الوصــــــــــف
الوصف والتشبيه فمنه قول عبد الله بن المعتز:
كأن سماءنا لما تجلت ... خلال نجومهم عند الصباح
رياض بنفسج خضل، نداه ... تفتح بينه نور الأقاح
وقال آخر:
كأن سماءنا، والشهب فيها، ... وأصغرها لأكبرها مزاحم
بساط زمرد نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم
ونحوه قول الآخر:
كأن سماء الأرض نطع زمرد، ... وقد فرشت فيه الدنانير للصرف
وقال آخر:
ورأيت السماء كالبحر إلا ... أن مرسوبه من الدر طافى.
فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك خافي.
وقال التنوخي يصف ليلة:
كأنما نجومها، ... نصب عيون الرمق
دراهم قد نثرت ... على بساط أزرق
وقال أبو طالب الرقي:
وكأن أجرام السماء، لوامعا، ... درر نثرن على بساط أزرق.
وقال ظافر الحداد:
كأن نجوم الليل، لما تبلجت، ... توقد جمر في خلال رماد.
حكى، فوق ممتد المجرة شكلها، ... فواقع تطفو فوق لجة وادي.
وقال آخر:
كأن النجوم، نجوم السما، ... وقد لحن للعين من فرط بعد،
مسامير من فضة سمرت ... على وجه لوح من اللازورد.
وقال محمد بن عاصم:
ترى صفحة الخضراء، والنجم فوقها، ... ككف سدوسى بدا فيه درهم.
ترى، وعلى الآفاق أثواب ظلمة، ... وأزرارها منها شمال ومرزم.
وفي الفلك قال أبو العلاء المعري:
يا ليت شعري! وهل ليت بنافعه؟ ... ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟
كم خاض في إثرك الأقوام واختلفوا ... قدما! فما أوضحوا حقا ولا تركوا.
وشمس تغيب ويقفوا إثرها قمر، ... ونور صبح يوافي بعده حلك.
طحنت طحن الرحى من قبلنا أمما ... شتى، ولم يدر خلق أية سلكوا.
وقال، إنك طبع خامس، نفر. ... عمري! لقد زعموا بطلا وقد أفكوا!
راموا سرائر للرحمن حجبها. ... ما نالهن نبي، لا ولا ملك.
وقال الرئيس أبو علي بن سينا:
بربك! أيها الفلك المدار، ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك، قل لنا، في أي شيء؟ ... ففي أفهامنا منك ابتهار!
وعندك ترفع الأرواح؟ أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟
وفيك الشمس رافعة شعاعا، ... بأجنحة قوادها قصار؟
قطوف، ذي النجوم اللآلى؟ ... هلال أم يد فيها سوار؟
وشهب، ذي المجرة أم ذبال ... عليها المرخ يقدح والعفار؟
وترصيع، نجومك أم حباب ... تؤلف بينها اللجج الغزار؟
تمد رقومها ليلا وتطوى ... نهارا، مثل ما طوى الإزار!
فكم بصقالها صدى البرايا! ... وما يصدا لها أبدا غرار.
وتبدو ثم تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار.
فبينا الشرق يقدمها صعودا ... تلقاها من الغرب انحدار.
هي العشواء، ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار.
وقال أبو عبادة البحتري:
أناة! أيها الفلك المدار! ... انهب ما تصرف أم خيار؟
ستبلى مثل ما نبلى، وتفنى ... كما نفنى، ويؤخذ منك ثار.
وصف الشمس وتشبيهها من ذلك قول الوزير المهلبي:
الشمس في مشرقها قد بدت ... منيرة ليس لها حاجب
كأنها بودقة أحميت، ... يجول فيها ذهب ذائب.
وقال ظافر الحداد:
انظر لقرن الشمس بازغة ... في الشرق تبدو ثم ترتفع!
كسبيكة الزجاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتسع.
وقال أبو هلال العسكري:
والشمس واضحة الجبين كأنها ... وجه المليحة في الخمار الأزرق!
وكأنها عند انبساط شعاعها ... تبر يذوب على فروع المشرق!
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبي:
أو ما ترى شمس الأصيل عليلة ... تزداد من بين المغارب مغربا؟
مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدت على الدنيا ملاء مذهبا!
ومما وصفت به - وقد قابلت القمر - قول الشاعر:
أما ترى الشمس، وهي طالعة، ... تمنع عنا إدامة النظر؟
حمراء صفراء في تلونها ... كأنها تشتكي من السهر.
مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر.
وقال مؤيد الدين الطغرائي، عفا الله عنه ورحمه:
وكأنما الشمس المنيرة إذ بدت، ... والبدر يجنح للمغيب وما غرب،
متحاربان: لذا مجن صاغه ... من فضة، ولذا مجن من ذهب.
ومن أحسن ما وصفت به في الطلوع والزوال والغروب قول أعرابي.
مخبأة: أما إذا الليل جنها ... فتخفى وأما في النهار فتظهر.
إذا انشق عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وإنجاب الحجاب المستر
وألبس عرض الأفق لونا كأنه ... على الأفق الغربي ثوب معصفر
عليها دروع الزعفران، يشوبه ... شعاع تلالا فهو أبيض أصفر:
ترى الظل يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت على الأرض ينشر.
فافنت قرونا، وهي في ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كل يوم وتنشر!
وقال آخر:
وبدا لنا ترس من الذهب، الذي ... لم ينتزع من معدن بتعمل.
مرآة نور لم تشن بصياغة ... كلا ولا جليت بكف الصيقل.
تسمو إلى كبد السماء كأنها ... تبغي هناك دفاع أمر معضل.
حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائل عن منزل.
ومما وصفت به، وقد قابلت الغيم، قول ابن المعتز :
تظل الشمس ترمقنا بطرف ... خفي لحظه من خلف ستر.
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنين يحاول نيل بكر.
وقال آخر :
وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنو البكر من خلف الستور.
وقال محمد بن رشيق:
فكأن الشمس بكر حجبت ... وكأن الغيم ستر قد ستر.
مما وصفت به على طريق الذم فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن عمير، وقد سئل عنها فقال: مظهرة للداء، مثقلة للهواء، مبلاة للثوب، جالبة للهب.
وقال آخر: الشمس تشحب اللون، وتغير العرق، وترخى البدن، وتثير المرة.
إذا احتجمت فيها، أمرضتك؛ وإن أطلت النوم فيها، أفلجتك؛ وإن قربت منها، صرت زنجيا، وإن بعدت عنها، صرت صقليا .
وقال ابن سينا الملك:
لا كانت الشمس! فكم أصدأت ... صفحة خد كالحسام الصقيل!
وكم وكم صدت بوادي الكرى ... طيف خيال جاءني عن خليل!
وأعدمتني من نجوم الدجى ... ومنه روضا بين ظل ظليل!
تكذب في الوعد؛ وبرهانه ... أن سراب القفر منها سليل.
وهي إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف، راح عنها كليل!
ياعلة المهموم، يا جلدة ال ... محموم، يا زفرة صب نحيل!
يا قرحة المشرق عند الضحى، ... وسلحة المغرب عند الأصيل!
أنت عجوز، لم تبرجت لي، ... وقد بدا منك لعاب يسيل؟
وقال التيفاشي، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
في خلقه الشمس وأخلاقها ... شتى عيوب ستة تذكر .
رمداء، عمشاء، إذا أصبحت، ... عمياء عند الليل، لا تبصر.
ويغتدى البدر لها كاسفا ... وجرمها من جرمه أكبر .
حرورها في القيظ لا تتقى ... ودفؤها في القر مستحقر.
وخلقها خلق المليك الذي ... ينكث في العهد ولا يصبر.
ليست بحسناء. وما حسن من ... يحسر عنه اللحظ يبصر؟
وقال أبو الطيب المتنبي:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم.
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو اختصمنا من الدنيا إلى حكم.
ما قيل في الكسوف
وقال محمد بن هانئ في الكسوف.
هي الحوادث لا تبقى ولا تذر! ... ما للبرية من محتومها وزر!
لو كان ينجي علو من بوائقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر
قيل في وصفه وتشبيهه من ذلك قول عبد الله بن المعتز في الهلال:
وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حموله من عنبر!
وقول عبد الجبار بن حمديس الصقلي:
ورب صبح رقبناه، وقد طلعت ... بقية البدر في أولى بشائره!
كأنما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح، ألقى نعل حافره!
وقال آخر:
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد!
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود!
وقال أبو الهلال العسكري:
في هلال كأنه حية الرم ... ل أصابت على اليفاع مقيلا.
بات في معصم الظلام سورا ... وعلى مفرق الدجى إكليلا.
وقال آخر:
والجو صاف والهلال مشنف ... بالزهرة الزهراء نحو المغرب.
كصحيفة زرقاء فيها نقطة ... من فضة من تحت نون مذهب.
وقال آخر:
قلت لما دنت لمغربها الشم ... ش ولاح الهلال للنظار:
أقرض الشرق صنوه الغرب دينا ... را فأعطاه الرهن نصف سوار
وقال أبو العلاء المعري:
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النضار الكاتب ابن هلال.
وقال آخر:
وكأن الهلال نون لجين ... غرفت في صحيفة زرقاء.
وقال أبو عاصم البصري من شعراء التيمة:
رأيت الهلال، وقد أحدقت ... نجوم الثريا لكي تسبقه.
فشبهته وهو في إثرها ... وبينهما الزهرة المشرقة،
بقوس لرام رمى طائرا ... فأتبع في إثره بندقه.
وقال آخر:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لباب زرقاء اللباس.
وقال الواوا الدمشقي رحمه الله:
وكأن الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل!
وقال لإبراهيم بن محمد المرادي، من شعراء الأنموذج، ملغزا فيه:
دع ذا! وقل للناس: ما طارق، ... يطرقكم جهرا ولا يتقي؟
ليس له روح على أنه ... يركب ظهر الأدهم الأبلق.
شيخ رأى آدم في عصره ... وهو إلى الآن نجد نقي.
ومد وسط السجن مع قومه ... لا ينبرى من نهجة الضيق.
هذا ويمشي الأرض في ليلة ... أعجب به من موثق مطلق.
فتارة ينزل تحت الثرى ... وتارة وسط السما يرتقى.
وتارة يوجد في مغرب ... وتارة يوجد في المشرق.
وتارة تحسبه سابحا ... يسرى بشاطئ البحر البحر كالزورق.
وتارة تحسبه وهو في ... أستاره والبعض منه بقي،
ذبابة من صارم مرهف ... بارزة من جفنه المطبق.
يدنو إلى عرس له حسنها ... يختطف الأبصار بالرونق.
حتى إذاجامعها يرتدي ... بحلة سوداء كالمحرق.
وهو على عادته دائما ... يجامع الأنثى ولا يتقي.
ثم يجوب القفر من أجلها ... مشتملا في مطرف أزرق.
حتى إذا قابلها ثانيا ... تشكه بالرمح في المفرق.
وبعد ذا تلبسه حلة ... يا حسنها في لونها المونق!
فجسمه من ذهب جامد ... وجلده صيغ من الزئبق.
وهو إذا أبصرته هكذا ... أملح من صاحبة القرطق.
وقال ابن المعتز:
نظرت في يوم لذة عجبا ... وافى به للسعود مقدار.
يقابل الشمس فيه بدر دجى ... يأخذ من نورها ويمتار.
كصير في يروح منتقدا ... في كفه درهم ودينار.
وقال عبد الله بن علي الكاتب:
كشف البدر وجهه لتمام، ... فوجوه النجوم مستترات.
وكأن البدر التمام عروس، ... وكأن النجوم مستنقبات.
مما قيل فيه على طريق الذم حكى أن أعرابيا رأى رجلا يرقب الهلال. فقال له: ما ترقب فيه، وفيه عيوب لو كانت في الحمار لرد بها؟ قال: وما هي؟ فقال: إنه يهدم العمر، ويقرب الأجل، ويحل الدين، ويقرض الكتان، ويشحب اللون، ويفسد اللحم، ويفضح الطارق، ويدل السارق.
ومن عيوبه أن الإنسان إذا نام في ضوئه حدث في بدنه نوع من الاسترخاء والكسل، ويهيج عليه الزكام والصداع؛ وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة في ضوئه، تغبرت طعومها وروائحها.
وقال ابن الرومي:
رب عرض منزه عن قبيح ... دنسته معرضات الهجاء.
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر، رماه بالخطة الشنعاء.
قال: يا بدر أنت تغدر بالسا ... رى وتزرى بزروة الحسناء.
كلف في شحوب وجهك يحكى ... نكتا فوق وجنة برضاء.
يعتريك المحاق ثم يخلي ... ك شبيه القلامة الحجناء.
ويليك النقصان في آخر الشه ... ر فيمحوك من أديم السماء.
فإذا البدر نيل بالهجو، هل يأ ... من ذو الفضل ألسن الشعراء؟
لا لأجل المديح، بل خيفة الهج ... و أخذنا جوائز الخلفاء!
هذا ما أمكن إيراده في القمر، فلنذكر خبر عباد القم
رقما قيل في وصف الكواكب وتشبيهها من ذلك ما قاله ابن حجاج في المجرة:
يا صاحبي استيقظا من رقدة ... تزرى على عقل اللبيب الأكيس!
هذى المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس!
وقال آخر:
وكان المجر جدول ماء ... نور الأقحوان في جانبيه.
وقال المهذب بن الزبير فيها:
وترى المجرة والنجوم كأنها ... تسقى الرياض بجدول ملآن.
لو لم يكن نهرا، لما عامت به ... أبدا نجوم الحوت والسرطان.
وقال أبو هلال العسكري:
تبدو المجرة منجرا ذوائبها ... كالماء ينساح أو كالأيم ينساب
وقال هشام بن إلياس في الجوزاء:
فكأنما جوزاؤه في غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق.
وكأنما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول: إلى ثلاث نلتقي!
وقال آخر:
وكأن الجوزاء لما استقلت ... وتدلت، سرادق ممدود.
وقال العلوي فيها أيضا:
ها إنها الجوزاء في أفقها ... واهية ناعسة تسحب.
نطاقها واه لدى أفقها ... ينسل منها كوكب كوكب.
وقال ابن وكيع فيها:
قم فاسقني صافية ... تهتك جنح الغسق!
أما ترى الصبح بدا ... في ثوب ليل خلق؟
أما ترى جوزاءه ... كأنها في الأفق،
منطقة من ذهب ... فوق قباء أزرق؟
وقال كعب الغنوي:
وقد مالت الجوزاء حتى كأنها ... فساطيط ركب بالفلاة نزول.
وقال امرؤ القيس في الثريا:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل.
وقال ابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمان وهي من سلكه، فتبددا.
وقال المبرد:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... يراها حديد العين ستة أنجم.
على كبد الجرباء وهي كأنها ... جبيرة در ركبت فوق معصم.
وقال عبد الله بن المعتز:
فناولنيها، والثريا كأنها ... جنى نرجس حيا الندامى بها الساقي.
وقال أيضا
كأن الثريا في أواخر ليلها ... تفتح نور أو لجام مفضض.
وقال السلامي، شاعر اليتيمة فيها:
فسمونا، والفجر يضحك في الشر ... ق إلينا مبشرا بالصباح.
والثريا كراية أو لجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح،
وكأن النجوم في يد ساق ... يتهادى تهادى الأقداح.
وقال ابن المعتز:
ولاحت لساريها الثريا كأنها ... على الأفق الغربي قرط مسلسل.
وقال أبونضلة:
وتأملت الثريا ... في طلوع ومغيب.
فتخيرت لها التش ... بيه في المعنى المصيب.
وهي كأس في شروق ... وهي قرط في غروب.
وقال آخر:
كأن الثريا هودج فوق ناقة ... يسير بها حاد مع الليل مزعج،
وقد لمعت بين النجوم كأنها ... قوارير فيها زئبق يترجرج.
وقال ابن سكرة الهاشمي:
ترى الثريا، والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر.
كف عروس لاحت خواتمها ... أو عقد در في البحر ينتثر.
وقال محمد بن حسن الحاتمي:
وخلت الثريا كف عذراء طفلة ... مختمة بالدر منها الأنامل.
تخيلتها في الجو طرة جعبة ... ملوكية لم تعتلقها جمائل.
كأن نبالا ستة من لآلئ ... يوافي بها في قبة الأفق نابل.
وقال أحمد بن إبراهيم الضبي، شاعر اليتيمة:
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس:
مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس
وقال أبو العلاء المعري في سهيل:
وسهيل كوجنة الحب في اللو ... ن وقلب المحب في الخفقان.
مستبدا كأنه الفارس المع ... لم يبدو معارض الفرسان.
وقال عبد الله بن المعتز:
وقد لاح للساري سهيل كأنه ... على كل نجم في السماء رقيب!
وقال الشريف بن طباطبا:
وسهيل كأنه قلب صب ... فاجأته بالخوف عين الرقيب.
وقال أبو عبادة البحتري:
كأن سهيلا شخص ظمآن جانح ... من الليل في نهر من الماء يكرع.
وقال ابن طباطبا:
كأن سهيلا، والنجوم أمامه ... يعارضها، راع أمام قطيع.
وقال الشريف الرضي في الفرقدين:
وهبت لضوء الفرقدين نواظري ... إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع.
كأنهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل فإني سامع!
وقال آخر:
قلت للفرقدين والليل مرخ ... ستر ظلمائه على الآفاق:
ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق!
وقال القاضي التنوخى:
وأشقر الجو قد لاجت كواكبه ... فيه كدر على الياقوت منثور.
وقال القاضي الفاضل، عبد الرحيم من رسالة: سرنا، وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرة نهر؛ والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالزنج شعله من الرمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرس لها دون الصباح؛ وسهيل كالظمآن تدلى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذل فتغرب، فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدي الصباح؛ أو ناظر يغضه الغيظ ويفتحه، أو معنى يغمضه الحسن ثم يشرحه؛ أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواكب؛ أو فارس يحمي الأعقاب، أو داع به إليها وقد شردت عن الأصحاب.
والجوزاء كالسرادق المضروب، أو الهودج المنصوب؛ أو الشجرة المنورة، أو الحبر المصورة. والثريا قد هم عنقودها أن يتدلى، وجيش الليل قد هم أن يتولى.
وصف السحاب والمطر قال أبو تمام الطائي:
سحابة صادقة الأنواء ... تجر أهدابا على البطحاء.
تجمع بين الضحك والبكاء: ... بدت بنار وثنت بماء.
وقال أبو عبادة البحتري عفا الله تعالى عنه:
ذات ارتجاس بحنين الرعد ... مجرورة الذيل صدوق الوعد،
مسفوحة الدمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد،
ورنة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند.
جاءت بها ريح الصبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد.
وراحت الأرض بعيش رغد ... من وشي أنوار الثرى في برد.
كأنما غدرانها في الوهد ... يلعبن ترحابا بها بالرند.
وقال أبو الحسن علي بن القاسم القاشاني من شعراء اليتيمة عفا عنه:
إذا الغيوم أرجحن باسقها ... وحف أرجاءها بوارقها،
وعبيت للثرى كتائبها ... وانتصبت وسطها عقائقها،
وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألح خافقها،
وابتسمت فرحة لوامعها ... واختلفت عبرة حمالقها،
وقيل: طوبى لبلدة نتجت ... بجو أكنافها بوارقها.
أية نعماء لا تحل بها؟ ... وأي بأساء لا تفارقها؟
وقال القاضي التنوخي:
سحاب أتى كالأمن بعد تخوف ... له في الثرى فعل الشفاء بمندف.
أكب على الآفاق إكباب مطرق ... يفكر أو كالنادم المتلهف.
ومد جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف.
غدا البر بحرا زخرا وانثنى الضحى ... بظلمته في ثوب ليل مسجف.
فعبس عن برق به متبسم ... عبوس بخيل فيه تبسم معتف.
تحاول منه الشمس في الجو مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف.
وقال ابن الرومي:
سحائب قيست بالبلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها.
حدتها النعامى مقبلات فأقبلت ... تهادى رويدا سيلها كركودها.
وقال أبو هلال العسكري:
وبرق سرى، والليل يمحى سواده ... فقلت: سوار في معاصم أسمرا!
وقد سد عرض الأفق غيم تخاله ... يزر على الدنيا قميصا معنبرا.
تهادى على أيدي الحبائب والصبا ... كخرق من الفتيان نازع مسكرا.
تخال به مسكا وبالقطر لؤلؤا ... وبالروض ياقوتا وبالوحل عنبرا.
سواد غمام يبعث الماء أبيضا ... وغرة أرض تنبت الزهر أصفرا.
أتتك به أنفاس ريح مريضة ... كمفظعة رعناء تستاق عسكرا.
فألقى على الغدران درعا مسردا ... وأهدى إلى القيعان بردا محبرا.
تخال الحيا في الجو درا منظما ... وفي وجنات الروض درا منثرا.
وأقبل نشر الأرض في نفس الصبا ... فبات به ثوب الهواء معطرا.
إذا ما دعت فيه الرعود فأسمعت ... أجاب حداة واستهل فأغزرا.
ويبكي إذا ما أضحك البرق سنه ... فيجعل نار البرق ماء مفجرا.
كأن به رؤد الشباب خريدة ... قد اتخذت ثنى السحابة معجرا.
فثغر يرينا من بعيد تبلجا ... ودمع يرينا من بعيد تحدرا.
وقال مؤيد الدين الطغرائي:
سارية ذات عبوس برقها ... يضحك والأجفان منها تهمل.
كحلة دكناء في حاشية ... فيها طراز مذهب مسلسل.
إذا دنت عشارها، صاح بها ... قاصف رعد وحدتها الشمأل.
وقال عبد الله بن المعتز:
ومزنة جاد من أجفانها المطر: ... فالروض منتظم والقطر منتثر.
ترى مواقعة في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستر.
وقال أيضا:
ما ترى نعمة السماء على الأر ... ض وشكر الرياض للأمطار؟
وكان الربيع يجلو عروساوكأنا من قطره في نثار؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!
وقال ابن عوف الكاتب في إطباق الغيم وقربه:
في مزنة أطبقت فكادت ... تصافح الترب بالغمام.
وقال آخر:
تبسمت الريح، ريح الجنو ... ب فيها هوى غالبا وادكار.
وساقت سحابا كمثل الجبال ... إذا البرق أومض فيه، أنارا.
إذا الرعد جلجل في جانبي ... ه روى النبات وأروى الصحاري.
تطالعنا الشمس من دونه ... طلاع فتاة تخاف اشتهار ،
تخاف الرقيب على نفسها ... وتحذر من زوجها أن يغارا.
فتستر غرتها بالخما ... رطورا، وطورا تزيل الخمارا.
فلما رآه هبوب الجنو ... ب وانهمر الماء فيه انهمارا،
تبسمت الارض لما بكت ... عليها السماء دموعا غزار؟؟؟؟؟؟؟؟؟!
وقال الأسعد بن بليطة من شعراء الذخيرة:
لو كنت شاهدنا عشية أمسنا، ... والمزن تبكينا بعيني مذنب،
والشمس قد مدت أديم شعاعها ... في الأرض تجنح غير أن لم تذهب،
خلت الرذاذ برادة من فضة ... قد غربلت من فوق نطع مذهب!
وقال أبو عبد الله محمد بن الخياط من شعرائها:
راحت تذكر بالنسيم الراحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا.
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها، كي تهتدي، مصباحا.
وكان صوت الرعد خلف سحابها ... حاد إذا ونت السحائب، صاحا.
جادت على التلعات فاكتست الربا ... مللا أقام لها الربيع وشاحا.
وقال ابن برد الأصغر الأندلسي من شعرائها:
ومازلت أحسب فيه السحاب، ... ونار بوارقها تلتهب:
بخاتي توضع في سيرها ... وقد قرعت بسياط الذه
ثم أرسل الله الرياح من كنائنها، وأخرجها من خزائنها؛ قجرت ذيولها، وأجرت خيولها؛ خافقة بنودها، متلاحقة جنودها؛ فاثارت الغمام، وقادته بغير زمام؛ وأنشأت بحرية من السحاب، ذات أتراب وأصحاب؛ كثيرا عددها، غزيرا مددها، فبشرت بالقطر كل شائم، وانذرت بالورد كل حائم، والريح تنثها، والبرق يحثها، كأنه قضيب من ذهب، أو لسان من لهب؛ وللسحاب من ضوء البرق هاد، ومن صوت الرعد حاد؛ والريح توسع بلحمتها سداها، وتسرع في حياكتها يداها. فلما التحم فتقها، والتأم رتقها؛ وامتدت أشطانها، واتسعت أعطانها؛ وانفسحت أجنابها، وانسدلت أطنابها؛ وتهدل خملها، وتمخض حملها؛ ومدت على آفاق السماء نطاقها، وزرت على أعناق الجبال أطواقها، كأنها بناء على الجو مقبوب، أو طبق على الأرض مكبوب؛ تمشي من الثقل هونا، وتستدعى من الريح عونا؛ ومخايلها تقوى، وعارضها أحوى. فلما أذن الله لها بالانحدار، وأنزل منه الودق بمقدار، أرسلت الريح خيوط القطر من رود السحائب، وأسبلتها إسبال الذوائب، فدرت من خلف مصرور، ونثرت طلها نثر الدرور. ثم انخرق جيبها وانبثق سيبها؛ وصار الخيط حبلا،والطل وبلا. فالسحاب يتعلق، والبرق يتألق، والرعد يرتجس، والقطر ينبجس، والنقط تترامى طباقا، وتتبارى اتساقا، فيردف السابق المصلي، ويتصل التابع بالمولى، كما يقع من المنخل البر، وينتثر من النظام الدر، فجيوب السماء تسقطه، وأكف الغدران تلقطه؛ والأرض قد فتحت أفواها، وجرعت أمواها، حتى أخذت ريها من المطر، وبلغت منه غاية الوطر، خفى من الرعد تسبيحه، وطفئت من البرق مصابيحه، وحسرت الماء نقابها، وولت المطر أعقابها؛ وحكت في ردها طلق السابق، وهرب الآبق.
ومن رسالة لمحمد بن شرف القيرواني: برئ عليل البرى، وأثرى فقير الثرى، وتاريخ ذلك انصرام ناجر، وقد بلغت القلوب الحناجر، محمارة أحمرت لها خضرة السماء، واغبرت مرآة الماء، حتى انهل طالع وسمي، وتلاه تابع ولى، دنا فأسف، ووكف فما كف. فما فتئ مسكوبا قطره، محجوبا شمسه وبدره، وجليب عروس الشمس، معتذرة عن مغيبها بالأمس، فعندها مزق عن الدقعاء صحيح إهابها، واختزن در البر في أصداف ترابها. فما مرت أيام إلا والقيعان مسندسه، والآكام مطوسه.
