تقطعه، إن أمرت عهدا نقضته، أو بنيت قوضته، على أنها قد تعود، ويكون لها الأثر المحمود، ورمتني - أيدك الله - بسهامها، وجرعتني غصص حمامها، فكان لله ستر وقى، وصنع أبقى، مكن النفس من رجائه، ووطن الصبر على قضائه، طمعا في الحظ من ثوابه، وتبلج الفرج من أبوابه، إلى أن تبدى فجره، وتأتى أمره، والحمد لله بحقه، منقذي من الخطب وربقه، هو المبلو بعواطفه، المدعو بعوارفه، وفي كل حال - أيدك الله - أخطرتني ببالك، ومددت علي من ظلالك، ووصلت من سببي، ونفست من كربي، وأوجدتني من ذراك مفزعا، و [أوردتني] من نعمك مشرعا، لا زال برك شاملا، ولا انفك سعدك كاملا، فانك محيي الهمة ومقيمها، ومولي النعمة ومديمها، وكم أحييت من همم، وأوليت من نعم؛ فكافأ الله الولي السني واحدي الوزير الأجل أبا بكر مكافأة ماجد جد في سعيه، وجرد [8ب] من رأيه، لدرء مهمي وكشفه، حتى انتضاني في كفه، فخلطني بالعلية نفسه، ومهد لي في جنابه وأنسه، أيده الله على شكره، وفسح في عمره.
وله من أخرى كتب بها إلى الحاجب عماد الدولة: كتبت - أيدك
الله - عند وصولي بلنسية، متخلصا من يد المحنة، متلبسا لله فيها أعظم المنحة، أن تدارك في غمراتها، وجلى المسود من هفواتها، فلله الحمد كثيرا، والشكر نضيرا؛ وإني بلوت من إجمالك في حالتي شدتي ونجاتي ما عقل اللسان، وقبض البنان، وأخجل الحوادث حتى كفت من اعتدائها، وألوت تعثر في استحيائها، فإن أثنيت فمقصر عنك الثناء، وان دعوت فإلى الله يرفع الدعاء. وتلقاني بطريقي كتابك الرفيع فتملكني بره، وحياني بشره، وعظم عندي قدره، فلله ما تبديه من فضل وما تسره، ولله در الوزير الأجل أبي بكر، جوزي بوفائه، وفسح الله له في ظله وبقائه، فانه ما اكتحل في كربتي بنوم، ولا تمتع بمسرة في يوم، ولقد كانت قذى عينيه، حتى حلني من وثاقها بيديه.
ومن أخرى خاطب بها المظفر صاحب لاردة قال فيها: أن الله تعالى يصرف الأمور كيف يشاء، له النعماء والبأساء، فإن عافى واصل المنن، وأن امتحن أحسن، لأنه يمنح الأجر الذي هو أسنى، ويعود بعوائده الحسنى، وما المرء إلا كالنصل، يشحذ بالصقل، تنفذ عليه الأقدار، ليقع
الاختبار والاعتبار، ويبدو له الزمان وأهله، وحيث منبت الفضل وأصله؛ وكان لك - أيدك الله - من التهمم بجانبي، والارتماض لنوائبي، ما أطاب ذكرك، وأبان قدرك، وأخبر أن الجميل من سجاياك، وأن محاسن الدهر بعض حلاك. ولما تخلصت من تلك الأشراك، وأذن الله منها - وله الحمد - بالانفكاك، أسرعت إلى قضاء حقك وإنه لأعز الحقوق، وتوفية الشكر لك بباهر مجدك السابق غير المسبوق، والثناء على أنعم الله تعالى قبل كل شيء وبعده التي جلت عن الإحصاء، وجلت من الغماء. وقد أوليت ما أثبت لك في الرقاب رقا، ومت تخب به الركائب غربا وشرقا، وأن المستقل بي والجاذب بضبعي لمحيي ميت الوفاء، ومحرز جزل الثناء، قسيمي في المهم، وظهيري [9أ] على الملم، الوزير الأجل أبو بكر، فاني تبوأت في ذراه محلا ودارا، ورأيت الخطوب تعتذر اعتذارا.
وله من أخرى إلى القادر بالله ابن ذي النون: حكم الزمان - أيدك الله - تعثر الإنسان، ولولا دفاع الله لهوت قدمه، واستوى عدمه، لا يبالي حيث انتحت نوائبه، ولا من ازور جانبه، يلفى الدهر عابسا، ولثوب العذر لابسا. وكتابي من بلنسية وقد وافيتها موافاة
الآمن بقراره، خارجا من ليل الحوادث واعتكاره، مستبشرا بنهاره، مستشفيا من آثاره، فالحمد لله بما أولاه، حمدا يبلغ رضاه. وما أنا - أيدك الله - في أمري، وما يسره الله من انجلاء ضري، بأجذل مني لتوقف الأيام عن مكانك، وقد أوضعت في بنيانك، تظن أن ما تتلفه، لا تصرفه، وكم لله من لطف خفي، وكرم حفي، وهو المسئول بأحب أسمائه، أن يعيد عزك إلى بهائه. وأن من تلقى راية المجد ابتدارا، وأخذني من أيدي الخطوب اقتسارا، لعلم الوفاء الذي إليه يشار، وشخص السيادة الذي به يستنار، واحدي الوزير الأجل أبو بكر - أدام الله عزه وأحسن جزاءه، ووصل اعتلاءه -.
وكتب أيضا في ذلك إلى بعض إخوانه: علمي - أعزك الله - بصدق وفائك، ومحض صفائك، وأنك ضارب في حالي بأوفى السهام، أوجب أن أسبق اليك بالمشاركة والإعلام، وكتبت عند الخلاص من العقلة، والتخلص من العطلة، بفضل الله الذي له المشيئة الغالبة واليد العالية، هو المردد حمده بما أولى وسنى، المرجو لطفه بعوائد الحسنى. ورعى الله الوزير الأجل أبا بكر، وقارضه وفي الشكر، فلقد بز الأنام طروا، ووافت فعالته الكريمة غرا، لم يقصر عن أمد السعي، مدة
ذلك البغي، حتى أخذني من أيدي الخطوب عنوة، وأحلني من جزائه وبره صفوة، فلله وفاؤه وسروه، وغايته في العلاء وشأوه.
قال ابن بسام: وخاطبت جماعة من رؤساء الجزيرة يومئذ الوزير أبا بكر [بن] عبد العزيز [المذكر] شاكرين له على ما كان في ذلك من سعيه الحميد [المشكور] ، منها رقعة للمؤتمن بن هود يقول فيها: وقد تتابع عنك - أعزك الله - أحسن الحديث المذيع لخفايا سروك وسرائره، المعرب عن سجايا سنائك ومآثره، منذ انتدبت بشرف منحاك [9ب] لما يسره الله من حميد مسعاك، فانتضيت من عزمك باترا يفل نصال النوائب، وأيقظت من حزمك ساهرا ينيم عيون الحوادث، وسهل الله الوعد بصدق بصيرتك، وذلل الصعب بيمن نقيبتك، حتى شردت المحنة وعمت المنحة، بتخلص ذي الوزارتين الكاتب الأجل صاحب المظالم أبي عبد الرحمن سندي، والخطير من عددي - [أبقاه الله] - من تلك الغمرة، وانتضائه بالاستقلال من العثرة، واستقرت الحال - أيدك الله - بدءا وعودا، عما قصر أوفر الحمد، ونشر عنك أنضر العهد، فجازاك الله أفضل ما جازى علما من أعلام الوفاء، ووفاك أكرم ما وفى متقدما في أحوال الصفاء، متوحدا بجميل المقام وجليل الغناء، وخاطبتك معلما بحقيقة اعتزازي بما يسر الله على يديك من هذه العائدة، وسناه
بلطف توصلك إلى هذه الفائدة، فلو خصصت بذلك من يشاركني بالنسبة وهو قسيمي في اللحمة، لم يعدل عندي بما أوليت في جانب من أعزه الله بإتمام النعمة، فقد كان تألمي من إساءة الدهر في هضمه، وتطاول خطوبه النكر إلى ظلمه، بازاء ما يقضيه الاعتداد بفضله، والابتهاج بشرف محله؛ إذ كانت النفس تشفق من حادثة تصيب نبيها من الأخوان، فضلا عن نائبة تحل بساحة جليل من الأعيان، والله تعالى يصرف النوب عن فنائك، ويكف المحاذر دون ألاجائك، بمنه.
قال أبو الحسن: ونأخذ هنا من أخبار الوزير الأجل أبي بكر ابن عبد العزيز المذكور، بهذا الموضع، حسبما اقتضاه سرد الكلام، وأدى إليه شرط النظام.
كان أبو بكر أحد من سبق وادعا، وتجاوز ذروة الشرف متواضعا، كتب أبوه عن الوزير الكاتب أبي عامر بن التاكرني أيام وزارته لعبد العزيز ابن أبي عامر، وأبو عامر أطلع جده، وأرهف حده، وبلغ به الذرى، حتى قيل: "كل الصيد في جوف الفرا" .
وقد ذكره أبو مروان ابن حيان فقال: وفي العشر الأواخر من [شهر] جمادي الآخرة سنة ست وخمسين نعي إلينا وزير بلنسية، ابن عبد العزيز، وكان - على خمول أصله في الجماعة - من أراجح كبار الكتاب، الطالعين في دمس هذه الفتنة المدلهمة، وذوي [10 أ] السداد من وزراء ملوكها، ذا حنكة ومعرفة، وارتياض وتجربة، وهدي وقوام سيرة، إلى ثراء وصيانة؛ انتهى كلام ابن حيان.
