
كنا وكانت خيمة تدور في المزاد،
تدور ثم إنها تدور ثم إنها يبتاعها الكساد ؛
حي على الجهاد ؛
تفكيرنا مؤمم وصوتنا مباد ،
مرصوصة صفوفنا كلا على انفراد ،
مشرعة نوافذ الفساد ،
مقفلة مخازن العتاد ،
والوضع في صالحنا والخير في ازدياد ؛
حي على الجهاد ؛
رمادنا من تحته رماد ،
أموالنا سنابل مودعة في مصرف الجراد ،
ونفطنا يجري على الحياد ،
والوضع في صالحنا فجاهدوا ياأيها العباد ،
رمادنا من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
. حي على الجماد
Email: ahmedmatar@usa.net
كلب والينا المعظم عظني اليوم ومات ،
فدعاني حارس الأمن لأعدم ،
بعدما أثبت تقرير الوفاة
. أن كلب السيد الوالي تسمم
Email: ahmedmatar@usa.net
قفوا حول بيروت صلو على روحها واندبوها ،
وشدوا اللحى وانتفوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
وسلو سيوف السباب لمن قيدوها ،
ومن ضاجعوها ،
ومن أحرقوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
ورصو الصكوك
على النار كي تطفؤوها ،
ولكن خيط الدخان سيصرخ فيكم : "دعوها" ،
ويكتب فوق الخرائب
. "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها"
Email: ahmedmatar@usa.net
لافتات 2
البَيانُ الأولْ
قلمي وَسْطَ دُواةِ الحبرِ غاصْ
ثُمَّ غاصْ
ثُمَّ غاصْ.
قلمي في لُجَّةِ الحبرِ اختَنق
وَطَفتْ جُثَّتُهُ هامِدةً فوقَ الورق.
روحُهُ في زَبَدِ الأحرفِ ضاعتْ في المَدَى
ودمى في دمه ضاع سُدى
ومضى العُمرُ ولم يأتِ الخلاصْ.
آهِ يا عصرَ القماصْ
بَلْطةُ الجزّارِ لا يذبحُها قَطْرُ الندى
لا مَنَاصْ
آنَ لي أن أتركَ الحِبرَ
وأنْ أكتُبَ شعري بالرصاصْ!
======================
إنجيل بوليس!
في البدء كانَ الكلمةْ
ويومَ كانتْ أصبحتْ مُتَّهمَهْ
فطورِدَتْ
وحوصِرَتْ
واعتُقِلَتْ
. . وأَعْدمَتْهَا الأنظمهْ
. .. * *
في البدءِ كانَ الخاتمهْ !
=====================
العِلَّة
قالَ ليَ الطبيبْ :
خُذْ نَفَساً .
فكِدتُ - مِن فَرْطِ اختناقي
بالأسى والقهْرِ - أَستجيبْ
لكنَّني
خَشيتُ أن يلمحَني الرَّقيبْ .
وقالَ : مِمَّ تشتكي ؟
أردتُ أن أُجيب
لكنَّني
خشيتُ أن يسمعَني الرقيبْ .
وعندما حيَّرتُهُ بصمتيَ الرهيبْ
وَجَّهَ ضَوءاً باهِراً لمقلتي
حاولَ رفْعَ هامتي
لكنَّني خَفضتُها
وَلُذتُ بالنحيبْ
قلتُ لَهُ : معذرةً يا سيِّدي الطبيبْ
أوَدُّ أن أرفَعَ رأسي عالياً
لكنَّني
أخافُ أن .. يحذِفَهُ الرَّقيبْ !
======================
صندوق العجائب
في صِغَرى
فتحتُ صندوقَ اللُّعَبْ .
أخرجتُ كرسيّاً مُوَشَّى بالذَّهبْ
قامتْ عليهِ دُميةٌ من الخشب
في يدها سيفُ قَصَبْ .
خَفضتُ رأسَ دُميتي
رفعت رأس دميتي
خلَعتُها.
نصبتُها.
خَلعتُها .. نَصبتُها
حتى شَعَرتُ بالتعبْ
فما اشتكتْ من اختلافِ رغبتي
ولا أحسَّت بالغضبْ !
ومثلُها الكُرسيُّ تحتَ راحتي
مُزَوَّقٌ بالمجدِ . . وَهُوَ مُستَلبْ.
فإنْ نَصبْتُهُ انتصبْ
وإن قَلبْتُهُ انقلبْ !
أَمتعني المشهَدُ ،
لكنَّ أبي
حين رأى المشهَدَ خافَ واضطرَبْ
وخبَّأَ اللعبةَ في صُندوقِها
وَشَدَّ أُذْنِي . . وانسحَبْ !
. .. * *
وعِشْتُ عُمري غارقاً في دَهْشَتي.
وعندما كَبِرتُ أدركتُ السّبَبْ
أدركتُ أنَّ لُعبتي
قد جَسَّدَتْ
كلَّ سلاطينِ العَربْ !
======================
التقرير
كلبُ وَالينَا المُعَظَّمْ
عضَّني ، اليومَ ، وماتْ !
فدعاني حارسُ الأمنِ لأُعدَمْ
بعدما أثبتَ تقريرُ الوفاةْ
أنّ كلبَ السيِّدِ الوالي
تسمَّمْ !
=====================
قيصريةْ
في البلادِ العربيَّهْ
عندما ترفضُ أن تُولدَ عبداً
يَسْحَبُ الجرَّاحُ رِجليكَ
فتأتى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ.
حاملاً حُريَّةً في يَدِكَ اليمنى
وفى اليُسرى . . وَصِيَّهْ.
فإذا عِشْتَ . .تَموتْ
حَسْبَ قانونِ السُّكوتْ
وكما جِئْتَ تُوافيكَ المَنيَّهْ :
يَسْحَبُ (الجرَّاحُ) رِجليكَ
إلى القبرِ
فتمضى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ !
======================
التكفِير والثورة
كَفَرْتُ بالأقلامِ والدفاتِرْ .
كفرتُ بالفصحى التي
تحبَلُ وهْيَ عاقِرْ .
كفرتُ بالشِّعر الذي
لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّك الضمائرْ
لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ
لم تنطلِقْ من بعدِها مسيرَهْ.
ولم يَخُطَّ الشعبُ في آثارِها مَصِيرَهْ .
لَعَنتُ كُلَّ شاعِرْ
ينامُ فوق الجُمَلِ النديَّةِ الوثيرهْ
وشعبُهُ ينامُ في المقابرْ .
لَعَنتُ كلَّ شاعِرْ
يستلهمُ الدمعةَ خمرأً
والأسى صَبَابَةً
والموتُ قُشْعَرِيرَهْ .
لَعَنتُ كلّ شاعِرْ
يُغازلُ الشِّفاهَ والأثداءَ و الضفائِرْ
في زمنِ الكلابِ و المخافرْ
ولا يرى فوهةَ بُندقيةٍ
حين يرى الشِّفاهَ مستجيرهْ !
ولا يرى رُمَّانةً ناسِفةً
حين يرى الأثداء مُستديرَهْ!
ولا يرى مشنقةً
حينَ يرى الضفيرهْ !
. .. * *
في زمن الآتينَ للحكمِ
على دبَّابَةٍ أجيرهْ
أو ناقةِ العشيرهْ
لَعَنتُ كلّ شاعرٍ
لا يقْتني قنبلةً
كي يكتُبَ القصيدة الأخيرهْ !
======================
هذِه الأرضُ لنا
قُوتُ عِيالنا هُنا
يُهدِرُهُ جلالةُ الحِمارْ
في صالةِ القُمارْ
وكلُّ حقِّهِ بهِ
أنَّ بعيرَ جدِّهِ
قد مَرَّ قبلَ غيرهِ
بهذهِ الآبارْ !
. .. * * *
يا شُرفاء
هذِه الأرضُ لَنا.
والزرعُ فوقَها لنا
والنِفطُ تَحتها لنا
وكُلُّ ما فيها بماضيها وآتيها لنا .
فما لَنا
في البردِ لا نلبسُ إلاَّ عُرْيَنا ؟
وما لَنا
في الجوعِ لا نأكُلُ إلاّ جوعَنا ؟
وما لنا نغرقُ وَسْطَ القارْ
في هذهِ الآبارْ
لكي نصوغَ فَقْرنا
دِفئاً ، وزاداً ، وغِنى
من أجلِ أولادِ الزِّنى ؟!
========================
الطبُّ يضرُّ بصحتكْ
لي صاحبٌ
يَدرسُ في الكُلِّية الطبيَّهْ
تأكَّدَ المُخبِرُ من ميولِهِ الحزبيَّهْ
وقام باعتقالِهِ
حينَ رآهُ مَرَّةً
يَقرأُ عن تَكَوُّنِ (الخليَّهْ) !
. .. * *
وبعدَ يومٍ واحدٍ
أُفرجَ عن جُثَّتِهِ
بحالةٍ أمْنِيَّهْ :
في رأسِهِ رَفْسَةُ بُندقيَّهْ
في صدرِه قُبلةُ بُندقيَّهْ !
في ظَهْرِهِ صورةُ بُندقيَّهْ
لكنَّني
حينَ سألتُ حارِسَ الرَّعيَّهْ
عن أَمرِهِ
أخبرني
أنَّ وفاةَ صاحبي قد حَدَثتْ
بالسكتةِ القلبيَّهْ !
========================
حالات
بِالتَّمادى
يُصبِحُ اللصُّ بأورُوبّا
مديراً للنوادي .
وبأمريكا
زَعيماً للعصاباتِ وأوكارِ الفسادِ .
وبأوطاني التي
من شَرعِها قَطْعُ الأيادي
يُصْبِحُ اللصُّ
. . رئيساً للبلادِ !
========================
المُتَّهمْ
كنتُ أمشى في سلامْ
عازفاً عن كُلِّ ما يخدِشُ
إحساسَ النظامْ .
لاَ أصيخُ السمعَ
لا أنظرُ
لا أبلعُ ريقي .
لا أرومُ الكَشفَ عن حُزني
وعن شِدَّةِ ضيقي .
لا أُميطُ الجفنَ عن دمعي
ولا أرمِى قِناعَ الابتسامْ .
كُنتُ أمشى . . والسلامْ .
فإذا بالجُندِ قد سدُّوا طريقي
ثُمّ قادوني إلى الحَبْسِ
وكان الاتهامْ :
أنّ شَخصاً مرَّ بالقصرِ
وقد سَبَّ الظلامْ
قبلَ عامْ .
ثُم بعدَ البَحثِ والفحصِ الدَّقيقِ
عَلِمَ الجُندُ بأنَّ الشخصَ هذَا
كان قد سلَّمَ في يومٍ
على جارِ صَديقي !
========================
الجِدَار
وقفتُ في زنزانتى
أُقلِّبُ الأفكارْ :
أنا السّجينُ ها هُنا
أم ذلك الحارسُ بالجوارْ ؟
فكلُّ ما يفصلنا جدارْ
وفي الجدارِ فتحةٌ
يرى الظلامَ من ورائها
وألمحُ النهارْ !
. .. * * *
لحارسى ، ولي أنا . . صِغارْ
وزوجةٌ ودارْ
لكنَّهُ مثلى هُنا
جاءَ بِهِ وجاءَ بى قَرارْ
وبيننا الجدارْ
يوشِكُ أن ينهارْ !
. .. * *
حدَّثنى الجدارْ
فقالَ لى : إنَّ الذى ترثي لهُ
قد جاءَ باختيارهِ
وجئتَ بالإجبارْ .
وقبل أن ينهارَ فيما بيننا
حدَّثنى عن أسدٍ
سجَّانُهُ حمار !
========================
إضرابْ
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ ، طريَّةُ الجدرانْ
تيجانُها تسبحُ في بَرْدِ الندى
والنورِ و العطورْ
في ساعةِ البكورْ
وتستوي كَسْلى على عُروشِها .
وتحتَ ظُلْمةِ الثرى
والبؤسِ والهوانْ
تسافِرُ الجذور في أحزانِها
كى تضحكَ التيجانْ !
. .. * *
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ تسبحُ في الغُرورْ
بذكرِها تُسَبِّحُ الطيورْ
ويسبحُ الفراشُ في رحيقها
وتسبحُ الجذورْ
في ظُلمةِ النَّسيانْ
. .. * *
الوردُ في البستانْ
أصبحَ . . ثُمَّ كانْ
في غَفلةٍ تهدَّلتْ رؤوسُهُ
وخرَّت السَّيقانْ
إلى الثَّرى
ثُمَّ هَوَتْ من فوقِها التيجانْ !
. .. * *
مرّت فراشتانْ
وردَّدت إحداهُما :
قدْ أعلنتْ إضرابَها الجذورْ !
. .. * *
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ !
======================
سلاحٌ بَارد
يا أيُّها الإنسانْ
يا أيُّها المُجوَّعُ، المخوَّفُ، المهانْ
يا أيُّها المدفونُ فى ثيابهِ
يا أيُّها المشنوقُ من أهدابهِ
يا أيُّها الراقِصُ مذبوحاً
على أعصابِهِ .
يا أيُّها المنفىُّ من ذاكرةِ الزمانْ
شبعتَ موتاً فانتفضْ
آن النشورُ الآنْ
بأغلظِ الايمانِ واجِهْ أغلظَ المآسى
بقبضتيكَ حَطِّم الكراسى
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فَجَرِّدِ اللسانْ
قُل : يسقطُ السلطانْ.
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فلا تدعْ قلبك فى مكانِهِ
لأنَّهُ مُدان
فدَقَّةُ القلبِ سلاحٌ باردٌ
يتركهُ الشجاعُ بعد موتِهِ
تحت يَدِ الجبانْ
لكى يدارى ضَعْفَهُ
بأضعفِ الايمانْ !
========================
إذا الضحايا سُئِلت
طالعتُ فى صحيفةِ الرحيلْ
قافلةً تائهةٌ
دليلُها يسترُ قُبْحَ فِعلِهِ
بصبرِها الجميلْ .
رأيتُها تغرقُ فى دمائِها
والدّمعِ و العويلْ
لكنّها
رغمَ الضياعِ و الرَّدى
تُعِدُّ من نُعوشِها سفينةً
تَخيطُ من أكفانِها أَشرِعةً
كَى تُنقِذَ الدليل !
وقيل إنَّ الدَّمَ لا يُصبِحُ ماءً ،
هُزِلَتْ
فالدمُ أصبحَ ماءَ نِيلْ
والدمُ قد أصبحَ ماءَ زمْزمٍ
وكأسَ زَنْجَبيلْ
في صِحَّةِ الأمواتِ مِنْ أَحيائِنا
يَشربُهُ القاتِلُ ما بينَ يَدَيْ
مُمثِّلِ القتيلْ !
. .. * *
إذا الضحايا سُئلَتْ
بأَيِّ ذَنبٍ قُتِلتْ ؟
لانتفضتْ أشلاؤها وجَلْجَلَتْ :
بِذَنبِ شَعْبٍ مُخْلِصٍ
لِقائدٍ عَمِيلْ !
========================
الرمادُ والعواصف
مَضى عَقْدٌ على قَطْعِ الجذورِ
ولم يزلْ رأسي
يصارعُ بالرمادِ عواصفَ اليأسِ !
ومازالتْ حبالُ الشوقِ تشنُقني
على بَوَّابةِ الزمنِ
فَأَلمحُ في الأسى نفسي
خيوطاً من دَمٍ تنثالُ في كأْسِي
وألمحُها بأيدِيكُمْ .. بأيدِيكُمْ
تُجرِّعُني
فِراقَ الأُمِّ مُزْدَوَجاً
. . فِراقَ الأُمِّ و الوطنِ !
. .. * *
على أبوابِ حَضْرتِكُمْ
جَلالَتِكُمْ
سِيادَتِكم
مَعَالِيكُم
سأَطرحُ رأسيَ الذاوي
وأُطلِقُ صوتيَ الدَّاوي :
) أَريد اللهْ يِبَيِّنْ حوبِتي بيكُمْ
أَريد اللهْ على الفَرْقَهْ يِجازيكُمْ )* !
* أغنية من الفولكلور العراقي معناها : أريد من الله أن يأخذ منكم بثأري ويعاقبكم لأنكم سبب الفراق.
========================
النبات
أنا ليسَ لى عِلْمُ الحواةْ
كَىْ أُخرج الجبَلَ العظيمَ من الحصاةْ
وأَجُرُّ آلافَ الفوارسِ كالأرانِبِ
من بُطونِ القبَّعاتْ .
أنا ليسَ لى عِلْمٌ
بتعبئةِ الشجاعةِ في القناني
أو فنِّ تحويل الخروفِ إلى حصانِ !
أنا لستُ إلاّ شاعراً
أبْصرتُ نار العار
ناشِبةً بأرديةِ الغُفاهْ
فصرختُ .. هُبُّوا للنجاهْ .
فإذا أفاقوا للحياةِ
ستحتفى بِهمُ الحياةْ
وإذا تلاشَتْ صرختى
وسْطَ الحرائقِ كالدُّخانِ
فَلأنَّ صرخةَ شاعرٍ
لاتَبعثُ الرُّوحَ الطّليقةَ فى الرُّفاتْ !
. .. * *
أنا شاعرٌ حُرٌّ أُعانى
من حُرقةِ الآباءِ أَقتبسُ المعانى
ومِدادُ أَشْعاري تَقاطَرَ
من دُموعِ الأمهاتْ .
فمَتى ستُوحى بالهوى شَفَةُ الهوانِ ؟
ومتى ستطلعُ وردةُ الآمالِ
فى تلكَ الدّواةْ ؟
. .. * *
شِعرى عُصارةُ عصرِنا
لاتطلبوا منِّى اصطناع المعجزاتْ .
أوطانُنا رَهْنَ المنيَّةِ . .
والبقيَّةُ فى حياةِ الصولجانِ .
ورَقابُنا تحتَ السيوفِ
وحتْفُنا فوق اللسانِ
ودِماؤنا .. تجرى دراهِمَ
فوقَ أفخاذِ الغوانى .
وذَواتُنا سجَّادةٌ
لِنعالِ أبناءِ الذّواتْ .
هذى بُذورُ حياتِنا
واللافِتاتُ هى النّباتْ .
لاسُوقَ عندىَ للأمانى
روحوا اشتروا تلك البِضاعةَ
من دكاكينِ الولاهْ
أنا لا أبيعُ مخدِّراتْ !
==============
لن أُنافقْ
نافقْ
ونافقْ
ثُمَّ نافقْ , ثُمَّ نافقْ .
لا يَسلَمُ الجسدُ النحيلُ من الأذى
إنْ لم تُنافقْ .
نافقْ
فماذا فى النفاقِ
إذا كَذَبْتَ وأنتَ صادِقْ ؟
نافقْ
فإنَّ الجهل أن تَهوِى
ليرقى فوق جُثَّتِكَ المنافقْ .
لكَ مَبدأٌ ؟ لا تَبْتئِسْ
كُن ثابتاً
لكنْ .. بمُختلِفِ المناطِقْ !
واسبِق سِواكَ بكلِّ سابِقةٍ
فإنَّ الحكمَ محجوزٌ
لأربابِ السَّوابقْ !
. .. * *
هَذي مقالةُ خائِفٍ
مُتملِّقٍ , متسلِّقٍ
ومقالتي : أنا لنْ أُنافقْ
حتَّى ولو وضعوا بِكَفَّيَّ
المغارِبَ والمشارقْ .