ومن رسالة لأبي القاسم، محمد بن عبد الله بن أبي الجد في وصف مطر بعد قحط: قال: لله تعالى في عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكام، لا تنالها الأوهام. تختلف والعدل متفق، وتفترق والفضل مجتمع متسق. ففي منحها نفائس المأمول، وفي محنها مداوس العقول. وفي أثناء فوائدها حدائق الإنعام رائقه، وبين أرجاء سرائرها بوارق الإعذار والإنذار خافقه. وربما تفتحت كمائم النوائب، عن زهرات المواهب. وانسكبت غمائم الرزايا، بنفحات العطايا. وصدع ليل اليأس صبح الرجاء، وخلع عامل البأس وإلى الرخاء. ذلك تقدير اللطيف الخبير، وتدبير العزيز القدير!
(1/17)
ولما ساءت بتثبط الغيث الظنون، وانقبض من تبسط الشك اليقين، واسترابت حياض الوهاد، بعهود العهاد، وتأهبت رياض النجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد النقع المثار، وتعطلت أجياد الأنوار، من حلى الديمة المدرار، أرسل الله بين يدي رحمته ريحا بليلة الجناح، مخيلة النجاح، سريعة الإلقاح، فنظمت عقود السحاب، نظم السخاب، وأحكمت برود الغمام، رائقة الأعلام. وحين ضربت تلك المخيلة في الأفق قبابها، ومدت على الأرض أطنابها، لم تلبث أن انهتك رواقها، وانبتك وشيكا نطاقها، وانبرت مدامعها تبكي بأجفان المشتاق، غداة الفراق، وتحكي بنان الكرام، عند أريحية المدام، فاستغربت الرياض ضحكا ببكائها، واهتز رفات النبات طربا لتغريد مكائها، واكتسب ظهور الأرض من بيض إنائها، خضر ملائها. فكأن صنعاء قد نشرت على بسيطها بساطا مفوفا، وأهدت إليها من زخارف بزها ومطارف وشيها ألطافا وتحفا. وخيل للعيون أن زواهر النجوم، قد طلعت من مواقع التخوم، ومباسم الحسان، قد وصلت بافتزاز الغيظان. فيا برد موقعها على القلوب والأكباد! ويا خلوص ريها إلى غلل النفوس الصواد! كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشفت شنب الثنايا العذاب، أو تحملت ماء الوصال، إلى نار البلبال. أو سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. لقد تبين للصنع الجليل، من خلال ديمها تنفس ونصول، وتمكن للشكر الجميل، ومن ظلال نعمها معرس ومقيل. فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر؛ وتوقد قبس، وتردد نفس؛ وهو الكفيل تعالى بإتمام النعمى، وصلة أسباب الحياة والحيا بعزته! وقال الوزير أبو عمرو الباجي في مثل ذلك: إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل؛ ونعم يبسطها إذا شاء إنعاما وترفيها، ويقبضها متى أراد إلهاما وتنبيها؛ ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، ولآخرين فسادا وطيرا. " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد " .
وإنه كان من امتساك السقيا، وتوقف الحيا؛ ما ريع به الأمن واستطير له الساكن؛ ورجفت الأكباد فزعا، وذهلت الألباب جزعا؛ وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء ردها؛ وكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة؛ وكادت برود الرياض تطوى، ومدود نعم الله تزوى، ثم نشر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته. فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح؛ بماء يتدفق، ورواء غدق، من سماء طبق. استهل جفنها فدمع، وسمح دمعها فهمع، وصاب وبلها فنقع. فاستوفت الأرض ريا، واستكملت من نباتها أثاثا وريا؛ فزينت الأرض مشهورة، وحلة الزهر منشورة، ومنه الرب موفوره، والقلوب ناعمة بعد بؤسها، والوجوه ضاحكة أثر عبوسها؛ وأثار الجزع ممحوه، وسور الشكر متلوه؛ ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق ونستهديه في قضاء الحقوق إلى سواء الطريق؛ ونستعيذ به من المنة أن تعود فتنه، والمنحة أن تصير محنه! والحمد لله رب العالمين! مما وصف به الثلج والبرد قال أبو الفتح كشاجم:
الثلج يسقط أم لجين يسبك، ... أم ذا حصى الكافور ظل يفرك؟
راحت به الأرض الفضاء كأنها ... في كل ناحية بثغر تضحك!
شابت ذوائبها فبين ضحكها ... طربا وعهدي بالمشيب ينسك!
وتردت الأشجار منه ملاءة ... عما قليل بالرياح تهتك!
وقال أيضا
ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كل جانب غره!
باتت وقيعانها زبر جدة. ... فأصبحت قد تحولت دره!
كأنها والثلوج تضحكها ... تعار ممن أحبه ثغره!
شابت فسرت بذاك وابتهجت ... وكان عهدي بالشيب يستكره!
وقال الصاحب بن عباد:
أقبل الثلج في غلائل نور ... تتهادى بلؤلؤ منثور!
فكأن السماء صاهرت الأر ... ض فصار النثار من كافور!
وقال النميري:
أهدى لنا بردا يلوح كأنه ... في الجو حب لآلئ لم يثقب،
أو ثغر حواء اللثات تبسمت ... عن واضح مثل الأقاحي أشنب!
وصف الرعد والبرق قال أبو هلال العسكري، عفا الله عنه:
والرعد في أرجائه مترنم ... والبرق في حافاته متلهب.
كالبلق ترمح، والصوارم تنتضى ... والجو يبتسم، والأنامل تحسب
وقال آخر:
إذا ونت السحب الثقال وحثها ... من الرعد حاد ليس يبصر أكمه،
أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهن مقهقه،
إذا صاح في آثارهن حسبته ... يجاور به من خلفه صاحب له
وقال ابن الدقاق الأندلسي:
أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهب أكناف الدجى ويقضض.
كأن سليمى من أعاليه أشرفت ... تمد لنا كفا خضيبا وتقبض.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
ويوم جرى برقه أشقرا ... يطارد من مزنه أشهبا:
ترى الأرض فيه وقد فضضت ... ووجه السماء وقد ذهبا!
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبي، شاعر الذخيرة:
ولما تجلى الليل والبرق لامع ... كما سل زنجي حساما من التبر.
وبت سمير النجم وهو كأنه ... على معصم الدنيا جبائر من در.
وقال محمد بن عاصم، شاعر الخريدة عفا الله عنه:د
أضاء بوادي الأثل والليل مظلم ... بريق كحد السيف ضرجه الدم.
إذا البرق أجرى طرفه فصهيله ... إذا ما تفرى رعده المترنم.
فشبهته إذ لاح في غسق الدجى ... بأسنان زنجي بدت تتبسم.
وقال أيضا:
والبرق يضحك كالحبيب وعنده ... رعد يخشن كالرقيب مقاله!
وقال آخر:
أرقت لبرق غدا موهنا ... خفي كغمزك بالحاجب
كأن تألقه في السماء ... يدا كاتب أو يد حاسب.
وقال عبد الله بن المعتز، يشير إلى سحابة:
رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يحب.
ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها إلى البرق كأمثال الشهب.
تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب.
وتارة تبصره كأنه ... أبلق مال جله حين وثب.
حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلالا من الذهب.
قوله شجاعا مأخوذ من قول دعبل
أرقت لبرق آخر الليل منصب ... خفى كبطن الحية المتقلب.
وقال أيضا:
ما زلت أكلأ برقا في جوانبه ... كطرفة العين تخبر ثم تختطف.
برق تجاسر من حفان لامعه ... يقض اللبانة من قلبي وينصرف
وصف وتشبيه القوس قال أبو الفرج الوأواء، عفا الله تعالى عنه و :
سقيا ليوم بدا قوس الغمام به ... والشمس طالعة والبرق خلاس!
كأنه قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس
وقال سعيد بن حميد القيرواني، رحمة الله عليه:
أما ترى القوس في الغمام وقد ... نمق فيه الهواء نورا؟
حكى الطواويس وهي جاعلة ... أذنابها للمياه أستارا.
أخضر في أحمر على يقق ... على وشاح السحاب قد دارا.
كأنما المزن وهي راهبة ... شدت على الأفق منه زنارا.
وقال ظاهر الدين الحريري. شاعر الخريدة عفا الله عنه:
ألست ترى الجو مستعبرا ... يضاحكه برقه الخلب؟
وقد بات من قزح قوسه ... بعيدا وتحسبه يقرب؟
كطاقي عقيق وفيروزج ... وبينهما آخر مذهب.
وقال سيف الدولة بن حمدان، من أبيات:
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجود كنا والحواشي على الأرض.
يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر وسط مبيض.
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة،والبعض أقصر من بعض.
وقال عبد المحسن الصوري، عفا الله تعالى عنه:
تأمل الجو ترى واليا ... قد ولى العهد على السحب!
سار، وقوس الله تاج له، ... ركضا من الشرق إلى الضرب!
اوصف الهواء وتشبيهه
قال عبد الله بن المعتز، رحمة الله عليه:
ونسيم يبشر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول.
ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحب رد الرسول.
وقال ابن الرومي:
حيتك عنا الشمال طاف طائفها ... تحية، فجرت روحا وريحانا.
هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرابها، وتنادى الطير إعلانا.
ورق تغنى على خضر مهدلة ... تسمو بها وتشم الأرض أحيانا.
(1/22)
يخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطيفة نشوانا.
وقال أيضا:
كأن نسيمها أرج الخزامى ... ولاها بعد وسمي ولي.
هدية شمال هبت بليل ... لأفنان الغصون بها نجي.
إذا أنفاسها نسمت سحيرا ... تنفس كالشجي لها الخلي
وقال آخر:
وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصبح بلتها السماء.
تنفس نشرها سحرا فجاءت ... به سحرية المسرى رخاء.
وقال إسحاق الموصلي:
يا حبذا ريح الجنوب إذا جرت ... في الصبح وهي ضعيفة الأنفاس!
قد حملت برد الندى وتحملت ... عبقا من الجثجاث والبسباس!
وقال آخر:
إذا خلا الجو من هواء، ... فعيشهم غمة وبوس.
فهو حياة لكل حي، ... كأن أنفاسه نفوس.
وقال ابن سعيد الأندلسي:
الريح أقود ما يكون لأنها ... تبدي خفايا الردف والأعكان.
وتميل الأغصان بعد علوها ... حتى تقبل أوجه الغدران.
وكذلك العشاق يتخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان.
وقال آخر:
أيا جبلى نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها.
أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها.
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على كبد حراء، قلت همومها.
وقال ابن هتيمل اليمني:
هبت لنا سحرا، والصبح ملتثم، ... والليل قد غاب فيه الشيب والهرم.
سقيمة من نبات الشرق أضعفها ... عن قوة السير، لما هبت، السقم.
فبلغت بلسان الحال قائلة ... ما لم يبلغه يوما إلى فم،
سرا لغاينه تسرى إلى به ... من النسيم رسول ليس يتهم.
أصافح الريح إجلالا لما حملت ... إلى من ريح برديها وأستلم.
وصف النار وتشبيهها قال عبد الله بن المعتز، غفر الله له:
كأن الشرار على نارها ... وقد راق منظرها كل عين.
سحالة تبر إذا ما علا ... فإما هوى ففتات اللجين.
أخذه العسكري فقال:
أوقدت بعد الهدو نارا ... لها على الطارقين عين.
شرارها إن علا نضار ... لكنه إن هوى لجين.
وقال السري الرفاء:
والتهبت نارنا، فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب.
إذا رمت بالشرار فاطردت ... على ذراها مطارد اللهب،
رأيت ياقوتة مشبكة ... تطير عنها قراضة الذهب.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
حمراء نازعت الرياح رداءها ... وهنا وزاحمت السماء بمنكب.
ضربت سماء من دخان فوقها، ... لم تدر منها شعلة من كوكب.
وتنفخت عن كل نفحة جمرة ... باتت لها ريح الشمال بمرقب.
قد ألهبت فتذهبت فكأنها ... شقراء تمرح في عجاج أكهب.
وقال أبو الفتح كشاجم:
كأنما النار والرماد وقد ... كاد يوارى من نورها النورا:
ورد جني القطاف أحمر قد ... ذرت عليه الأكف كافورا.
وقال تاج الملوك بن أيوب:
أما ترى النار وهي تضرم في ... أحشاء كانونها وتلتهب؟
كأنما الفحم فوقها قضب ... من عنبر وهي تحته ذهب.
وقال أبو مروان بن أبي الخصال:
لابنة الزند في الكوانين جمر ... كالدراري في دجى الظلماء.
خبروني عنها و لا تكتموني، ... ألديها صناعة الكيمياء؟
سبكت فحمها صفائح تبر ... رصعتها بالفضة البيضاء.
كلما رفرف النسيم عليها ... رقصت في غلالة حمراء.
هذا البيت مأخوذ من قول الخفاجي:
وكأنها والريح عابثة بها ... تزهى فترقص في قميص أحمر.
وقال أبو هلال العسمري:
نار تلعب بالسقوف كأنها ... حلل مشققة على حبشان.
ردت عليها الريح فضل دخانها ... فأنت به سبجا على عقيان.
فالجو يضحك في ابيضاض شرائر ... منها ويعبس في اسوداد دخان.
وقال ابن أبي الخصال:
وعوجوا على ياقوتة ذهبية ... يهيم بها المقرور بالسبرات.
إذا ما ارتمت من فحمها بشرارها ... رأيت نجوم الليل منكدرا
وقال سيف الدولة بن حمدان:
كأنما النار والرماد معا ... وضوءها في ظلامه يحجب:
وجنة عذراء مسها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب.
وقال آخر:
فحم كيوم الفراق تشعله ... نار كنار الفراق في الكبد.
أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرمد.
وقال أبو طالب المأموني:
ما نرى النار كيف أسقمها الق ... ر فأضحت تخبو وطورا تسعر؟
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميص مذهب ومعنبر؟
وقال أبو فراس الحمداني:
لله برد ما أش ... د ومنظر ما كان أعجب!
جاء الغلام بناره ... هو جاء في فحم تلهب.
فكأنما جمع الحلي ... فمحرق منه ومذهب.
ثم انطفت فكأنما ... ما بيننا ند معشب.
الشمعة والشمعدان " والسراج والقنديل " أما الشمعة، فمن جيد ما قيل فيها قول الأرجاني:
نمت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها.
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلا برقية نار من تراقيها.
سقيمة لم يزل طول اللسان لها ... في الحي يجني عليها ضرب هاديها.
غريقة في دموع، وهي تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها.
تنفست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها.
يخشى عليها الردى مهما ألم بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيها.
بدت كالنجوم هوى في إثر عفرية ... في الأرض فاشتعلت منه نواصيها.
نجم رأى الأرض أولى أن يبوأها ... من السماء، فأمسى طوع أهليها.
كأنها غرة قد سال شادخها ... في وجه ذهماء يزهيها تجليها.
أو ضرة خلقت للشمس حاسدة، ... فكلما حجبت، قامت تحاكيها.
وحيدة كشباة الرمح هازمة ... عساكر الليل إن حلت بواديها.
ما طنبت قط في أرض مخيمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها.
لها غرائم تبدو من محاسنها، ... إذا تفكرت يوما في معانيها.
كصعدة في حشا الظلماء طاعنة ... تسقي أسفلها ريا أعاليها.
فالوجنة الورد إلا في تناولها ... والقامة الغصن إلا في تثنيها.
صفراء هندية في اللون إن نعتت ... والقد واللين إن أتممت تشبيها.
فالهند تقتل بالنيران أنفسها ... وعندها أن ذاك القتل يحييها.
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكف إن أهويت تجنيها.
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت، ... وما على غصنها شواك يوقيها.
ما إن تزال تبيت الليل ساهرة ... وما بها غلة في الصدر تطفيها.
صفر غلائلها، حمر عمائمها ... سود ذوائبها، بيض لياليها.
تحيي الليالي نورا، وهي تقتلها. ... بئس الجزاء لعمر الله تجزيها!
قدت على ثوب قد تبطنها ... ولم يقدر عليها الثوب كاسيها.
غراء فرعاء ما تنفك قالية ... تقص لمتها طورا وتفليها.
شباء شعثاء لا تكسي غدائرها ... لون الشبيبة إلا حين تبليها.
قناة ظلماء لا تنفك يأكلها ... سنانها طول طعن أو يشظيها.
مفتوحة العين تفنى ليلها سهرا؛ ... نعم، وإفناؤها إياه يفنيها.
وربما نال من أطرافها مرض ... لم يشف منه بغير القطع مشفيها.
وقال آخر:
بيضاء أضحكت الظلام فراعها ... فبكت واسبلت الدموع بوادرا.
جفت دموع جفونها فكأنما ... كسيت من الطلع النضيد ظفائرا.
وقال أبو القاسم المطرز من الأبيات:
وللشموع عيون كلما نظرت ... تظلمت من يديها أنجم الغسق.
من كل مرهفة الأعطاف كالغصن ... المياد لكنه عار من الور
إني لأعجب منها وهي وادعة ... تبلى وعيشتها من ضربة العنق!
وقال آخر:
جاءت بجسم كأنه ذهب ... تبكي وتشكي الهوى وتلتهب.
كأنها في أكف حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب.
وقال محمد بن أبي الثبات، شاعر اليتيمة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرت وباطنها مكتسي.
لها مقلة هي روح لها، ... وتاج على الرأس كالبرنس.
إذا غازلتها الصبا حركت ... لسانا من الذهب الأملس.
وتنتج من حيث ما ألقحت ... ضياء يجلي دجى الحندس.
فنحن من النور في أسعد ... وتلك من النار في أنحس!
وقال آخر:
ورشيقة بيضاء تطلع في الدجى ... صبحا وتشفى الناظرين بدائها.
شابت ذوائبها أوان شبابها ... واسود مفرقها أوان فنائها.
كالعين: في طبقاتها ودموعها ... وبياضها وسوادها وضيائها.
وقال الصاحب بن عباد:
وشمعة قدمت إلينا ... تجمع أوصاف كل صب:
صفرة لون وذوب جسم ... وفيض دمع، وحر قلب.
وقال السري الرفاء:
مفتولة مجدولة ... تحكي لنا قد الأسل.
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل.
ومما ورد في وصفها نثرا.
من رسالة لابن الأثير الجزري جاء منها: وكان بين يدي شمعة تعم مجلسي بالإيناس، وتغني بوجودها عن كثرة الجلاس، وكانت الريح تتلاعب بشعبها، وتدور على قطب لهبها؛ فطورا تقيمه فيصير أنمله، وطورا تميله فيصير سلسله؛ وتارة تجوفه فيصير مدهنه، وتارة تجعله ذا ورقات فيمثل سوسنه؛ وآونة تنشره فيبسط منديلا، وآونة تلقه على رأسها فيستدير إكليلا.
ومن رسالة أخرى له: وكانت الريح تتلاعب بلهبها لدى الخادم فتشكله أشكالا، فتارة تبرزه نجما، وتارة تبرزه هلالا، ولربما سطع طورا كالجلنارة في تضاعيف أوراقها، وطورا كالأصابع في انضمامها وافتراقها.
وقال سيف الدين المشد في الفانوس:
وكأنما الفانوس في غسق الدجى ... دنف براه سقمه وسهاده.
حنيت أضالعه ورق أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده.
ومما قيل في السراج من رسالة لأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال، جاء منها: عذرا إليك أيدك الله! فإني خططت والنوم مغازل، والقرنازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجاج؛ فطورا تبرزه سنانا، وتحركه لسانا؛ وآونه تطويه جنابه، وأخرى تنشره ذوائبه؛ وتارة تقيم إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب؛ وحينا تقوسه حاجب فتات، ذات غمزات؛ وتسلطه على سليطه، وتديله على خليطه؛ وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد؛ ومشتقه حروف برق، بكف ودق؛ ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله؛ فلاحظ منه للعين، ولا هداية في الطرس لليدين.
رسالة القنديل والشمعدان. من إنشاء الولى الفاضل البارع البليغ تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني، سمعتها من لفظه، وقرأتها عليه، وأجاز لي روايتها عنه، وهي الموسومة بزهر الجنان، في المفاخرة بين القنديل والشمعدان.
ابتدأها بأن قال: الحمد لله الذي أنار حالك الظلماء، بأنوار بدر السماء؛ وحلي جيدها، بعقود النجوم، وحرس مشيدها، بسهام الرجوم؛ وجعلها عبرة للاستبصار، ونزهة للأبصار؛ غشاؤها لا زورد مكلل بنضار، أو أقاحي خميلة تفتحت فيها أزرار الأزهار؛ تهدى السارى بسواريها، وتزرى بالدررر أنوار دراريها؛ كرع في نهر مجرتها النسران، ورتع في مراعي رياضها الفرقدان.
أحمده على نعمه التي لا يقوم بشكرها لسان، ولا يؤدي واجب حقها إنسان يجلب إلى الحامد أنواع الإحسان، ويسوق إلى الشاكر ركائب الخيرات الحسان.
وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الذي أنار الله بوجوده ظلمة الوجود، وأظهر بظهور أفعال الركوع والسجود؛ صلى الله عليه وسلم وعلى آله الوافين للعهود، وعلى أصحابه أهل الإفضال والجود، صلاة وسلام دائمين إلى اليوم الموعود!
وبعد فإن فنون الآداب كثيرة الشعوب، متباينة الأسلوب؛ طالما تلاعب الأديب بفنونها بين جد ومجون، وكيف لا والحديث ذو شجون. وكنت بحمد الله ممن هو قادر على إبراز ملح الأدب، وعلى إظهار لطائف لغة العرب؛ فتمثل في خاطري المفاخرة بين الشمعدان والقنديل، ولا بد من إبراز المفاخرة بينهما في أحسن تمثيل؛ لأنهما آلتا نور، ونديما سرور؛ طالما مزقا جلباب الدجى بأضوائهما، وحسما مادة الظلمة بأنوارهما؛ وطلعا في سماء المجالس بدورا، وأخجلا نور الرياض لما أصدر من جوهرهما نورا. سما كل واحد منهما إلى أنه الأصل،وأن بمدحه يحسن الفضل والوصل؛ وأنه الجوهرة اليتيمة، والبدرة التي ليست لها قيمة؛ سارت بمحاسنه ركائب الركبان، ونظمت في جيد مجده قلائد العقيان.
فأحببت أن أنظمهما في ميدان المناظرة ليبرز كل واحد منهما خصائصه الواضحة، ويظهر نقائص صاحبه الفاضحة؛ وليتسم غارب الاستحقاق بالفضيلة، ويؤكد في تقرير فضائله الراجحة دليله؛ مع أنه لا تقبل الدعاوى إلا بالبرهان، ولعمري لقد قيل قدما:
من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان.
فأتلع الشمعدان جيدة للمطاولة، وعرض سمهريه اللجيني للمناضلة،وقال: استنت الفصال حتى القرعى لست بنديم الملوك في المجالس، كلا ولا الروضة الغناء للمجالس! طالما أحدقت بي عساكر النظار، ووقفت في استحسان هياكلي رؤية الأبصار؛ وحملت على الرؤوس إذا علقت بآذانك، وجليت كجلاء المرهفات إذا اسود وجهك في دخانك.
فنضنض لسان القنديل ونضنضة الصل، وارتفع ارتفاع البازي المطل. وقال: إن كان فخرك بمجالسة السلاطين، فافتخاري بمجالسة أهل الدين!، طالما طلعت في أفق المحراب نجما ازداد علا، وازدانت الأماكن المقدسة بشموس أنواري حلا؛ جمع شكلي مجموع العناصر، فعلى مثلي تعقد الخناصر؛ يحسبني الرائي جوهرة العقد الثمين، إذا رأى اصفرار لونك كصفرة الحزين؛ ولقد علوتك في المجالس زمانا، ومن صبر على حر المشقة ارتفع مكانا.
فنظر إليه الشمعدان مغضبا، وهم بأن يكون عن جوابه منكبا. وقال: أين ثمنك من ثمني، ومسكنك من مسكني؟ صفائحي صفحات الإبريز، فلذا سموت عليك بالتبريز؛ تنزه العيون في حمائلي الذهبية، وتسر النفوس ببزوغ أنواري الشمسية؛ ولا يملكني إلا من أوطنته السعدة مهادها، وقربت له الرياسة جيادها؛ ولقد نفعت في الصحة والسقم، وازدادت قيمتي إذا نقصت في القيم؛ وإن انفصمت عراك فلا تشعب، ولا تعاد إلى سبك نار فتصب وتقلب؛ لست من فرسان مناظرتي، ولا من قرناء مفاخرتي.
فالتفت القنديل التفات الضرغام، وفوق إلى قرينه سهام الملام. وقال: أنت عندي كثعاله، ولا محاله؛ طالك العنقود، فأبرزت أنواع الحقود؛ وأين الثريا من يد المتناول؟ أم أين السها من كف المتطاول؟ تالله إنك في صرفك بصفرك مغلوط! لقد خصصت بالعلو وخصصت بالهبوط. ترى باطني من ظاهري مشرقا، وتخالني لخزائن الأنوار مطلقا؛ فحديث سيادتي مسلسل، وتاج فضائلي بجوهر العلو مكلل.
فلحظه الشمعدان بطرف طرفه، وأرسل في ميدان المناظرة عنان طرفه. وقال: إن افتخارك بالعلو غير مفيد، وميزة اختصاصك به ليس له أبهة مزيد؛ طالما على القتام وانحطت الفرسان، ومكث الجمر وسما الدخان؛ ولقد صيرتك كنظر المشنوق حاله، وكضوء السها ذباله؛ وأنت الخليق بما قيل: وقلب بلا لب، وأذن بلا سمع وسلاسلك تشعر بعقلك، وعلوك يبني على غلو إسقاط كمثلك؛ عادلت التبر كفة بكفه، ووزنته إذا كان فيه خفه؛ فأصخ لمفاخري الجليله، واستمع مناقبي الجميلة. أطارد جيوش الظلماء برمحي، وأمزق أثواب الديجور بصبحي؛ وجمع عاملي بين طلع النخل، وحلاوة النحل، يتلو سورة النور لساني، ويقوى في مصادمة عساكر الليل البهيم جناني؛ أسامر المليك خلوه، ويستجلى من محاسني أحسن جلوه.
ولله در القائل:
انظر إلى شمعدان شكله عجب ... كروضة روضت أزهارها السحب.
يطارد الليل رمح فيه ورق ... سنانه لهب من دونه الذهب.
فمثل هذه المناقب تتلى، ومثل هذه المحاسن تظهر وتجلى.
فأضرم نار تبيينه، في أحشاء قرينه. فعندها قال القنديل:
لقد أطلت الافتخار بمحاسن غيرك، لما وقفت في المناظرة ركائب سيرك؛ فاشكر اليد البيضاء من شمعك، واحرص على معرفة قيمتك ووضعك؛ وأما افتخارك بتلاوة سورة النور، فأنا أحق بها منك إذ محلي الجوامع، والفرقان فارق بيني وبينك مع أنه ليس بيننا جامع؛ ففضيلتي فيه بينه،وآية نورى في سورة النور مبينة؛ فاقطع مواد اللجاجة، واقرأ الآية المشتملة على الزجاجة؛ يظهر لك من هو الأعلى، ومن بالفتخار الأولى؛ تخالني درة علقت في الهواء، أو كوكبا من بعض كواكب الجوزاء.