قال أبو الحسن: ووزر أبو بكر بعد أبيه لعبد الملك بن عبد العزيز المتلقب - كان - من الألقاب السلطانية بالمظفر، فقطع ووصل، واضطلع بما حمل، ودارت عليه الرياسة مدارا لم تدره رحى على قطب، واشتملت عليه السياسة اشتمالا لم تشتمله جناجن على قلب: من رجل ركب أعناق خطوبها، صعبها وركوبها، وامترى أخلاف شآبيبها، منهلها وسكوبها، فلما قص يحيى بن ذي النون الملقب بالمأمون آثار آل ابن أبي عامر، واجتث أصلهم من بلنسية آخر الدهر [الداهر] - حسبما سنأتي عليه، إذا انتهينا إن شتء الله إليه - كان ابن عبد العزيز، زعموا، أحد من أقام ميلها، وأوضح لابن ذي النون سبلها، حتى خلصت له وخلص لها، فكافأه ابن ذي النون لأول تملكه إياها بأن ولاه أمورها، وحلاه شذورها، ولاث بحقويه سياستها وتدبيرها، فسامى الفراقد
وتألف الشارد، وفدح الحاسد، وقهر العدو المكايد، وهو ابن ذي النون قريب على البعد، وحاله عنده جديد على قدم العهد. فلما مات يحيى بن ذي النون صفت مساربه، وخلا له جانبه، وضعف عنه طالبه، وكان خليقا بسموه، مهيبا في صدر عدوه، طاول الجبال بالآكام، وفل السيوف بالأقلام، متشبها في مخالصة الإمارة، من خصاصة الوزارة، بأبي الحزم بن جهور، فتم له من ذلك ما نيف على المراد، وأطال غم الأعداء والحساد، واجتمع عنده من سعة المال، وفخامة الحال، ونضرة الإقبال، وآلات الجلال، ما سار في البلاد، وقصر عنه كثير من الأشكال والأضداد.
ومن أعجب ما هيأ له الزمان، وأغرب ما سارت عنه به الركبان، أن ابن هود لما سما إلى دانية فورد صفوتها، واقتعد ذروتها، فيل أهل بلده رأيه، وعجزوا سعيه، في قصوره عن بلنسية، إذ كانت أدنى لمن يريدها، وأجنى على من يستفيدها، لوفور غلاتها، وتمام أدواتها، واعجاز خواصها وذواتها، ولخلوها عندهم من ملك يفي
بمقدارها، ويذب عن عقر دارها، فجاهروه بتعجيزهم [10ب] وشاعت على الألسنة أعجوبة من ترجيزهم، كلمات في أعجمية مزدوجة، معناها: ما أحمق هذا وأهوجه، عجز عن الأيم ونكح المزوجة؛ وحين تلقفها من الألسنة، انتبه لها لا من سنة، وداخل الطاغية أذفونش مفزع آمالهم، وظهير بطالتهم وباطلهم، على عادتهم، معشر الخلفاء، من استنابته في زحوفهم، وإجابته إلى مر حتوفهم، سعيا عمهم بتنكيل، ومكرا أحاقه الله بهم عما قليل؛ فاشترى منه بلنسية يومئذ [زعموا] بمائة ألف دينار، تقرب إليه بحاضرها، وأعطاه رهنا كفافا بسائرها، فغزا بلنسية وقته في جيش تضاءلت ذرى أطوادها عن أعلامه، وتناكرت وجوه نجومها تحت قتامة، فلم يركز لواءه، ولا رفع بناءه، حتى خرج إليه ابن عبد العزيز منسلخا من عديده، في ثياب جمعته وعيده، فكلمه بما أرق قلبه، وكف غربه، وكان مما قال له: هي بلادك فقدم من شئت وأخر، ونحن طاعتك وقوادك فأقلل منا أو أكثر، في شبيه ذلك من لين القول الذي يسل الأحقاد، ويتألف الأضداد، فانصرف عنه وقد ألحفه جناح حمايته، ووطأ له كنفا من عنايته، ورجع ابن هود وقد نفض يديه، وأصبحت نفقته حسرة عليه، وكان الطاغية بعد ذلك، كلما جرى ذكر ابن عبد العزيز
شايعه وتولاه، واسترجحه وزكاه، حتى كان يقول - لعنة الله: رجال الأندلس ثلاثة: أبو بكر ابن عبد العزيز و [أبو بكر] ابن عمار وششنند، وسأجري في أخبار ابن ذي النون طرفا من ذكره، وأشير إلى جهة من مآل لأمره.
بقية ما استخرجته من رسائل ابن طاهر السلطانيات
فصل له من رقعة خاطب بها ابن عباد يقول فيها: من وجد سلفه على مذهب من الخير بين، وسنن من الفضل متبين، سره أن يتحلى بتلك الخلق، ويتجلى من تلك الأفق، وإن الزمان اللدن الذي انقضى، وامحت صورته الحسنى، نظم بين ذي الوزارتين القاضي جدك وبين أبي مولاي، كان رحمه الله، عقد الصلة، وأربم بينهما حبل الخلة، وشق بينهما المصافاة شق الأبلمة، وأطلعهما نجمين في أكابر تلك اللمة، يفترقان عند الاستعمال، ويحملان يومئذ مضلع الأثقال، إلى أن امتزجت بهما الحال امتزاجا، وكان كل واحد منهما لنفس صاحبه غذاء ومزاجا، ولم يقنع من ذلك الالتفاف، بواقعة الكفاف، حتى أتم
[11أ] صنائعه، ورقم وشائعه، خلال ما ابتداه، ونهجه وهياه، فضمنا والرئيس الأجل أباك معتمدي - وكان - رشي الله عنه في زمرة الطلبة، والأسرة منهم المنتجبة، ورتعا في رياض الاصطحاب، واستذرينا من أدواحها بأمثال السحاب، نصيب من بردها ودرها، إلى أن أطلعت الأيام شجر مرها، برائع الفراق، ولم نشف الأشواق، وأقبلت الفتن والمحن تنساق؛ فلما اطمأنت بك قدم الرياسة، واستقرت منك في شخص السيادة والنفاسة، جعلت الهمة تتطلع، والارادة مني تنقاد وتتبع، في الإلمام بمداخلتك، والتسبب لمطالعتك، ليلتئم باعتلاقك ذلك الشعب، ويستريح من برحائه القلب، والأيام على شيمها وشومها، في عوارضها ولومها؛ إلا أني مع ذلك لم أخل مشاهدتي من الذكر لك، والفخر بك، حتى وافى رسولك الناحية، فمددت يد المخاطبة لك، وأحببت فتحها معك، لأعلق منك كفي، بماجد يكون ركني وكهفي، واثقا بحسن المقابلة والقبول، عارضا ودي بمهب الصبا والقبول، فإن مننت بالمراجعة فذلك البغية والمراد، وإلا فما أخطأ الاجتهاد، والله ييسر المرتجى منك، ويدفع محذور النائبات عنك، [بقدرته الباهرة ومشيئته العالية] .
وله من أخرى [اليه] : الآن سفرت من الأيام الخدود، واهتز منها
غصنها الأملود، ووثقت نفوس بالنجاح، ودنا غمامها المطلوب حتى كاد يدرك بالراح، لما أتت البشرى عن مولاي باقترابه، وتعلقت الدنيا بأثوابه، ولاذ به الإسلام، وعز جانبه المستضام، وما زلت أترقب الزمان أن يخطرني بباله، ويعرضني على اهتباله، فإذا به على ازوراره، لا يبالي من صلي بناره، فكيف أذم الزمان ومولاي فيه، وهو تابع أوامره ونواهيه، لا زال جده مقبلا، وسعده متصلا، ما صدع الفجر، وطلع البدر.
وله من جواب على كتاب: ورد كتابه العزيز الذي شفع به المنن الروائح والغوادي، فوريت بمضمنه زنادي، وأخصب من مستودعه مرادي، وتأتى بما التمحته مرادي، وتصفحت الطول وافي الذوائب، متصل السحائب، ولبست ثوب الإجمال، سابغ الأذيال، واسع الأضلال، والله يبقيه للواء الفضل يرفعه، وشتيت المكارم يجمعه.
وفي فصل منها: وأما كتابك فكان جوابا ما أحسب! وبيانا نا أعذب! أنس من وحشة، وألبس منه بعد منة، ووقفت منه على ما ملأ جوانحي مسرة، وبسط من وجهي أسرة، وحمدت الله تعالى [11ب] بالنعمة علي في ذلك، وبما هيأة الله على يدك هنالك، وما زلتم معشر هذه
السلمة الكريمة، الزكية الأورمة، تشيدون البناء، وتخلدون الثناء، وتحفظون الأرجاء، وتمدون الرفاء، وأني بمثل سياستكم فيما فتحه الله على المظفر - لقد أخضعتم الرقاب، وأطرتم الألباب.
وفي فصل من أخرى: [ورد لك كتاب كريم وثغور] مجدك مبتسمة منه، وألسنة سروك ناطقة عنه، فطرد العبوس، وأحيا بخيره النفوس، فهنئت هذا الشرف التليد، والمذهب الحميد، وزادك الله جمالا، كما اختار لك جلالا؛ وتناولت المدرجة الكريمة التي خطتها اليد العزيزة، وجعلتها بيني وبين الحوادث شعارا ودثارا، إذ تبينت فيها مخايل وآثارا، بعد أن وضعتها تكرمة على رأسي، وأحييت بها أملي ونفسي، وتوليت من الدعاء المخلص ما الله تعالى سامعه لك، ومحققه فيك. فأما الشكر فلو أني فيه موصول اللسان، بلسان الزمان، لما وقيت بحقك منه، ولما قضيت وطرا به، إلا أني على قصوري عنه سأبرزه في غلائله، كالربيع في أوائله.
وخاطبه ذو الرياستين [حسام الدولة أبو مروان] ابن رزين برقعة يخطب فيها وداده، ويستميل فؤاده، فراجعه ابن طاهر برقعة يقول
فيها: كل المعالي - أدام الله تأييد الحاجب ذي الرياستين - إليه ابتسامها، وفي يديه انتظامها، وعليه إصفاقها، ولديه إشراقها، وإن كتابه الرفيع وافاني فكان كالزهر الجني، والبشرى أتت بعد النعي، سرى إلى نفسي فأحياها، وسلى عني خطوب الكروب وجلاها، فلتأتينه مني بالثناء الركائب، تحمله أعجازها والغوارب؛ وأما ما وصف به - أيده الله - الأيام من ذميم خبرا، ولقد رددتها على أعقابها نكرا، فلم أخضع لجفوتها، ولم أتضعضع لنبوتها، وعلمت أنها الدنيا قليل بقاؤها، وشيك فناؤها، وفي ذلك أنشدوا:
تفانى الرجال على حبها وما يحصلون على طائل
ومع ذلك ما عدمت من الله سترا كثيفا، ولا صنعا لطيفا، له الحمد ما ذر شارق، وأومض بارق.
ورأيت ما انتدب اليه - أيده الله بسنانه - من الشفاعة عند القائد الأعلى - أعزه الله -، والصدق مواعده، وقد كان بدأني بالإجمال لو عاد عائده، وبيد الله تعالى [12أ] الأمور يقضيها، عليه التوكل فيها
وفهمت ما أومى إليه من التنقل إلى ذراه، والورود على نداه، وأنى لي بذلك وقد قيدتني الهموم فما أستطيع نهضا ولا أتقدم، ولو أطقت ذلك لعدت العمر غضا جديدا، ولقيت الكمال شخصا وحيدا، عند من تقر بسوابقه العجم والعرب، وتؤكل خلائقه [بالضمير] وتشرب.