يا دافنينَ رؤسَكُم مثل النَّعامِ
تَنعَّموا .
وتنقَّلُوا بين المبادئِ كاللقالِقْ
ودَعُوا البطولةَ لى أَنا
حيثُ البطولةُ باطلٌ
والحقُّ زاهِقْ !
هذا أنا
أُجرى مع الموتِ السِّباقَ
وإنَّنى أدرِى بأنَّ الموتَ سابِقْ
لكنَّما سَيظلُّ نعلى عالياً أبداً
وحسْبى أنّني فى الخفضِ شاهقْ !
فإذا انتهى الشوطُ الأخيرُ
وصفَّقَ الجمْعُ المُنافقْ
سَيَظلُّ نعْلى عالياً
فوق الرُّؤوسِ
أذا علا رأسِي
على عُقَدِ المشانقْ !
========================
إعتذار
صِحْتُ من قَسْوةِ حالى :
فوقَ نَعْلِى
كُلُّ أصحابِ المعالى !
قِيلَ لى : عَيبٌ
فكرَّرتُ مقالى .
قِيلَ لى : عَيبٌ
وكرَّرتُ مقالى .
ثُمّ لمَّا قِيل لى : عَيبٌ
تَنبَّهْتُ إلى سوءِ عِباراتى
وَخَفَّفْتُ انفعالى .
ثُمّ قدَّمتُ اعتذاراً
. . لِنِعالى !
======================== رُبَّما
رُبَّما الزَّانى يتوبْ !
رُبَّما الماءُ يرُوبْ !
رُبَّما يُحْمَلُ زيتٌ فى الثُّقوبْ !
رُبَّما شمسُ الضحى
تُشرقُ من صَوبِ الغروبْ !
رُبَّما يبرأُ إبليسُ من الذنب
فيعفو عنهُ غَفَّار الذُّنوبْ !
إنَّما لا يَبرأُ الحُكَّامُ
فى كُلِّ بلادِ العُرْبِ
من ذنبِ الشُّعوبْ !
========================
المنتحرون
إسْكُتوا
لا صوتَ يعْلُو
فوقَ صوتِ النائحهْ
نحنُ أمواتٌ
وليستْ هذِه الأوطانُ إلاَّ أضرحهْ
قُسِّمتْ أشلاؤها
بين دِبابٍ و نِسورْ
وأُقيمت فى زواياها القُصورْ
لكلابِ المشرحهْ !
. .. * *
نحنُ أمواتٌ
ولكنَّ اتَّهامَ القاتِلِ المأجورِ
بُهتانٌ وزورْ
هو فردٌ عاجزٌ
لكننا نحن وَضَعْنَا بيديهِ الأسلحهْ
ووَضَعْنَا تحت رجليهِ النُّحورْ
وتواضَعنا على تكليفِهِ بالمذبحَهْ !
. .. * *
أيها الماشون ما بين القُبورْ
أيها الآتُون من آتى العُصورْ
لعَنَ اللهُ الذى يتلو علينا الفاتحهْ !
=======================
بلاد الكتمان
أكَل الصَّمتُ فَمِى
لكنَّنِى
أشكو من الصَّمتِ بصَمتْ
خوفَ أن يأكُلَنى
لو أنا بالصَّوتِ شكوتْ
رَبِّ إنّ الصّوتَ مَوْتْ
رَبِّ إنّ الصّمتَ مَوْتْ
كيف أحيا فى بلادٍ
تكتُمُ الصوتَ بإطلاقةِ إسكاتٍ
وحتَّى كاتِمُ الصوتِ بها
فى فمِهِ .. (كاتمُ صوتْ) !
=======================
مصادرة
من بعدِ طول الضَّربِ والحبْسِ
والفحص ، والتدقيقِ ، والجَسِّ
والبحثِ فى أمتِعتى
والبحث فى جسمى
وفى نفسى
لم يَعثُرِ الجُندُ على قصيدتى
فَغادَروا من شِدّةِ اليأسِ .
لكنّ كَلْباً ماكراً
أَخبرهم بأنَّنى
أحمِلُ أشعارىَ فى ذاكرتى
فأطْلقَ الجُندُ سَراحَ جُثَّتى
وصادروا رأسِى !
. .. * *
تقولُ لى والدتى :
يا وَلَدى
إن شِئتَ أن تنجو من النَّحْسِ
وأن تكونَ شاعراً مُحتَرَمَ الحِسِّ
سبِّحْ لربَّ ( العَرشِ )
. . واقرأ آية (الكُرسى) !
=======================
مأساةُ أعواد الثقاب
أوطانى عُلْبةُ كِبريتٍ
والعلبةُ مُحكمةُ الغلقْ
وأنا فى داخِلها
عُودٌ محكومٌ بالخنقْ .
فإذا ما فَتَحتْها الأيدى
فَلِكَىْ تُحرِقَ جِلدى
فالعلبةُ لا تُفتحُ دَوْمَا
إلاّ للغرب أو الشرقِ
أَمّا لِلحرقِ، أو الحرقْ !
. .. * *
يا فاتحَ عُلبتِنا الآتى
حاول أن تأتىَ بالفرقْ .
الفتحُ الراهِنُ لا يُجدي
الفتحُ الراهِنُ مرسومٌ ضِدِّي
مادامَ لحرقٍ أو حَرقْ .
إسحقْ عُلبتَنَا ، وانثُرْنا
لا تأبَهْ لَوْ ماتَ قليلٌ مِنَّا
عِندَ السحقِ .
يكفي أن يحيا أغلبُنا حُراًّ
في أرضٍ بالغةِ الرِّفقْ .
الأسوارُ عليها عُشْبٌ
. . والأبوابُ هَواءٌ طَلقْ !
======================
مكسبٌ شعبى
آبارُنا الشَّهيدهْ
تنزف ناراً ودماً
للأُمَمِ البعيدهْ .
ونحنُ فى جوارِها
نُطعِمَ جوعَ نارِها
لكنّنا نجوعْ !
ونَحمِلُ البرد على جُلودِنا
ونَحمِلُ الضُّلوعْ
ونَسْتَضِىءُ فى الدُّجى
بالبدرِ والشُّموعْ
كى نقرأَ القرآنَ
والجريدةَ الوَحيدهْ !
حملتُ شكوى الشعبِ
فى قصيدتى
لحارسِ العقيدهْ
وصاحِبِ الجلالةِ الأكيده .
قُلتُ لهُ :
شعبُكَ يا سيِّدَنا
صار ( على الحديدَهْ )
شعبُكَ يا سيِّدَنا
تهرَّأتْ من تَحتِه الحديدَهْ .
شعبُك يا سيِّدَنا
قد أَكَلَ الحديدَه !
وقبلَ أن أفرُغَ
من تلاوةِ القصيدَهْ
رأيتُهُ يغْرقْ فى أحزانِهِ
ويذرِفُ الدُّموعْ .
وبعدَ يومٍ
صدَر القرارُ فى الجريدَهْ :
أن تصْرِفَ الحكومةُ الرَّشيدهْ
لكلَّ ربِّ أسرةٍ
. . حديدةٌ جديدهْ !
========================
الهارب
فى يقظتى يقفِزُ حوْلى الرُّعبْ
فى غفوتى يصحو بقلبى الرعبْ
يُحيطُ بى فى منزلى
يرصدُنى فى عملى
يتبعُنى فى الدَّربْ !
ففى بلاد العُربْ
كلُّ خيالٍ بدْعةٌ
وكل فِكْرٍ جُنْحةٌ
وكُلُّ صوتٍ ذنبْ !
. .. * * *
هَربتُ للصحراءِ من مدينتى
وفى الفضاء الرَّحبْ
صرختُ مِلءُ القلبْ :
إلطُفْ بنا يا ربَّنا من عُملاءِ الغربْ
إلطُفْ بنا يا ربْ
سَكَتُّ .. فارتدَّ الصَّدى :
خَسَأْتَ يابنَ الكلبْ !
=========================
حادث مرتقب
إنى أرى سيّارةٌ
تسيرُ فى اضطرابْ .
قائدها مُسْتهتِرٌ
أفْرَط فى الشرابْ .
والدّربُ طينٌ تحتَها
وحولها ضبابْ .
مُسرِعةٌ
مُسرِعةٌ
السِكْرُ لَنْ يَلْجِمَها
والطينُ لنْ يَرحمها
والنّارُ والحديدُ إن تحدَّرا
طاحا
ولم يُمسكْهما (الضبابْ)
. . . . . . . . . . . . . . .
سَيَحْدثُ انقلابْ !
=========================
حكمة الغاب
تَعدو حميرُ الوحشِ فى غاباتِها
مُسَوَّمَهْ .
قويَّةً منتقِمهْ
لا تقبلُ الترويضَ والمسالمهْ .
فالغابُ قد علَّمها
أن تركلَ السِّلمَ وراء ظهرِها
لكى تظلُ سالِمهْ !
. .. * * *
وفى زَرائب القُرى .. المُنظَّمهْ
تغفو الحميرُ الخادمهْ
ذليلةً مُسْتَسلِمه
لأنها قد نَزَعت جُلودها المُقلَّمهْ
وعافتِ المُقاومهْ
وأصبحتْ مُطيعَةً ..
تسيرُ حَسْبَ الأنظمَهْ !
========================
واعظ السلطان
حدَّثنا الإمامْ
فى خُطبةِ الجُمْعةِ
عن فضائل النظامْ
والصبرِ والطّاعةِ والصيامْ .
وقالَ ما معناهْ :
إذا أرادَ ربُّنا
مُصيبةً بعبدِهِ ابتلاهُ
بكثرةِ الكلامْ .
لكنَّهُ لم يَذْكُرِ الجِهادَ فى خُطْبتهِ
وحينَ ذَكَّرناهْ
قال لنا : عليكم السلامْ !
وبعدَها قامَ مُصلِّياً بِنَا
وعندما أُذِّن للصلاهْ
قال :
نَعَمْ .. إلهَ إلاَّ الله !
=========================
الطفل الأعمى
وَطنى طِفلٌ كَفِيفْ
وضَعِيفْ .
كان يمشى آخِرَ الليلِ
وفى حَوْزَتِهِ
ماءٌ ، وزَيْتٌ ، ورَغِيفْ
فَرآهُ اللصُّ وانهَالَ بسكِّينٍ عليهْ
وتَوارى
بعدما استوْلى على ما فى يَدَيْهْ
. .. * * *
وَطَنى مازالَ مُلْقى
مُهْملاً فوق الرَّصيفْ
غارقاً فى سَكَراتِ الموْتِ
والوالى هو السِّكِّينْ
. . والشَّعبُ نَزِيفْ !
========================
أنشوده
شَعبُنا يومَ الكِفاحْ
رأسُهُ .. يَتبعُ قَولَهْ !
لا تَقُلْ : هَاتِ السِّلاحْ .
إنَّ للبَاطِلِ دَوْلهْ .
ولنا خصْرٌ ، ومِزمارٌ ، وطَبلَهْ
ولنا أنظِمَةٌ
لولا العِدا
ما بَقِيَتْ فى الحُكمِ لَيلَهْ !
========================
آه لو يُجدى الكلام
الملايينُ على الجُوعِ تَنامْ
وعلى الخَوفِ تنامْ
وعلى الصَّمتِ تنامْ .
والملايينُ التى تُسرقُ من جَيبِ النيامْ
تتهاوَى فوقَهم سيلَ بنادِقْ
ومَشانِقْ
وقَرراراتِ اتِّهامْ
كُلَّما نادَوا بتقطِيعِ ذراعَى
كُلِّ سارقْ
وبتوفير الطَّعامْ !
. .. * * *
عِرضُنا يُهتَكُ فوقَ الطُّرقاتْ
وحُماةُ العِرْضِ .. أولادُ حَرامْ
نهضوا بعدَ السُّباتْ
يفرشون البُسُطَ الحَمْرَاءَ
مِن فَيْضِ دِمانا
تحتَ أقدامِ السَّلامْ !
. .. * * *
أرضُنا تصغُرُ عاماً بعدَ عامْ
وحُماةُ الأَرْضِ .. أبناءُ السَّماءْ
عُمَلاءْ
لا بِهم زَلزَلةُ الأرضِ
ولا فى وَجهِهِم قَطْرةُ ماءْ .
كُلَّما ضاقَتْ بِنا الأرضُ
أفَادُونا بتوسِيعِ الكَلامْ
حَول جَدْوى القُرْفُصَاءْ
وأبادُوا بَعْضَنا
من أجلِ تَخْفيفِ الزِّحامْ !
. .. * * *
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
هذِهِ الأُمَّةُ ماتتْ
. . والسَّلام !
========================
هَوِيَّه
فى مَطارٍ أجنبى
حدَّقَ الشُّرطِىُّ بى
- قَبْلَ أن يطلُبَ أوراقى -
ولمَّا لم يجِدْ عِندى لساناً أو شَفَهْ
زمَّ عَيْنيْهِ وأبْدى أسَفَهْ
قائلاً أهلاً وسهْلاً
. . يا صديقى العربِى !
========================
الرَّجُلُ المُناسِبْ
باسم وَالِينَا المُبجَّلْ
قرَّرُوا شنْقَ الذى اغتَالَ أخِى
لكنَّهُ كانَ قصيراً
فمضى الجلاَّدُ يسألْ :
رأسُهُ لا يصلُ الحبْلَ
فماذا سوفَ أفعَلْ ؟
بعد تفكِيرٍ عميقْ
أمَرَ الوالى بشنقى بدلاً مِنهُ
لأنِّى كنتُ أَطْوَلْ !
=========================
البُؤَساء
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى
مَنْ أكُونْ .
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
لَدَعُوا لى بالبقَاءْ
كُلَّ صُبْحٍ و مساءْ .
أنا مَجنُونٌ ؟
أَجَلْ أدْرِى ،
وأدْرِى أنَّ أشْعارِى جُنُونْ .
لكِنِ الحُكَّامُ لَوْلاىَ
ولوْلا هذهِ الأشعَارِ ماذا يعمَلونْ ؟
فإذا لم أكْتُبِ الشِّعرَ أنا
كيفَ يَعيشُ المُخْبِرونْ ؟
وإذا لم أَشْتمِ الحُكَّامَ
مَنْ يعْتَقِلونْ ؟
وإذا لَم أُعْتقَلْ حَيّاً
فمَن يسْتجْوِبُون ؟
وبماذا يُطْلِقُ الصَّوتَ وكِيلُ الإدِّعَاءْ ؟
وبماذا ياتُرَى
يعملُ أَرْبَابَ القضاءْ ؟
وعلى مَن يحكُمونْ ؟
وإذا لم يَسجِنُونى
فلِمَنْ تُفْتَحُ أبوابَ السجونْ ؟
هؤلاءِ البُؤساءْ
هُمْ يَدُ الحُكمِ
ولولا أننى حَىٌّ لطَاروا فى الهواءْ !
فَأنا أَرْكُضُ ..
والمُخْبِرُ ، والشُّرطِىُّ ، والسَّجَّانُ ،
والجلاَّدُ ، والفرَّاشُ ، والكَاتِبُ ،
والحاجِبُ ، والقَاضى
ورَائى يركُضُونْ !
كلُّهُم باسمِى أنا يشْتَغِلونْ .
كلُّهُم من خيرِ شِعرِى يأكُلونْ !
. .. * * *
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى العُقَلاءْ
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
أنَّهُم لولا جُنونِى .. عاطِلونْ
لَرَمُوا تِيجَانَهُم تحتَ الحِذاءْ
وأتَوْا من تُهمَتِى
=========================
القضيّه
زَعمُوا أنَّ لنا
أرضاً ، وعِرْضاً ، وحَمِيَّهْ
وسُيوفاً لا تُبارِيها المَنِيَّهْ .
زَعمُوا ..
فالأرضُ زَالتْ
ودِماءُ العِرضِ سالتْ
ووُلاةِ الأمرِ لا أمْرَ لَهُمْ
خارِجَ نَصِّ المسرحيَّهْ
كُلُّهُم راعٍ ومسْئُولٌ
عنِ التَّفرِيطِ فى حَقِّ الرَّعِيَّهْ !
وعن الإرهابِ والكَبْتِ
وتقْطيعِ أيادى النَّاسِ
من أجلِ القضيَّهْ !
. .. * * *
القضيَّهْ
سَاعةَ الميلادِ ، كانت بُندُقِيّهْ
ثمَّ صارت وتداً فى خَيمةٍ
أَغْرَقَهُ (الزَّيتُ)
فأضحى غُصنَ زَيْتُونٍ
. . وأمسَى مِزْهَرِيَّهْ
تُنعِشُ المائدَةَالخضراءَ
صُبْحاً و عَشِيَّهْ
فى القُصورِ المَلَكِيَّهْ
. .. * * *
ويقولون لى :اضْحَكْ !
حَسَناً
ها إنَّنى أضحكُ من شَرَّ البَلِيَّهْ !
==========================حِكْمَهْ
قالَ أبى :
فى أىَّ قُطْرٍ عرَبى
إن أعلَنَ الذَّكِىُّ عن ذَكَائهِ
فَهُوَ غَبِى !
========================
المثلُ المشْهُورْ
من قسوة الأصداف،
من ظلمتها
تنبلج الدُّرَّةْ.
من رحم الهجير يولد الندى
وفى انتهاء الصوت يبدأ الصدى
لك الحياة في الردى
أيتها الزهرة
أيتها الفكرة
أيتها الأرض التي
تؤمن دوما أنها حرّة.
. .. ... أحمد مطر
===================
كم على السيف مشيتْ
كم بجمر الظلم و الجور اكتويتْ
كم تحملت من القهر
وكم من ثقل البلوى حويتْ
غير أنى ما انحنيتْ.
كم هوى السّوط على ظهري
وكم حاولَ أن أُنكر صبري
فأبيتْ
وهوى، ثم هوى، ثم هوى..
حتى هويت
غير أنى عندما طاوعني دمعي .. عصيتْ.
مذهبي أنى كريمٌ بدمائي،
وبخيلٌ ببكائي
غير أنى يا حبيبهْ
حينما سرتُ إلى طائرة النفيِ
إلى الأرض الغريبةْ
عامداَ طأطأتُ رأسي،
ولعينيكِ انحنيتْ.
وعلى صدركِ علّقتُ بقايا كبريائي،
وبكيتْ.
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ،
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ!
كنتُ من فرطِ بكائي
دمعَةٌ حيرى على خدِّكِ تمشى
يا كويتْ !
. .. ... أحمد مطر
===================
===============================================================
وثنٌ تضيقُ برجسهِ الأوثانُ ...
. .. ... وفريسةٌ تبكى لها العقْبانُ!
ودمٌ يضمِّدُ للسيوف جراحَتها ...
. .. ... ويعيذُها من شرِّهِ الشريانُ!
هي فتنةٌ عصفتْ بكيدِكَ كُلَّهُ
. .. ... فانفذ بجلدكَ أيُّها الشيطانُ!
ماذا لديكَ؟ غِوايةٌ؟ صُنْهَا ...
. .. ... فقد أغوى الغوايةَ نفسها السُّلطان!
مكرٌ؟ وهل حلَّفتَ بالقرآن
. .. ... قرآناً ليُنكِرَ أنَّهُ قرآنُ!