ولله در القائل:
قنديلنا فاق بأنواره ... نور رياض لم تزل مزهره.
ذبالة فيه إذا أوقدت ... حكت بحسن الوضع نيلوفره.
لا يحمل الأقذاء خاطري، ولا يغتم مشاهدي وناظري؛ فأنا خلاصة السبك، والتبر الذي لا يفتقر إلى الحك؛ اشتقاق اسمك من النحوس، ومن جرمك تقام هياكل الفلوس؛ لقد عرضت نفسك للمنية، وانعكست عليك مواد الأمنية؛ مع أن الحق أوضح من لبة الصباح، وأسطع من ضوء المصباح؛ والآن غضصت بريقك، وخفيت لوامع بروقك؛ فهذه الشهباء والحلبة، وهذه ميادين المناظلة رحبه.
فحار الشمعدان في الجواب، وجعل ما بداه أولا فصل الخطاب.
فقال القنديل: لا بد من الإقرار بأن قدح المعلى، وأن عليك بالتقديم الأولى؛ وأن مقامي العالي، ونوري المتوالي.
فقال الشمعدان: لا منازعة فيما جاء به الكتاب من تفضيلك، وكونك الكوكب الدري الذي قصر عن بلوغك باع مثيلك.
فجنح الشمعدان للسلم، وترفع عن استيطان مواطن الإثم؛ وشرع يبدي شعائر الخضوع، وينشر أعلام الأوبة عما قال والرجوع؛ قال: لولا حمية النفوس، ما تجملت بمفاخرنا صفحات الطروس؛ ولولا القال والقيل، ما ضمنا معرض التمثيل؛ ولكن أين صفاءك من كدري، وأين نظرك من نظري؛ خصك الله بنوره، وذكرك في فرقانه وزبوره.
فعندها تهلك أسارير القنديل، وتبسم فرحا بالتعظيم والتبجيل. وقال: حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى، ووصفك لا يجارى؛ يحسبك الرائي خميلة نور تفتحت أزهارها، وحديقو نرجس أطردت أنهارها؛ تسر بك النفوس، وتدار على نضارتك الكؤوس؛ وإن اللائق بحالنا طي بساط المنافسة، وإخماد شرر المقابسة؛ واستغفار فيما فرض من كلامنا، والرجوع إلى الله في إصلاح أقوالنا وأفعالنا.
ونقول: الأصل فيما نقلناه عدمه، فقد حف كل واحد منا في إبراز معايبة قلمه. ونسأل الله أن تدوم لنا نعمه، ويتعاهدنا في المساء والصباح كرمه! بمنه وجوده وكرمه! آمين!
وصف الليل وتشبيهه
قد أكثر الشعراء في وصف الليل بالطول والقصر. وذكروا سبب الطول الهموم وسبب القصر السرور.
ولهذا أشار بعض الشعراء في قوله:
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الأعمار.
فقصارهن مع الهموم طويلة، ... وطوالهن مع السرور قصار.
وقال آخر:
إن التواصل في أيامه قصر، ... كما التهاجر في أيامه طول.
فليس يعرف تسهيدا ولا رمد ... جفن برؤية من يهواه مشغول.
وقال ابن بسام:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تغور.
ليل كما شاءت فإن لم تزر ... طال؛ وإن زارت، فليل قصير.
صله من قول علي بن الخليل:
لاأظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تعول.
ليل كما شاءت قصير إذا ... جادت، وإن صدت، فليل طويل.
وقال آخر:
أخو الهوى يستطيل الليل من سهر، ... والليل في طوله جار على قدره.
ليل الهوى سنة في الهجر مدته؛ ... لكنه سنة في الوصل من قصر.
وقال الوليد ين يزيد بن عبد الملك:
لا أسأل الله تغيرا لما صنعت: ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها.
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها.
ما وصف به من الطول
قال الخباز:
وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا.
كيوم القيامة في طوله ... على من يراقب فيه الصباحا.
وقال ابن المعتز:
مالي أرى الليل مسبلا شعرا ... عن غرة الصبح غير مفروق.
وقال بشار:
خليلي!ما بال الدجى لا يزحزح، ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح؟
أضل النهار المستنير طريقه؟ ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح؟
وقال الرفاء:
ألا رب ليل بت أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا الليل أغمضا.
كأن الثريا راحة تشبر الدجى ... لتعلم طال الليل لي أم تعرضا.
عجبت لليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا؟
وقال محمد بن عاصم:
أقول، والليل دجى مسبل ... والأنجم الزهر به مثل:
يا طول ليل ما له آخر ... منك، وصبح ما له أول!
وقال التنوخي:
وليلة كأنها قرب أمل ... ظلامها كالدهر ما فيه خلل.
كأنما الإصباح فيها باطل ... أزهقه الله بحق، فبطل.
ساعاتها أطول من يوم النوى ... وليلة الهجر وساعات العذل.
مؤصدة على الورى أبوابها ... كالنار لا يخرج منها من دخل.
وقال أبو محمد، عبد الله بن السيد البطليوسي:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شب، أو في الجوروض نهار؟
كأن الليالي السبع في الأفق جمعت ... ولا فصل في ما بينها بنهار.
وقال الشريف البياضي:
أقول لصحبي والنجوم كأنها، ... وقد ركدت في بحر حندسها غرقى:
أرى ثوب هذا الليل لا يعرف البلى! ... فهل أرين للصبح في ذيله فتقا؟
وقال أيضا:
أقول وللدجى عمر مديد ... وآخره يرد إلى معاد.
وقد ضلت كواكبه، فظلت ... حيارى ما لها في الأفق هادي:
لعل الليل مات الصبح فيه، ... فلازم بعده لبس الحداد.
وقال آخر:
أما لظلام ليلي من صباح؟ ... أما للنجم فيه من براح؟
كأن الأفق سد، فليس يرجى ... به نهج إلى كل النواحي.
كأن الشمس قد مسخت نجوما ... تسير مسير رواد طلاح.
كأن الصبح مهجور طريد، ... كأن الليل مات صريع راح.
كأن بنات نعش متن حزنا، ... كأن النسر مكسور الجناح.
وقال آخر:
يا ليلة طالت على عاشق ... منتظر للصبح ميعادا!
كادت تكون الحول في طولها؛ ... إذا مضي أولها، عاد.
وقال ابن الرومي:
رب ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد.
ذا نجوم كأنهن نجوم الش ... يب ليست تزول، لكن تزيد.
وقال أبو الأحنف:
حدثوني عن النهار حديثا ... أو صفوه فقد نسيت النهارا.
وقال بشار:
طال هذا الليل بل طال السهر! ... ولقد أعرف ليلة بالقصر.
لم يطل حتى دهاني بالهوى ... ناعم الأطراف فتان النظر.
فكأن الهجر شخص مائل ... كلما أبصره النوم نفر.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأنداسي:
يا ليل وجد بنجد ... أما لطيفك مسرى؟
وما لدمعي طليق ... وأنجم الجو أسرى؟
وقد طما بحر ليل ... لم يعقب المد جزرا.
يعبر الطرف فيه ... غير المجرة جسرا.
وقال أبو مروان ابن أبي الخصال:
وليل كأن الدهر أفضى بعمره ... جميعا إليه، فانتهى في ابتدائه.
يحدث بعض القوم بعضا بطوله، ... ولم يمض منه غير وقت عشائه.
وقال إبراهيم ولد ابن لنكك البصري، شاعر اليتيمة:
وليلة أرقني طولها ... فبتها في حيرة الذاهل.
كأنما اشتقت لإفراطها ... في طولها من أمل الجاهل.
وقال امرؤ القيس:
وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي.
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف اعجازا وناء بكلكل:
ألا أيها الليل الطويل، ألا أنجلي ... بصبح! وما الإصباح منك بأمثل!
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بأمراس كتان إلى صم جندل.
وقال آخر:
أراقب في السماء بنات نعش؛ ... ولو أستطيع، كنت لهن حادي.
كأن الليل أوثق جانباه ... وأوسطه بأمراس شداد.
وقال أخرم بن حميد:
وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد، والدمع تجري سواكبه.
كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيدة دون المسير كواكبه.
وقال ابن الرقاع:
وكأن ليلي حين تغرب شمسه ... بسواد آخر مثله موصول.
أرعى النجوم. إذا تغيب كوكب، ... أبصرت آخر كالسراج يجول.
وقال آخر:
ما لنجوم الليل لا تغرب؟ ... كأنها من خلفها تجذب!
رواكد ما غار في غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب.
وقال سعيد ين حميد:
يا ليل، بل يا أبد! ... أنائم عنك غد؟
يا ليل لو تلقى الذي ... ألقى بها أو تجد،
قصر من طولك أو ... ضعف منك الجلد!
وقال سيف الدين المشد:
مات الصباح بليل ... أحييته حين عسعس.
لو كان في الدهر صبح ... يعيش، كان تنفس.
ما وصف به من القصر
فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس:
وليلة إحدى الليالي الزهر، ... قابلت فيها بدرها ببدري.
لم تك غير شفق وفجر، ... حتى تولت وهي بكر الدهر.
وقال الشريف الرضي:
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر.
وقال آخر:
يا ليلة جمعتنا بعد فرقتنا ... فبت من صبحها لما بدا، فرقا.
لما خلوت بآمالي بها، قصرت ... وكاد يسبق فيها فجرها الغسقا.
وقال آخر:
يا رب ليل سرور خلته قصرا ... يعارض البرق في أفق الدجى برقا.
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشفقا.
وقال القاضي السعيد بن سناء الملك:
يا ليلة الوصل، بل يا ليلة العمر! ... أحسنت، إلا إلى المشتاق، في القصر.
يا ليت زيد بحكم الوصل فيك لنا ... ما طول الهجر من أيامك الأخر.
أو ليت نجمك لم تقفل ركائبه، ... أو ليت صبحك لم يقدم من السفر.
أو ليت لم يصف فيك الشرق من غبش، ... فذلك الصفو عندي غاية الكدر.
أو ليت كل من الشرقين ما ابتسما، ... أو ليت كلا من النسرين لم يطر،
أو ليت كنت كما قد قال بعضهم: ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر.
أو ليت فجرك لم ينفر به رشئي، ... أو ليت شمسك ما جارت على قمري.
أو ليت قلبي وطرفي تحت ملك يدي ... فزدت فيه سواد القلب والبصر.
أو ليت ألقى حبيبي سحر مقلته ... على العشاء فأبقاه بلا سحر.
أو ليت كنت سألتيه مساعدة ... فكان يحبوك بالتكحيل والشعر.
كأنها حين ولت قمت أجذبها ... فانقد في الشرق منها الثوب من دبر.
لا مرحبا بصباح جاءني بدلا ... من غرة النجم أو من طلعة القمر!
وقال عبد الله بن المعتز:
يل ليلة ما كان أط ... يبها سوى قصر البقاء!
أحييتها فأمتها ... وطويتها طي الرداء.
حتى رأيت الشمس تت ... لو البدر في أفق السماء.
فكأنه وكأنها ... قد حان من خمر وماء.
وقال المهلبي:
قد قصر الليل عند ألفتنا ... كأن حادي الصباح صاح به.
وقال آخر:
كأنما الليل راكب فرسا ... منهزما والصباح في طلبه.
ما وصف به من الإشراق
فمن ذلك قول شاعر أندلسي:
رب ليل عمرته ... فيك خال من الفكر.
كثرت حوله الحجو ... ل وسارت به الغرر.
وقال أبو بكر الصنوبري:
يا ليلة طلعت بأسعد طالع ... تاهت على ضوء النهار الساطع.
بمحاسن مقرونة بمحاسن ... وبدائع موصولة ببدائع.
ضوء الشموع وضوء وجهك مازجا ... ضوء العقار وضوء برق لامع.
فكأنما ألقى الدجى جلبابه ... وأراك جلباب النهار الساطع
ما وصف به من الظلمة
قال الله عز وجل: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض " . فهذه أتم أوصاف الظلمة.
وقال مضرس بن ربعي:
وليل يقول الناس في ظلماته: ... سواء صحيحات العيون وعورها
كأن لنا منه بيوتا حصينة ... مسوح أعاليها وساج كسورها
وقال أبو تمام:
إليك هتكنا جنح ليل كأنما ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد
وقال أبو نواس:
أبني لي: كيف صرت إلى حريمي، ... وجفن الليل مكتحل بقار
وقال العلوي الأصفهاني:
ورب ليل باتت عساكره ... تحمل في الجو سود رايات
لامعة فوقها أسنتها ... مثل الأزاهير وسط روضات
ومن رسالة لأبي عبد الله بن أبي الخصال. جاء منها: والليل زنجي الأديم، تبري النجوم؛ قد جللنا ساجه، وأغرقتنا أمواجه؛ فلا مجال للحظ، ولا تعارف إلا باللفظ؛ ولو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، ولو خضبت به الشيبة ما نصلت.
تباشير الصباح
قال أبو محمد العلوي:
كأن اخضرار الجو صرح ممرد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب.
كأن سواد الليل في ضوء صبحه ... سواد شباب في بياض مشيب.
وقال أبو علي بن لؤلؤ، الكاتب:
رب فجر كطلعة البدر جلى ... جنح ليل كطلعة الهجران،
زار في حلة النراة فولى الليل عنه في حلة الغربان.
وقال الخالديان:
وكأنما الصبح المنير وقد بدا ... باز أطار من الظلام غرابا
وقال النظام البلخي، من شعراء الخريدة:
فلاح الصبح مبتسم الثنايا ... وطار الليل مقصوص الجناح.
يطير غراب أو كاز الدياجي ... إذا ما حل بازي الصباح.
وقال تميم بن المعز:
وكأن الصباح في الأفق باز ... والدجى بين مخلبيه غراب.
وقال ابن وكيع:
غرد الطير فنبه من نعس. ... وأدر كأسك فالعيش خلس!
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من ثوب الغلس.
وانجلى في حلة فضية ... ما بها من ظلمة الليل دنس.
وقال أبو مروان بن أبي الخصال:
لما رأيت الغرب قد غص بالدجى ... وفي الشرق من ثوب الصباح دلائل،
توهمت أن الغرب بحر أخوضه ... وأن الذي يبدو من الشرق ساحل.
وقال أسعد بن بليطة الأندلسي:
جرت بمسك الدجى كافورة السحر ... فغاب إلا بقايا منه في الطرر،
صبح يفيض وجنح الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجي في نهر.
قد حار بينهما في برزخ قمر ... يلوح كالشنف بين الخد والشعر.
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبي:
بتنا كأن حداد الليل شملتنا ... حتى بدا الصبح في ثوب سحولي.
كأن ليلتنا والصبح يتبعها، ... زنجية هربت قدام رومي.
وقال أبو نواس:
فقمت والليل يجلوه الصباح، كما ... جلا التبسم عن غر الثنيات.
وقال عبد الله بن المعتز:
أغتدي والليل في جلبابه ... كالحبشي فر من أصحابه.
والصبح قد كشر عن أنيابه ... كأنما يضحك من ذهابه.
وقال السري:
وشرد الصبح عنا الليل فاتضحت ... سطوره البيض في آياته السود.
وقال أبو فراس:
مددنا علينا الليل، والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب.
بحال ترد الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنا عين كل رقيب.
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادى نصول في عذار خضيب.
وقال عبد الصمد بن بابك، شاعر اليتيمة:
واستهلت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات،حدادها التطويق.
فتضاحكت شامتا وكأن الصبح جيب على الدجى مشقوق.
وقال أبو بكر الصنوبري:
وليلة كالرفرف المعلم ... محفوظة الظلماء بالأنجم.
تعلق الفجر بأرجائها، ... تعلق الأشقر بالادهم.
وقال السلامي، شاعر اليتيمة:
وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم.
وعهدي بها، والليل ساق ووصلنا ... عقار، وفوها الكأس أو كأسها الفم.
إلى بدرنا بالنجوم، وغربها، ... يفض عقود الدر والشرق ينظم.
ونبهت فتيان الصبوح للذة ... تلوح كدينار يغطيه درهم.
ومن رسالة للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، عفا الله عنه. حاء منها: فلما قضى الليل نحبه، وأرسل الصباح على دهمه شهبه؛ شمر الليل إزاره، ووضع النجم أوزاره؛ ونزح بالطيف طادرا، وظل وراء الصبح ناشدا؛ وفجر الفجر نهر النهار، واسترد البنفسج وأهدى البهار؛ فمواكب الكواكب منهزمة، وغرة الفجر كغرة مولاي مبتسمة.
وصف النهار وتشبيهه
فمن ذلك قول شاعر،يصفه بالقصر:
ويوم سرور قد تكامل وصفه ... سوى قصر، لا عيب فيه سواه!
وعهدي به كالرمح طولا، فعندما ... هززناه للهو التقى طرفاه.
وقال آخر:
بأبي من نعمت منه بيوم، ... لم يزل للسرور فيه نمو!
يوم لهو، قد التقى طرفاه ... فكأن العشى فيه غدو
وقال آخر:
لم ينتشر فلق الإصباح من قصر ... فيه إلى أن طواه فيلق الغسق
ولم يكن ملتقى جفنى أخي رمد ... كملتقى طرفيه: الصبح والشفق.
وما تناولت فيه الرطل مصطبحا ... إلا أعادته منى كف مغتبق.
وقال آخر:
لله يوم مسرة ... أضوا وأقصر من ذبالة!
لما نصبنا للمنى ... فيه بإشراك حباله.
طار النهار مروعا ... وفيه وأجفلت الغزالة!
وقال آخر:
حث الكؤوس! فذا يوم به قصر، ... وما به من تمام الحسن تقصير.
صحو وغيم، يروق الطرف حسنهما: ... فالصحو فيروزج، والغيم بلور.
وقال آخر:
ويوم كحلي الغانيات سلبته ... حلي الربا حتى انثنى.
سبقت إليه الشمس، والشمس غضة ... وصبغ الدجى من مفرق الفجر ناصل.
ومن كلام ابن برد الأصغر الأندلسي: اليوم يوم بكت أمطاره، وضحكت أزهاره؛ وتقنعت شمسه، وتعطر نسيمه؛ وعندما بلل هزج، وساق غنج؛ وسلافتان: سلافة أخوان، وسلافة دنان؛ قد تشاكلتا في الطباع، وازدوجنا في إثارة السرور. فأخرق إلينا سرادق الدجن تجد مرأي لم يحسن إلا لك ولا يتم إلا بك.
ومن كلامه أيضا: لم نلتق منذ عرينا مركب اللهو، وأخلينا ربع الأنس، وقصصنا جناح الطرب، وعبسنا في وجوه اللذات. فإن رأيت أن تخف إلى مجلس قد نسخت فيه الرياحين بالدواويين، والمجامر والمحابر، والأطباق، بالأوراق، وتنازع المدام، بتنازع الكلام؛ واستماع الأوتار، باستماع الأخبار؛ وسجع البلابل، بسجع الرسائل؛ كان أشحذ لذهنك، وأرشد لرأيك.
ومالاصطرلاب وما قيل فيه. فقال أبو طالب، عبد السلام المأموني:
وشبيه بالشمس يسترق الأنوار من نور جرمها في في خفاء.
فتراه أدرى وأعلم منها، ... وهو في الأرض، بالذي في السماء.
وقال أيضا :
وعالم بالغيب من غير ما ... سمع ولا قلب، ولا ناظر!
يقابل الشمس فيأتي بما ... ضمنها من خبر حاضر.
كأنه ناجته لما بدا ... لعينها بالفكر والخاطر.
وألهمته على ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر.
وقال أبو إسحاق الصابي، وقد أهداه في مهرجان إلى مخدومه:
أهدى إليك بنو الآمال واجتهدوا ... في مهرجان جديد أنت تبليه.
لكنك عبدك إبراهيم حين رأى ... سمو قدرك عن شيء يساميه.
لم يرض بالأرض يهديها إليك ... فقد أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه!
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز:
أفضل ما استصحب النبيل فلا ... يعدل به في المقام والسفر،
جرم إذا ما التمست قيمته ... جل عن التبر وهو من صفر.
مختصر وهو إذ تفشته ... عن ملح العلم غير مختصر.
ذو مقلة تستنير ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق النظر.
تحملته وهو حامل فلك ... لو لم يدر بالبنان لم يبدر.
مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن جل ما في السماء من خبر.
أبدعه رب فكرة بعدت ... في اللطف عن إن تقاس بالفكر.
فاستوجب الشكر والثناء به ... من كل ذي فطنة من البشر.
فهو لذي اللب شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفطر.
وكتب أبو الفرج الببغاء يصف اصطرلابا أهداه فقال:
وصف فصل الربيع
وتشبيهه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبري:
الدهر إلا الربيع المستنير إذا ... جاء الربيع، أتاك النور والنور.
فالأرض ياقوتة، والجو لؤلؤة، ... والنبت فيروزج، والماء بلور.
وقال آخر:
اشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطر، متهلل، نشوان!
فالأرض وشي، والنسيم معنبر، ... والماء راح، والطيور قيان.
وقال الثعالبي:
أظن الربيع العام قد جاء زائرا ... ففي الشمس بزازا، وفي الريح عطارا.
وما العيش إلا أن تواجه وجهه ... وتقضي بين الوشي والمسك أوطارا.
وقال آخر:
وفصل فصل الربيع الرياض ... عقودا ورصع منها حليا.
وفاخر بالأرض أفق السماء ... فحلى الثرى بنجوم الثريا.
وقال الحسن بن وهب:
طلعت أوائل للربيع فبشرت ... نور الرياض بجدة وشباب!
وغدا السحاب يكاد يسحب في الثرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب.
فترى السماء إذا أجدر بابها ... فكأنما التحفت جناح غراب.
وترى الغصون إذا الرياح تناوحت ... ملتفة كتعانق الأحباب.
وقال بعض فضلاء أصفهان في وصف فصل الربيع من رسالة ذكرها العماد الأصفهاني في الخريدة: أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسر حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جم وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه في صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا.
وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السن الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرة الصفراء؛ ومن الكواكب المريخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة والطرف والجبهة " وهي أربعة عشر يوما " والخراتان وبعض الصرفة. وتنزل الشمس في برج السرطان في الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفي العشرين من بؤونة، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل في الزيادة، والنهار في النقصان. والله أعلم.
ذكر ما قيل في وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا فمن ذلك ما قاله ذو الرمة:
وهاجرة حرها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبي.
تلوذ من الشمس أطلائها ... لياذ الغريم من الطالب.
وتسجد للشمس حربائها ... كما يسجد القس للراهب.
وقال مسكين الدارمي.
وهاجرة ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود.
تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرالسنان طريد.
وقال ابن الفقيسي:
في زمان يشوي الوجوه بحر، ... ويذيب الجسوم لو كن صخرا.
لا تطير النسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا.
ويود الغصن النضير به لو ... أنه من لحائه يتعرى.
وقال أيضا:
يا ليلة بت بها ساهدا ... من شدة الحر وفرط الأوار.
كأنني في جناحها محرم ... لو أن للعورة مني استتار.
وكيف لا أحرم في ليلة ... سماؤها بالشهب ترمي الجمار؟
وقال آخر:
ويوم سموم خلت أن نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لوداغ،
ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزي ملآن ومائي فارغ.
وقال محمد بن أبي الثياب، شاعر اليتيمة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنها ... إذا لفحت خدي نار توهج.
وماء كلون الزيت ملح كأنه ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج.
وقال الثعالبي:
رب يوم هواؤه يتلظى ... فيحاكي فؤاد صب متيم.
قلت إذ صك حره حر وجهي: ... ربنا اصرف عنا عذاب جهنم!
ومما وصف به من النثر قول بعضهم:
أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب، هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق، حر تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمراكب الرمس، لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور.
وأما فصل الخريف، فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس.
وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشمال؛ ومن الساعت السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصرفة والعواء و السماك والغفر والزبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان في الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفي الثامن عشر من توت.
وفي هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، ويغبر وجه الأرض، ويصفر ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوام، وتنحجر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدفئة، وتصير الدنيا كأنها كهلة مدبرة.
ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين. والله أعلم.
ذكر ما قيل في وصف فصل الخريف وتشبيه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبري، عفا الله عنه:
ما قضى في الربيع حق المسرا ... ت مضيع زمانه في الخريف.
نحن منه على تلقي شتاء ... يوجب القصف أو وداع مصيف.
في قميص من الزمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف.
يرعد الماء منه خوفا إذا ما ... لمسته يد النسيم الضعيف.
وقال عبد الله بن المعتز:
طاب شرب الصبوح في أيلول! ... برد الظل في الضحى والأصيل!
وخبت جمرة الهواجر عنا، ... واسترحنا من النهار الطويل.
وخرجنا من السموم إلى بر ... د نسيم، وطيب ظل ظليل،
وشمال تبشر الأرض بالقطر كذيل الغلالة المبلول.
فكأنا نزداد قربا إلى الجنة في كل شارق وأصيل.
ووجوه البقاع تنتظر الغيث انتظار المحب رد الرسول.
تبتغي غلة لتعمل روضا ... بكثير من الحيا أو قليل.
وقال آخر:
اشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصيف من أيلول أسرع حاد.
وأشمنا بالليل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح في الأجساد.
وأفاك بالأنداء قدام الجيا ... فالأرض للأمطار في استعداد.
كم في ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد.
تبدو إذا جاد السحاب بقطره ... فكأنما كانا على ميعاد.
وقال آخر:
لا تضع للوم إن اللوم تضليل ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحليل.
فقد مضى القيظ واجتثت رواحله، ... وطابت الراح لما آل أيلول.
وليس في الأرض نبت يشتكي يبسا ... إلا وناظره بالطل مكحول.
وقال آخر:
خذ بالتدثر في الخريف فإنه ... مستوبل، ونسيمه خطاف.
يجري مع الأيام جري نفاقها ... لصديقها ومن الصديق يخاف.
ومما وصف به النثر: قال أبو إسحاق الصابي يصفه: الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا، وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد،كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهدبا من عكرها؛ واطراد من نفحات الهواء، وحركات الريح الشجواء؛ واكتسب الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب.
وقال ابن شبل: كل ما يظهر في الربيع نواره، ففي الخريف تجني ثماره، فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدامه.
وقال ضياء الدين ابن الأثير الجزري عن الخريف يفتخر على فصل الربيع: أنا الذي آتي بذهاب السموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفي يترقرق صفاء الأنهار، فتشبه القوابل بالأسحار، وأيامي هي الذهبيات وتلك نسبة كريمة النجار؛ ومن ثمراتي ما لا تزال أمهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيره ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل.