قال أبو الحسن: وكان ذو الرياستين قد رأى لو انتقل ابن طاهر إلى ذراه، أن يستمد برأيه ونهاه، وهيهات! أبو عبد الرحمن كان أصون لفضله، وأفطن بالزمان وأهله، من أن ينخدع بمنتقل ظله، ويحكمه فيما أبقت الخطوب من جلالته ونبله: من رجل شديد الإعجاب [كان] بأمره، بعيد الذهاب بقدره، زاريا على زعماء أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعيدها وسعدها، أو الشعراء فجرولها ولبيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتابة فبديع همذان، أو الخطابة ففي حرام سبحان، أو النقد فقدامة، أو العلم فلست من رجاله ولا كرامة، وليس له من ذلك كله إلا البراءة من الإحسان، والاستطالة بمكانه من السلطان، أبى الله الا انهماكه في الشراب والشطرنج، وكان على ذلك ضيق الفناء، جهم اللقاء/ أحذق الناس بحرمان من قصده، وأشدهم احتمالا لمن لامه في البخل وفنده، وانتحاه بأصناف الذم واعتمده، على ما كان يداخله من كبر، ويعتقده لنفسه من جلالة
قدر، وكان الشاعر إذا وفد عليه، أو مثل بين يديه، أخذ يناقشه الحساب، ويغلق دونه الأبواب، وينتحيه بضروب نقده، ويصب عليه من شآبيب برده، حتى يخرج بين الحائط والباب، ويرضى من الغنيمة بالاياب، على ذلك حجج أصحها جهله، وأوضحها بخله.
حدثني من شهد ذا الوزارتين ابن عمار - المتقدم الذكر - وهو يقول: إيه عنك يا ذا الوزارتين! بأي شيء عارضت قصيدتي:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
أبقولك في أول قصيدة:
أشممت نشرك أم شممت العنبرا
ومصصت ريقك أم مصصت السكرا
ومن ذكر هذا وأشباهه من القول، حتى عدل به عن سبيل الطرب، وكاد ينشق عليه جلده من الغضب.
وأخبرني من سمع ابن رزين في ذلك المجلس أو نظيره يقول [12ب] لمسلم المغني، وكان بحضرته يومئذ: أنا والله أغنى منك، وأشعر من ذلك يعني ابن عمار، فقال له ابن عمار، بذرب جنانه، وسلاطة لسانه: وأرقص ممن - أعزك الله - فلم يحر جوابا، وعاد نشاطه إطراقا واكتئابا.
وكان أدخل نفسه أيام إناخة الأمير مزدلي على بلنسية، فما أمر
ولا أحلى، ولا سبق ولا صلى، ومات في أثناء ذلك، ونصب ابنه مكانه هنالك، فضاق مداه، وأسلمه في يد أمير المسلمين ما قدمت يداه، فنسي.
ومن رسائل ابن طاهر الاخوانيات وما يجانسها
نسخة [من] رقعة يقول فيها: المرء إذا تحقق تأميله، وعرفت في المودة سبيله، تناسبت مذاهبه، وتجانست ضرائبه، وإنك - أحسن الله وقامك وظعنك - لما امتطيت ركاب النوى، وتجرد منك ربع الغرب وأقوى، كحل السهاد جفني، وتمكن [الاشفاق مني، وأخذت نفسي في الذهوب، وشمس أنسي في الغروب، حتى طلع] البشير يالقفول، فجعلت حينئذ أقول:
لله نذر واجب ولك البشارة يارسول
وثابت إلي المسرة، كأول مرة، وظلت أمرح في أثوابها، وأنى لي بها، فالحمد لله على صنعه الكريم، ومنه الجسيم، أشكره شكر من استعلى بسلامتك قدحه، وعاد بإيابك صبحه، وأسأله الإطالة في بقائك، والصيانة لحوبائك.
وله من أخرى: الآن ساغ للكلام الالتماس، وساعدت في معالجته الأنفاس، وتبادرت إلى إثباته الأنامل، وخف فيه القلم العامل، حين أعيد إلى الجسم فؤاده، ورد في البصر نوره وسواده، بأوبتك التي
بسطت مني ما انقبض، وهدتني إلى البيان وقد أغمض، فلم أجد في فم الشكوى ريقا، ولا إلى إيضاح ما ألقى طريقا، فلما وافى بأخذك في الصدر البشير، ووقع بلحاقك التقدير، فكأنما أنت انتشطت من عقال، وأمنت من نكس بعد إبلال، فثاب إلي من نافر القول ثائبه، وتراجع لدي غائبه وغاربه.
وله من أخرى: فرط المسرة على الإطالة باعث، وبالكلام عابث، ولا سيما إذا طلعت بعد أفول، وآذنت من خل بقفول، فلا تنكرن من مقالي، ما يميله لسان الشوق من حالي. لما تحققت [خبر] تغيبك، لا عدمت [13أ] الأنس بسببك، هاجني من ذكرك هائج، ومسني منه حرق واهج، شرد لي منامي، وردد قعودي وقيامي، وأقرح المآقي، وبلغ بالنفس الترتقي، تأسفا لبعدك، ومحالفة للهموم من بعدك.
وله من أخرى: قد أثقلتني عوارفك - أعزك الله - حتى أبقيت لي يدا تنظم، ولا لسانا يعرب عما في الضمير لك ويفهم، فأنا لك رهين أياد لا تستقل بها الركاب، ولا يقوم بشكرها الإطناب والإسهاب، وإذا كان العجز عن مجازاة برك أملك وأحصر، والعيان في ذلك عن شفوفك وتقدمك أنطق وأخبر، فالاعتراف لك بالتأخر عن مضمارك أجد ما سمعت إليه همة الآمل، وسايرت إلى مدى سبقه يد
المتطاول، والرب تعالى ينظم لك أشتات المحاسن والأثر، كما أحيا بسنائك كريم الآثار والسير؛ وإن كتابك - لا عدمته من روض ناضر، وأنس محاضر - وردني مفتتحا للفضل والتهمم، وعارضا صدق مشاركتك في حالتي الصحة والسقم، وإن الذي بلغك من الالتياث المطيف بي، والوهن المساور لي، أثار لفكرك - أنعمه الله - شغلا، وحمل خاطرك - أصحه الله - ثقلا، إلى ما وصل ذلك من سؤال ملطف، وإيراد من قليب السحر مغترف، فقمت لهذه الصلة الكريمة على قدم التعظيم، ووفيتها قسط الشكر محلى بالتوفية والتتميم، وقلت: لله فعل كريم، يقثل الرقاب، ويسترق الألباب.
وله من أخرى: لما تراخت المطالعة بيننا، وتصدت الموانع لنا، حركني إليك عهد كريم، وود بين الجوانح مقيم، وعندي من ذكري لك، وشوقي نحوك، ما لا يأتي عليه البيان، ولا يتسع له الزمان، وأما شكري لمشاركتك، وثنائي على مظاهرتك، فبحيث يقنع الربيع حياء، ويفضح الغصون لدونة وانثناء، ويكسب الماء عذوبة، والحجر رطوبة.
وله من أخرى يعاتب بعض الأقارب:
وإذا الفتى صحب التباعد واكتسى كبرا غلي فلست من أصحابه
نعم، أعاذني الله من موجدتك، ولا حرمني جميل رفقك وتؤدتك
فإني قرأت الكتاب الكريم الذي أطلت من جناحه، وأطنبت ما شئت في إفصاحه، وأكثرت من أناشيده وأهزاجه، وغيرت من عذبه بأجاجه، فجدد أي رسوم إيناسك، وهب بمعلول أنفاسك [13ب] وذكر بأيامك المراض، ونشر من ألفاظك العوارض:
كلام لو أن اللحم يصلى بحره غريضا أتى أصحابه وهو منضج
ما البدر يجتلى في أعقاب أسحاره، ولا الربيع يختال في أثواب أنواره وأزهاره، بأوضح من شياته، وأملح من كلماته، صدرت بقول ابن الحسين:
ما كان أخلقنا منكم بتكرمة لو أن أمركم من أمرنا أمم
وإذا ذكر حكمته ومعجزته:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
وضربت المثل في صحيفة قريش على بني هاشم الأخيار، وأغلفت ما كان من تسلطهم على الجار، وأردفت بقوله عليه السلام [في من وصل أو قطع الرحم، وتركت كلامه على تفرده] : "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" ، فوعيت الكل عنك وعيا، واستوفيته شريا وأريا، وتصرفت بين محظور منه ومباح، واستمعت فيه إلى استعطاف لي واستصلاح، ولعمرك - وقيت الردى، وجنبت الهوى - ما صدر [صدور قال
ولا فسد لقيل وقال؛ ما تركتك توسد] للجاجك، إلا وقد يئست من علاجك، تمد في غلوائك، وتجد في استعلائك.
وفي فصل منها: وايم الله يا معشر القرابة ما وجدت أبي رحمه الله يستكثر بكم من قلة، ولا يفزع إلى رأيكم في ملمة، ولا يمتاركم عند نفقة، ولا يمتاز منكم على ما به من علو مرتبة، يكلؤكم هاجعين، ويقيمكم مائلين، فإنما أنتم عيال مبرة، وأمال درة، وأتلاء عقبة، وأشلاء لولا غمامة سيبه، وأنا أقفو أثرا هاديا، وأقتدح زندا واريا:
لا أحتذي خلق القصي ولا أرى متشبها في سؤدد بغريب
وكذا النجابة لا يكون تمامها بنجيب قوم ليس بابن نجيب
فمن أقبل منكم قبلت وده، ومن تولى تركت رده، لا اترفع ولا أتقلع، كما لا أتخشع ولا أتصنع.
ومن أخرى: التأميل، إذا ثبت فيه الدليل، وعضدته [من] المودة شواهد، يؤيدها الاختيار الناقد، لم يسترب بجانبه، ولا يفزع ماء الملام على مذانبه، فيما تحظر منه موانع الانشغال، وتحجر عنه مخافة الإضجار والإملال، من مطالعة يجتنى بها زهر الكلام، ويروى بها ظمأ الأفهام
وأنا - أدام الله أيام بهجتك -، وإن قصر بي عن متابعة المداخلة جلالتك، واقتصرت بي على ما تحققته من إخلاصي وتعويلي إحاطتك، فغير مفارق لدعاء صالح أرفعه، ولا لإهمال واجب لك أضيعه، إذ أشخاص آمالي بك استشرافها [14أ] وعليك انحطاطها والتفافها، ونحوك تثنى أجيادها، وإليك تبارى جيادها، فمهما وقع تفريط، فالعذر فيه مبسوط، والقلب بودك مغمور، وبالذكر لك معمور، ولما جد بي الشوق جده، وتجاوز بي حده، أعلمت في هذه الأحرف أنملي، وأملى خاطري واللوعة لا تكاد تملي، [لتنعم بمراجعتي شافيا بشرح أحوالك، لا زالت زهاء أملك، ممتنا، إن شاء الله] .