كُفْرٌ؟ بماذا ؟ دينُنا أمسى بلا
. .. ... دينٍ، وأعلنَ كُفرَهُ الإيمانُ!
كَذِبٌ؟ ألا تدرى بأنَّ وجوهَنا
. .. ... زورٌ ، وأَنَّ نفوسَنا بُهتان؟
قَرنانِ؟ ويْلكَ، عندنا عشرونَ
. .. ... شيطانًا، وفوقَ قُرونِهم تيجانُ!
. .. ... ... * * *
يا أيُّها الشيطانُ إنَّك لم تزلْ
. .. ... غِرًّا، وليس لِمثلِكَ الميدانُ
قفْ جانبًا للإنسِ أو للجِنِّ
. .. ... واترُكنَا، فلا إنسٌ هُنا أو جانُ
قفْ جانبًا كي لا تبوءَ بِذَنبِنا
. .. ... أو أن يَدِينَكَ باسْمِنا الديَّانُ
إنْ يصْفحِ الغفَّارُ عنكَ فإنَّنَا
. .. ... لا يحتوينا الصَّفْحُ و الغُفْرانُ!
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَمَةٌ
. .. ... تُبَاعُ وتُشْترى ونصيبُها الحرمانُ.
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَسْيادُهَا
. .. ... خَدَمٌ، وخيرُ فُحولهِم خِصيانُ
قِطَعٌ منَ الكَذِبِ الصَّقِيلِ، فليسَ في
. .. ... تاريخِهِم رَوْحٌ ولا ريْحانُ
أُسْدٌ، ولكن يُحْدِثُونَ بِثَوبِهم
. .. ... لو حرَّكتْ أذْنابَها الفِئْرانُ!
مُتعفِّفُونَ، وصُبْحُهُم سَطْوٌ على
. .. ... قُوتِ العبادِ، وليلُهُم غِلْمانُ
متديِّنُونَ، ودِينُهم بِدِنَانِهمْ
. .. ... ومُسهَّدُونَ، وسُكْرُهمْ سَكرانُ
عربٌ، ولكنْ لو نزعْتَ قُشُورَهُم
. .. ... لَوَجدْتَ أنّ اللُّبَّ أمْريكانُ!
. .. ... ... * * *
جِيلانِ مَرَّا، لمْ يكُنْ في ظلِّهِم
. .. ... ظِلُّ، ولا بِوُجُودِهِمْ وِجدَانُ
حتَّى المرَارةُ أَقْلعَتْ عَن نفْسِها
. .. ... ولنا على إدْمانِها إدمانُ
نأتي إلى الدُّنيا وفى أعْناقِنا
. .. ... نيرٌ، وفى أعْماقِنا نِيرانُ
تخصي لنا الأسْماعُ منذُ مَجِيئِنا،
. .. ... شرْعاً، ويُعملُ للشِّفاهِ خِتانُ
ونسيرُ مقْلوبينَ حتَّى لا ترى
. .. ... مقْلوبَةً بِعيُونِنَا البُلْدانُ
والدَّرْبُ متَّضِحٌ لنا فَورَاءنَا
. .. ... مُتعقِّبٌ، وأمامَنا سَجَّانُ
فَيخافُ من فَرْطِ السُّكوتِ سُكوتُنا
. .. ... من أن تَمُرَّ بذِهْنِنَا الأذْهانُ
ونَخافُ أنْ يشيَ السُّكوتُ بِصَمْتِنا
. .. ... فكأنَّما لسُكوتِنَا آذَانُ
لو قِيلَ للحيوانِ: كُنْ بَشَراً هنا،
. .. ... لبَكَى وأعْلنَ رفْضَهُ الحيوانُ !
. .. ... ... * * *
كم باسْمِنَا نَشَبَ النِّزاعُ ولم يكُنْ
. .. ... رأىٌ لنَا بِنُشُوبِهِ أو شَانُ
وعَدَتْ عليْنا العَادِياتُ، فليْلُنا
. .. ... ثوبُ الحِدَادِ، وصُبْحُنا الأكْفَانُ
وهواؤُنا آهاتُنا، وتُرابنَا
. .. ... دمْعٌ دمُ، وسماؤنَا أجْفَانُ
صِحْنا فلم يُشفِقْ علينا عقْربٌ
. .. ... نُحْنَا ولم يرفُقْ بِنا ثُعبانُ
ومَنِ المُجيرُ وقدْ جرتْ أقْدارُنا
. .. ... في أن يَجُورَ الأهلُ والجِيرانُ؟
قُلنا، ومِطرقَةُ العذابِ تدُقٌنا:
. .. ... سَيجِيءُ دَوْرُكَ أيُّها السِّنْدانُ
وسيأكُلُ السِّرْحانُ لحْم صِغَارِهِ
. .. ... إن لم يجِدْ ما يأكُلُ السِّرحانُ
فَتَمرَّتِ الضَّحكاتُ في دمَعاتِنا
. .. ... وتكدَّرت من صحونا الكِيزانُ
حتّى إذا ما سكْرةٌ راحتْ
. .. ... وجاءتْ فِكرةٌ، وتثاءبَ النَّعسانُ
غَفَلتْ زوايا الحَانِ عن ألحانِها
. .. ... وانحطَّت الشُّرفاتُ و الحيطانُ
وهوى الهوى مُتضرِّجاً بهَوَانِهِ
. .. ... وانهدَّ من نَدمٍ بها النُّدْمانُ
لكنَّنا في الحالتينِ سفينةٌ
. .. ... غَرَقتْ، فقامَ يلُومُهَا الرُّبَّان!
أَمِنَ العَدَالةِ أن نُشَكَّ ونُشْتكى؟
. .. ... أو أن نُبَاعَ وجلدُنا الأثمانُ؟!
. .. ... ... * * *
في لحظةٍ .. لعَنتْ مصَانِعَها الدُّمَى
. .. ... وتبرَّأتْ من نفسِها الأدرانُ!
وانساب ( سيركُ) المعجِزاتِ، فها هُنا
. .. ... قَدمٌ فَمٌ، وفصاحةٌ هَذَيانُ
يُلقى بها الإعلامُ فوقَ رؤوسِنَا
. .. ... صُحُفاً يقيئُ لِعُهْرِها الغَثَيانُ!
فزِبالةٌ واستُبدِلتْ بزبالةٍ
. .. ... أخرى، ولم تُستَبْدلِ الجُرْذانُ!
وهُنَا مَلِيكٌ مُغرمٌ بتُراثِهِ
. .. ... يَحسُو الخُمورَ وكأسُهُ فِنجانُ!
وهُناكَ ثوريٌ يؤسِّسُ دَولةً
. .. ... في كَرْشِهِ، فتصفِّقُ الثيرانُ
وهُنا مَلِيكٌ ليسَ يملكُ نفسَهُ
. .. ... فَمُهُ صدىً ، وضَميرُهُ دُكَّانُ
ومُفكِّرٌ مُتَخصِّصٌ بعلومِ فَرْكِ
. .. ... الخِصيَتينِ ، ففِكرُهُ سَيَلانُ
وشَواعرٌ ، كي لا أُسَمِّى واحداً،
. .. ... يتستَّرُونَ وسِترُهُمْ عُريانُ!
يَزِنُونَ بالقَبَّانِ أبيَاتاً لهمْ
. .. ... فَيمِيلُ من أوزارِهِ القَبَّانُ
في كِفَّةٍ تَسبيلةٌ ودَراهِم
. .. ... وبكِفَّةٍ تفعيلةٌ وبَيانُ
مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُهُ
. .. ... مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُ
وتُفَرْقِعُ الأوزَانُ دونَ مبادئٍ
. .. ... لمبادئٍ ليسَت لها أوزانُ
فالحاكمُ المُغتالُ طِفلٌ وادِعٌ
. .. ... والمُودَعُونَ بسِجْنهِ .. غِيلانُ!
وابنُ الشوارعِ فارسٌ في ساعةٍ
. .. ... وبساعةٍ هو غادِرٌ وجبانُ!
هل يَنثنى الجزَّارُ عن جُرْمٍ ؟ وهل
. .. ... ترتدُّ عن أخلاقِها الفرسانُ؟!
كَلاَّ، ولكنَّ (الأنَا) ورمٌ ، وإنْ
. .. ... زادتْ فكلُّ زيادةٍ نُقصانُ
يبدو التناقُضُ عندها متناسِقاً
. .. ... واللونُ في صفحاتِها ألوانُ
هو فَارسٌ ما دامَ يَفترِسُ الورى
. .. ... فإذا قُرِصْتُ فإنَّهُ قُرصانُ!
وحدي .. ولو ذهبَ الأنامُ جميعُهم
. .. ... وإذا ذهبتُ فبعديَ الطوفانُ!
. .. ... ... * * *
يا آيةَ الله الجديد، ومن لقي
. .. ... آياتِهِ الحشراتُ والديدانُ
آمنتُ أنَّكَ آيَةٌ، فبحدِّكَ
. .. ... اتَّحدَ الهوى وتفرَّقَ الفُرقانُ
طُوبى لِنُبْلِكَ في الجِهادِ، فمَرَّةٌ
. .. ... أرضُ الكويتِ، ومَرَّةٌ إيرانُ
وكأنَّ خارطةَ الجهادِ أعَدَّها
. .. ... (ميخا) وأكَّدَ رسمَها (المعْدانُ) !
القُدسُ ليستْ من هُنا تُؤتى
. .. ... ونعلمُ أنَّها من دونِها عَمَّانُ
والفَقرُ ليسَ بأرضِنا، فمياهُنا
. .. ... تُروِى المياهُ، ونَفطُنا غُدرانُ
وبوارجُ الغُرباءِ قد كانتْ هُنا
. .. ... تحمى حماكَ، وهُم هُنا قد كانوا
إن كنتَ تنسى أنَّهم نَصَبُوكَ
. .. ... محرقةً لنا، فسيذكرُ النسيانُ
لكنَّما قَضَتِ الروايةُ أن يُبدَّل
. .. ... مشهدٌ، فتبدَّلَ البُنيانُ
مهما تخلَّى، في الروايةِ، بعضُكم
. .. ... عن بعضِكم، فجميعكُم خلاَّنُ!
. .. ... ... * * *
قيلَ الهوى. فالضمُّ ضَمُّ حبيبةٍ
. .. ... عجباً، أتَنبُتُ للهوى أسنانُ؟!
أتُعِدُّ قُنبُلةً فتُدعى قُبلةً
. .. ... ويُعَدُّ عيداً ذلك العُدوانُ؟!
وأسيرةٌ قد حُرَّرَتْ. وعَجِبتُ من
. .. ... حرَّيةٍ نَسَماتُها قُضْبَانُ!
وشريدةٌ رَجَعتْ لمنزلِ أهلِهَا
. .. ... أيَنالها الإعراضُ والنكرانُ؟
أيموتُ دونَ عفافِها إخوانُها
. .. ... أم يستبِيحُ عفافَها الإخوانُ؟!
هي سُنَّةٌ قد سَنَّها وثنٌ فماذا
. .. ... لو قَفَتْ آثارُهُ الأوثَانُ!
إنَّ اللواحِقَ للسوابقِ تنتمي
. .. ... وصُنانِ أتباعِ العدا صُنوانُ!
قُلْ للجزيرةِ: كيفَ حالتْ حائلٌ؟
. .. ... وبمَنْ جَرَتْ لخَرابِها نَجرانُ؟
وبِكفَّ مَنْ كفُّ القَطَيفِ تَقَطَّفَتْ؟
. .. ... وبمَنْ تَعَسَّرَ في عَسيرَ أَمانُ؟
ومَن احتسى الإحساءَ؟ أو من ذا الذي
. .. ... حَجَزَ الحجازَ، وجُندُهُ رُهبانُ؟
هل عِندَنا شيخٌ يُسمّى (شِكْسِبيرَ) ؟
. .. ... وهل تطيرُ وتقصِفُ البُعْرانُ؟!
لا. بل قضى شرعُ الأهِلَّةِ أن
. .. ... تخوضَ جهادَها وسيوفُها الصُّلبانُ
كَرَمُ الضيافةِ دائماً يقضى بأنْ
. .. ... تُطوى الجفونُ. وتُفتحُ السيقانُ!
معنى الجهادِ بعصرنا، إجهادُنا
. .. ... أو عصرُنا، وثوابُنا خُسرانُ
عثمانُ يُقتلُ كلَّ يومٍ باسمِنا
. .. ... وتُخاطُ من أطمَارِنا القُمصانُ!
. .. ... ... * * *
أنا ضِدَّ أمريكا إلى أن تنقضي
. .. ... هذى الحياةُ ويوضعَ الميزانُ
أنا ضِدَّها حتَّى وإن رقَّ الحَصى،
. .. ... يوماً، وسالَ الجَلْمَدُ الصَّوانُ!
بغضي لأمريكا لو الأكوانُ
. .. ... ضَمَّتْ بَعضَهُ لانهارتِ الأكوانُ
هيَ جَذْرُ دَوحِ الموبقاتِ، وكلُّ ما
. .. ... في الأرضِ من شَرٍّ هو الأغصانُ!
مَنْ غَيرُها زَرَعَ الطغاةَ بأرضِنا؟
. .. ... وبِمنْ سِواها أثمرَ الطُغيانُ؟
حَبَكَتْ فصولَ المسرحيّةِ حَبْكةً
. .. ... يَعْيَا بها المُتمرِّسُ الفنَّانُ
هذا يَكِرُّ، وذا يفِرُّ، وذا بهذا
. .. ... يستَجيرُ، ويبدأُ الغَليانُ
حتَّى إذا انقشَعَ الدُّخان، مضَى لنا
. .. ... جُرحٌ، وحلَّ محلَّهُ سَرَطانُ!
وإذا ذئابُ الغربِ راعِيةٌ لنا
. .. ... وإذا جميعُ رُعاتِنا خِرفانُ!
وإذا بأصنامِ الأجانبِ قد رَبَتْ
. .. ... وإذا الكويتُ وأهلُها القُربانُ!
. .. ... ... * * *
أنا يا كويتُ قد اكتويتُ، ورُبَّما
. .. ... بشُواظِ ناري تكتوي النيرانُ
صَحراءُ همي ما لَها من آخِرٍ
. .. ... و بحارُ حزني ما لها شُطآنُ
تبكى شراييني دماً في مَدْمَعِى
. .. ... وبأدمُعى تتضاحكُ الأحزانُ
أنتِ القريبَةُ في اللقاءِ وفى النَّوى
. .. ... وأنا بحبي الغَارقُ الظَّمآنُ
لي مِنكِ ما للقلبِ من خفقَاتِهِ
. .. ... ولديكِ مِنِّى الوجهُ والعُنوانُ
فلقدْ حَمَلتُكِ في الجُفونِ مُسَهَّداً
. .. ... كي لا يُسهَّدَ جَفنُكِ الوسْنانُ
وملأتُ روحي منكِ حتَّى لم يَعُدْ
. .. ... منِّى لروحي موضعٌ و مكانُ!
ما ذابَ مِن فَرْطِ الهوى بِكِ عاشِقٌ
. .. ... مثلى، ولا عرَفَ الأسى إنسانُ
. .. ... ... * * *
قالوا هَجَرْتِ، فقُلتُ إنَّا واحدٌ
. .. ... وكفى وِصالاً ذَلكَ الهِجرانُ
هي موطني، ولها فؤادي موطنٌ
. .. ... أَتَفِرُّ مِن أوطانها الأوطانُ
ماذا على شَجَرٍ إذا طَرَدَ الخريفُ
. .. ... هَزارَها لتُغرِّدَ الغِربانُ
في الكُحلِ لا تجدُ الأذى إلاّ إذا
. .. ... عَمِلتْ على تكحيلِك العُميانُ
. .. ... ... * * *
أنا لاَ أزالُ أدُقُّ قلبي خائفاً
. .. ... ويكادُ يُخفى دقتي الخَفقَانُ
لاَ تنكري تعبي، ولا تستنكري
. .. ... غضَبى، فإني العاشقُ الولهانُ
نُبِّئْتُ أنَّكِ قدْ هَرِمْتِ، وغاضَ
. .. ... مِن غَيظِ الخطوبِ شبابُكِ الرَّيانُ
وَعَلِمْتُ أنَّ الدارعينَ تَدرَّعوا
. .. ... بطنينهم، وسلاحُهم أطنانُ
وأقُول كلُّ بلادنا مُحتلَّةٌ
. .. ... لاَ فرقَ إن رَحَلَ العِدا أو رانوا!
ماذا نَفيدُ إذا استقلَّتْ أرضُنا
. .. ... واحتُلَّتِ الأرواحُ والأبدانُ؟!
ستعودُ أوطانى إلى أوطانِها
. .. ... إن عادَ إنساناً بها الإنسانُ!
. .. ... ... ... ... ... أحمد مطر
. .. لندن 20/9/1990
===============================================================
لافتات 2
البَيانُ الأولْ
قلمي وَسْطَ دُواةِ الحبرِ غاصْ
ثُمَّ غاصْ
ثُمَّ غاصْ.
قلمي في لُجَّةِ الحبرِ اختَنق
وَطَفتْ جُثَّتُهُ هامِدةً فوقَ الورق.
روحُهُ في زَبَدِ الأحرفِ ضاعتْ في المَدَى
ودمى في دمه ضاع سُدى
ومضى العُمرُ ولم يأتِ الخلاصْ.
آهِ يا عصرَ القماصْ
بَلْطةُ الجزّارِ لا يذبحُها قَطْرُ الندى
لا مَنَاصْ
آنَ لي أن أتركَ الحِبرَ
وأنْ أكتُبَ شعري بالرصاصْ!
======================
إنجيل بوليس!
في البدء كانَ الكلمةْ
ويومَ كانتْ أصبحتْ مُتَّهمَهْ
فطورِدَتْ
وحوصِرَتْ
واعتُقِلَتْ
. . وأَعْدمَتْهَا الأنظمهْ
. .. * *
في البدءِ كانَ الخاتمهْ !
=====================
العِلَّة
قالَ ليَ الطبيبْ :
خُذْ نَفَساً .
فكِدتُ - مِن فَرْطِ اختناقي
بالأسى والقهْرِ - أَستجيبْ
لكنَّني
خَشيتُ أن يلمحَني الرَّقيبْ .
وقالَ : مِمَّ تشتكي ؟
أردتُ أن أُجيب
لكنَّني
خشيتُ أن يسمعَني الرقيبْ .
وعندما حيَّرتُهُ بصمتيَ الرهيبْ
وَجَّهَ ضَوءاً باهِراً لمقلتي
حاولَ رفْعَ هامتي
لكنَّني خَفضتُها
وَلُذتُ بالنحيبْ
قلتُ لَهُ : معذرةً يا سيِّدي الطبيبْ
أوَدُّ أن أرفَعَ رأسي عالياً
لكنَّني
أخافُ أن .. يحذِفَهُ الرَّقيبْ !
======================
صندوق العجائب
في صِغَرى
فتحتُ صندوقَ اللُّعَبْ .
أخرجتُ كرسيّاً مُوَشَّى بالذَّهبْ
قامتْ عليهِ دُميةٌ من الخشب
في يدها سيفُ قَصَبْ .
خَفضتُ رأسَ دُميتي
رفعت رأس دميتي
خلَعتُها.
نصبتُها.