ولقد أنصف من قال:
محاسن للخريف بهن فخر ... على زمن الربيع، وأي فخر!
به صار الزمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حر.
وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدي والدلو والحوت.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السن الشيخوخة؛ ومن الرياح الدبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوة الدافعة؛ ومن الأخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشتري وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما.
ويكون حلول الشمس برأس الجدي في الثالث عشر من كانون الأول، وإذا حلت الشمس ببرج الجدي يشتد البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجو، وتصير الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: توقوا البرد في اوله، وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار: أوله يحرق وآخره يورق.
ذكر ما قيل في وصف فصل الشتاء وتشبيهه.
فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها ظلما.
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خيشومه الدنيا.
وقال ابن حكينا البغدادي:
البس إذا قدم الشتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا.
الريق في اللهوات أصبح جامدا ... والدمع في الآماق صار برودا.
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا.
وترى على برد المياه طيورها ... تختار حر النار والسفودا.
يا صاحب العودين لا تهملهما ... أوقد لنا عودا وحرك عودا.
وقال آخر:
ويومنا أرواحه قرة ... تخمش الأبدان من قرصها.
يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها!
وقال عبد الله بن المعتز:
قد منع الماء من اللمس ... وأمكن الجمر من المس.
فليس نلقى غير ذي رعدة ... ومسلم يسجد للشمس!
وقال آخر:
ليس عندي من آلة البرد إلا ... حسن صبري، ورعدتي، وقنوعي.
فكأني لشدة البرد هر ... يرقب الشمس في أوان الطلوع.
وقال ابن سكرة الهاشمي، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
قيل: ما أعدت للبر ... د وقد جاء بشدة؟
قلت: دراعة برد ... تحتها جبة رعده.
وقال أبو سعيد المخرومي:
إذا كنت في بلدة نازلا ... وحل الشتاء حلول المقيم،
فلا تبرزن إلا أن ترى ... من الصخور يوما صحيح الأديم.
فكم زلقة في حواشي الطريق ... ترد الثياب بخزي عظيم.
وكم من لئيم غدا راكبا ... يحب البلاء لماش كريم.
وقال الصاحب بن عباد:
أنى ركبت فكف الأرض كاتبة ... على ثيابي سطورا ليس تنكتم.
فالأرض محبرة، والحبر من لثق ... والطرس ثوبي، ويمني الأشهب القلم.
قال أبو علي كاتب بكر شاعر اليتيمة:
يا بلدة أسلمني بردها ... وبرد من يسكنها للقلق.
لا يسلم الشاتي بها من أذى ... من لثق، أو دمق، أو زلق.
ومما وصف به نثرا قول بعضهم: إذا حلتالشمس برج الجدي مد الشتاء رواقه، وحل نطاقه، ودبت عقارب البرد لاسبة، ونفع مدخور الكسب كاسبه.
ومن رسالة لابن أبي الخصال، جاء منها.
الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضريب وصعد أنفاسه الصعيد؛ فحماه مباح مباح، ولا هرير، ولا نباح، والنار كالصديق، أو كالرحيق، كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرب.
وقال بعضهم: برد يغير الألوان، وينشف الأبدان، ويجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق، برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره.
(1/46)
وقيل لبعضهم: أي البرد أشد؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر النخران، وتلجلج اللسان، واصطكت الأسنان.ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة في أرجوزة فقال:
عندي في وصف الفصول الأربعة مقالة ... مقالة تغني اللبيب مقنعة.
ما قيل في فصل الصيف
أما المصيف، فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه.
فصل من الدهر إذا قيل حضر، ... أذكرنا بحرة نار سقر.
ظل فيه القلب مقشعرا ... والأرض تشكو خره المضرا.
أوله فيه ندى منغص ... كأنه على القلوب يقنص.
يلصق منه الجلد بالثياب ... ويعلق التراب بالأثواب.
حتى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النفس.
فتحت النار لنا أبوابها ... وشب فيها مالك شهابها.
حر يحيل الأوجه الغرانا ... حتى ترى الروم به حبشانا.
يعلو به الكرب ويشتد القلق ... وتنضج الأبدان فيه بالعرق.
تبصره فوق القميص قد علا ... حتى ترى مبيضه مصندلا.
إن كان رثا، زاد في تمزيقه؛ ... أو مستجدا، جد جبل زيقه.
ثم يعيد الماء نارا حامية ... يزيد في كرب القلوب الصاديه.
شاربه يكرع في حميم ... كأنه من ساكني الجحيم.
ينسه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه.
حتى إذا أعيا، انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره،
تحركت في جنحه دواهي ... سارية، وأنت عنها لاهي.
من عقرب يسعى كسعي اللص ... سلاحها في إثره كالشص.
وحية تنقث سما قاتلا ... تزود الملسوع حتفا عاجلا.
تبصر ما بجلدها من الرقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش.
لو نهشت بالناب منها الخضرا، ... لنثرت منه الحياة نثرا.
فلا تقل إن جاء يوما أهلا ... فلعنة الله عليه فضلا.
ما قيل في فصل الخريف
حتى إذا زال، أتى الخريف: ... فصل بكل سوأة معروف.
أهونه يسرع في حل الجسد ... وهو كطبع الموت يبس وبرد.
يجني على الأجسام من آفاته، ... وأرضه قرعاء من نباته.
لا يمكن الناس اتقاء شره ... ولا خلاف برده وحره.
تبصره مثل الصبي الأرعن ... من كثرة العشاق والتلون.
فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصفو الكدر.
أحسن ما يهدي لك النسيما ... يقلبه في ساعة سموما.
وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من من الصيف على عيوبه.
ما قيل في فصل الشتاء
حتى إذا ما أقبل الشتاء ... جاءتك منه غمة عمياء.
لو أنه روح، لكان فدما ... أو أنه شخص لكان جهما.
يلقاك منه أسد يزير ... له وعيد وله تحذير.
يأتيك في أيامه رياح ... ليس على لاعنها جناح.
حراكها ليس إلا سكون ... تضر بالأسماع والعيون.
يحدث من أفعالها الزكام ... هذا إذا ما فاتك الصدام.
ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم.
يقطعنا بعضا عن الطريق ... وعن قضاء الحق للصديق.
وربما خر عليك السقف ... فإن عفا عنك أتاك الوكف.
وإن أردت في النهار الشربا ... فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا.
واحتجت أن توقد فيه نارا ... تطير نحو الحدق الشرارا.
يترك مبيض الثياب أرقطا ... يحكي السعيدي لك المنقطا.
وبعد ذا تسدد النقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا.
نعم، وترخى دونه الستورا ... حتى ترى صباحه ديجورا.
(1/47)
وإن أردت الشرب في الظلام ... عاقك عن تناول المدام.
حسبك أن تدنس في اللحاف ... من خشية البرد على الأطراف.
ورعده يشغل عن كل عمل ... ويؤثر النوم ويستحلي الكسل.
حتى إذا جئت إلى الرقاد، ... نمت على فرش من القتاد.
إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل قلب ولجلد ينضج.
لا يستلذ جلدك المضاجعا ... كأنما أفرشه مباضعا.
تنح فصلا فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لي قتلته.
حتى إذا ما هو عنا بانا ... وزال عنا بغضه لا كانا!
ما قيل في فصل الربيع
جاء إلينا زمن الربيع ... فجاء فصل حسن الجميع.
لبرده وحره مقدار ... لم يكتنف حدهما إكثار.
عدل في أوزانه حتى اعتدل ... وحمد التفصيل منه والجمل.
نهاره في أحسن النهار ... في غاية الإشراق والاسفار.
تضحك فيه الشمس من غير عجب ... كأنها في الأفق جام من ذهب.
وليله مستلطف النسيم ... مقوم في أحسن التقويم.
لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور.
كجامة البلور في صفائها ... أذابت الجراد في نقابها.
كأنها إذا دنت من بدره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره.
رومية حلتها زرقاء ... في الجيد منها درة بيضاء.
هذا وكم تجمع من أمور ... إطراء مطريها من التقصير.
فيه تظل الطير في ترنم ... حاذقة باللحن لم تعلم.
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا يغرمه.
من كل دبسي له رنين ... وكل قمري له حنين.
في قرطق أعجل أن يوردا ... خاط له الخياط طوقا أسودا.
تبصره منه على الحيزوم ... كمثل عقد سبج منظوم.
هذا وفيه للرياض منظر ... يفشىالسرىفي سره مايضمر.
سر نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه.
فيه ضروب لنبات الغض ... يحكي لباس الجند يوم العرض.
من نرجس أبيض الثغور ... كأنه مخانق الكافور.
وروضة تزهر من بنفسج ... كأنها أرض من الفيرزوج.
قد لبست غلالة زرقاء ... وكايدت بلونها السماء.
يضحك منها زهر الشقيق ... كأنه مداهن العقيق.
مضمنات قطعا من السبج ... قد أشرقت من احمرار ودعج.
كأنما المحمر في المسود ... منه إذا لاح عيون الرمد.
وارم بعينيك إلى البهار ... فإنه من أحسن الأزهار.
كأنه مداهن من عسجد ... قد سمرت في قضب الزبرجد.
فانهض إلى اللهو ولا تخلف ... فلست في ذلك بالمنعف.
واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفر من خوف المزاج لونها.
دونك هذي صفة الزمان ... مشروحة في أحسن التبيان!
وارض بتقليدي فيما قلته ... فإنني أدرى بما وصفته.
وصف الأرض وتشبيهها قال الأخطل:
وتيهاء ممحال كان نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همل.
ترى لامعات الآل فيها كأنها ... رجال تعرى تارة وتسربل.
وجوز فلاة لا يغمض ركبها ... ولا عين هاديها من الخوف تغفل.
وكل بعيد الغور لا يهتدي له ... بعرفان أعلام ولا فيه منهل.
ملاعب جنان كأن ترابها ... إذا اطردت فيها الرياح تغربل.
ترى الثعلب الحولى فيها كأنه ... إذا ما علا نشز حصان محجل.
وقال ذو الرمة:
ودوية جرداء جداء خميت ... بها هبوات الصيف من كل جانب.
سباريت يخلو سمع مجتازها بها ... من الصوت، إلا من صياح الثعالب.
وقال ذو الرمة:
وهاجرة السراب من الموامي ... ترقص في عساقلها الأروم.
تموت قطا الفلاة بها أواما ... ويهلك في جوانبها النسيم.
مللت بها المقام فأرقتني ... هموم لا تنام ولا تنيم.
وقال ضابئ البرجمي:
وداوية تيه يحاربها القطا ... على من علاها من ضلول ومهتدي.
مسافهة للعيس ناء نياطها؛ ... إذا سار فيها راكب، لم يغرد.
وقال مسلم بن الوليد:
وقاطعة رجل السبيل مخوفة ... كأن على أرجائها حد مبرد.
مؤزرة بالآل فيها كأنها ... رجال قعود في ملأ معمد.
وقال الصاحب بن عباد:
وتيهاء لم تطمث بخف وحافر ... ولم يدر فيها النجم كيف يغور.
معالمها أن لا معالم بينها، ... وآياتها أن المسير غرور.
ولو قيل للغيث، اسقها: ما اهتدى لها ... ولو ظل ملء الأرض وهو جذور.
تجشمتها والليل وحف جناحه ... كأني سر والظلام ضمير.
وقال الشريف الرضي:
وتنوفه حصباؤها ... خلقت لنار القيظ جمرا.
تبدأ جنادبها الأنين أسى على المجتاز ظهرا.
وترى بها العصفور متخذا وجاز الضب وكرا.
وقال المتنبي:
مهالك لم يصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
ومفازة لا نجم في ظلمائها ... يسري ولا فلك بها دوار.
تتلهب الشعرى بها فكأنها ... في كف زنجي الدجى دينار.
يرمي بها الغيطان فيها والربى ... آل كما يتموج التيار.
والقطب ملتزم لمركزه بها ... فكأنه في ساجه مسمار.
قد لفنا فيها الظلام وطاف بي ... ذئب يلم مع الدجى زوار.
طراق ساحات الديار معاور ... خبث لأبناء السرى غدار.
يسري، وقد فضح الدجى وجه الضيا، ... في فروة قد مسها اقشعرار.
فعشوت في ظلماء لم يقدح بها ... إلا لمقلته، وباس نار.
ورفلت في خلع على من الدجى ... عقدت بها من أنجم أزرار.
والليل يقصر خطوه، ولربما ... طالت ليالي الركب وهي قصار.
وقال آخر:
مجهولة الأعلام طامسة الصوى ... إذا عسفتها العيس بالركب، ضلت.
إذا ما تهادى الركب في فلواتها، ... أجابت نداء الركب فيها فأصدت.
وقال مسعود أخو ذي الرمة يصف بعد فلاة:
ومهمهة فيها السراب يلمح ... يدأب فيها القوم حتى يطلحوا.
ثم يظلون كأن لم يبرحوا ... كأنما أمسوا بحيث أصبحوا.
وقال مسلم:
تجري الرياح بها مرضى مولهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد.
وقال آخر:
ودية مثل السماء قطعتها ... مطوقة آفاقها بسمائها.
وقال بعض الأعراب في الآل:
كفى خزنا أنى تطاللت كي أرى ... ذرى علمي دمخ فما يريان!
كأنما، والآل ينجاب عنهما ... من البعد عينا برفع خلقان.
قال أبو هلال: وهذا من أغرب ما روي من تشبيهات القدماء.
وقال آخر:
والآل تنزو بالصوى أمواجه ... نزوالقطا الكدري في الأشراك.
والظل مقرون بكل مطية ... مشى المهار الدهم بين رماك.
وقال ابن المعتز:
وما راعني بالبين إلا ظعائن ... دعون بكائي، فاستجاب سواكبه.
بدت في بياض الآل والبعد دونه ... كأسطر رق أمرض الخط كاتبه.
وصف الجبال وتشبيهها قال السموءل بن عاديا:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل!
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا يرام طويل!
قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
أرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول أعنان السماء بغارب.
يصد مهب الريح من كل وجهة ... ويزحم ليلا شبهه بالمناكب.
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي ناظر في العواقب.
يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب.
أضحت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السرى بالعجائب.
وقال: ألا كم كنت ملجأ فاتك ... وموطن أواه وموئل تائب!
وكم مر بي من مدلج ومؤوب ... وقال بسفحي من مطي وراكب!
ولا طم من نكب الرياح معاطفي ... وزاحم من خضر البحار جوانبي!
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... فطارت بهم ريح النوى والنوائب.
وما غيض السلوان دمعي كل عبرة ... يترجمها عنه لسان التجارب.
فسلى بما أبكى، وسر بما شجى، ... وكان على ليل السرى خير صاحب.
وقلت وقد نكبت عنه مطيتي: ... سلام فأنا مقيم وذاهب!
وقال أيضا عفا الله عنه:
وأشرف طماح الذؤابة شامخ ... تمنطق بالجوزاء ليلا، له خصر.
وقور على مر الليالي كأنما ... يصيخ إلى نجوى وفي أذنه وقر.
تمهد منه كل ركن زكا به ... فقطب إطراقا وقد ضحك البدر.
ولاذ به نسر السماء كأنما ... يجر إلى وكر به ذلك النسر.
فلم أدر من صمت له وسكينة ... أكبرة سن وقرت منه أم كبر.
وقال أيضا يصفه نثرا من رسالة كتبها لبعض الرؤساء: وكيف لي بقربك ودونك كل علم باذخ، مج الليل عليه رض به، وصافحت النجوم هضابه؛ قد ناء بطرفه؛ وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه، قد لاث من غمامه عمامه، وأرسل من ربابه ذؤابه؛ تطرزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف؛ بحيث مده البسيط بساطا، وضريب السماء فسطاطا.
في وصف البحر وتشبيهه قال ابن رشيق عفا الله عنه:
البحر مر المذاق صعب ... لا جعلت حاجتي إليه.
أليس ماء ونحن طين؟ ... فما عسى صبرنا عليه؟
وقال ابن حمديس:
لا أركب البحر، أخشى ... غلي منه المعاطب!
طين أنا وهو ماء، ... والطين في الماء ذائن.
وقال آخر:
وزاخر ليس له صوله ... إلا إذا ما هبت الريح.
فهو إذا ما سكنت ساكن ... كأنما الريح له روح.
وقال أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت:
تناهى البحر في عرض وطول، ... وليس له على التحقيق كنة.
وأعجب كلما شاهدت فيها ... سلامتنا على الأهوال منه.
فحسبي أن أراه من بعيد ... وأهرب فوق ظهر الأرض عنه.
ومما وصف به البحر والسفن قال بشر بن أبي خازم:
أطاعن صفهم ولقد أراني ... على زوراء تسجد للرياح
إذا اعترضت براكبها خليجا، ... تذكر ما عليه من جناح.
ونحن على جوانبها قعود، ... نغض الطرف كالإبل القماح.
وقال ابن تولو من أبيات:
تحث بنا فيه قلاص كأنها ... وعال، تبدت من جبال شواهق.
لها كافلا ماء وريح كلاهما ... يعلمها في الجري سبق السوابق.
إذا انحدرت؛ فالماء ألطف قائد ... وإن صعدت، فالريح أعسف سائق.
وقال السلامي:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد.
ركبت به إلى اللذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد!
جرى فظننت أن الأرض وجهه ... ودجلة ناظر، وهو السواد.
وقال محمد بن هانئ:
معطفة الأعناق نحو متونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعي
إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة، ... ترى عقربا منها على الماء ماشيا.
إذا ما ورزن الماء شوقا لبرده،صدرن ولم يشربن غرثى صواديا.
وقال الرسمي:
لم نزل مشفقين مذ قيل : سارت ... بك دهم قليلة الأوضاح.
أصلها البر وهي ساكنة في ... البحر سكنى إقامة لا براح.
هي في الماء وهي صفر من الما ... ء سوى نضح موجها النضاح.
فإذا أوقرت، فذات وقار؛ ... وإذا أخليت، فذات جماح.
وتراها في اللج ذات جناح ... ين وإن لم تكن بذات جنا
من مطايا لا يغتدن ولا يس ... أمن سير البكور بعد الرواح.
منشآت من الجواري اللواتي ... لسن من صتعة الجواري الملاح.
والدت مولدات بلا حل ... نكاح ولا حرام سفاج.
لا من البيض بل من السود ألوا ... نا وذات الألواح والأرواح.
طائرات مع الرياح، طورا ... كاسرات بالجري حد الرياح.
سائرات لا يشتكين سرى اللي ... ل ولا يرتقبن ضوء الصباح.
ساكنات بلا خضوع سكون ... جامحات بلا غرام جماع.
لا يخفن الغمار يقذفن فيها، ... ويفن المرور بالضحضاح.
إن صدمن الحصى عطبن ولا ... يعطبن إما صدمن حد الرماح.
ما رأى الناس من قصور على الما ... ء سواها يسير سير القداح.
يتسبسبن كالأساود في الخفة ... لا في معاداة الأشباح.
فإذا ما تقابلت، قلت: ذود ... من كباش تقابلت للنطاج.
شرعها البيض كالغمامات في الصي ... ف صحاحا منها وغير صحاح.
كم مدل بالجاه والمال فيها، ... وبه حاجة إلى الملاح!
قائد جنده لهم أدوات ... نفعها ثم فوق نفع السلاح.
فإذا البحر صال، صالوا عليها ... بمواض تمضي بغير جراح.
يكثرون الصياح حتى كأن السفن ... تجري من خوف ذاك الصياح.
ومما وصفت به البحار والسفن نثرا وقال أبو عمرو صاحب الصلاة القرطبي يصف شانيا سافر فيه:
فارقت مولاي حين أخذت للسفر عدة الحزم، وشددت عقدة العزم؛ وانتظمت مع السفر في سلك، وركبنا على اسم الله ظهر الفلك، في شان عظيم الشان، أحدقت به النطق إحداق الحيازم، وأمسكته لإمساك الأبازم؛ ثم تتبع خلله فسد، ورخوه فشد؛ حذرا على ألواحه من الإنخاع،واتصلت بعرانيسه اتصال الجلود بالأضلاع؛ ثم جلببت جلبابا من القار، ومخ في المتنين ولبفقار؛ فامتاز بأغرب ميسم، وعاد كالغراب الأعصم؛ قد حسن منه المخبر، وكأن الكافور قد قرن فيه بالعنبر، له من التماسيح أجنابها، ومن الخطاطيف أذنابها؛ واستقلت رجله بفراشها، استقلال السهام برياشها؛ وقد مد قليعه ذراعيه متلقيا من وفد الرياح مصافحه، ومستهديا منها منافخة. تقلد الحكم عليها إشتيام ذو تيقظ واستبصار، واستدلال على الأعماق والأقصار؛ يستدل باختلاف المياه إذا جرى، ويهتدي بالنجوم إذا سرى؛ قد جعل السماء مرآة ينظر فيها، ويحذر من دجن يوافيها؛ فإذا أصدأها الظلام بحنادسه، وصقلها الضياء بمداوسه، يسبح الله فيمصبحه وممساه، ويبسمل في مجراه ومرساه، ويذكر ربا يحفظه ولا ينساه. قد اتخذ فيه مولتيه، من أنجد النواتية؛ مشمرين الأثواب، مدبرين بالصواب؛ يفهمون عنه بالإيماء، ويتصرفون له تصرف الأفعال للأسماء؛ ويترنمون عند الجذب والدفع، والحط والرفع: بهيمنة تبعثهم على النشاط. والجمام، وتؤديهم في عملهم بالتمام. فخرجنا ونفح الريح نسيم، ووجه البحر وسيم؛ وراحة الريح تصافح عبابه مصافحة الخل، وتطوي جناحه طي السجل؛ وتجول من لججه أبرادا، وتصوغ منحبكه أزرادا: كأنما ترسم في أديم رقشا، أو تفتح في فصوص نقشا. قلما توسطنا ثبج البحر، وصرنا منه بين السحر والنحر؛ صحت الريح من سكرها، وطارت من وكرها؛ فسمعنا من ددوي البحر زئرا، ومن جبال الشاني صفيرا؛ ورأيناه يزبد ويضطرب، كأنه بكأس الجنوب قد شرب؛ واستقبلنا منه وجه باسر، وطارت من أمواجه عقبان كواسر؛ يضطرب ويصطفق، ويختلف ولا يتفق؛ كأن الجو يأخذ بنواصيها، ويجدبها من أقاصيها؛ والشاني تلعب به أكف الموج، ويفحص منها بكلكله فوجا بعد فوج؛ ويجوب منها ما بين أنجاد وأغوار، وخنادق وأسوار؛ والبحر تحتتنا كأرض تميد بأهلها، وتتزلزل بوعرها وسهلها؛ ونحن قعود، دود على عود؛ قد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألستنا؛ والرش يكتفنا من كل جانب، ويسيل من أثوابنا سيل المذانب. فشممنا ريح الموت وظننا التلف والفوت؛ وبقينا في هم ناصب، وعذاب واصب؛ حتى انتهينا إلى كنف الجون،وصرنا منه فيكن وصون؛ وهدأ من البحر ما استشرى، وتنادينا بالبشرى؛ ووطئنا من الأرض جددا، ولبسنا أثواب الحياة جددا! ومن رسالة لأبي عامر بن عقال الأندلسي عفا الله عنه جاء منها: وكان جوازه، أيده الله على بحر ساكن، قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه؛ وصار حيه ميتا، وهديره صمتا؛ وجباله لا ترى بها عوجا ولا أمتا، وضعف بعد تعاطيه، وعقد السلم بين موجه وشاطيه. فعبر آمنا من لهواته، ممتلكا لصهواته؛ على جواد يقطع البحر سبحا، ويكاد يسبق الريح لمحا؛ لا يحمل لجاما ولا سراجا، ولا يعرف غير اللجة سرجا؛ فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤدا؛ يخترق الهواء ولا يرهبه، ويركض في الماء ولا يشربه! ومن رسالة للأستاذ ابن العميد في مثل ذلك جاء منها: وكأن العشاريات وقد رديت بالقار، وحليت باللجين والنضار؛ عرائس منشورة الذوائب، مخضوبة الحواجب؛ موشحة المناكب، مقلدة الترائب؛ متوجة المفارق، مكللة العواتق، فضية الحلل والقراطق؛ أو طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها؛ وكأنها إذا حدت في اللحاق، وتنافست في السباق؛ نوافر نعام، أو حوافل أنعام، أو عقارب شالت بالإبر، أو دهم الخيل واضحة الحجول والغرر؛ وكأن المجاذيف طير تنفض خوافيها، أو حبائب تعانق حبائب بأيديها.
في وصف الماء وتشبهه
فأما ما اختص به نهر النيل من الوصف.
فمن ذلك قول ابن النقيب:
كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه.
فيأتي حين حاجتهم إليه، ... ويمضي حين يستغنون عنه!
وقال تميم بن المعز العبيدي:
يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم مسرة قصر.
والسفن تجري كالخيول بنا ... صعدا، وجيش الماء منحدر.
فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر.
ومن رسالة للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني قال: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع. فكأنما غار على الأرض فغطاها، وعار عليها فاستقعدها وما تخطاها.فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إياه.
وأما ما اختصت به دجلة من الوصف.
قال التنوخي:
وكأن دجلة إذ تغمض موجها ... ملك يعظم، خيفة ويبجل.
عذبت، فما أدري أماء ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل؟
وكأنها ياقوتة أو أعين ... زرق يلاءم بينها ويوصل.
ولها بمد بعد جزر ذاهب ... جيشان: يدبرذا، وهذا يقبل.
وقال محمد بن عبد الله السلامي، شاعر اليتيمة:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد.
ركبت به إلى اللذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد.
جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السواد.
وقال الصنوبري:
فلما تعالى البدر واشتد ضوءه ... بدجلة في تشرين بالطول والعرض
وقد قابل الماء المفضض نوره ... وبعض نجوم الليل يطفي سنا بعض،
توهم ذو العين البصيرة أنه ... يرى ظاهر الأفلاك في باطن الأرض.
ومما وصفتبه الأنهار قال الصنوبري:
والعوجان الذي كلفت به ... قد سوى الحسن فيه مذ عوج.
ما أخطأ الأيم في تعوجه ... شيئا إذا مااستقام أو عرج.
تدرج الريح متنه فترى ... جوشن ماء عليه قد درج.
إن أعنقت بالجنوب أعنق في ... لطف، وإن هملجت به هملج.
من أين طافت شمس النهار به ... حسبت شمسا من جوفه تخرج.
وقال أبو فراس:
والماء يفصل بين زهر الروض في الشطين فصلا.
كبساط وشى جردت ... أيدي القيان عليه نصلا.
وقال الناجم:
انظر إلى الروض الذك ... ي فحسنه للعين قرة؟؟!
فكأن خضرته السما ... ء، ونهره فيه المجرة.