ومن أخرى: أما جنوحي إليك واعتدادي، واقتصاري عليك واعتمادي، فقد وضح نهاره، وتفتح بهاره، ما المسك إلا دونه، وكثير له أن يكونه؛ وقد علمت أني واليت أمير المسلمين وناصر الدين [أبا يعقوب يوسف بن تاشفين] فيما منيت به من الأهوال، وتصرف الأحوال، فأخر أمره المقدار، وليس للمرء الخيار، وناديته الآن نداء مستصرخ قد انقطعت به الانتساب، أعار بياني عنده بسطا، ونص عليه من اختلالي فرطا، ودعاه إلى ما يجده عند الله محضرا يوم القيامة، وما
يبقى إلا الأحاديث والذكر، ولك بما تأتيه المن والشكر، [ثم] لا يزال له به دعاء مرفوع، وثناء على أعجاز الركائب موضوع، وأنا أستنهض سروك بحسن المناب، إذ أعلقت سبي منك بأشرف الأسباب، ثقة بمجدك، ومعرفة بجدك، ومن مثلك فليكن الصنع، والمحتد الرفيع ينبت حوله الفزع، ومراجعتك الكريمة مؤنسة، وعن النفس منفسة.
وله من أخرى: كثيرا ما كنت أسمع إنشاد هذا البيت:
إذا أيقظتك حروب العدا فنبه لها عمرا ثم نم
فلا أدري من عمر، إلى أن مررت ببالي فقلت: هو هو، أخو الحياء والإنصاف، ومشرب الأدب الصاف، وانك أبا حفص - على ما فيك من عظيم الانقياض، وعليك من سربال الحياء الفضفاض - لقبس بيد المسترشد، وسهم في يد الرامي المسدد، خبأك الله فضيلة لإخوانك، وطرفت دونك عين زمانك.
له من أخرى: وردني من لدنك كتاب وقفت به من مشهدك الحسن. وغيبك المؤتمن، على ما عرفت يقينه، ووجدت قبلي قرينه، ثناء عليك يتأرج، وجدة إخلاص [لك] لا تنهج، والله يديم خلتنا نيرة سرجها، ضخما بسلامتك ثبجها.
ثم رأيت ما نشرته من الرغبة [14ب] في جبر فلان، قبحه الله من إنسان، وعاد فسوق، له في البغي أكثف سوق، وكل شفاعتكم عندي مقبول، فالقلب على مودتكم مجبول، لكنها معوذة من أن يدنس بذلك الساقط طاهرها، وما قتل أرضا جابرها، فليكن عندك نسمة حرب، وقرارة ريب، ليس كما نحلته من الخلال، ولا كما قلته في الأحوال؛ ووصفته بالحج وإنما حجت العير، وبالنفقة وإنما هو منه الخلي الفقير، وبالقراءة وما يحفظ التنزيل، ولا يميز المحرف من الحروف ولا المستطيل.
جملة ما وجدت له من الرسائل، في الشفاعات والوسائل
فصل له من رقعة في صفة الأستاذ أبي القاسم عبد الدائم: نحن لا ننزل بالخلة، منازل الخلة، فنتناولها بأطراف البنان، ونسلك بها شعب أهل الزمان، بل نصونها في مضمر القلب، ونحفظها على النأي والقرب، [وإنك - ما علمت - شيمتك الوفاء، وقرارتك] الصفاء، وبعد: فما زلت مفيدي ضروب الفوائد، ومقلدي عجائب القلائد، حتى كأنك
إذا رأيت ما بأرضي من الأدب الماحل، والفهم الناحل، أنزلت عليها الماء فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج.
وقد طوقتني بالأديب أبي القاسم عبد الدائم - حرسه الله طوق الحمامة، وسقيتني به در الغمامة، فتنفست أنفاس العراق، واجتليت محاسن كالجمع بعد الفراق، فأنا الشاكر صنعك، القائم معك. ولقد لطف فيما ألف، وأوضع فيما وضع، فسرد المعاني أجمل سرد، ونثر الفقر نثر الجمان من عقد، وصرف المتأمل فيه بين جد وهزل، ونقله على أقتاب بين حقاق وبزل، وقد قبلت ما أهداه ووضعه على الرأس إكراما، وجعلت له الحمد لزاما وزماما، فلله أنت ولله هو! لقد شددتما أزر العلم، وأحييتما عافي الرسم، وهنيئا لقطركما لقد تدفق بكما سيله، وتفرى عن صباكما ليله؛ وتصفحت ما قرن بتلك الأسفار، من منتقى الأشعار، يتخللها من الكلم السلسال، والمثل المنثال، ما يستنزل الطير من وكناته، ويفضح عمرو البيان في نزعاته، فشهدت لقد أوتي البسطة والفنون، إن سلم من العيون.
وكان وصول الكل على يدي فلان، وقد وصفه بصفاته، وصقله بمراعاته، وقد حملته ما أتغطى منه، إن لم يكن بفضلك المعتذر عنه.
وله أيضا من أخرى فيه: [15أ] إذا شئت - أعزك الله - أن تجلو البصر، وتحبو الفكر، فقد وافتك الأيام بجلائها، ووفرت لك من حبائها. ويوافيك بكتابي - وافتك الآمال - الأديب الحلو الحلال، أبو القاسم عبد الدائم، قاصدك [وسيدي] أبقاه الله، وستلقى به الأدب الموفى، والذهب المصفى، ونهزة الأصحاب، ونزهة الألباب. وقد كانت استقرت به الدار عندي، وأضاء به أفقي وزندي، حتى أوجدته النفس أدواء، وآثر لمكانك لها شفاء، حيث المحل فسيح، والهواء صحيح، والطبيب موات، غير آب ولا عات؛ وقد دعوت الله أن يبرئه من وصبه، ويرعاه في تقلبه، وأنت بمجدك تؤمن على الدعاء، وتبتدر هذا العلق بالاحتواء، وتلزمه [من] مهرة الاطباء كل [محمود] النقيبة، مأمون الضريبة، وكم بذلك من ثناء ترتديه، وعلاء تحتويه، لا زال
مثل هذا النجم طالعا في سمائك، وزاد [الله] في مضائك وبهائك، بقدرته الغالبة الباهرة.
ومن أخرى: وفلان ممن يأوي إلى خير وصلاح، ويستضيء من طلب العلم بمصباح، وبحسب ذلك أحب حياطته، وأريد إرادته، ورغبتي حفية لدى مجدك في أن ضعه منك ببال، وتخفف ما يطرأ عليه من أثقال، وتقلده من محافظتك ما يحصل به على مزية حال، حتى يرى عليه أثر الشافع، وتلذ خبره أذن السامع، وثقتي بما خططت لك من سطوري هذه، أغنتني عن الاحتفال، والإلحاف في السؤال، وأنت أرطب عودا، وأخصب نائلا وجودا، من أن يثنيك عن العلا ثان، أو يفتقر المشفوع لك فيه إلى ضمان، فان حاشيته من تلك النوائب والدقائق، سار شكري اليك سير الفيالق، يوافيك بأحشاده، ويضيق جوك بأعداده، بقيت ربعا يحط إليه، وثمالا يعول عليه، وقدرك سام، وزمانك مناضل عنك رام، وإنما أنت ركن الفضل وأسه، وزين الدهر وأنسه، ومركز الكرم وقطبه، وعين الشرف وقلبه.
وله من أخرى: لما استحكم ما بيننا استحكام البنيان ذي القواعد
وصار ذلك مستقرا في علم الصادر والوارد، جعلت إليك شفيعا، وارتجي النجح بي وشيكا سريعا. وتصل أحرفي هذه على يدي فلان من أهل شلب، ممن كانت له حال بذلك الغرب، إلا أن عادة الأيام في مثله مبلوة، ومنازلهم عندها مجفوة، ونبذته عن الوطن والصميم، كما ينبذ الكراع من [15ب] الأديم، واعتمد هذا الوفق، يرجو فيه الرفق، وأنت محط أمله، ويد عمله، آثرك لتثير له أمرا يتقلده، فانك منجز به متعهده، ورغبتي مؤكدة إلى مجدك فيه، فله خلال تحظيه، وما يقع عنده من حسن صنيعتك فهو واقع من اعتداده وودادي، موقع الماء من ذي الغلة الصادي، وما خططت له بيدي، إلا تكرمة لأمره، ومبالغة في بره، لمكانه عندي، وتفعل يا معتمدي ما تحصل به على العاطر من شكري وحمدي، إن شاء الله.
وله من أخرى: أكرم يد - أعزك الله - يطوقها المرء جيد مجده، ويزين بها ديوان حمده، ما سد خلة من حسيب، أقعدته يد الدهر المريب، وموصلة - وصل الله حرمتك بالسلامة من نكد الأيام - ابن المستعين بالله - رضي الله عنه وأرضاه - توسل بي إلى مكارمك في ترميق حالته، والرم لحوالته، لما جفت غضارته العيش من رغد النعمة، وحول إلى الضيق بعد السعة، وإلى التجول من الدعة، ومثلك - ولا مثيل لك - رق لما به [-] سرفه ونصابه، واغتنم
الصنيعة، وحقق ضماني عنده وما يرتجيه، فانك ستجزى بما تسديه، أجمل الذكر، وأحفل الشكر، مع الأجر المغبوط، والذخر المحوط، والله لا يعدمك ارتهان المنن وارتباط الأحرار، ويحرسك من حوادث الليل والنهار.
وله من أخرى: لم تزل - أعزك الله - من الظلم معصرا، وعند عماه مبصرا، وعلى الخير معانا، وللفضل عنوانا؛ وموصل كتابي له طلب قد دثر طلله، بالأفق الذي بك ازديانه وتجمله، وتوجه باذن المظفر لاستخراجه، وتشخيصه على منهاجه، ولا غنى به عن كريم مؤازرتك، ومعلوم سيادتك، برأي حسن يظهر فيه، يكون معه دنو وطره وتأتيه، وأنا أسأل سناك العناية بأمره، وإيثار العدل الذي لست مع غيره، وللرجل إلي أذمة قديمة، وقد استوجب على علاك بذلك، غاية محافظتك واهتبالك، وهو مورد عليك شانه، ومظهر إليك برهانه، وفضلك في الاصابة إليه، والدلالة على ما حزت به الصواب من طرفيه، مرتهنا حمدي، ومعيدا لليد البيضاء عندي.