خَلعتُها .. نَصبتُها
حتى شَعَرتُ بالتعبْ
فما اشتكتْ من اختلافِ رغبتي
ولا أحسَّت بالغضبْ !
ومثلُها الكُرسيُّ تحتَ راحتي
مُزَوَّقٌ بالمجدِ . . وَهُوَ مُستَلبْ.
فإنْ نَصبْتُهُ انتصبْ
وإن قَلبْتُهُ انقلبْ !
أَمتعني المشهَدُ ،
لكنَّ أبي
حين رأى المشهَدَ خافَ واضطرَبْ
وخبَّأَ اللعبةَ في صُندوقِها
وَشَدَّ أُذْنِي . . وانسحَبْ !
. .. * *
وعِشْتُ عُمري غارقاً في دَهْشَتي.
وعندما كَبِرتُ أدركتُ السّبَبْ
أدركتُ أنَّ لُعبتي
قد جَسَّدَتْ
كلَّ سلاطينِ العَربْ !
======================
التقرير
كلبُ وَالينَا المُعَظَّمْ
عضَّني ، اليومَ ، وماتْ !
فدعاني حارسُ الأمنِ لأُعدَمْ
بعدما أثبتَ تقريرُ الوفاةْ
أنّ كلبَ السيِّدِ الوالي
تسمَّمْ !
=====================
قيصريةْ
في البلادِ العربيَّهْ
عندما ترفضُ أن تُولدَ عبداً
يَسْحَبُ الجرَّاحُ رِجليكَ
فتأتى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ.
حاملاً حُريَّةً في يَدِكَ اليمنى
وفى اليُسرى . . وَصِيَّهْ.
فإذا عِشْتَ . .تَموتْ
حَسْبَ قانونِ السُّكوتْ
وكما جِئْتَ تُوافيكَ المَنيَّهْ :
يَسْحَبُ (الجرَّاحُ) رِجليكَ
إلى القبرِ
فتمضى مُرْغَماً . . بالقيصريَّهْ !
======================
التكفِير والثورة
كَفَرْتُ بالأقلامِ والدفاتِرْ .
كفرتُ بالفصحى التي
تحبَلُ وهْيَ عاقِرْ .
كفرتُ بالشِّعر الذي
لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّك الضمائرْ
لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ
لم تنطلِقْ من بعدِها مسيرَهْ.
ولم يَخُطَّ الشعبُ في آثارِها مَصِيرَهْ .
لَعَنتُ كُلَّ شاعِرْ
ينامُ فوق الجُمَلِ النديَّةِ الوثيرهْ
وشعبُهُ ينامُ في المقابرْ .
لَعَنتُ كلَّ شاعِرْ
يستلهمُ الدمعةَ خمرأً
والأسى صَبَابَةً
والموتُ قُشْعَرِيرَهْ .
لَعَنتُ كلّ شاعِرْ
يُغازلُ الشِّفاهَ والأثداءَ و الضفائِرْ
في زمنِ الكلابِ و المخافرْ
ولا يرى فوهةَ بُندقيةٍ
حين يرى الشِّفاهَ مستجيرهْ !
ولا يرى رُمَّانةً ناسِفةً
حين يرى الأثداء مُستديرَهْ!
ولا يرى مشنقةً
حينَ يرى الضفيرهْ !
. .. * *
في زمن الآتينَ للحكمِ
على دبَّابَةٍ أجيرهْ
أو ناقةِ العشيرهْ
لَعَنتُ كلّ شاعرٍ
لا يقْتني قنبلةً
كي يكتُبَ القصيدة الأخيرهْ !
======================
هذِه الأرضُ لنا
قُوتُ عِيالنا هُنا
يُهدِرُهُ جلالةُ الحِمارْ
في صالةِ القُمارْ
وكلُّ حقِّهِ بهِ
أنَّ بعيرَ جدِّهِ
قد مَرَّ قبلَ غيرهِ
بهذهِ الآبارْ !
. .. * * *
يا شُرفاء
هذِه الأرضُ لَنا.
والزرعُ فوقَها لنا
والنِفطُ تَحتها لنا
وكُلُّ ما فيها بماضيها وآتيها لنا .
فما لَنا
في البردِ لا نلبسُ إلاَّ عُرْيَنا ؟
وما لَنا
في الجوعِ لا نأكُلُ إلاّ جوعَنا ؟
وما لنا نغرقُ وَسْطَ القارْ
في هذهِ الآبارْ
لكي نصوغَ فَقْرنا
دِفئاً ، وزاداً ، وغِنى
من أجلِ أولادِ الزِّنى ؟!
========================
الطبُّ يضرُّ بصحتكْ
لي صاحبٌ
يَدرسُ في الكُلِّية الطبيَّهْ
تأكَّدَ المُخبِرُ من ميولِهِ الحزبيَّهْ
وقام باعتقالِهِ
حينَ رآهُ مَرَّةً
يَقرأُ عن تَكَوُّنِ (الخليَّهْ) !
. .. * *
وبعدَ يومٍ واحدٍ
أُفرجَ عن جُثَّتِهِ
بحالةٍ أمْنِيَّهْ :
في رأسِهِ رَفْسَةُ بُندقيَّهْ
في صدرِه قُبلةُ بُندقيَّهْ !
في ظَهْرِهِ صورةُ بُندقيَّهْ
لكنَّني
حينَ سألتُ حارِسَ الرَّعيَّهْ
عن أَمرِهِ
أخبرني
أنَّ وفاةَ صاحبي قد حَدَثتْ
بالسكتةِ القلبيَّهْ !
========================
حالات
بِالتَّمادى
يُصبِحُ اللصُّ بأورُوبّا
مديراً للنوادي .
وبأمريكا
زَعيماً للعصاباتِ وأوكارِ الفسادِ .
وبأوطاني التي
من شَرعِها قَطْعُ الأيادي
يُصْبِحُ اللصُّ
. . رئيساً للبلادِ !
========================
المُتَّهمْ
كنتُ أمشى في سلامْ
عازفاً عن كُلِّ ما يخدِشُ
إحساسَ النظامْ .
لاَ أصيخُ السمعَ
لا أنظرُ
لا أبلعُ ريقي .
لا أرومُ الكَشفَ عن حُزني
وعن شِدَّةِ ضيقي .
لا أُميطُ الجفنَ عن دمعي
ولا أرمِى قِناعَ الابتسامْ .
كُنتُ أمشى . . والسلامْ .
فإذا بالجُندِ قد سدُّوا طريقي
ثُمّ قادوني إلى الحَبْسِ
وكان الاتهامْ :
أنّ شَخصاً مرَّ بالقصرِ
وقد سَبَّ الظلامْ
قبلَ عامْ .
ثُم بعدَ البَحثِ والفحصِ الدَّقيقِ
عَلِمَ الجُندُ بأنَّ الشخصَ هذَا
كان قد سلَّمَ في يومٍ
على جارِ صَديقي !
========================
الجِدَار
وقفتُ في زنزانتى
أُقلِّبُ الأفكارْ :
أنا السّجينُ ها هُنا
أم ذلك الحارسُ بالجوارْ ؟
فكلُّ ما يفصلنا جدارْ
وفي الجدارِ فتحةٌ
يرى الظلامَ من ورائها
وألمحُ النهارْ !
. .. * * *
لحارسى ، ولي أنا . . صِغارْ
وزوجةٌ ودارْ
لكنَّهُ مثلى هُنا
جاءَ بِهِ وجاءَ بى قَرارْ
وبيننا الجدارْ
يوشِكُ أن ينهارْ !
. .. * *
حدَّثنى الجدارْ
فقالَ لى : إنَّ الذى ترثي لهُ
قد جاءَ باختيارهِ
وجئتَ بالإجبارْ .
وقبل أن ينهارَ فيما بيننا
حدَّثنى عن أسدٍ
سجَّانُهُ حمار !
========================
إضرابْ
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ ، طريَّةُ الجدرانْ
تيجانُها تسبحُ في بَرْدِ الندى
والنورِ و العطورْ
في ساعةِ البكورْ
وتستوي كَسْلى على عُروشِها .
وتحتَ ظُلْمةِ الثرى
والبؤسِ والهوانْ
تسافِرُ الجذور في أحزانِها
كى تضحكَ التيجانْ !
. .. * *
الوردُ في البستانْ
ممالِكٌ مُترفةٌ تسبحُ في الغُرورْ
بذكرِها تُسَبِّحُ الطيورْ
ويسبحُ الفراشُ في رحيقها
وتسبحُ الجذورْ
في ظُلمةِ النَّسيانْ
. .. * *
الوردُ في البستانْ
أصبحَ . . ثُمَّ كانْ
في غَفلةٍ تهدَّلتْ رؤوسُهُ
وخرَّت السَّيقانْ
إلى الثَّرى
ثُمَّ هَوَتْ من فوقِها التيجانْ !
. .. * *
مرّت فراشتانْ
وردَّدت إحداهُما :
قدْ أعلنتْ إضرابَها الجذورْ !
. .. * *
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ
ما أجبنَ الإنسانْ !
======================
سلاحٌ بَارد
يا أيُّها الإنسانْ
يا أيُّها المُجوَّعُ، المخوَّفُ، المهانْ
يا أيُّها المدفونُ فى ثيابهِ
يا أيُّها المشنوقُ من أهدابهِ
يا أيُّها الراقِصُ مذبوحاً
على أعصابِهِ .
يا أيُّها المنفىُّ من ذاكرةِ الزمانْ
شبعتَ موتاً فانتفضْ
آن النشورُ الآنْ
بأغلظِ الايمانِ واجِهْ أغلظَ المآسى
بقبضتيكَ حَطِّم الكراسى
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فَجَرِّدِ اللسانْ
قُل : يسقطُ السلطانْ.
أمَّا إذا لم تستطِعْ
فلا تدعْ قلبك فى مكانِهِ
لأنَّهُ مُدان
فدَقَّةُ القلبِ سلاحٌ باردٌ
يتركهُ الشجاعُ بعد موتِهِ
تحت يَدِ الجبانْ
لكى يدارى ضَعْفَهُ
بأضعفِ الايمانْ !
========================
إذا الضحايا سُئِلت
طالعتُ فى صحيفةِ الرحيلْ
قافلةً تائهةٌ
دليلُها يسترُ قُبْحَ فِعلِهِ
بصبرِها الجميلْ .
رأيتُها تغرقُ فى دمائِها
والدّمعِ و العويلْ
لكنّها
رغمَ الضياعِ و الرَّدى
تُعِدُّ من نُعوشِها سفينةً
تَخيطُ من أكفانِها أَشرِعةً
كَى تُنقِذَ الدليل !
وقيل إنَّ الدَّمَ لا يُصبِحُ ماءً ،
هُزِلَتْ
فالدمُ أصبحَ ماءَ نِيلْ
والدمُ قد أصبحَ ماءَ زمْزمٍ
وكأسَ زَنْجَبيلْ
في صِحَّةِ الأمواتِ مِنْ أَحيائِنا
يَشربُهُ القاتِلُ ما بينَ يَدَيْ
مُمثِّلِ القتيلْ !
. .. * *
إذا الضحايا سُئلَتْ
بأَيِّ ذَنبٍ قُتِلتْ ؟
لانتفضتْ أشلاؤها وجَلْجَلَتْ :
بِذَنبِ شَعْبٍ مُخْلِصٍ
لِقائدٍ عَمِيلْ !
========================
الرمادُ والعواصف
مَضى عَقْدٌ على قَطْعِ الجذورِ
ولم يزلْ رأسي
يصارعُ بالرمادِ عواصفَ اليأسِ !
ومازالتْ حبالُ الشوقِ تشنُقني
على بَوَّابةِ الزمنِ
فَأَلمحُ في الأسى نفسي
خيوطاً من دَمٍ تنثالُ في كأْسِي
وألمحُها بأيدِيكُمْ .. بأيدِيكُمْ
تُجرِّعُني
فِراقَ الأُمِّ مُزْدَوَجاً
. . فِراقَ الأُمِّ و الوطنِ !
. .. * *
على أبوابِ حَضْرتِكُمْ
جَلالَتِكُمْ
سِيادَتِكم
مَعَالِيكُم
سأَطرحُ رأسيَ الذاوي
وأُطلِقُ صوتيَ الدَّاوي :
) أَريد اللهْ يِبَيِّنْ حوبِتي بيكُمْ
أَريد اللهْ على الفَرْقَهْ يِجازيكُمْ )* !
* أغنية من الفولكلور العراقي معناها : أريد من الله أن يأخذ منكم بثأري ويعاقبكم لأنكم سبب الفراق.
========================
النبات
أنا ليسَ لى عِلْمُ الحواةْ
كَىْ أُخرج الجبَلَ العظيمَ من الحصاةْ
وأَجُرُّ آلافَ الفوارسِ كالأرانِبِ
من بُطونِ القبَّعاتْ .
أنا ليسَ لى عِلْمٌ
بتعبئةِ الشجاعةِ في القناني
أو فنِّ تحويل الخروفِ إلى حصانِ !
أنا لستُ إلاّ شاعراً
أبْصرتُ نار العار
ناشِبةً بأرديةِ الغُفاهْ
فصرختُ .. هُبُّوا للنجاهْ .
فإذا أفاقوا للحياةِ
ستحتفى بِهمُ الحياةْ
وإذا تلاشَتْ صرختى
وسْطَ الحرائقِ كالدُّخانِ
فَلأنَّ صرخةَ شاعرٍ
لاتَبعثُ الرُّوحَ الطّليقةَ فى الرُّفاتْ !
. .. * *
أنا شاعرٌ حُرٌّ أُعانى
من حُرقةِ الآباءِ أَقتبسُ المعانى
ومِدادُ أَشْعاري تَقاطَرَ
من دُموعِ الأمهاتْ .
فمَتى ستُوحى بالهوى شَفَةُ الهوانِ ؟
ومتى ستطلعُ وردةُ الآمالِ
فى تلكَ الدّواةْ ؟
. .. * *
شِعرى عُصارةُ عصرِنا
لاتطلبوا منِّى اصطناع المعجزاتْ .
أوطانُنا رَهْنَ المنيَّةِ . .
والبقيَّةُ فى حياةِ الصولجانِ .
ورَقابُنا تحتَ السيوفِ
وحتْفُنا فوق اللسانِ
ودِماؤنا .. تجرى دراهِمَ
فوقَ أفخاذِ الغوانى .
وذَواتُنا سجَّادةٌ
لِنعالِ أبناءِ الذّواتْ .
هذى بُذورُ حياتِنا
واللافِتاتُ هى النّباتْ .
لاسُوقَ عندىَ للأمانى
روحوا اشتروا تلك البِضاعةَ
من دكاكينِ الولاهْ
أنا لا أبيعُ مخدِّراتْ !
==============
لن أُنافقْ
نافقْ
ونافقْ
ثُمَّ نافقْ , ثُمَّ نافقْ .
لا يَسلَمُ الجسدُ النحيلُ من الأذى
إنْ لم تُنافقْ .
نافقْ
فماذا فى النفاقِ
إذا كَذَبْتَ وأنتَ صادِقْ ؟
نافقْ
فإنَّ الجهل أن تَهوِى
ليرقى فوق جُثَّتِكَ المنافقْ .
لكَ مَبدأٌ ؟ لا تَبْتئِسْ
كُن ثابتاً
لكنْ .. بمُختلِفِ المناطِقْ !
واسبِق سِواكَ بكلِّ سابِقةٍ
فإنَّ الحكمَ محجوزٌ
لأربابِ السَّوابقْ !
. .. * *
هَذي مقالةُ خائِفٍ
مُتملِّقٍ , متسلِّقٍ
ومقالتي : أنا لنْ أُنافقْ
حتَّى ولو وضعوا بِكَفَّيَّ
المغارِبَ والمشارقْ .
يا دافنينَ رؤسَكُم مثل النَّعامِ
تَنعَّموا .
وتنقَّلُوا بين المبادئِ كاللقالِقْ
ودَعُوا البطولةَ لى أَنا
حيثُ البطولةُ باطلٌ
والحقُّ زاهِقْ !
هذا أنا
أُجرى مع الموتِ السِّباقَ
وإنَّنى أدرِى بأنَّ الموتَ سابِقْ
لكنَّما سَيظلُّ نعلى عالياً أبداً
وحسْبى أنّني فى الخفضِ شاهقْ !
فإذا انتهى الشوطُ الأخيرُ
وصفَّقَ الجمْعُ المُنافقْ
سَيَظلُّ نعْلى عالياً
فوق الرُّؤوسِ
أذا علا رأسِي
على عُقَدِ المشانقْ !
========================
إعتذار
صِحْتُ من قَسْوةِ حالى :
فوقَ نَعْلِى
كُلُّ أصحابِ المعالى !
قِيلَ لى : عَيبٌ
فكرَّرتُ مقالى .
قِيلَ لى : عَيبٌ
وكرَّرتُ مقالى .
ثُمّ لمَّا قِيل لى : عَيبٌ
تَنبَّهْتُ إلى سوءِ عِباراتى
وَخَفَّفْتُ انفعالى .
ثُمّ قدَّمتُ اعتذاراً
. . لِنِعالى !
======================== رُبَّما
رُبَّما الزَّانى يتوبْ !
رُبَّما الماءُ يرُوبْ !
رُبَّما يُحْمَلُ زيتٌ فى الثُّقوبْ !
رُبَّما شمسُ الضحى
تُشرقُ من صَوبِ الغروبْ !
رُبَّما يبرأُ إبليسُ من الذنب
فيعفو عنهُ غَفَّار الذُّنوبْ !
إنَّما لا يَبرأُ الحُكَّامُ
فى كُلِّ بلادِ العُرْبِ
من ذنبِ الشُّعوبْ !
========================
المنتحرون
إسْكُتوا
لا صوتَ يعْلُو
فوقَ صوتِ النائحهْ
نحنُ أمواتٌ
وليستْ هذِه الأوطانُ إلاَّ أضرحهْ
قُسِّمتْ أشلاؤها
بين دِبابٍ و نِسورْ
وأُقيمت فى زواياها القُصورْ
لكلابِ المشرحهْ !
. .. * *
نحنُ أمواتٌ
ولكنَّ اتَّهامَ القاتِلِ المأجورِ
بُهتانٌ وزورْ
هو فردٌ عاجزٌ
لكننا نحن وَضَعْنَا بيديهِ الأسلحهْ
ووَضَعْنَا تحت رجليهِ النُّحورْ
وتواضَعنا على تكليفِهِ بالمذبحَهْ !
. .. * *
أيها الماشون ما بين القُبورْ
أيها الآتُون من آتى العُصورْ
لعَنَ اللهُ الذى يتلو علينا الفاتحهْ !
=======================
بلاد الكتمان
أكَل الصَّمتُ فَمِى
لكنَّنِى
أشكو من الصَّمتِ بصَمتْ
خوفَ أن يأكُلَنى
لو أنا بالصَّوتِ شكوتْ
رَبِّ إنّ الصّوتَ مَوْتْ
رَبِّ إنّ الصّمتَ مَوْتْ
كيف أحيا فى بلادٍ
تكتُمُ الصوتَ بإطلاقةِ إسكاتٍ
وحتَّى كاتِمُ الصوتِ بها
فى فمِهِ .. (كاتمُ صوتْ) !