وقال عبد الله بن المعتز:
وترى الرياح إذا مسحنا غديره ... وصفينه ونقينا كل قذاة،
ما أن يزال عليه ظبي كارع ... كتطلع الحسناء في المرآة.
ومثله قول الآخر:
وغدير رقت حواشيه حتى ... بان في قعره الذي كان ساخا.
وكأن الطيور إذا وردته ... من صفاء به، تزق فراخا.
وقال آخر:
والنهر مكسو غلالة فضة؛ ... فإذا جرى سيل، فثوب نضار.
وإذا استقام، رأيت صفحة منصل؛ ... وإذا استدار، رأيت عطف سوار.
وقال أبو مروان بن أبي الخصال:
النهر قد رقت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز.
تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء!
وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء.
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء!
وقال أبو القاسم بن العطار:
مررنا بشاطئ النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق.
وقد نسجت كف النسيم مفاضة ... عليه، وما غير الحباب لها حلق!
وقال محمد بن سهل البلخي، شاعر " الذخيرة " :
راقنا النهر صفاء ... بعد تكدير صفائه.
كان مثل السيف مدمى ... فجلوم من دمائه.
أو كمثل الورد غضا ... فهو اليوم كمائه.
وقال القاضي التنوخي، شاعر " اليتيمة " :
أحبب إلي بنهر معقل الذي ... فيه لقلبي من همومي معقل!
عذب إذا ما عب فيه ناهل ... فكأنه من ريق حب ينهل.
متسلسل فكأنه لصفائه ... دمع بخدي كاعب يتسلسل.
فإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنها درع جلاه الصيقل!
وقال مؤيد الدين الطغرائي في الغدير:
عجنا إلى الجزع الذي مد في ... أرجائه الغيم بساط الزهر.
حول غذير ماؤه المنتمي ... إلى بنات المزن يشكو الخصر.
لولاذه الريح سموما به ... لانقلبت وهي نسيم السحر.
حصباؤه در ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدرر.
وقد كسته الريح من نسجها ... درعا به يلقى نبال المطر.
وألبسته الشمس من صبغها ... نوارا به يخطف نور البصر.
كأنها المرآة مجلوة ... على بساط أخضر قد نشر.
وقال أيضا:
ملنا إلى النشر الذي ترتقي ... إليه أنفاس الصبا عاطره.
حول غدير ماؤه دراع ... والأرض من رقته حاسرة.
والشمس إن حاذته رأد الضحى ... حسناء في مرآتها ناظرة.
والهب إن حاذته جنح الدجى ... تسبح في لجته الزاخرة.
قد ركب الخضراء فيه فمن ... حصبائه أنجمها زاهرة.
يخضر إن مرت بأرجائه ... لفح سموم في لظى هاجره.
أنموذج الماء الذي جاءنا ... الوعد بأن نسقاه في الآخرة!
ومما وصفت به البرك قال البحيري عفا الله عنه:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات التي لاحت مغانيها!
ما بال دجلة كالغيري تنافسها ... في الحسن طورا ، وأطوارا تباهيها؟
كأن جن سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في معانيها.
فلو تمر بها بلقيس عن عرض ، ... قالت: هي الصرح تمثيلا وتشبيها.
تنصب فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها .
كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها.
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها.
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا، حسبت سماء ركبت فيها.
لا يبلغ السمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها.
يعمن فيها بأوساط مجنحة ... كالطير تنقض في جو خوافيها.
كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لما سال واديها!
وقال ابن طباطبا:
كم ليلة ساهرت أنجمها لدى ... عرصات أرض ماؤها كسمائها.
قد سيرت فيها النجوم كأنما ... فلك السماء يدور في أرجائها.
أحسن بها بحرا إذا التبس الدجى، ... كانت نجوم الليل من حصبائها!
ترنو إلى الجوزاء وهي غريقة ... تبغي النجاء، ولات حين نجائها!
تطفو وترسب في اصطفاق مياهها ... لا مستعان لها سوى أسمائها.
والبدر يخفق وسطها فكأنه ... قلب لها قد ريع في أحشائها.
وقال عبد الجبار بن حمديس، يصف بركة يجري إليها الماء من شاذروان من أفواه طيور وزرافات وأسود، من أبيات:
والماء منه سبائك من فضة ... ذابت على دولاب شاذروان!
فكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الروع كف جبان!
كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان!
عجبا لها تسقي هناك ينائعا ... ينعت من الثمرات والأغصان!
خصت بطائرة على فنن لها ... حسنت، فأفرد حسنها من ثاني!
قس الطيور الساجعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان.
فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان.
وكأن صانعها استبد بصنعة ... فجر الجماد بها على الحيوان!
أوفت على حوض لها فكأنها ... منها إلى العجب العجاب روان.
وكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا، فذاقته بكل لسان.
وزرافة في الجو من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران.
مركوزة كالرمح حيث ترى له ... من طعنه الحلق انعطاف سنان.
وكأنما ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان!
لو عاد ذاك الماء نفطا، أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان.
في بركة قامت على حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان!
نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها، ... فلذلك انتزعت من الأبدان.
وكأنما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في غدران.
وكأنما الحيتان إذ لم تخشها ... أخذت من المنصور عهد أمان!
وقال آخر:
ولقد رأيت، وما رأيت كبركة ... في الحسن ذات تدفق وخرير!
عقدت لها أيدي المياه قناطرا ... من جوهر فيلجة من نور!
وقال علي بن الجهم، يصف فوارة:
(1/79)
وفوارة ثارها في السماء، ... فليست تقصر عن ثارها!
تراها إذا صعدت في السماء ... تعود إلينا بأخبارها
ترد على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب مدرارها!
وقال ابن حجاج فيها:
علمت في دارك فوارة ... غرقت الأفق بها الأنجما!
فاض على نجم السما ماؤها، ... فأصبحت أرضك تسقي السما!
وقال تميم بن المعز العبيدي:
وقاذفة بالماء في وسط بركة ... قد التحفت ظلا من الأيك سجسجا.
إذا أينعت بالماء سلته منصلا ... وعاد عليها ذلك النصل هودجا.
تحاول إدراك النجوم بقذفها، ... كأن لها قلبا على الجو محرجا!
ومما وصفت به الدواليب والنواعير قال أبو حفص بن وضاح:
لله دولاب يطوف بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانا!
قد طارحت فيه الحمائم شجوها ... بنحيبها، وترجع الألحانا.
فكأنه دنف يطوف بمعهد، ... يبكي ويسأل فيه عمن بانا.
ضاقت مجاري طرفه عن دمعه، ... فتفتحت أضلاعه أجفانا!
وقال الموفقي، رحمه الله:
ناعورة تحسب من صوتها ... متيما يشكو إلى زائر.
كأنما كيزانها عصبة ... رموا بصرف الزمن الواتر.
قد منعوا أن يلتقوا فاغتدوا ... أولهم يبكي على الآخر!
وقال آخر:
وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحي، وأجرت مقلتي دموعها!
وقد ضعفت مما تئن، وقد غدت ... من الضعف والشكوى تعد ضلوعها!
وقال ابن منير الطرابلسي:
لنواعيرها على الماء ألحا ... ن تهيج الشجا لقلب المشوق.
فهي مثل الأفلاك شكلا وفعلا ... قسمت قسم جاهل بالحقوق:
بين عال، هام، ينكسه الخط ... ويعلو بسافل مرزوق.
وقال أبو الفرج الوأواء:
وكريمة سقت الرياض بدرها ... فغدت تنوب عن السحاب الهامع.
بلباس محزون، ودمعة عاشق، ... وحنين مشتاق، وأنه جازع.
فكأ،ها فلك يدور، وعلوه ... يرمي القرار بكل نجم طالع.
وقال الصنوبري:
فلك من الدولاب فيه كواكب ... من مائة تنقض ساعة تطلع.
متلون الأصوات: يخفض صوته ... بغنائه، طورا وطورا يرفع.
ومما وصف به نثرا من رسالة للشيخ ضياء الدين القرطبي إلى بعض إخوانه يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليات. جاء منها: والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة الأنجم؛ ممتدة امتداد الرمح، مقومة تقويم القدح؛ غير مشعئة الأطراف، ولا معقدة الأعطاف؛ ولا مسوسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها لامتلاء خصورها وتساوي " بين " هواديها وصدورها؛ معتدلة القدود، ناعمة الحدود؛ مع مليات أخذت النار منها مأخذها فاسودت وتطاولت عليها مدة الجفاف فاشتدت؛ وترامت بها مدة القدم، كأنها في حيز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه في هيجاء السلم، وتحكي صلابة آرائه في نفاذ الرأي ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بغيظها، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمد يد أيدها في اقتضاء إرادتها، وتطلع طلوع الأنجم في فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أول التوديع، على أنها بحقائق الاعتبار، وتجري جري الفلك المدار في قناة الأعمار:
تمر كأنفاس الفتى في حياته ... وتسعى كسعي المرء أثناء عمره.
يفارق خل خله، وهو سائر ... على مثل حال الخل في إثر سيره.
ويعلمه التداور، لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمره.
فمن أدركت أفكاره سر أمرها ... فقد أدركت أفكاره سر أمره.
ومن فاته، الإدراك أدركه الردى: ... إذا جزعت أنفاسه كأس مره.
ومما وصفت به الجداول قال ابن المعتز، عفا الله عنه:
على جدول ريان، لا يقبل القذى: ... كأن سواقيه متون المبارد.
وقال الناجم:
(1/80)
وجهه
أحاطت أزاهير الربيع سوية ... سماطين مصطفين، تستنبت المرعى.
على جدول ريان كالسهم مرسلا، ... أو الصارم المسلول، أو حية تسعى.
وقال المفجع:
على جدول ريان ينساب متنه ... صقيلا، كمتن السيف وافى مجردا.
إذا الريح ناغته، تحلق وجهه ... دروعا وضاء، أو تحزز مبردا.
وقال ابن الرومي:
على خفاقي جدول مسجور ... أبيض مثل المهرق المنشور.
أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحية المذعور.
وقال ذو الرمة:
فما انشق ضوء الصبح حتى تبينت ... جداول أمثال السيوف القواطع.
فمن ذلك قول كعب الأشقري، يصف قلعة:
محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زال عنها سحابها.
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا، ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها.
ولا خوفت بالذنب ولدان أهلها، ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها.
وقال أبو تمام يصف عمروية:
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدودا عن أبي كرب.
بكر، فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب.
من عهد إسكندر أو قبل ذاك، فقد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب!
وقال الخالديان:
وخلقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالي وجانبها الصعب.
يزر عليها الجو جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب.
إذا ما سرى برق بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل الحجب.
سموت لها بالرأي يشرق في الدجى ... ويقطع في الجلى، ويصدع في الهضب.
فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخد بالترب!
وقالا أيضا في قلعة:
وقلعة عانق العيوق سافلها، ... وجار منطقة الجوزا أعاليها.
لا تعرف القطر، إذ كان الغمام لها ... أرضا توطأ قطريه مواشيها.
إذا الغمامة لاحت، خاص ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عزاليها.
يعد من أنجم الأفلاك مرقبها، ... لو أنه كان يجري في مجاريها.
على ذرى شامخ وعر: قد امتلأت ... كبرا به، وهو مملوء بها تيها.
له عقاب: غقاب الجو حائمة ... من دونها، فهي تخفي في خوافيها.
وقال أبو بكر الخوارزمي:
وبكر تحامتها البعول مخاقة، ... فقد تركت من كثرة المهر أيما.
أممنعة لم يغلط الدهر باسمها، ... ولم يرها في النوم إلا توهما.
تزل عقاب الجو عن شرفاتها ... وتبغي إليها الريح مرقي وسلما!
ويسمع في الأفلاك صيحة ديكها ... فتحسب ديك العرش صاح ترنما.
عجوز، ترى في صحة الجسم كاعبا ... ولو أرخت، كانت من الدهر أقدما!
تواري أساسا بالتخوم مؤزرا، ... وتبرز رأسا بالنجوم معمما.
تنازعها الأرض السماء وتدعي ... لديها بها حقا لها متهضما.
وتحسبها زهر الكواكب كوكبا ... هوى خلف شيطان رجيم، فخيما!
القصر
وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك قول السرى:
مجلس في فناء دجلة، يرتا ... ح إليه الخليع والمستور.
طائر في الهواء، فالبرق يسرى ... دون أعلاه والحمام يطير.
فإذا الغيم سار، أسبل منه ... حلل دون جدره وستور.
وإذا غارت الكواكب صبحا، ... فهو الكواكب الذي لا يغور!
وقال أيضا:
منزل كالربيع حلت عليه ... حاليات السحاب عقد النطاق.
يمتع العين في طرائف حسن ... تتحامى بها عن الإطراق.
بين ساج كأنه ذائب التبر ... على مثل ذائب الأوراق.
وقال أيضا:
والقصر يبسم عن وجه الضحى،فترى ... وجه الضحى عند ما أبدي له شحبا.
يبيت أعلاه بالجوزاء منتطقا، ... ويغتدي برداء الغيم محتجبا!
وقال أبو سعيد الرستمي، يصف دارا بناه الصاحب بن عباد:
وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلا.
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمز، ... فأصبح في أرض المداين عاطلا.
فلو أبصرت ذات العماد عمادها، ... لامست أعاليها حياء أسافلا.
ولو لحظت جنات تدمر حسنها، ... درت كيف تبني بعدهن المجادلا.
متى ترها خلت السماء سرادقا ... عليها وأعلام النجوم تماثلا.
وقال علي بن يوسف الإيادي، يذكر دارا بناها المعز العبيدي بمصر وسماها العروسين :
بنى منظرا يسمى العروسين رفعة، ... كأن الثريا عرست في قبابه.
إذا الليل أخفاه بحلكة لونه، ... بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه.
تمكن من سعد السعود محله، ... فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه.
ولو شاده عزم المعز ورأيه ... على قدره في ملكه ونصابه،
لكان حصى الياقوت والتبر مفرغا ... على المسك من أجره وترابه.
وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي، يصف دارا بناها المعتمد بن عباد من أبيات:
ويا حبذا دار قضى الله أنها ... يجدد فيها كل عز ولا يبلى!
وما هي إلا خطة الملك التي ... يحط إليها كل ذي أمل رحلا.
إذا فتحت أبوابها، خلت أنها ... تقول بترحيب لداخلها: أهلا.
وقد نقلت صناعها من صفاته ... إليها أفانينا، فأحسنت النقلا.
فمن صدره رحبا، ومن نوره سنا، ... ومن صيته فرعا، ومن حلمه أصلا!
فأعلت به في رتبة الملك ناديا، ... وقل له فوق السماكين أن يعلى.
نسيت به إيوان كسرى، لأنني ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا.
ترى الشمس فيها ليقة تستمدها ... أكف، أقامت من تصاويرها شكلا.
لها حركات أودعت في سكونها، ... فما تبعت من نقلهن يد رجلا.
ولما عشينا من توقد نورها، ... تخذنا سناه في نواظرنا كحلا.
وقال أيضا من قصيدة يصف فيها دارا بناها المنصور ببجاية، جاء منها:
واعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا!
قصر لو انك قد كحلت بنوره ... أعمى، لعاد على المقام بصيرا.
واشتق من معنى الحياة نسيمه، ... فيكاد يحدث للعظام نشورا.
فلو أن بالإيوان قوبل حسنه، ... ما كان شيئا عنده مذكورا.
نسي الصبيح مع المليح بذكره، ... وسما ففاق خورنقا و سديرا.
أعيت مطالعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا.
ومضت على القوم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا.
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها، وقصورا.
فلك من الأفلاك، إلا أنه ... حقر البدور فأطلع المنصورا .
أبصرته فرأيت أبدع منظرا ... ثم انثنيت بناظري محسورا.
وظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا.
وإذا الولائد فتحت أبوابها، ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا.
عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا.
فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا.
تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه، فتكبو عن مداه قصورا.
بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش البها وتوشح الكافورا.
ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا.
يستخلف الإصباح منه إذا انقضى ... صبحا على غسق الظلام منيرا.
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت له زهر النجوم ثغورا.
ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش بين شكوله تنظيرا.
تبدو مسامير النضار كما علت ... فلك النهود من الحسان صدورا.
خلعت عليه غلائلا ورسية ... شمس ترد الطرف عنه حسيرا.
فإذا نظرت إلى غرائب حسنه، ... أبصرت روضا في السماء نضيرا.
وعجبت من خطافي عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا.
وضعت به صناعه أقلامها، ... فأرتك كل طريدة تصويرا.
فكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا.
وكأنما فرشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا.
يا مالك الملك الذي أضحى له ... ملك السماء على العداة نصيرا.
كم من قصور للملوك تقدمت ... فاستوجبت بقصورك التأجيرا.
فعمرتها وملكت كل رياسة ... منها، ودمرت العدا تدميرا.
وقال عمارة اليمني، يصف دارا بناه فارس الإسلام من أبيات:
فتمل دارا شيدتها همة، ... يغدو العسير بأمرها متيسرا.
فاقت على الإطلاق كل بنية ... وسمت بسعدك عزة وتكبرا.
أنشأت فيها للعيون بدائعا ... دقت فأذهل حسنها من أ بصرا.
فمن الرخام: مسيرا، ومسهما، ... ومنمنما، ومدرهما، ومدنرا.
وسقيت من ذوب المضار سقوفها ... حتى يكاد نضارها أن يقطرا.
لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصورا.
فيها حدائق لم تجدها ديمة ... كلا ولا نبتت على وجه الثرى.
لم يبد فيها الروض إلا مزهرا ... والنخل والرمان إلا مثمرا.
والطير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها لم تستطع أن تنفرا.
وبها من الحيوان كل مشبه ... لبس الحرير العبقري مصورا.
لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثا ولا ظبيا بوجرة أعفرا.
أنست نوافر وحشها لسباعها ... فظبائها لا تتقي أسد الشرى.
وكأن صولتك المخيفة أمنت ... أسرابها أن لا تخاف فتذعرا.
وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا.
نوبية المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا.
جبلت على الإيقاع من أعجازها ... فتخالها في التيه تمشي القهقرى!
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز، يصف قصرا بناه علي بن تميم بن المعز بمصر:
لله، مجلسك المنيف! فبابه ... بموطد فوق السماك مؤسس.
موف على حبك المجرة تلتقي ... فيه الجواري بالجوار الكنس.
تتقابل الأنوار في جنباته ... فالليل فيه كالنهار المشمس.
عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلة والحواجب والقسي.
واستشرفت عمد الرخام وظوهرت ... بأجل من زهر الربيع وأنفس.
فهواؤه من كل قد أهيف، ... وقراره من كل خد أملس.
فلك تحير فيه كل منجم ... وأقر بالتقصير كل مهندس.
فبدا للحظ العين أحسن منظرا ... وغدا لطيب العيش خير معرس.
فاطلع به قمرا، إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس.
فالناس أجمع دون قدرك رتبة ... والأرض أجمع دون هذا المجلس!
وقال الوزير أبو سليمان بن أبي أمية:
يا دار، آمنك الزما ... ن خطوب ونوائبه.
وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك دائبه.
فلنعم مأوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه.
خطر شأوت الديا ... ر، فأذعنت لك قاطبة.
وقال أبو صخر القرطبي:
ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا، تسر النفس أنسا ومنظرا.
ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا، وحلاها من النور جوهرا
وقال الشريف الرضي:
ما زلت أطرق المنازل باللوى ... حتى نزلت منازل النعمان.
بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شم العماد، عريضة الأعطان.
شهدت بفضل الرافعين قبابها. ... ويبين بالبنيان فضل الباني!
ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمرة بعمر فاني!
وأما ما وصفت به المنازل الخالية: فمن ذلك ما قاله البحتري يشير إلى الكرمان الذي بناه كسرى أو أنو شروان من أبيات:
فكأن الكرمان من عدم الأن ... س وإخلائه بنية رمس.
لو تراه، علمت أن الليالي ... خلعت في مأتما بعد عرس.
وهو ينبيك عن عجائب قوم، ... لا يشاب البيان فيها بلبس.
وإذا ما رأيت صورة أنطاك ... ية ارتعت بين روم وفرس.
والمنايا مواثل وأنو شروا ... ن يزجي الصفوف تحت الدرفس!
وقال أيضا من قصيدة يرثى فيها المتوكل، ويذكر قصره الجعفري:
محل على القاطول أخلق داره، ... وعادت صروف الدهر جيشا تعاوره.
كأن الصبا توفي نذورا، إذا انبرت ... تجر به أذيالها وتباكره.
ورب زمان ناعم تم عهده، ... ترق حواشيه ويونق ناظره.
تغير حسن الجعفري وأنسه ... وقوض بادي الجعفري وحاضره.
تحمل عنه ساكنوه فجاءة، ... فعادت سواء دوره ومقابره
إذا نحن زرناه، أجد لنا الأسى؛ ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره.
ولم أنس وحش القصرإذريع سربه ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره.
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت ... على عجل أستاره وسرائره.
وأوحشه حتى كأن لم يكن به ... أنيس ولم تحسن العين مناظره.
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها، والملك يشرق زاهره.
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غض مكاسره.
فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت ... بهيبتها أبوابه وستائره؟
وأين عمود الملك في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيه وآمره؟
وقال عمرو ابن أبي ربيعة:
يا دار أمسى دارسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل.
قد جرت الريح بها ذيلها ... واستن في أطلالها الوابل.
وقال شاعر أندلسي:
قلت يوما لدار قوم تفانوا: ... أين سكانك الكرام لدينا؟
فأجابت: هنا أقاموا قليلا ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا!
وقال عبد الله بن الخياط الأندلسي:
يا دار علوة، قد هيجت لي شجنا ... وزدتني حزنا! حييت من دار!
كم بت فيك على اللذات معتكفا ... والليل مدرع ثوبا من القار!
كأنه راهب في المسح ملتحف، ... شد المجر له وسطا بزنار!
وقال أبو حامد أحمد الأنطاكي:
إن ربعا عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعا ومصيفا.
غيرت آيه صروف الليالي، ... وغدا عنه حسنه مصروفا.
ما مررنا عليه إلا وقفنا ... وأطلنا شوقا إليه الوقوفا.
ألفا للبكاء فيه كأني ... لم أكن فيه للغواني أليفا.
حاسدا للجفون لما أذالت ... في مغانيه دمعها المذروفا!
وقال الشريف الرضي من أبيات:
ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضراء والحدثان!
بالي المعالم أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عانى.
أمقاصر الغزلان غيرك البلى ... حتى غدوت مراتع الغزلان!
وملاعب الأنس الجميع طوى الردى ... منهم فصرت ملاعب الجنان!
وقال أبو الحسن علي القابوسي نثرا: " قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب، ومقصد الوفد؛ فاستبدل بالأنس وحشه، وبالنضارة غبره، وبالضياء ظلمه؛ واعتاض من تزاحم المواكب، بالأدم النوادب؛ ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل " .
ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزري، جاء منها: " دار لعبت بها أيدي الزمن، وفرت بين الساكن والسكن. كانت مقاصير جنة، فأضحت وهي ملاعب جنة. ولقد عميت أخبار قطانها وعفت آثارها آثار وطانها، حتى شابهت إحداهما في الجفا الأخرى في العفا. وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام؛ غير أن السحاب بكاهم وأجرى بها سوافح دموعه، والليل شق عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه " .
الإذكر شيء مما قيل في الحمام قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
أهلا ببيت النار من منزل ... شيد لأبرار وفجار!
يدخله ملتمس لذة ... فيدخل الحنة في النار!
وقال أبو عامر بن شهيد الأندلسي:
نعم، أبا عامر بلذته ... وأعجب لأمرين فيه قد جمعا!
نيرانه من زنادكم قدحت ... وماءه من بنانكم نبعا!
وقال علي بن عطية البلنسي:
رب حمام تلظى ... كتلظي كل وامق.
ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق.
فغدا مني ومنه ... عاشق في جوف عاشق!
وقال أبو طالب المأموني، شاعر اليتيمة:
وبيت كأحشاء المحب دخلته ... ومالي ثياب فيه غير إهابي
أرى محرما فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابي.
بماء كدمع الصب في حر قلبه ... إذا آذنت أحشاؤه بذهاب.
توهمت فيه قطعة من جهنم ... ولكنها من غير مس عقاب.
يثير ضبابا بالبخار مجدلا ... بدور زجاج في سماء قباب!
وقال آخر:
إن حمامك هذا ... غير مذموم الجوار.
ما رأينا قبل هذا ... جنة في وسط نار!
وأنشدني جمال الدين محمد بن الحكم لنفسه:
قالوا: نراك دخلت حماما وما ... حلف الهوى يلتذ بالأهواء.
فأجبتهم: لم تكف أدمع مقلتي ... حتى بكيت بحمله الأعضاء
الشعر
وقال ابن الرومي:
وفاحم وارد يقبل مم ... شاه إذا اختال مرسلا غدره
أقبل كالليل من مفارقه ... منحدرا لا يذم منحدره
حتى تناهى إلى مواطنه ... يلثم من كل موطئ عفره
كأنه عاشق دنا شغفا ... حتى قضى من حبيبه وطره
وقال فتح الدين بن عبد الظاهر:
حل ثلاثا يوم حمامه ... ذوائبا يعبق منها الغوال
فقلت، والقصد ذؤاباته: ... يا سهري في ذي الليال الطوال!
وقال آخر:
قد علق القلب بدبوقة ... وجن منها فهو مفتون؟
واعجيا للعشق في حكمه ... بشعرة قيد مجنون!
وقال آخر:
رأيت على قد الحبيب ذؤابة ... فعيني على تلك الذؤابة تهمع
يقول لي الواشون: مالك باكيا؟ ... فقلت: بعيني شعرة فهي تدمع
وقال آخر:
وشعرة عاينهنا ناظري ... على قوام مائس الخطرة
فسال دمعا وهمي جفنه، ... والدمع لا شك من الشعرة
وقال آخر:
ولرب ممشوق القوام تضمه ... ممشوقة، فتعانقا غصنين
أرخت ذوائبها وأسبل شعره، ... فتقابلا قمرين في ليلين
وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر:
برح السقم بي وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا.
إن للأعين المراض سهاما ... صيرت أنفس الورى أغراضا.
جوهر الحسن منذ أعراض للقل ... ب ثنى الجسم كله أعراضا.
وقال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا.
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا.
وقال ذو الرمة:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين بالألباب ما تفعل الخمر.
ومما وصفت به العيون على لفظ التذكير، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتز:
عليم بما تحت الصدور من الهوى ... سريع بكر اللحظ والقلب جازع.
ويجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان مس السيف والسيف قاطع.
وقال خالد:
عينه سفاكة المهج ... من دمي في أعظم الحرج.
أسهرتني وهي لاهية ... باحورار العين والدعج.