وفي فصل من أخرى: ومؤدي كتابي هذا لما تناكرت له الأيام، وأعوزه في استصلاحها المرام، آثر جواري [16أ] وقصد داري، وما انتقل من ظلك إلا ظلك، ولا تعوض من محلك إلا بمحلك، فسكن سكون المريح من تعبه، البعيد عن نوبه، ينتظر أن تنظر إليه عواطفك، وتستجد عليه عوارفك، حتى إذا كان الآن، ورأى عنان
زمانه قد لان، نبهني ونام، وذكرني الذمام، فوكلت عزمي برعيه توكيلا، واستقبلت وجه كرامتي لديك تقبيلا، أسألك فضلك المعهود، وشرفك المسود لا المسود، في أن ترفع عنه إساءة الحادثات، وتجمع له شملا من يد الشتات، وتوجده سنن الحاجات إليك سهلا، وتقول لذي العداوة فيه مهلا، وهذا - أعزك الله - يربي لك ما سلف من الأيادي، ويخط سطورها لك في سواد فؤادي، وأشكرك عنه كما شكر الروض صباه، والعمر صباه.
وله من أخرى إلى ابن العطار، وقد ثنيت له الوزارة: في إحاطتك الوافية، ودرايتك الوافرة، أني بك راجح ميزان الذخر، منهل ماء الفخر، ثري أرض الود، عطر رائحة العهد، وأن بشراي تتابعت أن هلالك في الوزارة طلع بدرا، وأن نداءك بها صار شفعا وكان وترا، فقلت: ساقها شغفها، وزانها شرفه لا شرفها، فليهنها حلولك بفرقديها، وجمعك بين نسريها، وأنك مقلدها من خلالك فذا وتوأما، وملبسها من صفاتك طرزا وأعلاما، حسن يقين، ومتانة دين
وطيب جذم، ورسوخ ورع وعلم، وأدبا كالروض نبهه الصبا، وكرما كالغيث غمر الربى، ولقد قعدت للتهنئة فأقبلت إلي هواديها، وانثالت علي من حواضرها وبواديها [جميعهم يضحك ويسر، ويقول لكل أناس في جميلهم خبر، أوله كلامي، وإليك مقامي] فان تقدمت فبفرط الهبة، وان تأخرت فلعظم الهيبة.
ومن رسائله في الدعابة والهزل
فصل له من جواب على كتاب [عتاب] لابن عبدوس لتقديمه صاحبيه، في عنوان رقعة عليه:
وردني من لدنك كتاب كريم انهلت علي منه سحائب فكاهتك ودقا، فلم يترك لي من فرط الضحك شدقا، مما عذب استماعه، وذهب بالإبداع اختراعه، وان كنت قد تعديت طورك، وغلبت ظنك وحكمت جورك، ولم تحاسب نفسك عند الهجوم، بما تقلع عنه من الإفحام والوجوم، إذا أقيمت عليك الحجة، وسدت دونك مناهجها، وعرضت عليك المحجة، وضاقت عنك مخارجها، وعلمت أنك مذنب فيما فعلت، منتشب [16ب] فيما دخلت، ووقعت بين ندامة واعتذار
وتوبة واستغفار، ولو أنك تمعن نظرك، وتدمن تدبرك، لما طارت بك فتخاء نشاطك، ولما توهمت أنك إن جادلت لم أعاطك، كلا، فان خصمك لا ينكل، على أن لسانك الأطول، فكيف أضعك أبا عامر - كما زعمت - موضع قدح الراكب، وأنت بمنزله ما بين العين والحاجب، وأصول بك على الأباعد والأقارب، ولم أذهب إلى تأخيرك في العنوان، وإن كنت شيخ الأوان، إلا عناية بك وتحقيقا لدعاويك، فيما تنكره من سنيك، وبقولك بملء فيك: إنك أصغر القوم سنا لا جسما، ولقد شهدت بما قلت عدوانا وظلما، لأن ما يبدو من تغضبك يكذبني، وحسبي أن العقوبة منك ما مطلتني، وهذا جزاء الافتراء، وعاقبة المسامحة والإغضاء، فأين عزبت عنك بوادر فطنتك، أم أين غربت شمس فهمك وتثبتك - لقد أوليت اليد كفرانا، وقابلت بالاساءة إحسانا، ولو أني وفقت [لصدرت بك] ، إذ تجري هذه المعاني على الأنسان، ولدللت على ما يخفيه المقراض من شيبك ويعانيه من هرم شبابك، وقد ولاك قفاه [إعراضا] وطلقك ثلاثا، فحينئذ كنت تحمد وتقول: فدتك النفس والولد، وإنما من الله لعظة لأهل الزور، وعثرة منك بينة العثور، لا أقيلك فيها، ولا أقول لك: لعا، منها.
ومن أخرى: وقد نظمت أنسا، وبسطت مني نفسا، كان نأيك قبضها، وفراقك أوحشها وأمرضها، ولله هزلك ما أرقه وأعبقه، وجدك ما أروقه وأعتقه، إنك لفارس زمانهما، وغارس بستانهما، وإن كنت أنحيت في عتابك، وأربيت في غلوائك لسجرائك في كتابك، فانه حلو من الرضى، محمول بصحيح الهوى، ولم أشك في الذي تضمنه من نزاعك [نحوي] ، والتياعك لعبدي، وفي تلاحظ القلوب سلوة، [وفي تسارب الكتب راحة ونشوة] ، أسأل إدالة الانتزاح بقرب يعجله، على ما نؤمله.
وعرضت عليه رقعة رجل يتزهد، وهو بالضد، أطال فيها اللفظ بالوعظ وردد، فأجابه ابن طاهر برقعة يقول في فصل منها: ورد كتابك فوعظ وذكر، ونصح فبصر، ونبه من سنة الغفلة، واغترار المهلة، [17أ] وحذر من يوم الندامة، وبعث يوم القيامة، فيرحمك الله من هاد، وخائف معاد، ومبتغي إرشاد، وداع إلى صلاح وسداد، لقد حركت أنفسا قاسية، وهززت جندلة راسية، قد تحكم فيها ضلالها
وأفرط في الجهالة إيغالها، فمعولك دونها ناب، لا يؤثر فيها بظفر ولا ناب.
وفي فصل منها: ولا يغرنك ما ترى فيه من سمت الوقار، ولزوم الدار، ومداومة التسبيح والاستغفار، فتحت الرغوة مذق، ودون ذلك الشعار من الرياء فسق:
لا تمدحن امرءا حتى تجربه ولا تذمنه من غير تجريب
استخبر من في أفقك، ولا تطلق من عنان قلمك، إلا بعد اجتلاء اليقين، وتحفظ من عدوى القرين، فقد تعدي الصحاح مبارك الجرب، وأنا أربأ بك من قال وقيل، ومن ذا ينيب حينئذ لحجتك، ويسفر عن وجه القبول لمعذرتك، كلا، فان الله لا يدنس منك طاهرا، ولا يلبس عليك ظاهرا، بل يكشف إليك ما يصرف القول عنك ويعلمك ما لم تكن تعلم.
وله من أخرى إلى بعض إخوانه وقد حضر محاصرة شاطبة: ورأيت مآل الامر بوقوع الحرب، وشروع النقب، وأنه وضعت الملاطيس:
فقلت: الآن حمي الوطيس. فأرجو أن يصحب الظفر، ويسعد القدر؛ وحدثت أنه دعيت "نزال" فكنت أول نازل، فقلت لمحدثي: أمجد أنت أم هازل -! سيدي أشد بأسا، وأعز نفسا، من أن يرى يوم جلاد، إلا على ظهر جواد، فان لبس زغفا، هزم ألفا، وان تقلد صمصامة، لم يبق هامة. ولكن أذكره بهذه الشهامة، قول أبي دلامة:
ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكر على صفي تميم لولت
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد وقوله:
ووردت أن أنظر عند الصيحة إلى الحكيم أبي جعفر، فتجلي العين منه أحسن منظر، وقد صفف مراهمه، وجمع دراهمه؛ وأما جارنا أبو الخطار، ففي القنا الخطار، وخصصته بالتقدم للصداقة [والجوار] ، وأما الفقيه أبو مروان فرائح في قميصه المدلوك، وعليه نصف لجل من الوشي المحوك، يحذر من الفرقة، ويقص على الفرقة، وإنه لأنس في السفر، وزين في الحضر؛ وأما سائر الإخوان، فأرفعهم لغير هذا
الرهان [17ب] والله يبقيك ذخرا للزمان، وعينا في الأوان.
وله من أخرى: خذ هذه النادرة، من يدي هذه الطالعة الفاترة، وأنجز لها مجدك الموعود، وصل عندها فضلك المعهود، فانها تقوم مقام الجيش في الغناء، وتصل الرواح بالغدو في الثناء، ولولا غنة [فيها] ، تلفف فكيها وتلويها، لكانت أحسن الناس وصفا، ولا سيما إذا مسحت أنفا، بسبابتها عند الكلام، وحدثت حديث مصر والشام، فهناك يقطف الزهر، وتغرف الدرر:
*ولكن حديثا ما حديث الرواحل *
فهي لا تقنع بشيء سوى الحاصل العاجل، فأقبل على شانها لا زلت قبلة القاصد والآمل.
وله من أخرى [الشيخ أبو الفضل لما] استبدل الجار، أنكر الدار، فحصل من وساوسه في بيت وبال وسقوط، وخشي أن يظن أنه من بقية قوم لوط، وأنى له ويعطى هذه الدرجة، والسقط يحرق الحرجة، ورغب عن تلك الدار متحولا، وقصد مجدك لا يبغي سواه معولا.
ومن أخرى: هذه - أعزك الله - عربدة من رأس الصباح
وسورة شديدة من الاقتراح، وقد وردت مستورة تحت الظلام، محفوظة بالختام، فأقسم لقد قطعنا الليل بها ضحكا وتعجبا، فما عندنا إلا من ودعه صباه، وودعته نهاه، وقد كان في الخل ما يكفي فهو نعم الإدام، كما قال عليه السلام، ولكن أردت أن يكون لك في كل بر مقام، وقلت: هذا الحلو الحلال والحرام، ولولا أن الصبا عني ولى، لرشفناه رشفا، واستزدناك منه ضعفا.