=======================
مصادرة
من بعدِ طول الضَّربِ والحبْسِ
والفحص ، والتدقيقِ ، والجَسِّ
والبحثِ فى أمتِعتى
والبحث فى جسمى
وفى نفسى
لم يَعثُرِ الجُندُ على قصيدتى
فَغادَروا من شِدّةِ اليأسِ .
لكنّ كَلْباً ماكراً
أَخبرهم بأنَّنى
أحمِلُ أشعارىَ فى ذاكرتى
فأطْلقَ الجُندُ سَراحَ جُثَّتى
وصادروا رأسِى !
. .. * *
تقولُ لى والدتى :
يا وَلَدى
إن شِئتَ أن تنجو من النَّحْسِ
وأن تكونَ شاعراً مُحتَرَمَ الحِسِّ
سبِّحْ لربَّ ( العَرشِ )
. . واقرأ آية (الكُرسى) !
=======================
مأساةُ أعواد الثقاب
أوطانى عُلْبةُ كِبريتٍ
والعلبةُ مُحكمةُ الغلقْ
وأنا فى داخِلها
عُودٌ محكومٌ بالخنقْ .
فإذا ما فَتَحتْها الأيدى
فَلِكَىْ تُحرِقَ جِلدى
فالعلبةُ لا تُفتحُ دَوْمَا
إلاّ للغرب أو الشرقِ
أَمّا لِلحرقِ، أو الحرقْ !
. .. * *
يا فاتحَ عُلبتِنا الآتى
حاول أن تأتىَ بالفرقْ .
الفتحُ الراهِنُ لا يُجدي
الفتحُ الراهِنُ مرسومٌ ضِدِّي
مادامَ لحرقٍ أو حَرقْ .
إسحقْ عُلبتَنَا ، وانثُرْنا
لا تأبَهْ لَوْ ماتَ قليلٌ مِنَّا
عِندَ السحقِ .
يكفي أن يحيا أغلبُنا حُراًّ
في أرضٍ بالغةِ الرِّفقْ .
الأسوارُ عليها عُشْبٌ
. . والأبوابُ هَواءٌ طَلقْ !
======================
مكسبٌ شعبى
آبارُنا الشَّهيدهْ
تنزف ناراً ودماً
للأُمَمِ البعيدهْ .
ونحنُ فى جوارِها
نُطعِمَ جوعَ نارِها
لكنّنا نجوعْ !
ونَحمِلُ البرد على جُلودِنا
ونَحمِلُ الضُّلوعْ
ونَسْتَضِىءُ فى الدُّجى
بالبدرِ والشُّموعْ
كى نقرأَ القرآنَ
والجريدةَ الوَحيدهْ !
حملتُ شكوى الشعبِ
فى قصيدتى
لحارسِ العقيدهْ
وصاحِبِ الجلالةِ الأكيده .
قُلتُ لهُ :
شعبُكَ يا سيِّدَنا
صار ( على الحديدَهْ )
شعبُكَ يا سيِّدَنا
تهرَّأتْ من تَحتِه الحديدَهْ .
شعبُك يا سيِّدَنا
قد أَكَلَ الحديدَه !
وقبلَ أن أفرُغَ
من تلاوةِ القصيدَهْ
رأيتُهُ يغْرقْ فى أحزانِهِ
ويذرِفُ الدُّموعْ .
وبعدَ يومٍ
صدَر القرارُ فى الجريدَهْ :
أن تصْرِفَ الحكومةُ الرَّشيدهْ
لكلَّ ربِّ أسرةٍ
. . حديدةٌ جديدهْ !
========================
الهارب
فى يقظتى يقفِزُ حوْلى الرُّعبْ
فى غفوتى يصحو بقلبى الرعبْ
يُحيطُ بى فى منزلى
يرصدُنى فى عملى
يتبعُنى فى الدَّربْ !
ففى بلاد العُربْ
كلُّ خيالٍ بدْعةٌ
وكل فِكْرٍ جُنْحةٌ
وكُلُّ صوتٍ ذنبْ !
. .. * * *
هَربتُ للصحراءِ من مدينتى
وفى الفضاء الرَّحبْ
صرختُ مِلءُ القلبْ :
إلطُفْ بنا يا ربَّنا من عُملاءِ الغربْ
إلطُفْ بنا يا ربْ
سَكَتُّ .. فارتدَّ الصَّدى :
خَسَأْتَ يابنَ الكلبْ !
=========================
حادث مرتقب
إنى أرى سيّارةٌ
تسيرُ فى اضطرابْ .
قائدها مُسْتهتِرٌ
أفْرَط فى الشرابْ .
والدّربُ طينٌ تحتَها
وحولها ضبابْ .
مُسرِعةٌ
مُسرِعةٌ
السِكْرُ لَنْ يَلْجِمَها
والطينُ لنْ يَرحمها
والنّارُ والحديدُ إن تحدَّرا
طاحا
ولم يُمسكْهما (الضبابْ)
. . . . . . . . . . . . . . .
سَيَحْدثُ انقلابْ !
=========================
حكمة الغاب
تَعدو حميرُ الوحشِ فى غاباتِها
مُسَوَّمَهْ .
قويَّةً منتقِمهْ
لا تقبلُ الترويضَ والمسالمهْ .
فالغابُ قد علَّمها
أن تركلَ السِّلمَ وراء ظهرِها
لكى تظلُ سالِمهْ !
. .. * * *
وفى زَرائب القُرى .. المُنظَّمهْ
تغفو الحميرُ الخادمهْ
ذليلةً مُسْتَسلِمه
لأنها قد نَزَعت جُلودها المُقلَّمهْ
وعافتِ المُقاومهْ
وأصبحتْ مُطيعَةً ..
تسيرُ حَسْبَ الأنظمَهْ !
========================
واعظ السلطان
حدَّثنا الإمامْ
فى خُطبةِ الجُمْعةِ
عن فضائل النظامْ
والصبرِ والطّاعةِ والصيامْ .
وقالَ ما معناهْ :
إذا أرادَ ربُّنا
مُصيبةً بعبدِهِ ابتلاهُ
بكثرةِ الكلامْ .
لكنَّهُ لم يَذْكُرِ الجِهادَ فى خُطْبتهِ
وحينَ ذَكَّرناهْ
قال لنا : عليكم السلامْ !
وبعدَها قامَ مُصلِّياً بِنَا
وعندما أُذِّن للصلاهْ
قال :
نَعَمْ .. إلهَ إلاَّ الله !
=========================
الطفل الأعمى
وَطنى طِفلٌ كَفِيفْ
وضَعِيفْ .
كان يمشى آخِرَ الليلِ
وفى حَوْزَتِهِ
ماءٌ ، وزَيْتٌ ، ورَغِيفْ
فَرآهُ اللصُّ وانهَالَ بسكِّينٍ عليهْ
وتَوارى
بعدما استوْلى على ما فى يَدَيْهْ
. .. * * *
وَطَنى مازالَ مُلْقى
مُهْملاً فوق الرَّصيفْ
غارقاً فى سَكَراتِ الموْتِ
والوالى هو السِّكِّينْ
. . والشَّعبُ نَزِيفْ !
========================
أنشوده
شَعبُنا يومَ الكِفاحْ
رأسُهُ .. يَتبعُ قَولَهْ !
لا تَقُلْ : هَاتِ السِّلاحْ .
إنَّ للبَاطِلِ دَوْلهْ .
ولنا خصْرٌ ، ومِزمارٌ ، وطَبلَهْ
ولنا أنظِمَةٌ
لولا العِدا
ما بَقِيَتْ فى الحُكمِ لَيلَهْ !
========================
آه لو يُجدى الكلام
الملايينُ على الجُوعِ تَنامْ
وعلى الخَوفِ تنامْ
وعلى الصَّمتِ تنامْ .
والملايينُ التى تُسرقُ من جَيبِ النيامْ
تتهاوَى فوقَهم سيلَ بنادِقْ
ومَشانِقْ
وقَرراراتِ اتِّهامْ
كُلَّما نادَوا بتقطِيعِ ذراعَى
كُلِّ سارقْ
وبتوفير الطَّعامْ !
. .. * * *
عِرضُنا يُهتَكُ فوقَ الطُّرقاتْ
وحُماةُ العِرْضِ .. أولادُ حَرامْ
نهضوا بعدَ السُّباتْ
يفرشون البُسُطَ الحَمْرَاءَ
مِن فَيْضِ دِمانا
تحتَ أقدامِ السَّلامْ !
. .. * * *
أرضُنا تصغُرُ عاماً بعدَ عامْ
وحُماةُ الأَرْضِ .. أبناءُ السَّماءْ
عُمَلاءْ
لا بِهم زَلزَلةُ الأرضِ
ولا فى وَجهِهِم قَطْرةُ ماءْ .
كُلَّما ضاقَتْ بِنا الأرضُ
أفَادُونا بتوسِيعِ الكَلامْ
حَول جَدْوى القُرْفُصَاءْ
وأبادُوا بَعْضَنا
من أجلِ تَخْفيفِ الزِّحامْ !
. .. * * *
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
آهِ لو يُجْدِى الكَلاَمْ
هذِهِ الأُمَّةُ ماتتْ
. . والسَّلام !
========================
هَوِيَّه
فى مَطارٍ أجنبى
حدَّقَ الشُّرطِىُّ بى
- قَبْلَ أن يطلُبَ أوراقى -
ولمَّا لم يجِدْ عِندى لساناً أو شَفَهْ
زمَّ عَيْنيْهِ وأبْدى أسَفَهْ
قائلاً أهلاً وسهْلاً
. . يا صديقى العربِى !
========================
الرَّجُلُ المُناسِبْ
باسم وَالِينَا المُبجَّلْ
قرَّرُوا شنْقَ الذى اغتَالَ أخِى
لكنَّهُ كانَ قصيراً
فمضى الجلاَّدُ يسألْ :
رأسُهُ لا يصلُ الحبْلَ
فماذا سوفَ أفعَلْ ؟
بعد تفكِيرٍ عميقْ
أمَرَ الوالى بشنقى بدلاً مِنهُ
لأنِّى كنتُ أَطْوَلْ !
=========================
البُؤَساء
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى
مَنْ أكُونْ .
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
لَدَعُوا لى بالبقَاءْ
كُلَّ صُبْحٍ و مساءْ .
أنا مَجنُونٌ ؟
أَجَلْ أدْرِى ،
وأدْرِى أنَّ أشْعارِى جُنُونْ .
لكِنِ الحُكَّامُ لَوْلاىَ
ولوْلا هذهِ الأشعَارِ ماذا يعمَلونْ ؟
فإذا لم أكْتُبِ الشِّعرَ أنا
كيفَ يَعيشُ المُخْبِرونْ ؟
وإذا لم أَشْتمِ الحُكَّامَ
مَنْ يعْتَقِلونْ ؟
وإذا لَم أُعْتقَلْ حَيّاً
فمَن يسْتجْوِبُون ؟
وبماذا يُطْلِقُ الصَّوتَ وكِيلُ الإدِّعَاءْ ؟
وبماذا ياتُرَى
يعملُ أَرْبَابَ القضاءْ ؟
وعلى مَن يحكُمونْ ؟
وإذا لم يَسجِنُونى
فلِمَنْ تُفْتَحُ أبوابَ السجونْ ؟
هؤلاءِ البُؤساءْ
هُمْ يَدُ الحُكمِ
ولولا أننى حَىٌّ لطَاروا فى الهواءْ !
فَأنا أَرْكُضُ ..
والمُخْبِرُ ، والشُّرطِىُّ ، والسَّجَّانُ ،
والجلاَّدُ ، والفرَّاشُ ، والكَاتِبُ ،
والحاجِبُ ، والقَاضى
ورَائى يركُضُونْ !
كلُّهُم باسمِى أنا يشْتَغِلونْ .
كلُّهُم من خيرِ شِعرِى يأكُلونْ !
. .. * * *
آهِ لو يُدرِكُ حُكَّامُ بلادى العُقَلاءْ
آهِ لو هُم يُدرِكُونْ
أنَّهُم لولا جُنونِى .. عاطِلونْ
لَرَمُوا تِيجَانَهُم تحتَ الحِذاءْ
وأتَوْا من تُهمَتِى
=========================
القضيّه
زَعمُوا أنَّ لنا
أرضاً ، وعِرْضاً ، وحَمِيَّهْ
وسُيوفاً لا تُبارِيها المَنِيَّهْ .
زَعمُوا ..
فالأرضُ زَالتْ
ودِماءُ العِرضِ سالتْ
ووُلاةِ الأمرِ لا أمْرَ لَهُمْ
خارِجَ نَصِّ المسرحيَّهْ
كُلُّهُم راعٍ ومسْئُولٌ
عنِ التَّفرِيطِ فى حَقِّ الرَّعِيَّهْ !
وعن الإرهابِ والكَبْتِ
وتقْطيعِ أيادى النَّاسِ
من أجلِ القضيَّهْ !
. .. * * *
القضيَّهْ
سَاعةَ الميلادِ ، كانت بُندُقِيّهْ
ثمَّ صارت وتداً فى خَيمةٍ
أَغْرَقَهُ (الزَّيتُ)
فأضحى غُصنَ زَيْتُونٍ
. . وأمسَى مِزْهَرِيَّهْ
تُنعِشُ المائدَةَالخضراءَ
صُبْحاً و عَشِيَّهْ
فى القُصورِ المَلَكِيَّهْ
. .. * * *
ويقولون لى :اضْحَكْ !
حَسَناً
ها إنَّنى أضحكُ من شَرَّ البَلِيَّهْ !
==========================حِكْمَهْ
قالَ أبى :
فى أىَّ قُطْرٍ عرَبى
إن أعلَنَ الذَّكِىُّ عن ذَكَائهِ
فَهُوَ غَبِى !
========================
المثلُ المشْهُورْ
من قسوة الأصداف،
من ظلمتها
تنبلج الدُّرَّةْ.
من رحم الهجير يولد الندى
وفى انتهاء الصوت يبدأ الصدى
لك الحياة في الردى
أيتها الزهرة
أيتها الفكرة
أيتها الأرض التي
تؤمن دوما أنها حرّة.
. .. ... أحمد مطر
===================
كم على السيف مشيتْ
كم بجمر الظلم و الجور اكتويتْ
كم تحملت من القهر
وكم من ثقل البلوى حويتْ
غير أنى ما انحنيتْ.
كم هوى السّوط على ظهري
وكم حاولَ أن أُنكر صبري
فأبيتْ
وهوى، ثم هوى، ثم هوى..
حتى هويت
غير أنى عندما طاوعني دمعي .. عصيتْ.
مذهبي أنى كريمٌ بدمائي،
وبخيلٌ ببكائي
غير أنى يا حبيبهْ
حينما سرتُ إلى طائرة النفيِ
إلى الأرض الغريبةْ
عامداَ طأطأتُ رأسي،
ولعينيكِ انحنيتْ.
وعلى صدركِ علّقتُ بقايا كبريائي،
وبكيتْ.
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ،
آهِ .. يا فتنة روحي كم بكيتْ!
كنتُ من فرطِ بكائي
دمعَةٌ حيرى على خدِّكِ تمشى
يا كويتْ !
. .. ... أحمد مطر
===================
===============================================================
وثنٌ تضيقُ برجسهِ الأوثانُ ...
. .. ... وفريسةٌ تبكى لها العقْبانُ!
ودمٌ يضمِّدُ للسيوف جراحَتها ...
. .. ... ويعيذُها من شرِّهِ الشريانُ!
هي فتنةٌ عصفتْ بكيدِكَ كُلَّهُ
. .. ... فانفذ بجلدكَ أيُّها الشيطانُ!
ماذا لديكَ؟ غِوايةٌ؟ صُنْهَا ...
. .. ... فقد أغوى الغوايةَ نفسها السُّلطان!
مكرٌ؟ وهل حلَّفتَ بالقرآن
. .. ... قرآناً ليُنكِرَ أنَّهُ قرآنُ!
كُفْرٌ؟ بماذا ؟ دينُنا أمسى بلا
. .. ... دينٍ، وأعلنَ كُفرَهُ الإيمانُ!
كَذِبٌ؟ ألا تدرى بأنَّ وجوهَنا
. .. ... زورٌ ، وأَنَّ نفوسَنا بُهتان؟
قَرنانِ؟ ويْلكَ، عندنا عشرونَ
. .. ... شيطانًا، وفوقَ قُرونِهم تيجانُ!
. .. ... ... * * *
يا أيُّها الشيطانُ إنَّك لم تزلْ
. .. ... غِرًّا، وليس لِمثلِكَ الميدانُ
قفْ جانبًا للإنسِ أو للجِنِّ
. .. ... واترُكنَا، فلا إنسٌ هُنا أو جانُ
قفْ جانبًا كي لا تبوءَ بِذَنبِنا
. .. ... أو أن يَدِينَكَ باسْمِنا الديَّانُ
إنْ يصْفحِ الغفَّارُ عنكَ فإنَّنَا
. .. ... لا يحتوينا الصَّفْحُ و الغُفْرانُ!
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَمَةٌ
. .. ... تُبَاعُ وتُشْترى ونصيبُها الحرمانُ.
أُنْبِيكَ أنَّا أُمَّةٌ أَسْيادُهَا
. .. ... خَدَمٌ، وخيرُ فُحولهِم خِصيانُ
قِطَعٌ منَ الكَذِبِ الصَّقِيلِ، فليسَ في
. .. ... تاريخِهِم رَوْحٌ ولا ريْحانُ
أُسْدٌ، ولكن يُحْدِثُونَ بِثَوبِهم
. .. ... لو حرَّكتْ أذْنابَها الفِئْرانُ!
مُتعفِّفُونَ، وصُبْحُهُم سَطْوٌ على
. .. ... قُوتِ العبادِ، وليلُهُم غِلْمانُ
متديِّنُونَ، ودِينُهم بِدِنَانِهمْ
. .. ... ومُسهَّدُونَ، وسُكْرُهمْ سَكرانُ
عربٌ، ولكنْ لو نزعْتَ قُشُورَهُم
. .. ... لَوَجدْتَ أنّ اللُّبَّ أمْريكانُ!
. .. ... ... * * *
جِيلانِ مَرَّا، لمْ يكُنْ في ظلِّهِم
. .. ... ظِلُّ، ولا بِوُجُودِهِمْ وِجدَانُ
حتَّى المرَارةُ أَقْلعَتْ عَن نفْسِها
. .. ... ولنا على إدْمانِها إدمانُ
نأتي إلى الدُّنيا وفى أعْناقِنا
. .. ... نيرٌ، وفى أعْماقِنا نِيرانُ
تخصي لنا الأسْماعُ منذُ مَجِيئِنا،
. .. ... شرْعاً، ويُعملُ للشِّفاهِ خِتانُ
ونسيرُ مقْلوبينَ حتَّى لا ترى
. .. ... مقْلوبَةً بِعيُونِنَا البُلْدانُ
والدَّرْبُ متَّضِحٌ لنا فَورَاءنَا
. .. ... مُتعقِّبٌ، وأمامَنا سَجَّانُ
فَيخافُ من فَرْطِ السُّكوتِ سُكوتُنا
. .. ... من أن تَمُرَّ بذِهْنِنَا الأذْهانُ
ونَخافُ أنْ يشيَ السُّكوتُ بِصَمْتِنا
. .. ... فكأنَّما لسُكوتِنَا آذَانُ
لو قِيلَ للحيوانِ: كُنْ بَشَراً هنا،
. .. ... لبَكَى وأعْلنَ رفْضَهُ الحيوانُ !