وقال الهمذاني:
تعمل الأجفان بالدعج ... عمل الصهباء بالمهج.
قل لظبي تسترق له ... مهج الأحرار بالدعج.
أنت والأجفان ما لحظت ... من فتور العين في حرج.
كيف أدعو الله أسأله ... فرجا ممن به فرجي؟
وقال خالد:
ومريض طرف ليس يصرف طرفه ... نحو امرئ، إلا رماه بحتفه.
قد قلت إذ أبصرته متمايلا، ... والردف يجذب خصره من خلفه:
يا من يسلم خصره من ردفه، ... سلم فؤاد محبه من طرفه!
وقال أبو هفان:
أخو دنف رمته فأقصدته ... سهام من جفونك لا تطيش.
قواتل لاقداح سوى احورار ... بهن، ولا سوى الأهداب ريش.
وقال أبو تمام:
يا سقم الجفن من حبيبي، ... ألبستني حلة السقام!
كم قتلت مقلتاك ظلما ... من عاشق القلب مستهام.
يا من بعينيه لي غرام ... قرب من مهجتي حمامي!
قد رويت من دمي، فحسبي ... صوائب النبل والسهام!
وقال العسكري:
فأرعى تحت حاشية الدياجي ... شقائق وجنة سقيت مداما.
إذا كرت لواحظ مقلتيه، ... حسبت قلوبنا مطرت سهاما.
وقال ابن المعلم:
سل من بعينيه يصول: ... أهي اللحاظ أم النصول؟
ما جردت يوم النوى، ... إلا لتختلس العقول!
شهرت عيونهم سيو ... فا، ما بمضربها فلول.
تصمي بغير جراحة، ... تفري بغير دم يسيل.
ولها بأفئدة الهوى ... فتك، وليس لها صليل.
وقال آخر:
روحي الفداء لمن أدار بلحظه ... صهباء في عقلي لها تأثير!
ومن العجائب أن يدير بلحظه ... مشمولة، وإناؤها مكسور!
وقال آخر:
القلب بك المسلوب والملسوب ... والصب بك المعتوب والمتعوب.
يا من طلبت لحاظه سفك دمي: ... مهلا، ضعف الطالب والمطلوب!
وقال أبو تمام:
متطلب بصدوده قتلي ... فرد المحاسن وجهه شغلي.
ألحاظه في الخلق مسرعة ... فيما تريد كسرعة النبل.
وقال آخر:
ألحاظكم تجرحنا في الحشا، ... ولحظنا يجرحكم في الخدود.
جرح بجرح، فاجعلوا ذا بذا! ... فما الذي أوجب هذا الصدود؟
وقال آخر:
ومقلة شادن أودت بقلبي، ... كأن السقم لي ولها لباس.
يسل اللحظ منها مشرفيا ... لقتلي، ثم يغمده النعاس.
وقال ابن الرومي:
يا عليلا، جعل الع ... لة مفتاحا لظلمي!
ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمي.
بك سقم في جفون، ... سقمها أكد سقمي.
وقال تاج الدين بن أيوب:
أسقمني طرفك السقيم، وقد ... حكاه مني في سقمه الجسد!
هب نسيم من نحو أرضك لي ... فزادني في هواك ما أجد.
وهاج شوقي، والنار ما برحت ... عند هبوب الرياح تتقد.
وقال ابن المعتز:
ضعيفة أجفانه، ... والقلب منه حجر!
كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر.
وصف العيون على لفظ التأنيث
فمن ذلك ما قاله عدي بن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم.
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم؟
وقال الناجم:
كاد الغزال يكونها، ... لكنما هو دونها.
والنرجس الغض الجن ... ي أغض منه جفونها.
من كان يعرف فضلها ... فعن القياس يصونها.
وقال أبو دلف:
نقتنص الآساد من غيلها، ... وأعين العين لنا صائده!
ينبو الحسام العضب عنا وقد ... تكلم فينا النظرة القاصدة!
تهابنا الأسد، ونخشى المها: ... آبدة ما مثلها آبده!
وقال آخر:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر!
أمضى وأنفذ في القلو ... ب من الخناجر في الحناجر!
وقال آخر:
ينظرن من خلل السجوف كأنما ... يمطرن أحشاء الكريم نبالا!
وقال أبو فراس الحمداني عفا الله تعالى عنه ورحمه:
وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا أو سللن خناجرا.
تصدين لي يوما بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا.
سفرن بدورا، وانتقبن أهلة، ... ومسن غصونا، والتفتن جاذرا.
وأطلعن في الأجياد للدر أنجما ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا.
وقال ابن الرومي:
نظرت، فأقصدت الفؤاد بطرفها، ... ثم انثنت عني، فكدت أهيم!
ويلاي! إن نظرت وإن هي أعرضت: ... وقع السهام ونزعهن أليم!
وقال أيضا:
لطرفها وهو مصروف كموقعه ... في القلب حين يروع القلب موقعه.
تصد بالطرف لا كالسهم تصرفه ... عني، ولكنه كالسهم تنزعه.
وقال الأرجاني:
نقبوهن خشية العشاق! ... أو لم تكف فتنة الأحداق؟
إن في الأعين المراض لشغلا ... للمعنى عن الخدود الرقاق!
كل ما فات في الليالي المواضي ... فهو في ذمة الليالي البواقي.
وقال أيضا:
سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدارعونا.
سللن سيوفا ولاقيننا! ... فلا تسأل اليوم ماذا لقينا.
كسرن الجفون ولولا الرضا، ... بحكم الغرام كسرنا الجفونا.
وحسب الشهيد سرورا بأن ... يعاين حورا مع القتل عينا.
وقال أبو نواس:
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم.
وقال آخر:
يا من تكحل طرفها ... بالسحر لا بالإثمد!
نفسي كما عذبتها ... وقتلتها بالإثم، دي!
عرضن! فعرضن القلوب من الجوى ... لأسرع في كي القلوب من الجمر!
كأن الشفاه اللعس فيها خواتم ... من المسك، مختوم بهن على در.
وقال أيضا:
كالغصن في روضة تميس: ... تصبو إلى حسنها النفوس.
ما شهدت والنساء عرسا، ... فشك في أنها عروس!
تبسم عن باسم برود ... تعبق من طيبه الكؤوس.
يجمع فيه لمجتنيه: ... مسك، وورد، وخندريس.
وقال المتنبي:
ويبسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم.
وقال الصنوبري:
تلك الثنايا من عقدها نظمت، ... بل نظم العقد من ثناياها.
وقال البحتري:
ويرجع الليل مبيضا إذا ضحكت ... عن أبيض خصل السمطين وضاح.
وقال ابن الرومي:
كأني لم أبت أسقى رضابا: ... يموت به ويحيا المستهام!
تعللنيه واضحة الثنايا، ... كأن لقاءها حولا لمام.
تنفس كالشمول ضحى شمال ... إذا ما فض عن فمها الختام.
وقال النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا، أسف لثاته بالإثمد.
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه، وأسفله ندى.
وقال شقيق بن سليل:
وتبسم عن ألمى اللثات، مفلج: ... خليق الثنايا بالعذوبة والبرد.
وقال جميل:
بذي أشر كالأقحوان يرينه ... ندى الطل، إلا أنه هو أملح.
وقال السمهري:
كأن وميض البرق بيني وبينها، ... إذا حان من بعض البيوت، ابتسامها.
وقال آخر:
أحاذر في الظلماء أن تستشفني ... عيون العبارى في وميض المضاحك!
في السواك
قول بعض الشعراء:
أقول لمسواك الحبيب: لك الهنا، ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق!
فقال، وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صب للديار مفارق:
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى، ... أعلله بين العذيب وبارق!
وقال آخر:
نقل الأراك بأن ريقة ثغره ... من قهوة، مزجت بماء الكوثر.
قد صح ما نقل الأراك لأنه ... قد جاء يروي عن " صحاح الجوهري " .
وقال آخر:
بالله، إن جزت بوادي الأراك ... وقبلت أغصانه اللدن فاك،
فانبعث إلى المملوك من بعضها ... فإنني والله مالي سواك!
الأسد
أقبل يتضالع من بغيه، ولصدره تحيط، ولبلاعيمه غطيط؛ ولطرفه وميض ولأرساغه نقيض؛ كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما؛ وإذا هامة كالمجن، وخد كالمسن؛ وعينان سجراوان، كأنهما سراجان؛ وقصرة ربله، ولهزمة رهله؛ وساعد مجدول وعضد مفتول؛ وكف شثنة البراثن، ومخالب كالمحاجن؛ وفم أشدق كالغار الأخرق؛ يفتر عن معاول مصقوله، غير مفلوله؛ فهجهجنا به ففرفر وبربر، ثم زأر فجرجر؛ ثم لحظ فخلت البرق يتطاير من جفونه، عن شماله ويمينه؛ فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل؛ وجحظت العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون.
ووصفه بعض الأعراب فقال: له عينان حمراوان مثل وهج الشرر، كأنما نقرتا بالمناقير في عرض حجر؛ لونه ورد، وزئيره رعد؛ هامته عظيمه، وجبهته شتيمه؛ نابه شديد؛ وشره عتيد؛ إذا استقبلته قلت: وإذا استدبرته قلت: أفرع؛ لا يهاب إذا الليل عسعس، ولا يجبن إذا الصبح تنفس؛ ثم أنشد:
عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الأقران للقرن قاهر
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضى في وجهه الشر طائر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
ومن التهويل في وصف الأسد قول الشاعر
إياك لا تستوش ليثا مخدرا! ... للهول في غشق الدجى دواسا
مرسا كأمراس القليب جدوله ... لا يستطيع له الأنام مراسا
شثن البراثن كالمحاجن عطفت ... اظفاره فتخالها أقواسا
لان الحديد لجلده فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا
مصطكة أرساغه بعظامه ... فكأن بين فصولها أجراسا
وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها مقباسا
وقال آخر:
توق وقاك رب الناس ليثاحديد الناب والأظفار وردا
كأن بملتقى اللحيين منه ... مذربة الأسنة أو أحدا
وتحسب لمح عينيه هدوءا ... ورجع زئيره برقا ورعدا
تهاب الأسد حين تراه منه ... إذا لاقينه في الغاب فردا
تصد عن الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تأنف أن تصدا
وقال أبو الطيب المتنبي - رحمه الله - :
ورد إذا ورد البحيرة واردا ... ورد الفرات زئيره والنيلا
متخصب بدم الفوارس لابس ... في غيله من لبديته غيلا
في وحده الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
وقعت على الردن منه بلية ... نظمت بها هام الرفاق تلولا
يطأ البري مترفقا من تيهه ... فكأنه أس يجس عليلا
ويرد غفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا
فصرت مخافته الخطا فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
وقال عبد الجبار بن حمديس:
وليث مقيم في غياض منيعة ... أمير على الوحش المقيمة في القفر
يوسد شبليه لحوم فوارس ... ويقطع كاللص السبيل على السفر
هزبرله في فيه نار وشفرة ... فما يشتوي لحم القتيل على الجمر
سراجاه عيناه إذا أظلم الدجى ... فإن بات يسري باتت الوحش لا تسري
له جهة مثل المجن ومعطس ... كأن على أرجائه صبغة الحبر
يصلصل رعد من عظيم زئيره ... ويلمع برق من حماليقه الحمر
له ذنب مستنبط منه سوطه ... ترى الأرض منه وهي مضروبة الظهر
ويضرب جنبيه به فكأنما ... له فيهما طبل يحض على الكر
ويضحك في التعبيس فكيه عن مدي ... نيوب صلاب ليس تهتم بالفهر
يصول بكف عرض شبرين عرضها ... خناجرها أمضى من القضب البتر
يجرد منها كل ظفر كأنه ... هلال بدا للعين في أول الشهر
وقال بشر بن عوانة الفقعسي يصف ملاقاته الأسد وما كان بينهما:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبنهس إذ تقاعس عنه مهرى ... محاذرة فقلت: عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا ... مذربة ووجها مكفهرا
يدل بمخطب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى ... بمضربه قراع الموت أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة غداة لقيت عمرا
وقلبي مثل قلبك لست أخشى ... مصاولة ولست أخاف ذعرا
وأنت تروم للأشبال قوتا ... واطلب لابنة الأعمام مهرا
ففيم تروم مثلي أن يولى ... ويترك في يديك النفس قسرا؟!
نصحتك فالتمس يا ليث غيري ... طعاما إن لحمي كان مرا
ولما ظن أن الغش نصحي ... وخالفني كأني قلت هجرا
دنا ودنوت من أسدين راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا
يكفكف غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب علي أخرى
هززت له الحسام فخلت أني ... شققت به من الظلماء فجرا
حساما لو رميت به المنايا ... لجاءت نحوه تعطيه عذرا
وجدت له بجائفة رآها ... بمن كذبته ما منته غدرا
بضربة فيصل تركته شفعا ... زكان كأنه الجلمود وترا
فخر مضرجا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له: يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا ... لعمري أبيك قد حاولت نكرا
فلا تبعد لقد لاقاك حر ... يحاذر أن يعاب فمت حرا
ووصف كشاجم النمر من طرديه فقال:
وكالح المغضب المهيج ... جهنم المحيا ظاهر النشيج
يكشر عن مثل مدي العلوج ... أو كشبا أسنة الوشج
مدبج الجلد بلا تدبيج ... كأنه من نمط منسوج
تريك فيه لمع التدريج ... كواكبا لم تك في بروج
ولم أقف في وصف النمر إلى غير ذلك فأذكره.
بن الأثير الجزري يصف فهذا بعد أن ذكر ظبيا، قال: فأرسلنا عليه فهذه سلس الضريبه، ميمون النقيبه، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبه؛ كأنما ينظر من جمره، ويسمع من صخره، ويطأ من كل برتن على شفره؛ وله إهاب قد جبل من ضدين: بياض وسواد، وصور على أشكال العيون فتطلعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد؛ وهو يبلغ المدى الأقصى في أدنى وثباته، ويسبق الفريسة ولا يقبضها إلا عند التفاته.
وقال أحمد بن زياد بن أبي كريمة يصفها بعد أن وصف الكاتب من أبيات:
بذلك أبغي الصيد طورا وتارة ... بمخطفة الأكفال رحب الترائب
مرققة الأذناب نمر ظهورها ... مخططة الأذان غلب الغوارب
مدنرة ورق كأن عيونها ... حواجل تستوعي متون الرواكب
إذا قلبتها في الحجاج حسبتها ... سنا ضرم في ظلمة الليل ثاقب
مولعة فطس الأنوف عوابس ... تخال على أشداقها خط كاتب
نواصب للآذان حتى كأنها ... مداهن، للإجراس من كل جانب
ذوات أشاف ركبت في أكفها ... نوافذ في صم الصخور نواشب
ذراب بلا ترهيف قين كانها ... تعقرب أصداغ الملاح الكواعب
فوارس ما لم تلق حربا، ورجلة ... إذا آنست بالبيد شهب الكتائب
ترو وتسكين يكون دريئة ... لهن بذي الأسراب في كل لاحب
تضاءل حتى ما تكاد تبينها ... عيون لدى الضبرات غير كواذب
حراص يفوت البرق أمكث جريها ... ضراء مبلات بطول التجارب
توسد أجياد الفرائس أذرعا ... مرملة تحكي عناق الحبائب
ولا صيد إلا بوثابة ... تطير على أربع كالعذب
ملمعة من نتاج الرياح ... تريك على الأرض شيئا عجب
تضم الطريد إلى نحرها ... كضم المحبة من لا يحب
إذا ما رآى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب
لها مجلس في مكان الرديف ... كتركية قد سبتها العرب
ومقلتها سائل كحلها ... وقد حليت سبحا من ذهب
متى أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجد الطلب
غدت وهي واثقة أنها ... تقوم بزاد الخميس اللجب
وقال محمد بن أحمد السراج يصفه:
وأهرت الشدق في فيه وفي يده ... ما في الصوارم والخطية الذبل
تساهم الليل فيه والنهار معا ... فقمصا بجلباب من المقل
والشمس مذ لقبوها بالغزالة لم ... تطلع لناظره إلا على وجل
وقال آخر:
وأهرت الشدق بادي السخط مطرح ال ... حياء جهم المحيا سيئ الخلق
والشمس مذ لقبوها بالغزالة أع ... طته الرشاء جدا من ثوبها اليقق
ونقطته حباء كي يسالمها ... على المنايا نعاج الرمل بالحدق
وقال آخر:
تغاير الليل فيه والنهار معا ... فحلياه بجلباب من الحدق
والشمس مذ لقبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه من شدة الحنق
كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب؛ حلو الشمائل، نجيب المخايل؛ حديد الناظرين، أغضف الأذنين، أسيل الخدين، مخطف الجنبين؛ عريض الزور، متين الظهر؛ أبي النفس، ملهب الشد؛ لا يمس الأرض إلا تحليلا وإيماء، ولا يطؤها إلا إشارة وإيحاء.
وقال بعض الشعراء:
أبعث كلبا يكسر اليحمورا ... مجربا مدربا صبورا
يأنف أن يشاكل الصفورا ... منفردا بصيده مغيرا
ذا شية تحسبها حريرا ... قد حبرت نقوشها تحبيرا
إذا جرى حسبته المقدورا ... يكاد للسرعة أن يطيرا
حتفا لما عن له مبيرا ... أعجز أن أرى له نظيرا
وقال أبو نواس:
هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينتسف المقود من جذابه
كأن متينه لدى انسلابه ... متنا شجاع لج في انسيابه
كأنما الأظفور في قنابه ... موسى صناع رد في نصابه
تراه في الحضر إذت ها هي به ... يكاد أن يخرج من إهابة
ترى سوام الوحش إذ تحوى به ... يرحن أسرى ظفره ونابه
وقال أيضا:
كأن لحييه لدى افتراره ... شك مسامير على طواره
سمع إذا استروح لم تثماره ... إلا بأن يطلق من عذاره
فانصاع كالكوكب في انحداره ... لفت المشير موهنا بناره
شد إذا أخصف في إحضاره ... خرق أذنيه شبا أظفاره
وقال بعض الأندلسيين:
وأغضف تلقى أنفه فكأنما ... يقود به نور من الصبح أنور
إذا ألهبته شهوة الصيد طامعا ... رأيت عقيم الريح عنه تقصر
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة:
ومورس السربال يخلع قده ... عن نجم رجم في سماء غبار
يستن في سنن الطريق وقد عفا ... قدما فيقرأ أحرف الآثار
عطف الضمور سراته فكأنه ... والنقع يحجبه هلال سرار
كيفتر عن مثل المصال وإنما ... يمشي على مثل القنا الخطار
وقال آخر:
ومودب الآساد يمسك صيده ... متوقفا عن أكله كالصائم
صب إذا ما صاد عانق صيده ... طرب المقيم إلى لقاء القادم
وقال آخر:
وما الظبي منه في حشاشة نفسه ... ولكنه كالطفل في حجر أمه
يلازمه دون اخترام كأنما ... تعلق خصم عند قاض بخصمه
وقال ابن المرغري النصراني الأندلسي منشدا:
لم أر ملهى لذي اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص
كمثل خطلاء ذات جيد ... أتلع مصفرة القميص
كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقتيص
لو أنها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص
محبولة الظهر لم يخنه ... لحوق بطن به خميص
اتخذت أنفها دليلا ... قاد إلى الكانس العويص
وكلبة تاهت على الكلاب ... بجلدة صفراء كالزرياب
تنساب مثل الحية المنساب ... كأنها تنظر من شهاب
وقال أحمد بن زياد بن أبي كريمة يصف كلب صيد من قصيدة طويلة، أولها:
وغب غمان مزقت عن سمائه ... شأمية حصاء جون السحائب
مواجه طلق لم يردد جهامه ... تذاؤب أرواح الصبا والجنائب
بعثت وأثواب الدجى قد تقلصت ... بعزة مشهور من الصبح ثاقب
وقد لاح ناعي الليل حتى كأنه ... لساري الدجى في الفجر قنديل راهب
بها ليل لا يثنيهم عن عزيمة ... وإن كان جم الرشد لوم الأقارب
لتجتنب غضف كالقداح لطيفة ... مشرطة آذانها بالمخالب
تخال سياطا في صلاها منوطة ... طوال الهوادي كالقداح الشوازب
إذا افترشت خبتا أثارت بمتنه ... عجاجا وبالكذان نار الحباحب
تفوت خطاها الطرف سبقا كأنها ... سهام مغال أو رجوم الكواكب
طراد الهوادي لاحها كل شتوة ... بطامسه الأرجاء مرت المسارب
تكاد من الأحراج تنسل كلما ... رأت شبحا لولا اعتراض المناكب
تسوف وتوفي كل نشز وفدفد ... مرابض أبناء النفاق الأرانب
كأن بها ذعرا يطير قلوبها ... أنين المكاكي أو صرير الجنادب
تدير عيونا ركبت في براطل ... كجمر الغضى خرزا، ذراب الأنايب
إذا ما استحثت لم يجن طريدها ... لهن ضراء أو مجاري المذانب
وإن باصها صلتا مدى الطرق أمسكت ... عليه بدون الجهد سبل المذاهب
تكاد تفري الأهب عنها إذا انتحت ... لنبأة شخت الجرم عاري الرواجب
كأن غصون الخيزران متونها ... إذا هي جالت في طراد الثغالب
كواشر عن أنيابهن كوالح ... مذلقة الآذان شوس الحواجب
كأن بنات القفر حين تفرقت ... غدون عليها بالمنايا الشواعب
وقد وصف الشعراء الذئب بما ذكرناه من عادته وطبعه، فقال حميد بن ثور:
ونمت كنوم الذئب عن ذي حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع
ترى طرفيه يعسلان كليهما ... كما اهتر عود النبعة المتتابع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
وقال إبراهيم بن خفاجة:
ولرب رواغ هنالك أنبط ... ذلق المسامع أطلس الأطمار
يجري على حذر فيجمع بسطه ... يهوي فيتعطف انعطاف سوار
والعرب تقول في أمثالها: " أحمق من جهيزة " قالوا: وجهيزة عرس الذئب، لأنها تدع ولدها وترضع ولد الضبع، وهو معنى قول ابن جدل الطعان:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا
وقول الآخر:
كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم ترب وترضع
ويقولون: إن الضبع إذا قتلت أو صيدت فإن الذئب يأتي أولادها باللحم وأنشدوا قول الكميت:
كما خامرت في حضنها أم عامر ... لدى الحبل حتى عال أوس عيالها
أبو جعفر الببغاء:
قد بلونا الذكاء في كل ناب ... فوجدناه صنعة السنجاب
حركات تأبى السكون وألحا ... ظ حداد كالنار في الالتهاب
خف جدا على النفوس فلو شا ... ء ترامى مجاورا للتصابي
واشتهت قربه العيون إلى أن ... خلته عندها أخا للشباب
لابس جلدة إذا لاح خلن ... ه بها في مزرة من سحاب
لو غدا كل ذي ذكاء تطوقا ... رد في ساعة الخطاب جوابي
قال أبو الفرج الببغاء يصفه:
وأعفر المسك تلقاه فتحسبه ... من أدكن الحز مخبوء بخيفان
كأن أذنيه في حسن انتصابهما ... إذا هما انتصبا للحس زجان
يسري وينبعه من خلفه ذنب ... كأنه حين يبدو ثعلب ثاني
فلا يشك الذي بالبعد يبصره ... فردا بأنهما في الخلقة اثنان
وقال آخر:
جاؤوا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب
تبرق عيناه إلى ضوء الشهب
الما استودعته ديانتك، واستحفظته أمانتك؛ من كتبي التي هي أنفس ذخائري وأسراها، وأحقها بالصيانة وأحراها؛ وما كنت أرتضي فيها بالتغريب، لولا الترجي لمعاودة الطلب عن قريب؛ ولا شك أنها منك ببال، وبمكان تهمم واهتبال؛ لكن ربما طرقها من مردة الفئرة طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق؛ فينزل فيها قرضا، ويفسدها طولا وعرضا؛ إلا أن يطوف عليها هر نبيل، ينتمي من القطاط إلى أنجب قبيل؛ له رأس كجمع الكف، وأذنان قد قامتا على صف؛ ذواتا لطافة ودقه، وسباطة ورقه؛ يقيمهما عند التشوف، ويضجعهما عند التخوف؛ ومقلة مقتطعة من الزجاج المجزع، وكأن ناظرها من العيون البابلية منتزع؛ قد استطال الشعر حول أشداقه، وفوق أماقه؛ كابر مغروزة على العيون، كما أحكمت برد أطرافها القيون؛ له ناب كحد المطرد، ولسان كظهر المبرد؛ وأنف أخنس وعنق أوقص، وخلق سوي غير منتقص، أهرت الشدقين، موشى الساعدين والساقين ململم اليدين والرجلين؛ يرجل بها وبره ترجيل ذوي الهمم، لما شعث من اللمم؛ فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق من الأوبار، ثم يجلوه بلسانه جلاء الصقيل للحسام، والحمام للأجسام؛ فينفي قذاه، ويواري أذاه؛ ويقعي إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النمر إذا اختلس؛ له ظهر شديد، وذنب مديد؛ يهزه هز السمهري المثقف، وتارة يلونه لي الصولج المعقف؛ يجول في الخشب والأرائك، كما تجول في الكسايد حائك؛ يكب على الماء حين يلغه، ويدني منه فاه ولا يبلغه؛ ويتخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء ملحا أو حلوا؛ فتسمع للماء خضخضة من قرعه، وترى للسان نضنضة من حرعه؛ يحمي داره حماية النقيب، ويحترسها حراسة الرقيب؛ فإن رأى فيها كلبا، صار عليه إلبا؛ وصعر خده وعظم قده حتى يصير نده؛ أنفة من جنانه أن يطرق، وغيرة على حجابه أن يخرق؛ وإن رأى فيها هرا، وجف إليه مكفهرا؛ فدافعه بالساعد الأشد، ونازعه منازعة الخصم الألد؛ فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته؛ أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه لمصادرته؛ ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا؛ وشد عليه شده، وضمه من غير موده؛ فأنسل وبره إنسالا، وأرسل دمه إرسالا؛ بأنياب عصل، أمضى من نصل، ومخلب كمنقار الصخر، درب بالاقتناص والعقر؛ فيصير قرنه ممزق الإهاب، مستبصرا في الذهاب، قد أفلت من بين أظفار وأنياب، ورضي من الغنيمة بالإياب؛ هذا وهو يخاتله دون جنه، ويقاتله بلا سيوف ولا أسنة؛ وإنما جنته، منته؛ وشفاره، أظفاره؛ وسنانه، أسنانه؛ إذا سمعت الفئرة منه مغاء، لم تستطع له إصغاء؛ وتصدعت قلوبها من الحدر، وتفرقت جموعها شذر مذر؛ تهجع العيون وهو ساهر، وتستر الشخوص وهو ظاهر؛ يسري من عينيه بنيرين وضاحين، تخالهما في الظلام مصباحين؛ يسوف الأركان، ويطوف بكل مكان؛ ويحكي في ضجعته تحنيا، وقضيب الخيزران تثنيا؛ ثم يغط إذا نام، ويتمطى إذا قام؛ ولا يكون بالنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئا؛ ولا في الرماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا؛ بل يدبر بكيده، وينتصر على صيده؛ قد تمرن على قتل الخشاش، وافترس الطير في المسارح والأعشاش؛ يستقبل الرياح بشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همه؛ ثم يكمن للفأر حيث يسمع لها خبيثا، أو يلمح من شيطانها دبيبا؛ فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض، حتى يستوى منه الطول والعرض؛ فإذا تشوفت الفأرة من جحرها، وأشرفت بصدرها ونحرها؛ دب إليها دبيب الصل وامتد إليها امتداد الظل؛ ثم وثب في الحين عليها وجلب الحين إليها؛ فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا؛ فصاحت من شدة أسره، وقوة كسره؛ وكلما كانت صيحتها أمد، كانت قبضته عليها أشد، حتى يستأصل أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها مخرجة الدماء، مضرجة بالدماء؛ وإن كان جرذا مسنا، لم يضع عليه سنا؛ وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه؛ ليزداد منه تشهيا وبه تلهيا؛ ثم تلاعب به تلاعب الفرسا