وله من أخرى: هذا الحلبي [أعزك الله] يوافي ذراك وماء الخجل يقطر من وجناته، ويستغفر لذنب لم يكن - علم الله - من جناته، وهو علق كما تراه لا علك، وعند الشميم ند أو مسك، فاشدد يديك به ولك الربح، واسمع له ومن عوائدك السمح، ومن الظلم أن يحلى بغير حلاه، فيقال كذوب والصدق منجاة، أو يقال بذي، والعرض نقي؛ ومثلك رق لغربته، وكشف من كربته، فاجتلى الشكر في غلائله، واعتبق المجد في غدائره، لا برح الحمد من ذخائره.
وفي فصل من أخرى: مر بنا كاتبك السري وأمامه وزراؤه، عصابة كأنها الخطي، وقد حفف من حواجبه، واحفى من شواربه، وهو يتفكه، من قادمتي حمامة أيكة، كمن تصنع وترفع للقافية فلا تواتيه، فسألته عنك فقال بفتور: هو 0أعزه الله - لي سنان وأنا له مجن، فقلت: قرت بكما عين، لقد تخرج من الحرب [18أ] بظهر المحتطب، إن لم يكن لك درع تقيك من القنا السلب، وأستغفر الله مما يجنيه، على أن الصدق لا إثم فيه، ووجب إعلامك بنادرة هذا اللبيب، فانها من الغريب، لا برحت في كل شيء عين المصيب، ومن كل فضل وافر النصيب.
ومن أخرى: لا بد للنفوس أن ترتاح، وللنوادر أن تستباح، وفلان أصابته طارقة، وابنة الكرم له معانقة، فنتفت عنه كل ريشة، [وتركته في أسوأ عيشة] ، وإني لأعجب من غفلاته، والحذر في مشتبهاته، حتى لقد يكون حارسته من اللصوص، وأمتنع من البنيان المرصوص
ومثلك رق له وأولاه. وعطف عليه لما دهاه، وكان حسنا، لو التمس له سكنا، تكون من شرطه، ومن خير رهطه، فيقطع بها الليل الطويل، وينفي معها الهم الدخيل.
وله من أخرى: أذكر سروك بالشيخ ابن القزاز أن تخلطه ببالك، وتجعله من عمالك، فسيحوك لك من الثناء برودا، وينظم عليك من لآلي الحمد عقودا، فإنه قد ترشح للخطة، وتبحبح لحلاوة الضبطة، وشمر عن ساقيه لمركب الغبطة، وأخاف أن يكون من مراكب السلف، التي تحدى بأند خلف، فهي لاصقة بالأرض. مقيمة على شدة الركض، ففضلك بالتعجيل، مستبدا بالشكر الجزيل.
ومن فصل من أخرى: مثلي ومثلك مثل رجل من العرب، استقرى عقيلة ربرب، بل سليلة فصل وحسب، فأجزلت قراه، وأكرمت مثواه، فلما اطمأن المجلس، وانتظم التأنس، سعت إلى بعض أوطارها، فراقه ما تحت إزارها، فجعل ينشد:
يا أخت خير البدو والحضاره ماذا ترين في فتى فزاره
أصبح يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي يا جاره
وكذلك غيرك المخاطب في شئوني وأنت المراد، وإليه الإيماء، وفيك يبدأ القول ويعاد، ولله أنت ما أعطر خلالك، وأكثر اهتبالك، لا زالت أياديك كالأطواق، ومعاليك معطرة الآفاق.
ومن أخرى: الكريم يلين بالهزة، ولا سيما بجناح الإوزة، وقد وافتك عارية من الريش، خالية من الحشيش، تمت إليك بسالف الذمام، وصالح الأيام، وقوام عيشها أن تهيء لها غديرا، وحمى كثيرا، ففضلك في أن يصحبها رأيك الجميل، بخدمة وإن قلت، وكلا فليس منك قليل، وستجد فيها منافع جمة، منها أنها تكون مروحة عند السموم، ومضحكة لك عند الوجوم، فاذا رأيتها وصواحبها فوق [ظهر] الماء، رأيت أبدع الأشياء [18ب] تحسبها سفينا في العيان، وكأنها بعض مرابض الغزلان، ولو جيت أن أعداد أوصافها لطال الكتاب، وامتد الإسهاب، [فاغتنم سماح الزمان بها، وأنزلها] من البر في أسنى مراتبها، وإلى فلان هذا الإيماء وهو التصريح، وعنه الكناية وهو النسب الصريح.
وفي فصل من أخرى: وكأني أنظر اليك وقد استحر الجلاد، وأدركك الإعجاب، وهان عليك الكتاب، وأنت تقول، من فرط ما تصول:
إني انصرفت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
اكتب بنا أبدأ قبل الكتاب به ... فانما نحن للأسياف كالخدم لا تعجل، فلها حجاج، كأنها زجاج، تفرى بها أوداج، ولرب جيش هزمته، وملك هدمته، ولله تعالى نعمة عظيمة فيما كان من الفتح، جاءت كفلق الصبح، تبشر دولة الإسلام، بالنصر وارتفاع الأعلام.
ومن رسائله في التعازي وما يجانسها
فصل له من رقعة إلى ابن رزين يعزيه في أبيه: كتبت لهفان وقد أسمع الناعي، فأضرم نار الأسى بين أضلاعي، للرزية العظمى، التي رمى سهمها فأصمى، بوفاة من جمعت فيه المحاسن والخلال، وزال كما تزول الجبال، وقل له المشابه والنظير، ومات بموته البشر الكثير، الحاجب ذي الرياستين أبيك، رب الشرف الصميم، والحسب العد
الكريم، أوسعه الله رحماه، وجعل الجنة مأواه، فاها لله وإنا إليه راجعون؛ على الرزية فيه، ليتني بالنفس أفديه؛ فأما القلب فمنحل ومنسلب، وأما الدمع فمنهل ومنسكب، سقى الله جدثه سبل القطر، ونفعه بحسن المذهب وجلالة القدر، وجزاه المحسنين، وأنزله دار المقامة في عليين، وهناك الله ميراثه من الرياسة، ومكانه العلي من النفاسة، ومنحك العمر الطويل، وأمتعك العز الظليل، وساعفك بكل ما تهواه الزمان، ولا زال بك يتجمل ويزدان.
وله من أخرى: كتبت وقد وافاني كتابك بما أطال ليلي وأسهر عيني، وحال بين التماسك وبيني، للنازلة الفاجئة، والحادثة الفاجعة، في المتوفاة - نصر الله وجهها وقدس روحها - فلقد رمتني الأيام بثكلها فأصابت مني صميما، وسلبتني علقا كريما، وأنسا عظيما، وأبقت بقلبي ندبا، وتركتني على العزاء مغلوبا، فانا لله وإنا إليه راجعون، تسليما له فيما قضى، وقولا يوجب عنده الزلفى والرضى؛ وهو الحمام، والموت الزؤام، جعلنا [19أ] الله منه على حذر، ووفقنا منه لخير عمل ونظر.
وله من أخرى: وتوفي فلان - عفا الله عنه - وكان البقية التي
يؤنس لبقائها، ويعشى إلى أضوائها، فاختلسته المنية، وفجعت به الدنيا الدنية، فمن شأنها أن تذهب بالأفاضل، وتخيم على الأماثل؛ نقله الله إلى رضوانه، وحفه بغفرانه، وأحسن العزاء عنه، وان عز العوض منه.
وأما عهدنا فقد درس منه العهد، بخطوب يتمنى معها الفقد: بلاد لحقها التغيير، واستولى عليها التدمير، وأكلت الجوعة بنيها، وتعطل الشرع والدين فيها؛ فلا صلاة تجمع، ولا منبر يرفع، والكل ناهل، وفي حوض الردى ناهل، فلينح على الإسلام نائح، وليجبه صدى من جانب القبر صائح.
وهذا محلول من شعر لتوبة بن الحمير، ويتعلق بذيله خبر رواه أبو عبيدة قال: إن ليلى الأخيلية مرت مع زوجها في بعض نجعهم بالموضع الذي فيه قبر توبة، فقال لها زوجها: لا بد أ، أعرج بك إلى قبره كي تسلمي عليه، وأرى هل يجيبك صداه كما زعم حيث يقول:
ولو أن ليلى الأخليلية سلمت علي ودوني جندل وصفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا إليها صدى من جانب القبر صائح
فقالت له: وما تريد من رمة وأحجار - قال: لا بد من ذلك، فعدل بها عن الطريق، فلما دنت راحتها من القبر ورفعت صوتها بالسلام
عليه، إذا بطائر قد استظل بحجارة القبر من فيح الهاجرة وطار فنفر راحتها فوقصت بها فماتت. وهذا اتفاق غريب، وحديث في هذه الهامة عجيب، وهي ما زعم الأعراب طائر يخرج في القبر من رأس القتيل فلا يزال يقول: اسقوني، اسقوني، حتى يؤخذ بثاره، وفي ذلك يقول الآخر:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وهذا الخبر في شعوهم أشهر من أن يذكر.
وله من أخرى: الدنيا - صرف الله عنك صرفها - على الفجائع مبنية، [وقصاراها كدر أو منية] ، وان الحازم من وطن لأحداثها، وأيقن بانتكاثها، فأوسعها رحيبا، وقلبا صليبا؛ وكتبت والدموع محدور، وقد حم قضاء ونفذ مقدور، بوفاة الولد الطيب المبارك أبي عبد الله ابننا، وقرة أعيننا، كان - نضر الله وجهه ولقاه رحمته ومغفرته، ورفع في دار المقام منزلته - فناهيك بأسفي عليه وتوجعى، وما أوقد [19ب] نار الأسى بين أضلعي، فانه كان مرجوا في الأبناء، معدودا في النجباء، للسيادة مرشحا، وبالفضائل موشحا، ينهل الخير من أعطافه، ويعجب الدهر من أوصافه، أكرم به من سليل، كان على أحسن خليقة وأهدى [طريقة وأقوم] سبيل، ولكن يأبى الله إلا ما
يريد، فأسعد بجواره ونعم السعيد.
ومن أخرى: كتبت مجملا ومختصرا، ومنتحبا مستعبرا، وأعزز علي بأن أعزي مخاطبا، ولا أكون مشاهدا ومواظبا، وان المقدم لحرمته، لفائز من الله بأتم نعمته، فسلموا - أعزكما الله - عن الحادث سلو، ودعاء إلى الخالق مرجوا، في أن يكشف عنكما الغماء، وينير بكما الظلماء، وأبشروا على الصبر الجميل، بالأجر الجزيل، وما حط ما أصبتما به قدر، وإنما حط من وزر.