. .. ... ... * * *
كم باسْمِنَا نَشَبَ النِّزاعُ ولم يكُنْ
. .. ... رأىٌ لنَا بِنُشُوبِهِ أو شَانُ
وعَدَتْ عليْنا العَادِياتُ، فليْلُنا
. .. ... ثوبُ الحِدَادِ، وصُبْحُنا الأكْفَانُ
وهواؤُنا آهاتُنا، وتُرابنَا
. .. ... دمْعٌ دمُ، وسماؤنَا أجْفَانُ
صِحْنا فلم يُشفِقْ علينا عقْربٌ
. .. ... نُحْنَا ولم يرفُقْ بِنا ثُعبانُ
ومَنِ المُجيرُ وقدْ جرتْ أقْدارُنا
. .. ... في أن يَجُورَ الأهلُ والجِيرانُ؟
قُلنا، ومِطرقَةُ العذابِ تدُقٌنا:
. .. ... سَيجِيءُ دَوْرُكَ أيُّها السِّنْدانُ
وسيأكُلُ السِّرْحانُ لحْم صِغَارِهِ
. .. ... إن لم يجِدْ ما يأكُلُ السِّرحانُ
فَتَمرَّتِ الضَّحكاتُ في دمَعاتِنا
. .. ... وتكدَّرت من صحونا الكِيزانُ
حتّى إذا ما سكْرةٌ راحتْ
. .. ... وجاءتْ فِكرةٌ، وتثاءبَ النَّعسانُ
غَفَلتْ زوايا الحَانِ عن ألحانِها
. .. ... وانحطَّت الشُّرفاتُ و الحيطانُ
وهوى الهوى مُتضرِّجاً بهَوَانِهِ
. .. ... وانهدَّ من نَدمٍ بها النُّدْمانُ
لكنَّنا في الحالتينِ سفينةٌ
. .. ... غَرَقتْ، فقامَ يلُومُهَا الرُّبَّان!
أَمِنَ العَدَالةِ أن نُشَكَّ ونُشْتكى؟
. .. ... أو أن نُبَاعَ وجلدُنا الأثمانُ؟!
. .. ... ... * * *
في لحظةٍ .. لعَنتْ مصَانِعَها الدُّمَى
. .. ... وتبرَّأتْ من نفسِها الأدرانُ!
وانساب ( سيركُ) المعجِزاتِ، فها هُنا
. .. ... قَدمٌ فَمٌ، وفصاحةٌ هَذَيانُ
يُلقى بها الإعلامُ فوقَ رؤوسِنَا
. .. ... صُحُفاً يقيئُ لِعُهْرِها الغَثَيانُ!
فزِبالةٌ واستُبدِلتْ بزبالةٍ
. .. ... أخرى، ولم تُستَبْدلِ الجُرْذانُ!
وهُنَا مَلِيكٌ مُغرمٌ بتُراثِهِ
. .. ... يَحسُو الخُمورَ وكأسُهُ فِنجانُ!
وهُناكَ ثوريٌ يؤسِّسُ دَولةً
. .. ... في كَرْشِهِ، فتصفِّقُ الثيرانُ
وهُنا مَلِيكٌ ليسَ يملكُ نفسَهُ
. .. ... فَمُهُ صدىً ، وضَميرُهُ دُكَّانُ
ومُفكِّرٌ مُتَخصِّصٌ بعلومِ فَرْكِ
. .. ... الخِصيَتينِ ، ففِكرُهُ سَيَلانُ
وشَواعرٌ ، كي لا أُسَمِّى واحداً،
. .. ... يتستَّرُونَ وسِترُهُمْ عُريانُ!
يَزِنُونَ بالقَبَّانِ أبيَاتاً لهمْ
. .. ... فَيمِيلُ من أوزارِهِ القَبَّانُ
في كِفَّةٍ تَسبيلةٌ ودَراهِم
. .. ... وبكِفَّةٍ تفعيلةٌ وبَيانُ
مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُهُ
. .. ... مُتفاعِلُنْ مُتفاعِلُنْ عِلاَّنُ
وتُفَرْقِعُ الأوزَانُ دونَ مبادئٍ
. .. ... لمبادئٍ ليسَت لها أوزانُ
فالحاكمُ المُغتالُ طِفلٌ وادِعٌ
. .. ... والمُودَعُونَ بسِجْنهِ .. غِيلانُ!
وابنُ الشوارعِ فارسٌ في ساعةٍ
. .. ... وبساعةٍ هو غادِرٌ وجبانُ!
هل يَنثنى الجزَّارُ عن جُرْمٍ ؟ وهل
. .. ... ترتدُّ عن أخلاقِها الفرسانُ؟!
كَلاَّ، ولكنَّ (الأنَا) ورمٌ ، وإنْ
. .. ... زادتْ فكلُّ زيادةٍ نُقصانُ
يبدو التناقُضُ عندها متناسِقاً
. .. ... واللونُ في صفحاتِها ألوانُ
هو فَارسٌ ما دامَ يَفترِسُ الورى
. .. ... فإذا قُرِصْتُ فإنَّهُ قُرصانُ!
وحدي .. ولو ذهبَ الأنامُ جميعُهم
. .. ... وإذا ذهبتُ فبعديَ الطوفانُ!
. .. ... ... * * *
يا آيةَ الله الجديد، ومن لقي
. .. ... آياتِهِ الحشراتُ والديدانُ
آمنتُ أنَّكَ آيَةٌ، فبحدِّكَ
. .. ... اتَّحدَ الهوى وتفرَّقَ الفُرقانُ
طُوبى لِنُبْلِكَ في الجِهادِ، فمَرَّةٌ
. .. ... أرضُ الكويتِ، ومَرَّةٌ إيرانُ
وكأنَّ خارطةَ الجهادِ أعَدَّها
. .. ... (ميخا) وأكَّدَ رسمَها (المعْدانُ) !
القُدسُ ليستْ من هُنا تُؤتى
. .. ... ونعلمُ أنَّها من دونِها عَمَّانُ
والفَقرُ ليسَ بأرضِنا، فمياهُنا
. .. ... تُروِى المياهُ، ونَفطُنا غُدرانُ
وبوارجُ الغُرباءِ قد كانتْ هُنا
. .. ... تحمى حماكَ، وهُم هُنا قد كانوا
إن كنتَ تنسى أنَّهم نَصَبُوكَ
. .. ... محرقةً لنا، فسيذكرُ النسيانُ
لكنَّما قَضَتِ الروايةُ أن يُبدَّل
. .. ... مشهدٌ، فتبدَّلَ البُنيانُ
مهما تخلَّى، في الروايةِ، بعضُكم
. .. ... عن بعضِكم، فجميعكُم خلاَّنُ!
. .. ... ... * * *
قيلَ الهوى. فالضمُّ ضَمُّ حبيبةٍ
. .. ... عجباً، أتَنبُتُ للهوى أسنانُ؟!
أتُعِدُّ قُنبُلةً فتُدعى قُبلةً
. .. ... ويُعَدُّ عيداً ذلك العُدوانُ؟!
وأسيرةٌ قد حُرَّرَتْ. وعَجِبتُ من
. .. ... حرَّيةٍ نَسَماتُها قُضْبَانُ!
وشريدةٌ رَجَعتْ لمنزلِ أهلِهَا
. .. ... أيَنالها الإعراضُ والنكرانُ؟
أيموتُ دونَ عفافِها إخوانُها
. .. ... أم يستبِيحُ عفافَها الإخوانُ؟!
هي سُنَّةٌ قد سَنَّها وثنٌ فماذا
. .. ... لو قَفَتْ آثارُهُ الأوثَانُ!
إنَّ اللواحِقَ للسوابقِ تنتمي
. .. ... وصُنانِ أتباعِ العدا صُنوانُ!
قُلْ للجزيرةِ: كيفَ حالتْ حائلٌ؟
. .. ... وبمَنْ جَرَتْ لخَرابِها نَجرانُ؟
وبِكفَّ مَنْ كفُّ القَطَيفِ تَقَطَّفَتْ؟
. .. ... وبمَنْ تَعَسَّرَ في عَسيرَ أَمانُ؟
ومَن احتسى الإحساءَ؟ أو من ذا الذي
. .. ... حَجَزَ الحجازَ، وجُندُهُ رُهبانُ؟
هل عِندَنا شيخٌ يُسمّى (شِكْسِبيرَ) ؟
. .. ... وهل تطيرُ وتقصِفُ البُعْرانُ؟!
لا. بل قضى شرعُ الأهِلَّةِ أن
. .. ... تخوضَ جهادَها وسيوفُها الصُّلبانُ
كَرَمُ الضيافةِ دائماً يقضى بأنْ
. .. ... تُطوى الجفونُ. وتُفتحُ السيقانُ!
معنى الجهادِ بعصرنا، إجهادُنا
. .. ... أو عصرُنا، وثوابُنا خُسرانُ
عثمانُ يُقتلُ كلَّ يومٍ باسمِنا
. .. ... وتُخاطُ من أطمَارِنا القُمصانُ!
. .. ... ... * * *
أنا ضِدَّ أمريكا إلى أن تنقضي
. .. ... هذى الحياةُ ويوضعَ الميزانُ
أنا ضِدَّها حتَّى وإن رقَّ الحَصى،
. .. ... يوماً، وسالَ الجَلْمَدُ الصَّوانُ!
بغضي لأمريكا لو الأكوانُ
. .. ... ضَمَّتْ بَعضَهُ لانهارتِ الأكوانُ
هيَ جَذْرُ دَوحِ الموبقاتِ، وكلُّ ما
. .. ... في الأرضِ من شَرٍّ هو الأغصانُ!
مَنْ غَيرُها زَرَعَ الطغاةَ بأرضِنا؟
. .. ... وبِمنْ سِواها أثمرَ الطُغيانُ؟
حَبَكَتْ فصولَ المسرحيّةِ حَبْكةً
. .. ... يَعْيَا بها المُتمرِّسُ الفنَّانُ
هذا يَكِرُّ، وذا يفِرُّ، وذا بهذا
. .. ... يستَجيرُ، ويبدأُ الغَليانُ
حتَّى إذا انقشَعَ الدُّخان، مضَى لنا
. .. ... جُرحٌ، وحلَّ محلَّهُ سَرَطانُ!
وإذا ذئابُ الغربِ راعِيةٌ لنا
. .. ... وإذا جميعُ رُعاتِنا خِرفانُ!
وإذا بأصنامِ الأجانبِ قد رَبَتْ
. .. ... وإذا الكويتُ وأهلُها القُربانُ!
. .. ... ... * * *
أنا يا كويتُ قد اكتويتُ، ورُبَّما
. .. ... بشُواظِ ناري تكتوي النيرانُ
صَحراءُ همي ما لَها من آخِرٍ
. .. ... و بحارُ حزني ما لها شُطآنُ
تبكى شراييني دماً في مَدْمَعِى
. .. ... وبأدمُعى تتضاحكُ الأحزانُ
أنتِ القريبَةُ في اللقاءِ وفى النَّوى
. .. ... وأنا بحبي الغَارقُ الظَّمآنُ
لي مِنكِ ما للقلبِ من خفقَاتِهِ
. .. ... ولديكِ مِنِّى الوجهُ والعُنوانُ
فلقدْ حَمَلتُكِ في الجُفونِ مُسَهَّداً
. .. ... كي لا يُسهَّدَ جَفنُكِ الوسْنانُ
وملأتُ روحي منكِ حتَّى لم يَعُدْ
. .. ... منِّى لروحي موضعٌ و مكانُ!
ما ذابَ مِن فَرْطِ الهوى بِكِ عاشِقٌ
. .. ... مثلى، ولا عرَفَ الأسى إنسانُ
. .. ... ... * * *
قالوا هَجَرْتِ، فقُلتُ إنَّا واحدٌ
. .. ... وكفى وِصالاً ذَلكَ الهِجرانُ
هي موطني، ولها فؤادي موطنٌ
. .. ... أَتَفِرُّ مِن أوطانها الأوطانُ
ماذا على شَجَرٍ إذا طَرَدَ الخريفُ
. .. ... هَزارَها لتُغرِّدَ الغِربانُ
في الكُحلِ لا تجدُ الأذى إلاّ إذا
. .. ... عَمِلتْ على تكحيلِك العُميانُ
. .. ... ... * * *
أنا لاَ أزالُ أدُقُّ قلبي خائفاً
. .. ... ويكادُ يُخفى دقتي الخَفقَانُ
لاَ تنكري تعبي، ولا تستنكري
. .. ... غضَبى، فإني العاشقُ الولهانُ
نُبِّئْتُ أنَّكِ قدْ هَرِمْتِ، وغاضَ
. .. ... مِن غَيظِ الخطوبِ شبابُكِ الرَّيانُ
وَعَلِمْتُ أنَّ الدارعينَ تَدرَّعوا
. .. ... بطنينهم، وسلاحُهم أطنانُ
وأقُول كلُّ بلادنا مُحتلَّةٌ
. .. ... لاَ فرقَ إن رَحَلَ العِدا أو رانوا!
ماذا نَفيدُ إذا استقلَّتْ أرضُنا
. .. ... واحتُلَّتِ الأرواحُ والأبدانُ؟!
ستعودُ أوطانى إلى أوطانِها
. .. ... إن عادَ إنساناً بها الإنسانُ!
. .. ... ... ... ... ... أحمد مطر
. .. لندن 20/9/1990
===============================================================
حي على الجماد
حي على الجهاد ؛
كنا وكانت خيمة تدور في المزاد،
تدور ثم إنها تدور ثم إنها يبتاعها الكساد ؛
حي على الجهاد ؛
تفكيرنا مؤمم وصوتنا مباد ،
مرصوصة صفوفنا كلا على انفراد ،
مشرعة نوافذ الفساد ،
مقفلة مخازن العتاد ،
والوضع في صالحنا والخير في ازدياد ؛
حي على الجهاد ؛
رمادنا من تحته رماد ،
أموالنا سنابل مودعة في مصرف الجراد ،
ونفطنا يجري على الحياد ،
والوضع في صالحنا فجاهدوا ياأيها العباد ،
رمادنا من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
من تحته رماد ،
. حي على الجماد
سفارة
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وكل الدروب إليها سدى ،
والخطى مستعارة ،
فما بيننا ألف باب وباب ،
عليها كلاب الكلاب ،
تشم الظنون، وتسمع صمت الإشارة ،
وتقطع وقت الفراغ بقطع الرقاب ،
فكيف سأمضي لقصدي وهم يطلقون الكلاب ،
على كل درب وهم يربطون الحجارة ؛
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وما زلت أجهل دربي لبيتي ،
وأعطي عظيم اعتباري لأدني عبارة ،
لأن لساني حصاني كما علموني ،
وأن حصاني شديد الإثارة ،
وأن الإثارة ليست شطارة ،
وأن الشطارة في ربط رأسي بصمتي ،
وربط حصاني على باب تلك السفارة ،
. وتلك السفارة
صلاة الجماعة
اسمعوني قبل أن تفتقدوني ياجماعة ،
لست كذابا فما كان أبي حزبا ولا أمي إذاعة ،
كل ما في الأمر أن العبد صلى مفردا بالأمس في القدس،
. ولكن الجماعة سيصلون جماعة
\بيت وعشرون راية
أسرتنا بالغة الكرم ،
تحت ثراها غنم حلوبة، وفوقه غنم ،
تأكل من أثدائها وتشرب الألم ،
لكي تفوز بالرضى من عمنا صنم ،
أسرتنا فريدة القيم ،
وجودها عدم ،
جحورها قمم ،
لاآتها نعم ،
والكل فيها سادة لكنهم خدم ،
أسرنا مؤمنة تطيل من ركوعها، تطيل من سجودها ،
وتطلب النصر على عدوها من هيئة الأمم ،
أسرتنا واحدة تجمعها أصالة، ولهجة، ودم ،
وبيتنا عشرون غرفة به ، لكن كل غرفة من فوقها علم ،
يقول إن دخلت في غرفتنا فأنت متهم ،
. أسرتنا كبيرة ، وليس من عافية أن يكبر الورم
ورثة إبليس
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة ،
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة ،
صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه ،
".وقال :" إني راحل، ماعاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه
ودارت الأدوار فوق أوجه قاسية، تعدلها من تحتكم ليونة ،
فكلما نام العدو بينكم رحتم تقرعونه ،
لكنكم تجرون ألف قرعة لمن ينام دونه ،
وغاية الخشونة،
أن تندبو : "قم ياصلاح الدين ، قم" ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة ،
كم مرة في العام توقظونه ،
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه ،
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة ،
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمو سكونه ،
. لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه
عزف على القانون
يشتمني ويدعي أن سكوتي معلن عن ضعفه ،
يلطمني ويدعي أن فمي قام بلطم كفه ،
يطعنني ويدعي أن دمي لوث حد سيفه ،
فأخرج القانون من متحفه ،
وأمسح الغبار عن جبينه ،
أطلب بعض عطفه ،
لكنه يهرب نحو قاتلي وينحني في صفه ،
يقول حبري ودمي : "لا تندهش ،"
".من يملك القانون في أوطاننا ، هو الذي يملك حق عزفه"
شعراء البلاط
من بعد طول الضرب والحبس ،
والفحص ، والتدقيق ، والجس ،
والبحث في أمتعتي ، والبحث في جسمي، وفي نفسي ،
لم يعثر الجند على قصيدتي، فغادروا من شدة اليأس ،
لكن كلبا ماكرا أخبرهم بأنني أحمل أشعاري في ذاكرتي،
فأطلق الجند شراح جثتي وصادروا رأسي ،
تقول لي والدتي : "ياولدي ، إن شئت أن تنجو من النحس،"
وأن تكون شاعرا محترم الحس ،
. "سبح لرب العرش ، واقرأ آية الكرسي"
لبنان الجريح
صفت النية يالبنان ، صفت النية ،
لم نهملك ولكن كنا مختلفين على تحديد الميزانية ،
كم تحتاج من التصفيق؟
ومن الرقصات الشرقية ؟
مامقدار جفاف الريق في التصريحات الثورية ؟
وتداولنا في الأوراق، حتى أذبلها التوريق ،
والحمد له صفت النية ، لم يفضل غير التصفيق ،
وسندرسه ، في ضوء تقارير الوضع بموزمبيق ،
صفت النية ، فتهانينا يالبنان ،
جامعة الدول العرية تهديك سلاما وتحية ،
. تهديك كتيبة ألحان ، ومبادرة أمريكية
اللغز
: قالت أمي مرة
يا أولادي عندي لغز من منكم يكشف لي سرة ، ""
تابوت قشرته حلوى،
ساكنه خشب والقشرة "،"
قالت أختي: "التمرة" ،
حضنتها أمي ضاحكة لكني خنقتني العبرة ،
. "قلت لها :" بل تلك بلادي
بين يدي القدس