ببالأعنة، والأبطال بالأسنة؛ فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا؛ أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه؛ فازدرد منه أطيب طعمه، واعتده أهنأ نعمه؛ ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره؛ فرجع إلى حيث أثاره؛ ويتبع فيه آثاره راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفنى جميع العدي؛ وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط فتات الموائد، بلاغا في الاحتماء، وبرا بالنعماء، فماله على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن؛ وقد أوردت - أعزك الله - من وصفه فصلا مغربا، وهزلا مطربا؛ إخلاصا من الطوية واسترسالا، وتسريحا للسجية وإرسالا، على أني لو استعرت في وصفه لسان أبي عبيد، وأظهرت في نعته بيان أبي زبيد؛ ما انتهيت في النطق إلى خطابك، ولا احتويت في السبق على أقصابك
وقال ابن طباطبا يصف هرة بلقاء:
فتنتني بظلمة وضياء ... إذ تبدت بالعاج والآبنوس
تتلقى الظلام من مقلتيها ... بشعاع يحكي شعاع الشموس
ذات دل قصيرة كلما قا ... مت تهادت، طويلة في الجلوس
لم تزل تسبغ الوضوء وتنفي ... كل عضو لها من التنحيس
دأبها ساعة الطهارة دفن ال ... عنبر الرطب في الحنوط اليبيس
وقال أبو بكر الصنوبري من أبيات - وذكر الجرذان - :
ذاد همي بهن أورق ترك ... ي السبالين أنمر الجلباب
ليث غاب خلقا وخلقل فمن عا ... ينه قال: إنه ليث غاب
قنفذ في ازبراره وهو ذئب ... في اغترار وحية في انسياب
ناصب طرقه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينتصي الظفر حين يظفر في الحر ... ب وإلا فظفره في قراب
يسحب الصيد في أقل من اللم ... ح ولو كان صيده في السحاب
ومنها:
قرطوه وقلدوه وعالو ... ه أخيرا وأولا بالخضاب
فهو طورا يبدو بنحر عروس ... وهو طورا يمشي على عناب
حبذا ذاك صاحبا فهو في الصح ... بة أو في سائر الأحباب
وقال أبو بكر بن العلاف يرثي هرا - ، وقد قيل: إنما رثى بها ابنه، لأنه تعرض إلى حريم بعض الأكابر فاغتالوه، وقتلوه؛ وقيل: بل رثى بها عبد الله بن المعتز، وورى بهر خوفا من المقتدر بالله، فقال:
يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت منا بمنزل الولد
وكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد
تمنع عنا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من خنفس ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السدد
يلقاك في البيت منهم عدد ... وأنت تلقاهم بلا عدد
وكان يجري ولا سداد لهمأمرك في بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئدا ... وتخرج الفرخ غبر متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... فتلك أربابها من الرشد
كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد
حتى إذا خاتلوك واجتهدوا ... وساعد النفس كيد مجتهد
صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يربعوا على أحد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
فحين كاشفت وانتهكت وجا ... هرت وأسرفت غير مقتصد
أذاقك الموت من أذاق كما ... أذقت أطياره يدا بيد
كأنهم يقتلون طاغية ... كان لطاغوته من العبد
فلو أكبوا على القرامط أو ... مالوا على زكرويه لم يزد
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالقدد
ما كان أغناك عن تسورك ال ... برج ولو كان جنة الخلد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
كم أكلة داخلت حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزه في الدنو والبعد
ولم تكن لي بمن دهاك يد ... تقوى على دفعه يد الأبد
ولا تبين حشو جلدك عن ... د الذبح من طاقة ومن جلد
كأن حبلا حوى بحوزته جيداك للذبح كان من مسد
كأن عيني تراك مضطربا ... فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... كنت ومن لم يجد بها يجد
عشت حريصا يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... مت ولا مثل عيشك النكد
عشنا بخير وكنت تكلؤنا ... ومات جيراننا من الحسد
ثم تقلبت في فراخهم ... وانقلب الحاسدون بالكمد
قد انفردنا بمأتم ولهم ... بعدك بالعرس أي منفرد
قد كنت في نعمة وفي سعة ... من المليك المهيمن الصمد
تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين للرغد
قد كنت بددت شملهم زمنأ ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد
وفتتوا الخبز في السلال فكم ... تفتتت للعيال من كبد
فلو يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتنا ولا لبد
وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد
ومزقوا من ثيابنا جددا ... فكلنا في مصائب جدد
فاذهب من البيت خير مفتقد ... واذهب من البرج شر مفتقد
ألم تخف وثبة الزمان وقد ... وثبت في البرج وثبة الأسد؟
أخنى على الدار فيه بالأمس ... ومن قبلها على لبد
ولم يدع في عراضها أحدا ... ما بين علياشها إلى السند
عاقبة البغي لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
من لم يمت يومه غده ... أو لا يمت في غد فبعد غد
والحمد لله لا شريك له ... فكل شيء يرى إلى أمد
وفيه أيضا:
يا هر بعث الحق بالباطل ... وصرت لا تصغي إلى عاذل
إذا أتيت البرج من خارج ... طارت قلوب الطير من داخل
علما بما تصنع في برجها ... فهي على خوف من الفاعل
قد كنت لا تغفل عن أكلها ... ولم يكن ربك بالغافل
فانظر إلى ما صنعت بعد ذا ... عقوبة المأكول بالآكل
ما زلت يا مسكين مستقتلا ... حتى لقد منيت للقاتل
قد كنت للرحمة مستأهلا ... إذ لم أكن منك بمستأهل
وقال أيضا:
يا رب بيت ربه ... فيه تضايق مستقره
لما تكاثر فأره ... وجفاه بعد الوصل هره
وسعى إلى برج امرئ ... فيه الفراخ كما يسره
ظن المنافع أكلها ... فإذا منافعها تضره
وصف الفيل نظما
من ذلك ما قاله الأرجاني من أيبات وصف فيها مجلس ممدوحه، فقال:
والفيل في ذيل السماط له ... زجل يهال له الفتى ذعرا
في موقف الحجاب يؤمر أو ... ينهى فيمضي النهي والأمرا
أذنان كالترسين تحتهما ... نابان كالرمحين إن كرا
يعلو له فياله ظهرا ... فيظل مثل من اعتلى قصرا
وقال عبد الكريم النهشلي يصفه:
وأضخم هندي النجار تعده ... ملوك بني ساسان إن نابها دهر
يجيء كطود جائل فوق أربع ... مضبرة لمت كما لمت الصخر
له فخذان كالكثيبين لبدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كراووق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر
وجبان لا يروي القليب صداهما ... ولو أنه بالقاع منهرت حفر
وأذن كنصف البرد تسمعه الندا ... خفيا وطرف ينفض العيب مزور
ونابان شقا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما بتر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو صوت الصقر
وله ابن طباطبا:
أعجب بفيل آنس وحشي ... بهيمة في فطنة الإنسي
يفهم عن سائسه الهندي ... غيب معاني رمزه الخفي
مثل السدى الموثق المبني ... منزه في خلقه السوي
عن لين مشي ركب المطي ... ذي ذنب مطول ثوري
في مثل ردف الجمل البختي ... منخفض الصوت طويل العي
يطوف كالمزدجر المنهي ... يرنو بطرف منه شادني
في قبح وجه منه خنزيري ... خرطومه كجعبة التركي
حكى فما من سمك بحري ... تبصره في فيه ذا هوي
كالدلو إذ تهوى إلى القري ... يصب في مصهرج مطوي
ناباه في هولهما المخشي ... كمثل قرني ناطح طوري
أذناه في صبغهما الفضي ... كطيلساني ولدي ذمي
سائسه عليه ذو رقي ... منتصب منه على كرسي
يطيعه في أمره المأبي ... كطاعة القرقور للنوتي
وقال آخر منشدا:
من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يحمله محمول
على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول
وقال ابن الرومي:
يقلب جثمانا عظيما موثقا ... يهد بركنيه الجبال إذا زحم
ويسطو بخرطوم يطاوع أمره ... ومشتبهات ما أصاب بها غنم
ولست ترى بأسا يقوم لبأسه ... إذا أعمل النابين في البأس أو صدم
وقال هارون بن موسى مولى الأزد يصفه ويذكر خوفه من الهر:
أليس عجيبا بأن خلقة ... لها فطن الإنس في حرم فيل
وأظرف من مشيه زوله ... بحلم يجل عن الخنشليل
وأوقص مختلف خلقه ... طويل النيوب قصير النصيل
ويلقى العدو بناب عظيم ... وجوف رحيب وصوت ضئيل
وأشبه شيء إذا قسته ... بخنزير بر وجاموس غيل
ينازعه كل ذي أربع ... فما في الأنام له من عديل
ويعصف بالببر بعد النمور ... كما تعصف الريح بالعندبيل
وشخص ترى يده أنفه ... فإن وصفوه فسيف صقيل
وأقبل كالطود هادي الخميس ... بهول شديد أمام الرعيل
ومر يسيل كسيل الآتي ... بوطء خفيف وجسم ثقيل
فإن شمته زاد في هوله ... بشاعة أذنين في رأس غول
وقد كنت أعددت هرا له ... قليل التهيب للزندبيل
فلما أحس به في العجاج ... أتانا الإله بفتح جليل
فسبحان خالقه وحده ... إله الأنام ورب الفيول
وقال أبو الحسن الجوهري يضف الفيل من قصيدته التي أولها:
قل للوزير وقد تبدى ... يستعرض الكرم المعدا
أفنيت أسباب العلا ... حتى أبت أن تستجدا
لو مس راحتك السحا ... ب لأمطرت كرما ومجدا
لم ترض بالخيل التي ... شدت إلى العلياء شدا
وصرائم الرأي التي ... كانت على الأعداء جندا
حتى دعوت إلى العدى ... ما لا يلام إذا تعدى
متقمصا تيه العلو ... ج وفطنة أعيت معدا
متعسفا طرق العوا ... لي حين لا يستاق قصدا
فيلا كرضوى حين يل ... بس من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملئت ... أكنافها برقا ورعدا
رأس كقلة شاهق ... كسيت من الخيلاء جلدا
فتراه من فرط الدلا ... ل مصعرا في الناس خدا
يزهى بخرطوم كمث ... ل الصولجان يرد ردا
متمدد كالأفعوا ... ن تمده الرمضاء مدا
أو كم راقصة تش ... ربه إلى الندمان وجدا
أو كالمصلب شد جن ... باه إلى جذعين شدا
وكأنه بوق يحر ... كه لينفخ فيه جدا
يسطو بساريتي لجي ... ن يحطمان الصخر هدا
أذناه مروحتان أسند ... تا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضي ... قتا لجمع الضوء عمدا
فك كفوهة الخلي ... ج يلوك طول الدهر حقدا
تلقاه من بعد فتح ... سبه غماما قد تبدى
متنا كبنيان الخور ... نق ما يلاقي الدهر كدا
ردفا كدكة عنبر ... متمايل الأوراك نهدا
ذنبا كمثل السوط يض ... رب حوله ساقا وزندا
يخطو على أمثال أع ... مدة الخباء إذا تصدى
أو مثل أميال نضد ... ن من الصخور الصم نضدا
متورد حوض المن ... ية حين لا يشتاق وردا
متملق فكأنه ... متطلب ما لن يودا
متلفع بالكبريا ... ء كأنه ملك مفدى
أدنى إلى الشيء البعي ... د يراد من وهم وأهدى
أذكى من الإنسان حتى ل ... و رأى خللا لسدا
لو أنه ذو لهجة ... وفى كتاب الله سردا
عقته أرض الهند حت ... ى حل من زهو هرندا
قل للوزير: عبدت حت ... ى قد أتاك الفيل عبدا
سبحان من جمع المحا ... سن عنده قربا وبعدا
الكركدن
وصف الزرافة
وقد وصفها الشعراء وشبهوها في أشعارهم، فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن حمديس الصقلي:
ونوبية في الخلق فيها خلائق ... متى ما ترق العين فيها تسفل
إذا ما اسمها ألقاه في السمع ذاكر ... رأى الطرف منها ما عناه بمقول
لها فخذا وأظلاف فرهب ... وناظرتا رثم وهامة إيل
كأن الخطوط البيض والصفرا أشبهت ... على جسمها ترصيع عاج بصندل
ودائمة الإقعاء في أصل خلقها ... إذا قابلت أدبارها مقبل
تلفت أحيانا بعين كحيلة ... وجيد على طول اللواء المظلل
وتنفض رأسا في الزمام كأنما ... تريك له في الجو نفضة أجدل
إذا طلع النطح استجادت نطاحه ... رأس له هاد على السحب معتلي
وعرف رقيق الشعر تحسب نبته ... إذا الريح هزته ذوائب سنبل
وتحسبها من مشيها إن تبخترت ... توف إلى بعل عروسا وتنجلي
فكم منشد قول القيس عندها ... أفاطم مهلا بعض التدلل
وقال عمارة اليمني - وقد وصف تصاوير دار منها زرافة - :
وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا
نوبية المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا
جبلت على الإقعاء من إعجابها ... فتخالها للتيه تمشي القهقرى
وقال أبو علي بن رشيق منشدا:
ومجنونة أبدا لم تكن ... مذللة الظهر للراكب
قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السنام بلا غارب
ملمعة مثلما لمعت ... بحناء وشى يد الكاعب
كأن الجواري كنفنها ... تخلج من كل ما جانب
وقال أيضا:
وأتتك من كسب الملوك زرافة ... شتى الصفات للونها أثناء
جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... في خلقها وتنافت الأعضاء
تحتثها بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء
وتمد جيدا في الهواء يزينها ... فكأنه تحت اللواء لواء
حطت كآخرها وأشرف صدرها ... حتى كأن وقوفها أقعاء
وكأن فهر الطيب ما رجمت به ... وجه الثرى لو لمت الأجزاء
وتخيرت دون الملابس حلة ... عيت بصنعة مثلها صنعاء
لونا كلون الذبل إلا أنه ... حلى وجزع بعضه الجلاء
أو كالسحاب المكفهرة خططت ... فيها البروق وميضها إيماء
أو مثلما صدئت صفائح جوشن ... وجرى على حافاتهن جلاء
نعم التجافيف التي قد درعت ... من جلدها لو كان فيه وقاء
وقال محمد بن شرف القيرواني:
غريبة أشكال غريبة دار ... لها لون فضة ونضار
فلون لها لون البياض وصفرة ... كما مزجت بالماء كأس عقار
وآخر ما بين اسوداد وحمرة ... كما احمر مسود الدخان بنار
أعيرت شخوصا وهي في شخص واحد ... يحير في نشز لها وقفار
تقوم على ما بين ظلف وحافر ... له جسم جلمود وصبغة قار
وأربعة تحكي سبائك عسجد ... تطير بها في الأرض كل مطار
لها عنق قد خالط الجو تحته ... طوال لها تخطو أمام قصار
وذات قرى وعر الركوب وإنما ... أجلت بذا عن ذلة وصغار
لها عجبة التياه عجبا بنفسها ... ولكن ذاك العجب تحت وقار
وصف المها
فمن ذلك ما قاله كاتب أندلسي من رسالة طردية، جاء منها: وعن لنا سرب نعاج يمشين وهوا كمشي العذارى، ويتثنين زهوا تثني السكارى؛ كأنما تجلل بالكافور جلودها، وتضمخ بالمسك قوائمها وخدودها؛ وكأنما لبسن الدمقس سربالا، واتخذن السندس سروالا.
من كل مهضمة الحشا وحشية ... تحمي مداريها دماء جلودهاتسربل
وكأنما أقلام حبر كتبت ... بمداد عينيها طروس خدودها
فأرسلنا أولي الخيل على أخراها، وخليناها وإياها؛ فمضت مضي السهام، وهوت هوي السمام؛ فجالت في أسرابها يمينا وشمالا؛ فكأنما أهدت لآجالها آجالا؛ فمن متق بروقه، وكاب أتاه حتفه من فوقه.
وقال الأخطل يصف ثورا:
فما به غير موشي أكارعه ... إذا أحس بشخص ماثل مثلا
كأن عطارة باتت تطيف به ... حتى تسربل ماء الورس وانتعلا
كأنه ساجد من نضج ديمته ... مقدس قام تحت الليل فابتهلا
ينفي التراب بروقيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب النفلا
وقال عدي بن الرقاع يصف ثورين يعدوان:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... وإذا السنابك أسهلت نشراها
وقال الطرماح يصف عدوه بسرعة:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
ما وصف به الوعل
وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك ما قاله الصاحب بن عباد:
وأعين كالذرى في سفلاته ... سواد وأعلى ظاهر اللون واضح
موقف أنصاف اليدين كأنه ... إذا راح يجري بالصريمة رامح
وقال أبو الطيب المتنبي:
وأوفت الفدر من الوعال ... مرتديات بقسي الضال
نواخس الطراف للكفال ... يكدن ينفذن من الطال
لحى سود بلا سبال ... يصلحن ضحاك الإجلال
كل أثيث نبته متفال ... لم يغذ بالمسك ولا الغوالي
يرضى من الأدهان بالأبوال
الغزال
قال ذو الرمة - وذكر محبوبته - :
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ... شعاع الضحى في متنها يتوضح
هي الشبه أعطافا وجيدا ومقلة ... ومية أبهى بعد منها وأملح
وقال آخر:
وحالية بالحسن والجيد عاطل ... ومكحولة العينين لم تكتحل قط
على رأسها من قرنها الجعد وفرة ... وفي خدها من صدغها شاهد سبط
وقد أدمجت بالشحم حتى كأنما ... ملاءتها من فرط ما اندمجت قمط
الأرنب
تنجدانه
وصفت به النعامة
وقد وصفها إبراهيم بن خفاجة الأندلسي فقال:
ولرب طيار خفيف قد جرى ... فشلا بجار خلفه طيار
من كل فاجرة الخطا مختالة ... مشي القناة تجر فضل إزار
مخضوبة المنقار تحسب أنها ... كرعت على ظمأ بكأس عقار
لا تستقر بها الأداحي خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار
وقال الحماني:
قد ألبس الليل حتى يتثنى خلقا ... وأركب الهول بالغر الغرانيق
وأنتحي لنعام الدو ملهبة ... كأنها بعض أحجار المجانيق
تسدي الرياح بها ثوبا وتلحمه ... كما تلبس من نسج الخداريق
كأنما ريشها والريح تقرفه ... أسمال راهبة شيبت بتشقيق
كأنها حين مدت رؤوسها فرقا ... سود الرجل تعادى بالمزاريق
كأن أعناقها وهنا إذا خفقت ... بها البلاقع أدقال الزواريق
فما استلذ بلحظ العين ناظرها ... حتى تغصص أعلاهن بالريق
وأقب نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وشطره للشحج
خرق يتيه على أبيه ويدعي ... عصبية لبني الضبيب وأعوج
مثل المذرع جاء بين عمومة ... في غافق وخؤولة للخزرج
وقال أبو الفرج الوأواء من قصيدة يشكر بعض أصحابه وقد أهدى له بغلة:
قد جاءت البغلة السفواء يجنبها ... للبرق غيث بدا ينهل ماطره
عريقة ناسبت أخوالها فلها ... بالعتق من أكرم الجنسين فاخره
ملء الحزام وملء العين مسفرة ... يريك غائبها في الحسن حاضره
أهدى لها الروض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إن زال ناضره
ليست بأول حملان شريت به ... حمدي ولا هي ياذا الجود آخره
كم قد تقدمها من سابح بيدي ... عنانه وعلى الجوزا حوافره
وقال أبو المكارم بن عبد السلام:
كأنها النار في الحلفاء إن ركضت ... كأنها السيل إن وافتك من جبل
كأنها الأرض إن قامت لمعتلف ... كأنها الريح إن مرت على القلل
ما يعرف الفكر منها منتهى حضر ... ما صور الوهم فيها وصمة الكسل
إذا اقتعدت مطاها وهي ماشية ... ثهلان تبصره في زي منتقل
هذا ما اتفق إيراده من صفات البغال التي تقتضي المدح.
فأما ما جاء في ذمها فالمثل المضروب في بغلة أبي دلامة. وقال أبو دلامة في بغلته:
أبعد الخيل أركبها ورادا ... وشقرا في الرعيل إلى القتال
رزقت بغيلة فيها وكال ... وخير خصالها فرط الوكال
رأيت عيوبها كثرت وعالت ... ولو أفنيت مجتهدا مقالي
تقوم فما تريم إذا استحثت ... وترمح باليمين وبالشمال
رياضة جاهل وعليج سوء ... من الأكراد أحبن ذي سعال
شتيم الوجه هلباج هدان ... نعوس يوم حل وارتحال
فأدبها بأخلاق سماج ... جزاه الله شرا عن عيالي
فلما هدني ونفى رقادي ... وطال لذاك همي واشتغالي
أتيت بها الكناسة مستغيثا ... أفكر دائبا كيف احتيالي
بعدة سلعة ردت قديما ... أطم بها على الداء العضال
فبينما فكرتي في القوم تسدي ... إذا ما سمت أرخص أم أغالي
أتاني خائب حمق شقي ... قديم في الخسارة والضلال
وراوغني لخلو بي خداعا ... ولا يدري الشقي بمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن ... فإن البيع مرتخص وغالي
فلما ابتاعها مني وبتت ... له في البيع غير المستقال
أخذت بثوبه وبرئت مما ... أعد عليك من شنيع الخصال
برئت إليك من مشش قديم ... ومن جرد وتخريق الجلال
ومن فرط الحران ومن جماح ... ومن ضعف الأسافل والأعالي
ومن عقر اللسان ومن بياض ... بناظرها ومن حل الحبال
وعقال يلازمها شديد ... ومن هدم المعالف والركال
تقطع جلدها جربا وحكا ... إذا هزلت وفي غير الهزال
ومن شد العضاض ومن شباب ... إذا ما هم صحبك بالرقال
وأقطف من دبيب الذر مشيا ... وتنحط من متابعة السعال
وتكسر سرجها أبدا شماسا ... وتسقط في الوحول وفي الرمال
ويهزلها الجمام إذا خصبنا ... ويدبر ظهرها مس الجلال
تظل لركبة منها وقيدا ... يخاف عليك من ورم الطحال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال
فتخرس منطقي وتحول بيني ... وبين كلامهم مما توالي
وقد أعيت سياستها المكاري ... وبيطارا يعقل بالشكال
حرون حين تركبها لحضر ... جموح حين تعزم للنزال
وذئب حين تدنيها لسرج ... وليث عند خشخشة المخالي
وفيل إن أردت بها بكورا ... خذول عند حاجات الرجال
وألف عصا وسوط أصبحي ... ألذ لها من الشرب الزلال
وتصعق من صياح الديك شهرا ... وتذعر للصفير وللخيال
إذا استعجلتها راثت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
ومثفار تقدم كل سرج ... تصير دفتيه على القذال
وتحفى في الوقوف إذا أقمنا ... كما تحفى البغال من الكلال
ولو جمعت من هنا وهنا ... من الأتبان أمثال الجبال
فإنك لست عالفها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وكانت قارحا أيام كسرى ... وتذكر تبعا قبل الفصال
وقد قرحت ولقمان فطيم ... وذو الأكتاف في الحجج الخوالي
وقد أبلى بها قرن وقرن ... وآخر يومها لهلاك مالي
فأبدلني بها يا رب بغلا ... يزين جمال مركبه جمالي
كريم حين ينسب والداه ... إلى كرم المناسب في البغال
وقال اقاضي بهاء الدين زهير الكاتب:
لك يا صديقي بغلة ... ليست تساوي خردله
مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع أنمله
وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجله
تمشي فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكله
تهتز وهي مكانها ... فكأنما هي زلزله
المدح والذم في وصفها
قال أبو العيناء لبعض سماسرة الحمير: اشتر لي حمارا لا بالطويل اللاحق، ولا بالقصير اللاصق؛ إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق؛ لا يصادم بي السواري، ولا يدخل تحت البواري؛ إن كثرت علفه شكر، وإن قللته صبر؛ وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري قام. فقال به السمسار: إن مسخ الله بعض قضاتنا حمارا أصبت حاجتك، وإلا فليست موجودة.
للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على جميع الدواب؛ قال: لأنها أرفق وأوفق؛ قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها لا تستبدل بالمكان، على طول الزمان؛ ثم قال: هي أقل داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صرعا؛ وأقل جماحا، وأشهر فرها، وأقل بطرا؛ يزهى راكبه وقد بواضع بركوبه؛ ويعد مقتصدا وقد أسرف في ثمنه.
وقال احمد بن طاهر يصف حمارا:
شية كأن الشمس فيها أشرقت ... وأضاء فيها البدر عند تمامه
وكأنه من تحت راكبه إذا ... ما لاح، برق لاح تحت غمامه
ظهر كجري الماء لين ركوبه ... في حالتي إتعابه وجمامه
سفهت يداه على الثرى فتلاعبت ... في جريه بسهوله وإكامه
عن حافر كالصخر إلا أنه ... أقوى وأصلب منه في استحكامه
ما الخيزران إذا انثنت أعطافه ... في لين معطفه ولين عظامه
عنق يطول بها فضول عنانه ... ومحزم يغتال فضل حزامه
وكأنه بالريح منتعل، وما ... جري الرياح كجريه ودوامه
أخذ المحاسن آمنا من عيبه ... وحوى الكمال مبرأ من ذامه
وقال آخر:
لا تنظرن إلى هزال حماري ... وانظر إلى مجراه في الأخطار
متوقد جعل الذكاء إمامه ... فكأنما هو شعلة من نار
عادت عليه الريح عند هبوبها ... فكأنه ريح الدبور يباري
هذا ما ورد في مدحها.