وله من أخرى:
*عيد بأية حال عدت يا عيد *
عاد والله بفيض الدموع، وفض الضلوع، ومفارقة الأعزة الجلة، ومحالفة الأسى والذلة، فتوهم - أجارك الله من نوبه - ما بقلبي من تلهبه، للحال التي أنتم عليها، وكيف مقامي، وانتحابي واحتدامي، ولكني ضارع إلى الله أن يغفر الذنوب، ويكشف الكروب، وإنا لله وإنا إليه راجعون على هذا المنظر، في هذا اليوم الأكبر، وقد عهدناه أغر وضاحا، يعيد الليل فجرا وصباحا، وهو المرجو لتلافينا، والإقالة من عثراتنا ومهاوينا.
ناقص
شاهدا كما انتحبت غائبا، وأؤدي من مفترضات أياديك واجبا.
وله من أخرى: موهوب الدنيا - أيدك الله - إلى استلاب، ومعمورها إلى خراب، ومطمعها كالآل والسراب، تغافص ذا العزة، وتقطع در الدرة، وتخون ذا الثقة المبرة.
وفي فصل منها: فرع [والله] من الفضل ذوى، ونجم في الرياسة خوى، أظلمت بعده الآفاق، وأدرك تمامها المحاق، وإلى الله الشكوى، فهو أضحك وأبكى، والحمد لله على نافذ أقضيته، ومحتوم قدرته، وهو المنهل، لا يعل منه الذي ينهل، فالتماسك عند هجومه ألزم، ووفور الأجر عند ذوي النهى أحزم.
وفي فصل من أخرى: أسرع اليك يا معتمدي الفطام، وأقصدتك للحوادث سهام، وحملت ثقلا لا يطاق، وتغيرت له الآفاق، فقبحا لدنيا عفت بيدها جمالها، وحدت لارتحال بهجتها جمالها.
ومن أخرى: كتابي عند ورود الخبر الصحيح بالتغلب على دانية وتثقيف قصبتها، وتملك معز الدولة -] استنقذه الله]- وهجوم المنية على إقبال الدولة - رحمه الله - فاعجب يا سيدي من انقاض الحال بغتة على الفور، وذهاب دولة السؤدد والسرو، على بعد مرامها
وشدة أركانها، وعزة سلطانها، أعاذنا الله من سوء القضاء، وجعلنا في حيز الاحتماء. ولما ورد هذا الخبر الذي يورد المنون، ويسهر العيون، طيرت به إليك على شرط ما بيننا في الأمور، في القليل والكثير، [والله يقي جانبك ويكفيه، ويذب عن قطرك ويحميه، بقدرته] .
وفي فصل: يجب أن تعذرني - أعزك الله - إذا كتبت، فالذهن كليل، والقلب عليل، والقول قليل؛ وبلغني ما أصمتك به الأيام في الصميم، والظل الكريم، بوفاة الوالدة الطاهرة، والجنة الساترة، ألحفها الله رحمته، وألحقها جنته، ومثلك في رجحانه، لم توه المصائب من أركانه، بل سلم لله في حكمه، واسترجع للخطب على عظمه، فغنم الثواب، [وعلم المآب] .
وله من أخرى يعزي بموت المقتدر: أي خطب - أيدك الله - طلعت به النوائب، واسودت له المشارق والمغارب، لقد ترك شمل الإسلام صديعا، وصير عبرة الشؤون نجيعا، بمن كنا نلوذ به: قريع الزمان، ومبير العدا ومولي الإحسان، مولاي المقتدر بالله - نقع الله صداه، وكرم مثواه - فلو درى الحمام بمن فجع، لارعوى أو توجع، ولكن هكذا تزول الجبال، وتنصرم الآمال، وينهال السناء [20ب] وينهدم البناء.
وفي فصل [منها] : وما أعلمت يدا إلا والدمع منسجم، والشجو
محتدم، وقليل أن تطيش الألباب، وقد حل هذا المصاب، وفي مولاي الرجاء والعزاء، وإليه الانتماء والاعتزاء، لا زال يستقبل دهرا جديدا، وعمرا مديدا، حتى يخلد ذكرا مشيدا، وفخرا تليدا.
وله من أخرى: مالي أرى المجد - أعزك الله - قد سدت معالمه، وانهدت دعائمه، بفقد من كان يغرق البحر فيض نواله، ويكاثر نجوم السماء بعض خلاله، واحد الدنيا، وجامع العليا، ومن كان يطرق الحلم لأناته، ويحار الفهم من آياته، ويعز الدين بمكانه، ويذل الشرك لسلطانه، مولاي المقتدر بالله - قدس الله روحه، ونور ضريحه -.
وفي فصل: وإني لأعلم نيل الخطب منك، وصدر الرزء عنك، وحيث انتهى [بك] البكاء والعويل، وغناء لعمري لدى المصاب قليل، وما أعزيك وأترك نفسي، وقد شردتما سكني وأنسي، ولكن أعرض عليك مكان السلو وقد لاح لي بدره، بالرئيس الشهم المعظم قدره، الحاجب مولاي المؤتمن، فذ العصر، ومقتاد كل كريمة، [ووراد كل كريهة] من يحمي الحمى، ويسدي النعمى، ويزاحم الأفلاك، ويبهر الأملاك.
وله من أخرى: أنى يستطاع الكلام - أيد الله مولاي - وقد اغبرت الدنيا وأظلمت الآفاق، ونعي الإسلام، وعني به الحمام، وقامت نوادبه، وأوحشت مغانيه وجوانبه، ولكني أقول عن صعدائها، وللعين غصص بمائها، وللنفس تنفس من برحائها: لقد مات منقطع القرين، وكاليء هذا الدين، من كان - والله - ينير إذا دجت الخطوب، ويثير إذا عن الهبوب، ومن يملأ الأفواه طيب ثنائه، ويملك القلوب بشر لقائه، ومن كان يرهب الشرك صولته، ويخاف العدو وطأته، فبرد الله ثراه، وسقاه الحيا ورواه، فلو يعلم الترب ما ضم من كرم ونائل، وحلم إذا خفت الحلوم غير زائل، لطاول السماء، واعتنق الجوزاء، ولقد قلت لما غالتني فيه الغوائل:
فما كان ما بيني لو أني لقيته وبين الغنى إلا ليال قلائل
وله من أخرى: الدنيا - أعزك الله - ليست بدار قرار، والمرء منها على شفا جرف هار، وإنما هي جسر على الطريق، وعدو في ثياب صديق
ولما بلغني وفاة فلان - رحمه الله نضر وجهه وبرد ثراه - علمت أنك الجبل الذي لا يرتقي الجزع ذراه، وإن كان سهم المنايا أصاب حميما، واستلب كريما، فقد أبقى الله بك الصدع مرؤوبا، والجزع مغلوبا.
ومن أخرى: كتبت والدمع واكف، والحزن عاكف، للرزية الشاملة، والقاصمة النازلة، في فلان، فيا عظم ما [21أ] دهمت به الأيام، وفجع فيه الإسلام، فانا لله وإنا اليه راجعون، تسليما لنافذ القضاء، ومقدر الفناء؛ ولقد نالني من الكرب لهذا الخطب ما لو شهدته لراعتك المنظر، ولجعلت نفسك الكريمة تفطر؛ وخاطبت الحاجب - أيد الله صبره، وجبر صدعه - مقيما للرسم في تعزيته، ولو استطعت لنهضت بنفسي لقضاء الحق وتوفيته، فنب بفضلك عني منايا [كريما] ، وأعلمه - أيده الله - تفجعي وتوجعي، وتأسفي وتشيعي، وفي بقائه ما يسد الخلل، ويمد الرجاء والأمل.
فصول اقتضبتها من كلامه في وصف ثغور البلاد
والاستنفار للجهاد
فصل له من رقعة: استوضحت جميع تلك الأحوال التي وصفتها، والأحداث التي قصصتها، فأكبرت وقوعها، ثم عرفت للأيام صروفها
وصدوعها، وتألمت لما يجري على المسلمين من نكد فاضح، وتلف فادح، فليت شعري أين البصائر، وحتام تدور هذه الدوائر، على رمق الجزيرة وقد أشفى - أما آن للنصر أن يقع [وللداء] أن يشفى - نظر الله للكل، وأراهم مواضع الرشد، من العقد والحل، بمنه.
وفي فصل: كتابي بعد أن وقفت على كتاب فلان الذي أودعه ما ودع من حيات، ولم يدع مكانا لمسلاة، فانه للقلوب مؤذ، وللعيون مقذ، وللظهور قاصم، ولعرى الحزم فاصم، فليندب الإسلام نادب، وليبك له شاهد وغائب، فقد طغى مصباحه، ووطئ ساحه، وقص جناحه، وهيض عضده، وغيض ثمده، إلى الله نفزع، وإليه نضرع، في طارق الخطب ومنتابه، فلا حول ولا قوة إلا به، فهو كاشف الكروب، وناصر المحروب.
وفي فصل: واتصل بنا أنه أباد الديار، في جميع تلك الأمصار، والمسلمون بينهم سوام ترتع، وأموالهم نهب يوزع، والقتل يأخذ
منهم فوق ما يدع فأطل الفكرة في هذا الخرم الداخل، والبلاء الشامل، والله المرجو لكشف الغمة، وتلافي الأمة.
وفي فصل من أخرى: ورد كتابك بالخطب الأبقع، والحادث الأشنع، الجاري على المسلمين - نصر الله مقانبهم، وجمع على الائتلاف مذاهبهم - في مدينة بربشتر، وكانت صدرا في القلاع المنيفة، وعينا من عيون المدائن الموصوفة، إلى ما سبق قبل في القلعة القلهرية وغيرها من مهمات القلاع: الدروب والمعاقل، وخطيرات الحصون والمنازل، فأطار الألباب، وطأطأ الرقاب، [وصرم الآمال والهمم، وأسلبهم من الذلة والقلة إلى ما قصم] وانك رأيت الحال في معرض جلاها للنواظر [عيانا] ، ووصل [21ب] بينها وبين الخواطر أسبابا وأشطانا، فما شئت من دمع مسفوح مراق، ونفس مترددة بين لهاة وتراق، وأسى قد قرع حصيات القلوب فرضها، وعدل عن المضاجع بالجنوب فأقضها، ومآل تستك من سماعة الأسماع، وتضيق عن إيراد حقيقته الرقاع، فالله [يدرأ] في نحر ما فدح من الخطوب الكبار ويدفع، وإليه نلجأ فيما ألظ من عقيم الدواهي ونفزع، فمنه الغوث والانتصار، وعادة الإقالة إذا جد العثار.