ياقدس يا سيدتي معذرة فليس لي يدان ،
وليس لي أسلحة وليس لي ميدان ،
كل الذي أملكه لسان ،
والنطق ياسيدتي أسعاره باهضة، والموت بالمجان ،
سيدتي أحرجتني، فالعمر سعر كلمة واحدة وليس لي عمران ،
أقول نصف كلمة ، ولعنة الله على وسوسة الشيطان ،
جاءت إليك لجنة، تبيض لجنتين،
تفقسان بعد جولتين عن ثمان ،
وبالرفاء والبنين تكثر اللجان ،
ويسحق الصبر على أعصابه ،
ويرتدي قميصه عثمان ،
سيدتي، حي على اللجان ،
. حي على اللجان
ثورة الطين
وضعوني في إناء ،
ثم قالو لي تأقلم ،
وأنا لست بماء ،
أنا من طين السماء ،
أنا من روح السماء ،
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم ،
خيروني بين موت وبقاء ،
بين أن أرقص فوق الحبل، أو أرقص تحت الحبل ،
فاخترت البقاء : قلت أعدم ،
قلت أعدم ،
فاخنقو بالحبل صوت الببغاء ،
. وأمدوني بصمت أبدي يتكلم
التهمة
كنت أسير مفردا أحمل أفكاري معي ،
ومنطقي ومسمعي ،
فازدحمت من حولي الوجوه ،
قال لهم زعيمهم خذوه ،
سألتهم ماتهمتي ؟
. "فقيل لي:" تجمع مشبوه
على باب الشعر
حين وقفت بباب الشعر ،
فتش أحلامي الحراس ،
أمروني أن أخلع رأسي،
وأريق بقايا الإحساس ،
ثم دعوني أن أكتب شعرا للناس ،
فخلعت نعالي بالباب وقلت خلعت الأخطر ياحراس ،
. هذا النعل يدوس ولكن هذا الرأس يداس
أصنام البشر
ياقدس معذرة ومثلي ليس يعتذر،
مالي يد في ما جرى فالأمر ما أمروا ،
وأنا ضعيف ليس لي أثر ،
عار علي السمع والبصر ،
وأنا بسيف الحرف أنتحر ،
وأنا اللهيب وقادتي المطر ،
فمتى سأستعر ؟
لو أن أرباب الحمى حجر ،
لحملت فأسا فوقها القدر ،
هوجاء لا تبقي ولا تذر ؛
لكنما أصنامنا بشر ،
الغدر منهم خائف حذر ،
والمكر يشكو الضعف إن مكروا ؛
فالحرب أغنية يجن بلحنها الوتر ،
والسلم مختصر ،
ساق على ساق ، وأقداح يعرش فوقها الخدر ،
وموائد من حولها بقر ،
ويكون مؤتمر ؛
هزي إليك بجذع مؤتمر يساقط حولك الهذر ،
. عاش اللهيب ويسقط المطر
كلمات فوق الخرائب
قفوا حول بيروت صلو على روحها واندبوها ،
وشدوا اللحى وانتفوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
وسلو سيوف السباب لمن قيدوها ،
ومن ضاجعوها ،
ومن أحرقوها ،
لكي لاتثيرو الشكوك ،
ورصو الصكوك
على النار كي تطفؤوها ،
ولكن خيط الدخان سيصرخ فيكم : "دعوها" ،
ويكتب فوق الخرائب
. "إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها"
كلب الوالي
كلب والينا المعظم عظني اليوم ومات ،
فدعاني حارس الأمن لأعدم ،
بعدما أثبت تقرير الوفاة
. أن كلب السيد الوالي تسمم
حلم
وقفت مابين يدي مفسر الأحلام ،
قلت له : "ياسيدي رأيت في المنام ،"
أني أعيش كالبشر ،
وأن من حولي بشر ،
وأن صوتي بفمي، وفي يدي الطعام ،
وأنني أمشي ولا يتبع من خلفي أثر "،"
فصاح بي مرتعدا : "ياولدي حرام ،"
لقد هزئت بالقدر ،
ياولدي ، نم عندما تنام "؛"
وقبل أن أتركه تسللت من أذني أصابع النظام ،
. واهتز رأسي وانفجر
عملاء
الملايين على الجوع تنام ،
وعلى الخوف تنام ،
وعلى الصمت تنام ،
والملايين التي تصرف من جيب النيام ،
تتهاوى فوقهم سيل بنادق ،
ومشانق ،
وقرارات اتهام ،
كلما نادو بتقطيع ذراعي كل سارق ،
وبتوفير الطعام ؛
عرضنا يهتك فوق الطرقات ،
وحماة العرض أولاد حرام ،
نهضوا بعد السبات ،
يبسطون البسط الحمراء من فيض دمانا،
تحت أقدام السلام ،
أرضنا تصغر عاما بعد عام ،
وحماة الأرض أبناء السماء ،
عملاء ،
لابهم زلزلة الأرض ولا في وجههم قطرة ماء ،
كلما ضاقت الأرض، أفادونا بتوسيع الكلام ،
حول جدوى القرفصاء ،
وأبادوا بعضنا من أجل تخفيف الزحام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
. هذه الأمة ماتت والسلام
سلاطين بلادي
الأعادي،
يتسلون بتطويع السكاكين ،
وتطبيع الميادين،
وتقطيع بلادي،
وسلاطين بلادي
يتسلون بتضييع الملايين،
وتجويع المساكين،
وتقطيع الأيادي،
ويفوزون إذا ما أخطؤوا الحكم بأجر الإجتهاد ،
عجبا، كيف اكتشفتم آية القطع، ولم تكتشفو رغم العوادي
. آية واحدة من كل آيات الجهاد
زنزانة
صدري أنا زنزانة قضبانها ضلوعي ،
يدهمها المخبر بالهلوع،
يقيس فيها نسبة النقاء في الهواء ،
ونسبة الحمرة في دمائي ،
وبعدما يرى الدخان ساكنا في رئتي، والدم في قلبي كالدموع،
يلومني لأنني مبذر في نعمة الخضوع ،
شكرا طويل العمر إذ أطلت عمر جوعي ،
لو لم تمت كل كريات دمي الحمراء، من قلة الغذاء،
. لانتشل المخبر شيئا من دمي ثم ادعى بأنني شيوعي
بلاد العرب
بعد ألفي سنة تنهض فوق الكتب ،
نبذة عن وطن مغترب ،
تاه في ارض الحضارات من المشرق حتى المغرب ،
باحثا عن دوحة الصدق ولكن عندما كاد يراها حية مدفونة وسط بحار اللهب ،
قرب جثمان النبي ،
مات مشنوقا عليها بحبال الكذب ،
وطن لم يبق من آثاره غير جدار خرب ،
لم تزل لاصقة فيه بقايا من نفايات الشعارات وروث الخطب ،
عاش حزب الـ...، يسقط الخا...، عائدو...، والموت للمغتصب ،
وعلى الهامش سطر ،
أثر ليس له اسم ،
. إنما كان اسمه يوما بلاد العرب
عبد الذات
بنينا من ضحايا أمسنا جسرا ،
وقدمنا ضحايا يومنا نذرا ،
لنلقى في غد نصرا ،
ويممنا إلى المسرى،
وكدنا نبلغ المسرى ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر قتلانا ،
وقلنا إنه أدرى ،
وبعد الصبر ألفينا العدى قد حطموا الجسرا ،
فقمنا نطلب الثأرا ،
ولكن قام عبدالذات يدعو قائلا: "صبرا" ،
فألقينا بباب الصبر آلافا من القتلى،
وآلافا من الجرحى ،
وآلافا من الأسرى ،
وهد الحمل رحم الصبر حتى لم يطق صبرا ،
فأنجب صبرنا صبرا ،
وعبدالذات لم يرجع لنا من أرضنا شبرا،
ولم يضمن لقتلانا بها قبرا ،
ولم يلق العدا في البحر، بل ألقى دمانا وامتطى البحرا،
فسبحان الذي أسرى بعبدالذات من صبرا إلى مصرا،
. وما أسرى به للضفة الأخرى
رقاص الساعة
منذ سنين،
يترنح رقاص الساعة ،
يضرب هامته بيسار، يضرب هامته بيمين ،
والمسكين ، لا أحد يسكن أوجاعه ،
لو يدرك رقاص الساعة، أن الباعة
يعتقدون بأن الدمع رنين ،
وبأن استمرار الرقص دليل الطاعة ،
لتوقف في أول ساعة ،
عن تطويل زمان البؤس، وكشّف عن سكين ،
يارقاص الساعة ،
دعنا نقلب تاريخ الأوقات بهذي القاعة ،
وندجن عصر التدجين ،
ونؤكد إفلاس الباعة ،
قف وتأمل وضعك ساعة ،
لا ترقص، قتلتك الطاعة ،
. قتلتك الطاعة
صفت النية يالبنان ، صفت النية ،
لم نهملك ولكن كنا مختلفين على تحديد الميزانية ،
كم تحتاج من التصفيق؟
ومن الرقصات الشرقية ؟
مامقدار جفاف الريق في التصريحات الثورية ؟
وتداولنا في الأوراق، حتى أذبلها التوريق ،
والحمد له صفت النية ، لم يفضل غير التصفيق ،
وسندرسه ، في ضوء تقارير الوضع بموزمبيق ،
صفت النية ، فتهانينا يالبنان ،
جامعة الدول العرية تهديك سلاما وتحية ،
. تهديك كتيبة ألحان ، ومبادرة أمريكية
Email: ahmedmatar@usa.net
: قالت أمي مرة
يا أولادي عندي لغز من منكم يكشف لي سرة ، ""
تابوت قشرته حلوى،
ساكنه خشب والقشرة "،"
قالت أختي: "التمرة" ،
حضنتها أمي ضاحكة لكني خنقتني العبرة ،
. "قلت لها :" بل تلك بلادي
Email: ahmedmatar@usa.net
أحمَد مَطَر
إنّى المشنوق أعْلاه
المُوجزْ
ليسَ فى النّاسِ أمانْ .
ليسَ للنّاسِ أمانْ .
نِصفُهم يَعْملُ شرطّياً لدى الحاكمِ
. . و النصفُ مُدانْ !
أحمد مطر
ما قبل البدَاية
كنتُ فى (الرَحْمِ) حزيناً
دونَ أن أعرفَ للأحزانِ أدنى سببِ !
لَمْ أكنْ أعرفُ جنسيَّةَ أُمّى
لَمْ أكنْ أعرفُ ما دينُ أبى
لَمْ أكنْ أعلمُ أنّى عَرَبى !
آهِ .. لو كنتُ على عِلْمٍ بأمرى
كُنْتُ قَطَّعْتُ بنفسى (حَبْلَ سِرّى)
كُنتُ نَفَّسْتُ بنفسى و بأُمّى غَضَبى
خَوفَ أن تَمْخُضَ بى
خَوفَ أن تقذفَ بى فى الوطنِ المغتربِ
خَوفَ أن تحبلَ من بَعْدى بغيرى
ثُمَّ يغدو - دونَ ذنبٍ -
عربيّاً .. فى بلادِ العَرَبِ !
علامة الموت
يَومَ ميلادى
تَعَلَّقْتُ بأجراسِ البُكاءْ
فأفاقَتْ حُزَمُ الوردِ , على صوتى ,
وفَزَّتْ فى ظَلامِ البيتِ أسرابُ الضِياءْ
وتداعى الأصدقاءْ
يَتَقَصَّونَ الخَبْر .
ثُمَّ لَّما عَلِموا أنّى ذَكَرْ
أجهشوا .. بالضحك ,
قالوا لأبى ساعةَ تقديمِ التهانى :
يا لها من كبرياء
صوتُهُ جاوزَ أعنان السَماءْ .
عَظَّمَ اللهُ لكَ الأجر
على قَدْرِ البَلاءْ !
الختان
ألبسونى بُردَةً شَفّافَةً
يَومَ الخِتانْ .
ثُمَّ كانْ
بَدءُ تاريخ الهَوانْ !
شَفَّتِ البُرْدَةُ عن سِرّى ,
وفى بِضْعِ ثوانْ
ذَبَحوا سِرّى .
و سالَ الدَمُ فى حِجْرى
فقامَ الصوتُ من كُلِّ مكانْ :
ألفَ مبروكٍ
. . وعُقبى لِلِّسانْ !
توبَة
صاحبى كانَ يُصَلِّى
- دونَ ترخيصٍ -
و يتلو بعضَ آياتِ الكتابْ .
كان طفلاً
و لذا لم يَتعرَّضْ للعقابْ .
فلقد عَزَّرَهُ القاضى
. . وَ تابْ !
مرسُوم
نحنُ لسنا فُقَراءْ .
بَلَغَتْ ثَروتُنا مليونَ فَقْرِ
وغدا الفَقْرُ لدى أمثالِنا
وصفاً جديداً للثَّراءْ !
وَحْدَهُ الفقرُ لدينا
كانَ أغنى الأغنياءْ !
* *
بَيتُنا كانَ عراءْ .
و الشبابيكُ هواءٌ قارسٌ
و السقفُ ماءْ !
فشكونا أمرَنا عندَ ولىِّ الأمرِ
فاغتنمَّ
و نادى الخبراءْ
و جميعَ الوزراءْ
و أُقيمت نَدوةٌ واسعةٌ
نُوقِشَ فيها وَضْعُ (إيرْلَندا)
و أنفُ (الجيوكندا)
و فَساتينُ (أميلدا)
و قضايا (هونو لولو)
و بطولاتُ جيوش الحُلفاء !
ثُمَّ بَعدَ الأخذِ و الرّدِّ
صباحاً و مساءْ
أصدر الحاكمُ مرسوماً
بإلغاءِ الشتاءْ !
ملحوظَة
تَركَ اللّصُ لنا ملحوظةً
فوقَ الَحصير
جاءَ فيها :
لَعَن الله الأمير
لم يَدَع شيئاً لنا نَسرقهُ
. .. إلاّ الشَخيرْ !
الرّحمة فوق القَانونْ
ذاتَ يومٍ
رقَصَ الشعبُ وغَنّى
واحتسى بَهجَتَهُ حتّى الثمالَةْ
إذ رأى أوَّل حالَة
تَنْعم ُالبلدةُ فيها بالعدالَةْ :
زَعَموا أنَّ فتًى سبَّ نِعالَهْ
فأحالوهُ إلى القاضى
ولم يُعْدَمْ
بدعوى شَتْمِ أصحابِ الجلالَةْ !
تبْليط !
رَصَفوا البَلْدةَ ، يوماً ،
بالبَلاط
ثُمَّ لمّا وضعوا فيهِ الِملاط
مَنَعوا أىَّ نَشاطْ
فالتزمْنا الدورَ
حتّى يتأتّى للمُلاطْ
زمَنٌ كافٍ لكى يَلصُقَ جِدّاً
بالبِلاطْ!
مجهُود حَربى
لأبى كانَ مَعاشٌ
هو أدنى من معاشِ المَيِّتيْن !
نِصفُهُ يَذهَبُ للدَّينِ
وما يَبقى
لِغوثِ اللاّجئينْ
ولتحريرِ فلسطينَ من المُغتَصبِين .
وعلى مَرِّ السنين
كانَ يزدادُ ثَراءُ الثائرينْ !
والثرى ينقصُ من حينٍ لحينْ
وسُيوفُ الفتحِ تَندقُّ إلى المقبضِ
فى أدبارِ جيشِ ( الفاتحينْ )
فَتَلِين
ثُمَّ تَنحَلُّ إلى أغصانِ زيتونٍ
وتَنحَلُّ إلى أوراقِ تينْ
تتدلّى أسفلَ البطنِ
وفى أعلى الجبَينْ !
وأخيراً قَبِلَ الناقِصُ بالتقسيمِ
فانشقَّتْ فَلَسطينُ إلى شقّينِ :
للثوّارِ : فَلْسٌ
ولإسرائيلَ : طِينْ !
وأبى الحافى المَدينْ
أبىَ المغصوبُ من أخمصِ رجليهِ
إلى حبل الوَتينْ
ظَلَّ - لايدرى لماذا -
وَحْدَهُ
يَقبضُ باليُسرى ويُلْقى باليَمين ْ
نفقاتِ الحربِ والغوثِ
بأيدى الخلفاءِ الشاردينْ !
بَدائل
فَتَحَتْ شُبّاكَها جارَتُنا .
فَتَحَتْ قلبى أنا
لمَحْةٌ ..
واندلعتْ نافورةُ الشمسِ
وغاصَ الغدُ فى الأمسِ
وقامتْ ضجّةٌ صامتةٌ ما بينَنا !
لَمْ نَقُلْ شيئاً..
وقُلنا كُلَّ شئٍ عِندنا !
* *
يا أباها المؤمنا
سالتِ النارُ من الشُبّاكِ
فافتحْ جَنَّةَ البابِ لَنا
يا أباها إنّنا ..
لَستُم على مذهبِنا .
لكنّنا ...
لَستُم ذوى جاهٍ
ولا أهلَ غِنَى .
لكنّنا ...
لَستُم تَليقونَ بِنا .
لكنّنا ..
شَرَّفتنَا !
* * *
أُغلقَ البابُ ..
وظَلَّتْ فتحةُ الشُبَّاكِ جُرْحاً فاغِراً
يَنزفُ أشلاءَ مُنى
وخيالاتِ انتحارٍ
ومواعيدَ زِنى !
جَدليَّة
كانَ جارى
مُلْحداً
لكنَّهُ يُؤمِنُ جداً
بأبى ذَرِّ الغِفارى .
ويَرى أنَّ الغِفارى
"بروليتارىْ" !
رائدٌ للاشتراكيَّةِ فى هذى
الصحارى !
كانَ جارى
يَضَعُ الراكِبَ من تحتِ الحمارِ !
قُلتُ : هذا رَجُلٌ آمَنَ باللهِ
وقد جاهَدَ فى اللِه
بأمرِ اللهِ
فى عَصْرِ الغُبارِ
قَبلَ تدليكِ "الديالتكتيكِ"
أو عَصْرِ البخارِ !
قالَ : إنْ صَحَّ وجودُ اللهِ ،
فاللهُ إذَنْ ..
أوَّلُ موجودٍ يَسارى !
العهْد الجَديد
كان حتَّى الإكتِئابْ
غارقاً في الإكتئابْ
فَجميعُ الناسِ في بلدتِنا
بينَ قَتيلٍ ومُصابْ
والّذي ليسَ على جُثَّتهِ بصمةُ ظُفْرٍ
فعلى جُثّتهِ بَصمةُ نابْ
كُلُّنا يحملُ خَتْمَ الدولةِ الرسمىِّ
من تحتِ الثيابْ !
ذاتَ فَجرٍ
مادتِ الأرضُ
وسَادَ الإضطرابْ
واستفزَّ الناسَ من مَرْقَدِهمْ
صوتٌ مُجَنْزَرْ:
( تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ
تُمْ تِرَمْ اللهُ أكبَرْ)
إنقلاب.
تُمْ تِرَمْ تَمْ . . .
وانتهىعَهْدُ الكِلابْ !
بَعْدَ شَهْرٍ
لَمْ نَعُدنخرجُ للشارعِ لَيْلاً .
لَمْ نَعُدْ نَحْمِلُ ظِلاً .
لَمْ نَعُدْ نَمْشي فُرادى .
لَمْ نَعُدْ نَمْلِكُ زادا .
لَمْ نَعُدْ نَفْرحُ بالضيفِ
إذا ما دُقَّ عندَ الفجرِ بابْ
لَمْ يَعُدْ للفجرِ بابْ !
فُصُّ مِلْحِ الصُبحِ
في مُسْتَنقَع الظُلْمةِ ذابْ .
هذهِ الأنجمُ أحْداقٌ
وهذا البَدرُ كَشَّافٌ
وهذي الريحُ سَوطٌ
والسماواتُ نِقابْ !
تُمْ
تِرَمْ
تَمْ
كُلَّنا من آدمٍ نحنُ
وما آدمُ إلاَّ من تُرابْ
فَوقَهُ تَسرحُ .. قِطعانُ الذئابْ!
حَبيبُ الشَعبْ
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ
أينَما سِرْنا نراهْ !
في المقاهي
في الملاهي
في الوزاراتِ
وفي الحاراتِ
وا لبارا تِ
وا لأسوا قِ
وا لتلفازِ
والمسرحِ
والمبغى
وفي ظاهرِ جدران المصحّاتِ
وفي داخلِ دوراتِ المياهْ .
أيَنما سِرْنا نَراهْ !
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتجّاهْ
باسِمٌ
في بَلَدٍ يبكي من القهرِ بُكاهْ !
مُشرقٌ
في بَلدٍ تلهوالليالي في ضُحاهْ !
ناعِمٌ
في بَلدٍ حتى بَلاياهُ
بأنواعِ البلايا مبتلاهْ !
صادحٌ
فى بَلدٍ مُعتَقلِ الصَوتِ .
ومنزوعِ الشِّفَاهْ !
سالمٌ
في بَلدٍ يُعْدَمُ فيهِ الناسُ
بالآلا فِ ، يوميّاً
بدعوى الإشتباهْ .
صورةُ الحاكمِ في كُلِّ اتّجاهْ ؟
نِعمةٌ منهُ عَلَينا
إذْ نَرى ، حين نراهْ ،
أنَّهُ لَمَّا يَزَلْ حَيَّاً
. . وما زِلنا على قيدِ الَحياهْ !
إصلاح زراعى !
قرَّرَ الحاكِمُ إصلاحَ الزراعَةْ .
عُيِّنَ الفَلاَّحُ شُرطيَ مُرورٍ ،
وابنةُ الفلاَّحِ بيّاعةَ فولٍ ،
وابنهُ نادِلَ مقهى
في نقاباتِ الصناعَةْ !
وأخيرأ
عُيِّنَ المحراثُ في القِسمِ الفُولوكْلوريِّ
والثورُ. . مُديرأ للإذاعَهْ !
قَفْزةٌ نَوعيَّةٌ في الإقتصادْ
أصبحتْ بَلدتُنا الأولى
بتصديرِ الجَرادْ
وبإنتاجِ المجاعةْ !
صَاحِبَة الجهَالة
مَرَّةً ، فَكَّرتُ في نَشْرِ مَقالْ
عن مآسي الإحتلالْ
عن دفاعِ الحجرِ الأعزلِ ،
عن مِدفَعِ أربابِ النِضالْ !
وعن الطِفل الذي يُحرَقُ في الثورةِ
كي يَغرَقَ في الثروةِ ، أشباهُ الرّجالْ !
قَلَّبِ المسؤولُ أوراقي ، وقالْ :
إجتَنِبْ أىَّ عباراتٍ تُثيرُ الإنفعالْ .
مَثَلاً:
خَفِّفْ (ماسي )
لِمَ لا تَكْتُبُ ( ماسي ) ؟
أو ( مُوا سي ) ؟
أو ( أ ما سي ) ؟
شَكْلُها الحاضِرُ إحراجٌ لأصحابِ الكراسي !
إحْذِفْ ( الأعْزَلَ ) . .
فالأعْزَلَ تحريضٌ على عَزْلِ السلاطيِن
وتعريضٌ بِخَطِّ الإنعزالْ !
إحْذِ فِ ( المِد فعَ ) . .
كي تدفعَ عنكَ الاعتقالْ .
نحنُ في مرحلةِ السِّلمِ
وَقَدْ حُرِّمَ فى السِّلْمِ القِتالْ
إحْذِفِ ( الأربا بَ )
لا ربَّ سوى اللهِ العظيم المُتَعالْ !
إحذِفِ (ا لطِفلَ ) . .
فلا يحَسُنُ خَلْطُ الجِدِّ في لُعْبِ العِيالْ !
إحذ فِ ( الثورةَ )
فالأوطانُ في افضلِ حالْ !
إحذفِ ( الثروةَ ) و ( الأ شباهَ )
ما كُلُّ الذي يُعْرفُ ، يا هذا ، يُقالْ !
قُلتُ : إنيِّ لَستُ إبليسَ
وأنتمْ لا يُجاريكم سوى إبليس
في هذا المجالْ .
قالَ لي : كانَ هُنا . .
لكنّهُ لم يتأقلَمْ
فاستقالْ !
المُعْجِزَة
ماتَ خالي !
هكذا ! !
دونَ اغتيالِ !
دونَ أن يُشنَقَ سهواً !
دونَ أن يسقطَ ، بالصدفةِ ، مسموماً
خلالَ الإِعتقالِ !
ماتَ خالي
ميتةً أغربَ مِمّا في الخيالِ !
أسْلَمَ الروحَ لعزرائيلَ سِرّاً
ومضى حُرّاً . . محاطاً بالأمانِ !
فدفنّاهُ
وعُدْنا نَتَلقّى فيهِ من أصحابِنا
. . أسمى التهاني !
المُنشَقّ!
أكثرُ الأشياءِ في بَلدتِنا
الأحزا بُ
والفقرُ
وحالاتُ الطلاقِ .
عِندَنا عَشْرةُ أحزابٍ وَنِصفُ الحِزبِ
فى كُلِّ زُقاقِ !
كلُّها يَسعى الى نَبْذِ الشِّقاقِ !
كلُّها يَنشَقُّ في الساعةِ شَقّينِ
وَيَنشقُّ على الشَّقّينِ شقّانِ
وَيَنشقّانِ عن شَقَّيْهما . .
من أجلِ تحقيقِ الوفاقِ !
جَمَراتٌ تتهاوى شَرَراً
وَالبَردُ باقِ
ثُمَّ لايبقى لها
إلاَّ رَمَادُ الإحتراقِ !
* *
لم يَعُدْ عندي رفيقٌ
رُغْمَ أنَّ البلدَةَ اكتظَّتْ
بآلافِ الرفاقِ !
وَلِذ ا
شَكَّلتُ من نَفسيَ حِزباً
ثُمّ انيّ
- مثلَ كلِّ الناسِ -
أعلنتُ عن الحزبِ انشقاقي !
الجريمة وَالعِقْاب
مَرَّةً ، قالَ أبي :
إنَّ الذُباب
لا يُعابْ .
إنَّهُ أفضَلُ مِنَّا
فَهوَ لا يقبَلُ مَنَّا
وهوَ لا ينكِصُ جُبْنا
وهوَ إنْ لم يلقَ ما يأكُلُ
يَستَوفِ الحسابْ
يُنشِبُ الأرجُلَ في الأرجُلِ
والأعيُنِ
والأيدي
وَيجتاحُ الرِّقَابْ .
فَلَهُ الجِلْدُ سِماطٌ
وَدَمُ الناسِ شَرابْ !
* *
مَرَّةً قالَ أبي . . .
لكنَّهُ قالَ وغابْ .
وَلقد طالَ الغيابْ !
* *
قيلَ لي انَّ أبي ماتَ غريقاً
في السَرابْ !
قيلَ : بلْ ماتَ بداءِ ( التراخوما ) !
قيلَ : جَرَّاءَ اصطدامٍ
بالضبابْ !
قيلَ ما قيلَ ، وما اكثرَما قيلَ
فراجَعنا أطبّاءَ الحكومَة
فأفادوا أنّها ليستْ ملومَة
ورأوا أنَّ أبى
أهلكَهُ "حَبُ الشَبابْ " !"
الغَريبْ
كّلُّ ما في بلدتي
يَملأُ قلبي بالكَمَدْ .
بَلدتي غُربةُ روحٍ وجَسَدْ
غربةٌ من غيِر حَدّْ
غربةٌ فيها الملايينُ
وما فيها أحَدْ .
غربةٌ موصولةٌ
تبدأُ في المهْدِ
ولا عودةَ منها . . للأبدْ !
شِئتُ أن أغتالَ مَوتى
فَتسلّحتُ بِصوتي :
أيُّها الشِعرُ لقد طالَ الأمَدْ
أهلَكَتنْي غُربتي ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فكُنْ أنتَ البَلَدْ .
نَجِّني من بلدةٍ لا صوتَ يَغشاها
سوى صوتَ السكوتْ !
أهلُها موتى يخافونَ المنايا
والقبورُ انتشرتْ فيها على شَكْلِ بُيوتْ
ماتَ حتّى الموتُ
. . والحاكمُ فيها لا يموتْ !
ذُرَّ صوتي ، أيُّها الشِعرُ ، بُروقاً
في مفازات ِالرَمَدْ .
صُبَّهُ رعداً على الصمتِ
ونارأ فى شرايينِ الَبَرْد .
ألقِهِ أفعى
الى أفئدةِ الحُكّاِم تسعى
وافلِقِ البحرَ
وأطبِقْةُ على نَحْرِ الأساطيلِ
وأعناقِ المساطيلِ
وَطَهِّرْ من بقاياهُم قَذاراتِ الزَبَذْ .
إنَّ فرعونَ طغى ، يا أيُّها الشِعرُ ،
فأيقِظْ من رَقَدْ .
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَ اللهُ أحَدْ
قُلْ هُوَاللهُ أحَدْ .
قالَها الشِعرُ
وَمَدَّ الصوتَ ، والصوتُ نَفَذْ
وأتى من بَعْد بَعدْ
واهنَ الروحِ مُحاطأ بالرَصَدْ
فوقَ أشداقِ دراويشٍ
يَمُدُّونَ صدى صوتى على نحريَ
حبلاًمن مَسَدْ
ويصيحونَ "مَدَ ْد"
مَا بَعد النهَاية
إنَّني المشنوقُ أعلاهُ
على حبلِ القوافى
خُنتُ خوفي وارتجافي
وتَعرَّيتُ من الزيفِ
وأعلنتُ عن العهْرِ انحرافى .
وأرتكبتُ الصِدقَ كيْ أكتُبَ شِعرا
واقترفتُ الشِعرَكَيْ أكتُبَ فجرا
وَتَمَرَّدتُ على أنظمةِ خَرفى
وحُكامٍ خِرافِ .
وعلى ذلِكَ . .
وَقَّعْتُ اعترافى!
ياقدس يا سيدتي معذرة فليس لي يدان ،
وليس لي أسلحة وليس لي ميدان ،
كل الذي أملكه لسان ،
والنطق ياسيدتي أسعاره باهضة، والموت بالمجان ،
سيدتي أحرجتني، فالعمر سعر كلمة واحدة وليس لي عمران ،
أقول نصف كلمة ، ولعنة الله على وسوسة الشيطان ،
جاءت إليك لجنة، تبيض لجنتين،
تفقسان بعد جولتين عن ثمان ،
وبالرفاء والبنين تكثر اللجان ،
ويسحق الصبر على أعصابه ،
ويرتدي قميصه عثمان ،
سيدتي، حي على اللجان ،
. حي على اللجان
Email: ahmedmatar@usa.net
منذ سنين،
يترنح رقاص الساعة ،
يضرب هامته بيسار، يضرب هامته بيمين ،
والمسكين ، لا أحد يسكن أوجاعه ،
لو يدرك رقاص الساعة، أن الباعة
يعتقدون بأن الدمع رنين ،
وبأن استمرار الرقص دليل الطاعة ،
لتوقف في أول ساعة ،
عن تطويل زمان البؤس، وكشّف عن سكين ،
يارقاص الساعة ،
دعنا نقلب تاريخ الأوقات بهذي القاعة ،
وندجن عصر التدجين ،
ونؤكد إفلاس الباعة ،
قف وتأمل وضعك ساعة ،
لا ترقص، قتلتك الطاعة ،
. قتلتك الطاعة
Email: ahmedmatar@usa.net
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وكل الدروب إليها سدى ،
والخطى مستعارة ،
فما بيننا ألف باب وباب ،
عليها كلاب الكلاب ،
تشم الظنون، وتسمع صمت الإشارة ،
وتقطع وقت الفراغ بقطع الرقاب ،
فكيف سأمضي لقصدي وهم يطلقون الكلاب ،
على كل درب وهم يربطون الحجارة ؛
يريدون مني بلوغ الحضارة ،
وما زلت أجهل دربي لبيتي ،
وأعطي عظيم اعتباري لأدني عبارة ،
لأن لساني حصاني كما علموني ،
وأن حصاني شديد الإثارة ،
وأن الإثارة ليست شطارة ،
وأن الشطارة في ربط رأسي بصمتي ،
وربط حصاني على باب تلك السفارة ،
. وتلك السفارة
Email: ahmedmatar@usa.net
اسمعوني قبل أن تفتقدوني ياجماعة ،
لست كذابا فما كان أبي حزبا ولا أمي إذاعة ،
كل ما في الأمر أن العبد صلى مفردا بالأمس في القدس،
. ولكن الجماعة سيصلون جماعة
Email: ahmedmatar@usa.net
الأعادي،
يتسلون بتطويع السكاكين ،
وتطبيع الميادين،
وتقطيع بلادي،
وسلاطين بلادي
يتسلون بتضييع الملايين،
وتجويع المساكين،
وتقطيع الأيادي،
ويفوزون إذا ما أخطؤوا الحكم بأجر الإجتهاد ،
عجبا، كيف اكتشفتم آية القطع، ولم تكتشفو رغم العوادي
. آية واحدة من كل آيات الجهاد
Email: ahmedmatar@usa.net
من بعد طول الضرب والحبس ،
والفحص ، والتدقيق ، والجس ،
والبحث في أمتعتي ، والبحث في جسمي، وفي نفسي ،
لم يعثر الجند على قصيدتي، فغادروا من شدة اليأس ،
لكن كلبا ماكرا أخبرهم بأنني أحمل أشعاري في ذاكرتي،
فأطلق الجند شراح جثتي وصادروا رأسي ،
تقول لي والدتي : "ياولدي ، إن شئت أن تنجو من النحس،"
وأن تكون شاعرا محترم الحس ،
. "سبح لرب العرش ، واقرأ آية الكرسي"
Email: ahmedmatar@usa.net
وضعوني في إناء ،
ثم قالو لي تأقلم ،
وأنا لست بماء ،
أنا من طين السماء ،
أنا من روح السماء ،
وإذا ضاق إنائي بنموي يتحطم ،
خيروني بين موت وبقاء ،
بين أن أرقص فوق الحبل، أو أرقص تحت الحبل ،
فاخترت البقاء : قلت أعدم ،
قلت أعدم ،
فاخنقو بالحبل صوت الببغاء ،
. وأمدوني بصمت أبدي يتكلم
Email: ahmedmatar@usa.net
كنت أسير مفردا أحمل أفكاري معي ،
ومنطقي ومسمعي ،
فازدحمت من حولي الوجوه ،
قال لهم زعيمهم خذوه ،
سألتهم ماتهمتي ؟
. "فقيل لي:" تجمع مشبوه
Email: ahmedmatar@usa.net
الملايين على الجوع تنام ،
وعلى الخوف تنام ،
وعلى الصمت تنام ،
والملايين التي تصرف من جيب النيام ،
تتهاوى فوقهم سيل بنادق ،
ومشانق ،
وقرارات اتهام ،
كلما نادو بتقطيع ذراعي كل سارق ،
وبتوفير الطعام ؛
عرضنا يهتك فوق الطرقات ،
وحماة العرض أولاد حرام ،
نهضوا بعد السبات ،
يبسطون البسط الحمراء من فيض دمانا،
تحت أقدام السلام ،
أرضنا تصغر عاما بعد عام ،
وحماة الأرض أبناء السماء ،
عملاء ،
لابهم زلزلة الأرض ولا في وجههم قطرة ماء ،
كلما ضاقت الأرض، أفادونا بتوسيع الكلام ،
حول جدوى القرفصاء ،
وأبادوا بعضنا من أجل تخفيف الزحام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
آه لو يجدي الكلام ،
. هذه الأمة ماتت والسلام
Email: ahmedmatar@usa.net
لافتات مطرية
شاعر المنفى
: مرحباً بكم في صفحة شاعر الشعوب العربية
أحمد مطر
قصائد أحمد مطر
ما أصعب الكلام: قصيدة إلى ناجي العلي
لص بلادي
طاغوتية
عفو عام
جاهلية
الأبكم
الممثلون
منفيون
أبا العوائد
المخبر
انتفاضة
الحارس السجين
انحناء السمبلة
آية النسف
سواسية
لا نامت عين الجبناء
بطولة
شطرنج
عباس
أمير المخبرين
اللاعبان
فصيحنا
رقاص الساعة
عبدالذات
بلاد العرب
زنزانة
سلاطين بلادي
عملاء
حلم
كلب الوالي
كلمات فوق الخرائب
أصنام البشر
على باب الشعر
التهمة
ثورة الطين
بين يدي القدس
اللغز
لبنان الجريح
شعراء البلاط
عزف على القانون
ورثة إبليس
بيت وعشرون راية
حجة سخيفة
صلاة الجماعة
سفارة
لاسياسة
حي على الجماد
عائدون
عصر العصر والسحق
الجثة
دمعة على جثمان الحرية
زمن الحمير
الأضحية
السلطان الرجيم
قلة أدب
الثور والحضيرة
عقوبات شرعية
احتمالات
بدعة
Sign My Guestbook
View My Guestbook
Email: ahmedmatar@usa.net
وجوهكم أقنعة بالغة المرونة ،
طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة ،
صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه ،
".وقال :" إني راحل، ماعاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه
ودارت الأدوار فوق أوجه قاسية، تعدلها من تحتكم ليونة ،
فكلما نام العدو بينكم رحتم تقرعونه ،
لكنكم تجرون ألف قرعة لمن ينام دونه ،
وغاية الخشونة،
أن تندبو : "قم ياصلاح الدين ، قم" ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة ،
كم مرة في العام توقظونه ،
كم مرة على جدار الجبن تجلدونه ،
أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة ،
دعوا صلاح الدين في ترابه واحترمو سكونه ،
. لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه
Email: ahmedmatar@usa.net
صدري أنا زنزانة قضبانها ضلوعي ،
يدهمها المخبر بالهلوع،
يقيس فيها نسبة النقاء في الهواء ،
ونسبة الحمرة في دمائي ،
وبعدما يرى الدخان ساكنا في رئتي، والدم في قلبي كالدموع،
يلومني لأنني مبذر في نعمة الخضوع ،
شكرا طويل العمر إذ أطلت عمر جوعي ،
لو لم تمت كل كريات دمي الحمراء، من قلة الغذاء،
. لانتشل المخبر شيئا من دمي ثم ادعى بأنني شيوعي
Email: ahmedmatar@usa.net
المجلد (2)
الصفحة (1)
على باب الشعر
أصنام البشر
عزف على القانون
بيت وعشرون راية
بلاد العرب
حلم
حي على الجماد
كلب الوالي
كلمات فوق الخرائب
لبنان الجريح
اللغز
بين يدي القدس
رقاص الساعة
سفارة
صلاة الجماعة
سلاطين بلادي
شعراء البلاط
ثورة الطين
التهمة
عملاء
ورثة إبليس
زنزانة
تعليقات