وفي فصل من أخرى: وإن الملأ الكريم - تكفل الله به - ورد وقد امتطى العزم ظهرا، واستشعر النصيحة سرا وجهرا، ووسع نطاق البيان
وندب إلى ما فيه ثبات الإيمان، وأعرب عما رأيته ورآه، من في طاعتك من جموع المسلمين - وفقهم الله - من الاستنفار لأمر هذا العدو الذي قد سحب في الجزيرة أذياله، وفوق للاستيلاء على حدودها نصاله، لما تحقق له أن العزائم عن مقارعته ناكلة، والبلاد من أعداد تقاومه عاطلة، فبانت أصالتك وتفرد جدك، وتجدد الحفاظ والانقاذ لملة الإسلام بجهدك، وقد تعين البدار على كل رئيس ومرءوس، ولزم الجهاد كل شريف ومشروف، وقبيح على المسلم أن يحل إزارا، ويسوغ من الكرى غرارا، وإخوته المسلمون بين مشدود بالإسار، أو جزر النيوب والأظفار، تالله ما في النصفة أن تسكن الظلال، وأطراق حملة القرآن الأغلال، [والله تعالى يصير الأيدي في الدفاع يدا، ويعيد العدو المستأسد مهتضما مضطهدا] .
ومن أخرى: كتبت - أيد الله أمير المسلمين - وقد وافى الخبر المبهج بأن الجزيرة المهتضمة - حماها الله - حلها إمامها العادل، وسيفها العامل، وليثها الخادر، وقرمها المبادر، فكان عندي كالماء للظمآن، والنجم للحيران، فقلت: خبر والله جلى الشك من اليقين، وشفى صدور قوم مؤمنين، فالحمد لله رب العالمين، إذ يقيم الله به للحق مناره، ويحمي من الإسلام ذماره، فأنف الكبر أجدع راغم، ووجه الظلم أسفع قاتم.
ووددت أن أسعد بلقائه، وأستظل بلوائه، وألم بجوانبه، وأسير في كتائبه، فأنال حظا جسيما (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) (النساء: 72) . ولولا أن العدو - قصمه الله - بهذه الأقطار، يجوس خلال الديار، فلا تمكن المسالك، ولا تتورد المهالك، لكنت أول وارد مع الوارد، ولقضيت فرض الجهاد، وملأت عيني ممن ملأ البسيطة عدلا، وزاد الفضيلة فضلا، وإن العين لتفيض من الدمع، لما جدت بي الأيام [22أ] في القطع، وعسى الله أن يفسح المهل، ويرفع الوجل، ويبرئ العلل، ويبلغ الأمل.
وفي فصل من أخرى: وفيما ذكرت قرع الظنابيب، وشرع الأنابيب، وهرج يشمل البعيد والقريب، ومحض ودي، وصحيح عقدي، وما لا يشك فيه عندي، يحملني لك على الانتصاح، شحا مني ورغبة في الصلاح، وحسما لأسباب الفتنة، التي تعظم معها المحنة، فإن وافق قولي قبولا، وكان على أحسن التأويل محمولا، فذلك الذي إليه عرضت وله تعرضت، وإذا كان ما سواه، فهي أمور يريدها الله،
وله من رقعة إلى ابن جحاف أيام ثورة ابن عمه ببلنسية: قد ألبستني - أعزك الله - من برك ما لا أخلعه، وحملتني من ثنائك ما لا أضيعه، فأنا أستريح اليك استراحة المستنيم، وأصرف الذنب على
الزمن المستليم، وإن ابن عمك - مد الله بسطته - لما ثار ثورته التي ظن أنه بلغ بها السماك، وبذ معها الأملاك، نظر إلي متخازرا [متشاوسا] ، وتخيلني محاسدا أو منافسا، ولعن الله من حسده جمالها:
فلم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها
ثم تورم علي أنف غرته، فرماني بضروب محنته، وفي كل ذا أتجرعه على مضضه، وأتغافل لغرضه، وأطويه على بلله، وما أنتصر بشيء سوى عمله، إلى أن رأى اليوم [سوء رأيه] ، ان يزيد في تعسفه وبغيه، فاستقبلت من الأمر غريبا ما كنت أحسبه، ولا بان إلي سببه؛ ولما جاءه رسولي مستفهما، عبس وبسر، وتاه واستكبر، فأمسكت محافظة للجانب، وعملا على الواجب، لا أن هيبة أبي أحمد قبضتني، ولا أن مبرته عندي اعترضتني. وأقسم بالله حلفه بر: لو الأيام قذفت بكم إلي وأنا بمكاني، لأوردتكم العذب من مناهلي، ولجعلت جميعكم على عاتقي وكاهلي، ولكن الله يعمر بكم أوطانكم، ويحمي من النوب
مكانكم، ويحوط هذه السيادة الطالعة فيكم، النابتة بمعاليكم، فلا يسرك مفظعه، وليسؤك مصرعه، فما مثله يمطل، ولا يلبث حينا ولا يمهل.
قال أبو الحسن: ومد لأبي عبد الرحمن بن طاهر هذا في البقاء، حتى تجاوز [مصارع] الجماعة الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يدي الطاغية الكنبيطور - قصمه الله - وحصل بذلك الثغر، في قبضة الأسر، سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، ومنها كتب رقعة إلى بعض إخوانه يقول فيها: كتبت منتصف صفر، وقد حصلنا في قبضة الأسر، بخطوب لم تجر في سالف الدهر، فلو رأيت قطر بلنسية - نظر الله [22ب] إليه، وعاد بنوره عليه - وما صنع الزمان به وبأهليه، لكنت تندبه وتبكيه، فلقد عبث البلى برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، فلا تسأل عما في نفسي، وعن نكدي ويأسي، وضممت الآن إلى الافتداء، بعد مكابدة أهوال ذهبت بالذماء، وما أرجو غير صنع الله الذي عود، وفضله الذي عهد؛ وساهمتك مساهمة الصفي، لما أعلم من وفائك وتهممك الحفي، مستمطرا من تلقائك دعوة إخلاص، عسى أن تكون سريعة
إلى فرج وخلاص، بإذن الله، فهو - عز وجهه - يقبل الدعاء من داعيه، وما زال مكانك منه ترى البركة فيه.
قال أبو الحسن: وإذ قد انتهى بنا القول إلى ذكر بلنسية فلا بد من الإعلان بمحنتها، والإتيان بنبذ من أخبار فتنتها، التي غرب شأوها في الإسلام، وتجاوز عفوها جهد الكروب العظام، وذكر الأسباب التي جرت جرائرها، وأدارت على المسلمين دوائرها، والإشارة باسم من سلك في طريقها ونهج، ودخل أبواب عقوقها وخرج.
ذكر الخبر عن تغلب العدو عليها وعودة المسلمين إليها
قال أبو الحسن: ونذكر إن شاء الله في القسم الرابع، نكتا وجوامع، تؤدي إلى كيفية تغلب أذفونش طاغية طاغوت الجلالقة - قصمها الله - على مدينة طليلة، واسطة السلك، وأشمخ ذرى الملك، بهذه الجزيرة، ونشرح الأسباب التي ملكته قيادها، ووطأته مهادها، حتى اقتعد صهوتها، وتبحبح ذروتها، وأن يحيى بن ذي النون، المتلقب من الألقاب السلطانية بالقادر بالله، كان الذي هيج أولا نارها، وأجج أوارها
وكان عندما خلى [بين] أذفونش وطليطلة - جدد الله رسمها، وأعاد إلى ديوان المسلمين اسمها - قد عاهده على أن يعيد له صعب بلنسية ذلولا، وأن يمتعه بنضرتها وتملك حضرتها ولو قليلا، علما منه أنه أسير لديه، وعيال عليه. فصار تهره المعاقل، وتبرأ منه المراحل [بعد المراحل] ، حتى استقر بقصبة قونكة، عند أشياعه بني الفرج - حسبما نشرحه في القسم الرابع إن شاء الله تعالى - وهم كانوا ولاة أمره، وواعية عرفه ونكره، بهم أولا صدع، وإليهم آخرا نزع، وطفق يداخل ابن عبد العزيز بمعاذير يلفقها، وأساطير ينفقها، وأعجاز من الباطل وصدور يجمعها ويفرقها، وابن عبد العزيز يومئذ يضحك قليلا [23أ] ويبكي كثيرا، ويظهر أمرا ويخفي أمورا، والفلك يدور، وأمر الله ينجد ويغور. وورد الخبر بموت ابن عبد العزيز أثناء ذلك، واختلاف ابنيه بعده هنالك، فانسل ابن ذي النون إلى بلنسية انسلال القطا إلى الماء، وطلع عليها طلوع الرقيب على خلوات الأحباء، وانتهجت السبيل بين ملوك أفقا وبين أمير المسلمين [وناصر الدين] رحمه الله - على ما قدمن ذكره - سنة تسع وسبعين، وصدم أذفونش الطاغية - قصمه الله - تلك الصدمة - المتقدمة الذكر - يوم الجمعة، فرجع - لعنه الله - وقد هيض جناحه، وركدت رياحه، وتنفس خناق يحيى بن ذي النون هذا، فتنسم روح
التذكرة
التذگرة ﷽ امرئ القيس رضيت من الغنيمة بالإياب زهير ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أن يرقى السماء بسلم ومن يك ذا فضل، فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم ومن يغترب يحسب عدوا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم، ومن لا يظلم الناس يظلم ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم ومن يجعل المعروف من دون عرضه. يفره، ومن لا يتق الشتم يشتم لسان الفتى نصف ونصف فئاده. فلم يبق الا صورة اللحم والدم سئمت تكاليف الحياة، ومن يعش، ... ثمانين عاما لا أبالك، يسأم ومهما تكن عند امرئ من خليقةولو خالها تخفى على الناس تعلم وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عم فما كان من خير اتوه فانما. توارثه اباء ابائهم قبل وهل ينبت الخطي الا وشيجه. وتغرس الا في منابتها النخل النابغة فإنك كالليل الذى هو مدركى ... فإن مطيّة الجهل الشباب ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث، أىّ الرجال المهذّب؟ طرفة ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد وأعلم علما ليس بالشكّ أنه ... إذا ذلّ مولى المرء فهو ذليل أوس...
تعليقات