وأما ما جاء فيها على سبيل الذم، فمن ذلك قولهم: " أضل من حمار أهله " . وقولهم: " أخزى الله الحمار مالا، لا يزكي ولا يذكي " . ومنه قول جرير بن عبد الله: لا تركب حمارا، فإنه إن كان حديدا أتعب يديك، وإن كان بليدا أتعب رجليك.
والمثل مضروب في الحمير المهزولة بحمار طياب، كما يضرب المثل ببغلة أبي دلامة.
قال شاعر:
وحمار بكت عليه الحمير ... دق حتى به الرياح تطير
كان فيما مضى يسير بضعف ... وهو اليوم واقف لا يسير
كيف يمشي وليس شيء يراه ... وهو شيخ من الحمير كبير
لمح القت مرة فتغني ... بحنين وفي الفؤاد زفير:
ليس لي منك يا ظلوم نصيب ... أنا عبد الهوى وأنت أمير
وقال خالد الكاتب:
وقائل إن حماري غدا ... يمشي إذا صوب أو أصعدا
فقلت لكن حماري إذا ... أحثثته لا يلحق المقعدا
يستعذب الضرب فإن زدته ... كاد من اللذة أن يرقدا
وقال أبو الحسين الجزار:
هذا حماري في الحمير حمار ... في كل خطو كبوة وعثار
قنطار تبن في حشاه شعيرة ... وشعيرة في ظهره قنطار
ولما مات حمار هذا الشاعر داعبه شعراء عصره بمراث وهزليات؛ فقال بعضهم:
مات حمار الأديب قلت قضى ... وفات من أمره الذي فاتا
مات وقد خلف الأديب ومن ... خلف مثل الأديب ما ماتا
ونحو هذين البيتين قول الآخر:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب
ق وصلت رقعتك؛ ففضضتها عن خط مشرق، ولفظ مؤنق؛ وعبارة مصيبة، ومعان غريبة؛ واتساع في البلاغة يعجز عنه عبد الحميد في كتابته، وسبحان في خطابته. وذكرت فيها حملا، جعلته بصفتك جملا؛ وكان كالمعيدي أسمع به ولا أراه. وحضر، فرأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد؛ قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور؛ فظننته أحد الزوجين اللذين حملهما نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته. صغر عن الكبر، ولطف في القدر؛ فبانت دمامته، وتقاصرت قامته؛ وعاد نحيفا ضئيلا، باليا هزيلا؛ بادي السقام، عاري العظام؛ جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب؛ يعجب العاقل من حلول الروح فيه؛ لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد؛ لا تجد فوق عظامه سلبا، ولا تلقى اليد منه إلا خشبا؛ لو ألقي للسبع لأباه، أو طرح للذئب لعافه وقلاه؛ وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده؛ لم ير القت إلا نائما، ولا الشعير إلا حالما. وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الشهر؛ فملت إلى استبقائه؛ لما تعلمه من محبتي في التوفير، ورغبتي في التثمير؛ وجمعي للولد، وادخاري لغد؛ فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء؛ لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتي فينسل، ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى؛ فملت إلى الثاني من رأييك، وعملت بالأخر من قوليك؛ وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمه رطبا مقام قديد الغزال؛ فأنشدني وقد أضرمت النار، وحددت الشفار، وشمر الجزار:
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمنشحمه ورم
وما الفائدة لك في ذبحي! وإنما أنا كما قيل:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
ليس لي لحم يصلح للأكل، فإن الدهر أكل لحمي؛ ولا جلد يصلح للدبغ، فإن الأيام مزقت أديمي؛ ولا صوف يصلح للغزل، فإن الحوادث حصت وبري. وإن أردتني للوقود فكف بعر أدفأ من ناري، ولم تف حرارة جمري برائحة قتاري. ولم يبق إلا أن تطالبني بذحل أو بيني وبينك دم. فوجدته صادقا في مقالته، ناصحا في مشورته. ولم أعلم من أي أموره أعجب: أمن مماطلته الدهر على البقاء، أم من صبره على الضر والبلاء، أم من قدرتك عليه مع عوز مثله، أم من إتحافك الصديق به على خساسة قدره. ويا ليت شعري إذا كنت والي سوق الأغنام، وأمرك ينفذ في المعز والضأن؛ وكل حمل سمين، وكبش بطين؛ مجلوب إليك، وموقوف عليك، تقول فيه فلا ترد. وتريد فلا تصد؛ وكانت هديتك هذا الذي كأنه انشر من القبور، أو أقيم عند النفخ في الصور؛ فما كنت مهديا لو انك رجل من عرض الكتاب، كأبي علي وأبي الخطاب! ما تهدي إلا كلبا أجرب، أو قردا أحدب.
وقال شاعر في هذا المعنى:
ليت شعري عن الخروف الهزيل ... ألك الذنب فيه أم للوكيل
لم أجد فيه غير جلد وعظم ... وذنيب له دقيق طويل
ما أراني أراه يصلح إذ أص ... بح رسما على رسوم الطلول
لا لشي ولا لطبخ ولا بي ... ع ولا بر صاحب وخليل
أعجف لو مطفل نال منه ... لغدا تائبا عن التطفيل
وقال شرف الدين بن عين وقد أهدى له بعض أصدقائه خروفا بعد ما مطله به:
أتاني خروف ما تشككت أنه ... حليف جوى قد شفه الهجر والمطل
إذا قام في شمس الظهرة خلته ... خيالا سرى في ظلمة ما له ظل
فناشدته: ما تشتهي؟ قال: قتة ... وقاسمته: ما شفه؟ قال لي: الأكل
فأحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... منعمة ما خص أطرافها فتل
وظل يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدمع في الخد منهل:
أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
وقال الحمدوني في المعزى:
أبا سعيد لنا في شاتك العبر ... جاءت وما إن بها بول ولا بعر
وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان: الشمس والقمر
لو أنها أبصرت في نومها علفا ... غنت له ودموع العين تنحدر:
يا مانعي لذة الدنيا بما رحبت ... إني ليقنعني من وجهك النظر
وقال أيضا:
ما أرى إن ذبحت شاة سعيد ... حاصلا في يدي غير الإهاب
ليس إلا عظامها، ولو تراها ... قلت هذي أرزان في جراب
وقال فيها:
لسعيد شويهة ... سلها الضر والعجف
قد تغنت وأبصرت ... رجلا حاملا علف:
بأبي من بكفه ... برء دائي من الدنف
فأتاها مطمعا ... فأتته لتعتلف
فتولى وأقبلت ... تتغنى من الأسف:
ليته لم يكن وقف ... عذب القلب وانصرف
وصف الأفاعي
قال بعض الشعراء يصف حية:
ر ينبت العشب في واد تكون به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر
جرداء شابكة الأنياب ذابلة ... ينبو من اليبس عن يافوخها الحجر
لو شرحت بالمدي ما مسها بلل ... ولو تكنفها الحاوون ما قدروا
قد جاهدوها فما قام الرقاة لها ... وخاتلوها فما نالوا ولا ظفروا
يكبو لها الورل العادي إذا نفخت ... جبنا ويهرب منها الحية الذكر
وقال خلف الأحمر:
وكأنما لبست بأعلى جسمها ... بردا من الأثواب أنهجه البلى
في عينها قبل وفي خيشومها ... فطس وفي أنيابها مثل المدى
وقال آخر:
أرقم كالدرع فيه وشم ... منمنم الظهر واللبان
يزحف كالسيل من تلاع ... كأن عينيه كوكبان
يهشم ما مش من نبات ... ويجذب النفس بالعنان
وقال ابن المعتز:
أنعت رقشاء لا تحيا لديغتها ... لو قدها السيف لم يعلق به بلل
تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنها كم درع قده بطل
وقال الظاهر البصري شاعر اليتيمة:
سرت وصحبي وسط قاع صفصف ... إذا أشرفت من فوق طود مشرف
رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومي برأس مثل رأس المجرف
وذنب مندمج معقف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفي
علوتها بحد سيف مرهف ... فظل يجري دمها كالقرقف
أتلفتها لم أرادت تلفي
وقال خلف الأحمر:
له عنق مخضرة مد ظهره ... وشوم كتحبير اليماني المرقم
إلى هامة مثل الرحى مستديرة ... بها نقط سود وعينان كالدم
وقال آخر:
وحنش كحلقة السوار ... غايته شبر من الأشبار
كأنه قضيب ماء جاري ... يفتر عن مثل تلظي النار
وقال خلف الأحمر:
صل صفا لا تنطوي من القصر ... طويلة الإطراف من غير حسر
داهية قد صغرت من الكبر ... مهروتة الشدقين حولاء النظر
تفتر عن عوج حداد كالإبر
وقال أبو هلال العسكري:
وخفيفة الحركات تفترع الربى ... كالبرق يلمع في الغمام الرائح
منقوطة تحكي صدور صحائف ... إبان تبدو من بطون صفائح
ترضى من الدنيا بظل صخيرة ... ومن المعيشة باشتمام روائح
وقال ابن المعتز:
كأنني ساورتني يوم بينهم ... رقشاء مجدولة في لونها برق
كأنها حين تبدو من مكامنها ... غصن تفتح فيه النور والورق
ينسل منها لسان تستغيث به ... كما تعوذ بالسبابة الفرق
وقال الهذلي في مزاحف الحيات:
كأن مزاحف الحيات وهنا ... قبيل الصبح آثار السياط
وقال آخر:
كأن مزاحفه أنسع ... جررن فرادى ومنها ثني
وقد وصف الشعراء العقرب وشبهوها في أشعارهم؛ فمن ذلك قول السري الرفاء:
سارية في الظلام مهدية ... إلى النفوس الردى بلا حرج
شائلة، في ذنبها حمة ... كأنها سبجة من السبج
وقال آخر:
ونضوة تعرف باسم ولقب ... ما بين عينيها هلال منتصب
موجودة معدومة عند الطلب ... تطعن من لاقته من غير سبب
بخنجر تسله عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب
وقال آخر:
تحمل رمحا ذا كعوب مشتهر ... فيه سنان بالحريق مستعر
أنف بأنيفا على حين قدر ... تأنيف أنف القوس شدت بالوتر
وقال عبد الصمد بن المعذل: يدعو بها على عدو له.
يا رب ذي إفك كثير خدعه ... مستجهل الحلم خبيث مرتعه
يسري إلى عرض الصديق قذعه ... صبت عليه حين جمت بدعه
ذات ذنابي متلف من يلسعه ... تخفضه طورا وطورا ترفعه
أسود كالسبجة فهي مبضعه ... ينطف منه سمه وسلمعه
تسرع فيه الحتف حين تشرعه ... يبرز كالقرنين حين تطلعه
في مثل صدر السبت حين تقطعه ... لا تصنع الرقشاء ما قد تصنعه
وقال ابن حمديس:
ومشرعة بالموت للطعن صعدة ... فلا قرن إن نادته يوما يجيبها
تذيقك حر السم من وخز إبرة ... إذا لسبت ماذا يلاقي لسيبها
إذا لم يكن لون البهارة لونها ... فمن يرقان دب فيها شحوبها
لها سورة خصت بمنكر صورة ... ترى العين فيها كل شيء يريبها
لها طعنة لا تستبين لناظر ... ولا يرسل المسبار فيها طبيبها
نسيت بها قيسا وذكرى طعينه ... وقد دق معناها وجل ندوبها
تجيء كأم الشبل غضبى توقدت ... وقد توج اليأفوخ منها عسيبها
عدو مع الإنسان يعمر بيته ... فكيف يوالي رقدة يستطيبها
ولولا دفاع الله عنا بلطفه ... لصبت من الدنيا علينا خطوبها
الباب الثاني فيما هو ليس قاتلا بفعله من دواب السموم
كأن يدي حربائها متشمسا ... يدا مذنب يستغفر الله تائب
وقال فيه أيضا:
وقد جعل الحرباء يصفر لونه ... وتخضر من لفح الهجير غباغبه
ويشبح بالكفين شبحا كأنه ... أخو فجرة عالي به الجذع صالبه
وقال فيه أيضا:
يصلي بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذع إلا أنه لا يكبر
إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفا وفي وقت الضحى يتنصر
القنفذ
وقال أبو بكر الخوارزمي يصفه:
ومدجج وسلاحه من نفسه ... شاكي الدوابر أعزل الأقبال
يمسي ويصبح لم يفارق بيته ... ولقد سرى عددا من الأميال
وتراه يكمن بعضه في بعضه ... فتطيش عنه أسهم الأهوال
عيناه مثل النقطتين وخطمه ... يحكي ثدي رضاعة الأطفال
وكأن أقلاما غرزن بظهره ... مس المداد رءوسها ببلال
تتهارب الحيات حين يرينه ... هرب اللصوص رأت سواد الوالي
وكأنه الخنزير إلا جلده ... وصياحه وتقارب الأوصال
وقد وصف الشعراء الفأر وشبهوه في أشعارهم وذكروا سوء فعله. فمن ذلك قول أعرابي وقد دخل البصرة فاشترى خبزا فأكله الفأر:
عجل رب الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
حتى يعجلن إلى التباب ... كحل العيون وقص الرقاب
مجررات فضل الأذناب ... مثل مداري الطفلة الكعاب
كيف لها بأنمر وثاب ... منهزت الشدق حديد الناب
كأنما يكشر عن حراب ... يفرسها كالأسد الوثاب
وقال أبو بكر الصنوبري:
يا لحدب الظهور قعس الرقاب ... لدقاق الخرطوم والأذناب
للطاف آذانها والخراطي ... م حداد الأظفار والأنياب
خلقت للفساد مذ خلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقبات في الأرض والسقف والحا ... ئط نقبا أعيا على النقاب
آكلات كل المآكل لا تس ... أمها شاربات كل الشراب
آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب
وقال في فأرة بيضاء:
وفأرة بيضاء لم تبتذل ... يوما لإطعام السنانير
إذ فأرة المسك سمعنا بها ... وهذه فأرة الكافور
النمل
وحي أناخوا في المنازل باللوى ... فصاروا به بعد القطين قطينا
إذا اختلفوا في الدار ظلت كأنها ... تبدد فيها الريح بزر قطونا
إذا طرقوا قدري مع الليل أصبحت ... بواطنها مثل الظواهر جونا
لهم نظرة يسرى ويمنى إذا مشوا ... كما مر مرعوب يخاف كمينا
ومشون صفا في الديار كأنما ... يجرون خيطا في التراب منينا
وفي كل بيت من بيوتي قرية ... تضم صنوفا منهم وفنونا
فيا من رأى بيتا يضيق بخمسة ... وفيه قريات يسعن مئينا
وقد وصفها الشعراء فمن ذلك ما قاله أبو الفرج الببغاء:
ما كل ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب
بمدرك في الجد والطلاب ... أيسر ما يدرك العقاب
شريفة الصبغة والأنساب ... تطير من جناحها في غاب
وتستر الأرض عن السحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب
يظل منها الجو في اغتراب ... مستوحشا للطير كالمرتاب
ذكية تنظر من شهاب ... ذات جران واسع الجلباب
ومنكب ضخم أثيث رابي ... ومنسر موثق النصاب
وراحتي ليث شرى غلاب ... نيطت إلى براثن صلاب
مرهفة أمضى من الحراب ... وكل ما حلق في الضباب
البيضة والدجاجة والديك فمن ذلك ما وصفوا به البيضة. قال أبو الفرج الأصبهاني من أبيات:
فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألفن بالتقدير والتلفيق
خلطان مائيان ما اختلطا على ... شكر ومختلف المزاج رقيق
فبياضها ورق وزئبق محها ... في حق عاج بطنت بدبيقي
وصفراء في بيضاء رقت غلالة ... لها وصفا ما فوقها من ثيابها
جماد ولكن بعد عشرين ليلة ... ترى نفسها معمورة من خرابها
وقال كشاجم من أبيات يذكر فيها جونة أهديت إليه وفيها بيض مسلوق مصبوغ أحمر:
وجاءنا فهيا ببيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر
حتى إذا قدمه مقشرا ... أبز من تحت عقيق دررا
يخال أن الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح
ومما قيل في الدجاجة والديك
قال الشاعر:
غدوت بشربة من ذات عرق ... أبا الدهناء من حلب العصير
وأخرى بالعقنقل ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير
كأن الديك ديك بني نمير ... أمير المؤمنين على السرير
كأن دجاجهم في الدار رقطا ... وفود الروم في قمص الحرير
فبت أرى الكواكب دانيات ... ينلن أنامل الرجل القصير
أدافعهن بالكفين عني ... وأمسح جانب القمر المنير
وقال أبو بكر الصنوبري من أبيات يصف ديكا:
مغرد الليل ما يألوك تغريدا ... مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا
لما تطرب هز العطف من طرب ... ومد للصوت لما مده الجيدا
كلا بس مطرفا مرخ جوانبه ... تضاحك البيض من أطرافه السودا
حالي المقلد لو قيست قلادته ... بالورد قصر عنها الورد توريدا
ران بفصي عقيق يدركان له ... من حدة فيهما ما ليس محدودا
تقول هذا عقيد الملك منتسبا ... في آل كسرى عليه التاج معقودا
أو فارس شد مهمازيه حين رأى ... لواء قائده للحرب معقودا
قال أبو هلال العسكري:
متوج بعقيق ... مقرط بلجين
عليه قرطق وشي ... مشمر الكمين
قد زين النحر منه ... ثنتان كالوردتين
حتى إذا الصبح يبدو ... مطرز الطرتين
دعا فأسمع منا ... من كان ذا أذنين
يزهى بطوق وتاج ... كأنه ذو رعين
وقال الأسعد بن بليطة:
وقام لنا ينعى الدجى ذو شقيقة ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا
ومهما اطمانت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأن أنو شروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاوس حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المسية البطا
وقال أبو عبد الله المالكي:
رعى الله ذا صوت أنسنا بصوته ... وقد بان في وجه الظلام شحوب
دعا من بعيد صاحبا فأجابه ... يخبرنا أن الصباح قريب
وقال ابن المعتز:
بشر بالصبح هاتف هتفا ... صاح من الليل بعد ما انتصفا
مذكر بالصبوح صاح لنا ... كأنه فوق منبر وقفا
صفق إما ارتياحة لسنا ال ... فجر وإما على الدجى أسفا
وقال أيضا فيه:
وقام فوق الجدار مشترف ... كمثل طرف علاه أسوار
رافع رأس طورا وخافضه ... كأنما العرف منه منشار
وقال السري الرفاء:
كشف الصباح قناعه فتألقا ... وسطا على الليل البهيم وأبرقا
وعلا فلاح على الجدار وشح ... بالوشي توج بالعقيق وطوقا
مرخ فضول التاج من لباته ... ومشمر وشيا عليه منمقا
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني يرثي ديكا ويصفه:
ابني منزلنا ونشو محلنا ... وغذى أيدينا نداء مشوق
لهفي عليك أبا النذير لو أنه ... دفع المنايا عنك لهف شقيق
وعلى شمائلك اللواتي ما نمت ... حتى ذوت من بعد حسن سموق
بقعت وصرت علق مضنة ... ونشأت نشو المقبل الموموق
وتكاملت جمل الجمال بأسرها ... لك من جليل خالص ودقيق
وكسيت كالطاوس ريشا لامعا ... متلألئا ذا رونق وبريق
من صفرة مع خضرة في حمرة ... تخييلها يخفى على التحقيق
عرض يجل عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التدقيق
وكأن سالفتيك تبر سائل ... وعلى المفارق منك تاج عقيق
وكأن مجرى الصوت منك، إذا نبت ... وجفت عن الأسماع بح حلوق،
ناي رقيق ناعم قرنت به ... نغم مؤلفة من الموسيقي
تزقو وتصفق بالجناح كمنتش ... وصلت يداه الصوت بالتصفيق
وخطرت ملتحفا بمرط حبرت ... فيه بديع الوشي كف أنيق
كالجلنارة أو ضياء عقيقة ... أو لمع نار أو وميض بروق
وكأنما الجادي جاد بصبغه ... لك أو غدوت مضمخا بخلوق
وقال شاعر أندلسي:
وكأن نفي النوم من عين فان ... بديع الملاحة حلو المعاني
بأجفان عينيه ياقوتتان ... كأن وميضهما جمرتان
على رأسه التاج مستشرفا ... كتاج ابن هرمز في الهرجان
وقرطان من جوهر أحمر ... يزينانه زين قرط الحصان
له عنق حولها رونق ... كما حوت الخمر إحدى القناني
ودار برائله حولها ... لها ثوب شعر من الزعفران
ودارت بجؤجئه حلة ... تروق كما راقك الخسرواني
وقام له ذنب معجب ... كباقة زهر بدت من بنان
وقاس جناحا على ساقه ... كما قيس ستر على خيرزان
وصفق تصفيق مستهتر ... بمحمرة من بنات الدنان
وغرد تغريد ذي لوعة ... يبوح بأشواقه للغواني
وقال أبو علي بن رشيق حيث مزق عنه جلباب الممادح، وتركه من شمل الذم في الرأي الفاضح:
قام بلا عقل ولا دين ... يخلط تصفيقا بتأذين
فنبه الأحباب من نومهم ... ليخرجوا من غير ما حين
بصرخة تبعث موتى الكرى ... قد أذكرت نفخ سرافين
كأنها في حلقه غصة ... أغصه الله بسكين
وقد وصف الشعراء السمك في أشعارها؛ فمن ذلك قول ابن الرومي يخاطب رئيسا ويستدعي منه سمكا:
عسرت علينا دعوة السمك ... أنى وجودك ضامن الدرك
اعلم وقيت الجهل أنك في ... قصر تلته مطارح الشبك
وبنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
بيض كأمثال ا لسبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك
حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحل معاقد التكك
فليصطد الصياد حاجتنا ... يصطد مودتنا بلا شرك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومحجوبة بالماء عن كل ناظر ... ولكنها في حجبها تتخطف
أخذنا عليهن السبيل بأعين ... رواصد إلا أنها ليس تطرف
فجئنا بها بيض المتون كأنها ... خناجر في أيماننا تتعطف
وقال أبو عبادة البحتري وذكر بركة:
لا يبلغ السمك المقصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنحة ... كالطير تنفض في جو خوافيها
وقال أبو طالب المأموني في المقلي منه:
ماوية فضية لحمها ... ألذ ما يأكله الآكل
يضمها من جلدها جوشن ... مذيل فهو لها شامل
لونت من فضتها عسجدا ... بالقلي لما ضافني نازل
وقال أيضا:
مائية في النار مصلية ... يصبغ من فضتها عسجد
كأنما جلدتها جوشن ... مزرفن الصنعة أو مبرد
وقال البحتري في الموضوع نفسه
وإذا دجتْ أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدُّجى في كتبه
فاللفظ يقربً فهمه في بعده ... منّا ويبعدُ نيله في قربه
فكأنهما والسمع معقودٌ بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه
الموز، وقال النجم بن إسرائيل يصفه
أنعتهُ موزاً شهيّ المنظر، ... مستحكم النُّضج، لذيذَ المخبرَ
كأنَّ تحت جلده المزعفر ... لفاتِ زبد، عجنت بسكر
وقال البهاء زهير
في ريحه، ولونه وطعمه ... كالمسك، أو كالتبرأ وكالضَّرب
وافت به أطباقه منضدَّاً ... كأنه مكاحهل من ذهب
وقال آخر
تحكي إذا قشرّته ... أنياب أفيال صغار
ذو باطن مثل الإقا ... ح، وظاهر مثل البهار
الكمثرى
وكمثراء بستان ... شهيّ الطعم والمنظر
له طعم إذا ذيق ... كماء الورد والسكرْ
كأنه في شكله، ولونه، ... وطعمه: قوالب من سكر
التفاح قال ابن المعتز
كأنما التفاح لما بدا ... يرفل في أثوابه الحمر
شهدٌ بماء الورد، مستودعَ ... في أكر من جامد الخمر
كأننا حين نحيّا به ... نستنشق النّدمن الجمر
الخوخ
كأنما الخوخ على دوحه ... وقد بدا أحمره العنْدمي
بنادٌ من ذهب على دوحه ... قد خضبت أنصافها بالدم
وخوخة بستان ذكي نسيمها ... من المسك والكافور وقد كسبت نشرا
ملبَّسة ثوباً، من التبر نصفه ... مصوغٌ، وباقيه كياقوتة حمرا
المشمش
ومشمشٍ جاءنا من أعجب العجب ... أشهى إليّ من اللّذات ولطربِ
كأنَّه وهبوبُ الريح ينثره ... بنادقٌ خرطت من خالص الذهب
وكأنما الأفلاك من طرب به ... نثرت كواكبها على الأغصان
وقال محيي الدين بن عبد الظاهر
حبذا مشمش على الدَّوح أضحى ... ذا شعاع يستوقف الأبصارا
شجرٌ أخضر لنا جعل اللّ ... هـ "تعالى" منه كما قال نارا
الرمان
رمانة صبغ الزمان أديمها ... فتبسَّمت في ناضر الأغصان
فكأنما هي حقة من عجسد ... قد أودعت خرزاً من المرجان
كأنها حقة، فإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت
حقاق كأمثال العقيق تضمَّنت ... فصوص بلخش، في غشاء حرير
إذا فضَّ عنه قشره فكأنه ... فصوص عقيق، في حقاق من الدرُّ
فدرٌّ، ولكن لم يدنسه عارض ... وماء، ولكن في مخازن من جمر
النخيل والبلح
كأن النخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرها حسناً قبابُ زبرجد
وقد علقت من حولها زينةً لها ... قناديلُ ياقوتٍ بأمراس عسجد
وقال السّري الرفاء
فالنخل من باسق فيه وباسقة ... يضاحك الطلعُ في قنواته الرُّطبا
أضحت شماريخه في النحر مطلعة ... إما ثرّيا، وإما معصما خضبا
تريك في الظل عقياناً، إن نظرت ... شمسُ النهار إليها خلتها لهبا
وقال آخر في البلح الأخضر
أما ترى النخل قد نثرت بلحاً ... جاء بشيراً بدولة الرطب
مكاحلا من زمرد خرطت، ... مقمَّعات الرؤوس بالذَّهب
وفي البلح الأحمر
أنظر إلى البسر إذ تبدّى ... ولونه قد حكى الشَّقيقا
كأنما خوصه عليه ... زبرجد مثمرٌ عقيقا
البطيخ
رأيتها في كف جلاّبها ... وقد بدت في غاية الحُسن
كسلّة خضراء مختومة ... عل الفصوص الحمر في القطن
وقال أبو طالب المأموني
ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضرّ مجرى السيل من صيب المزن
كحقة عاج ضببّت بزبرجد ... حوتْ قطعه الياقوت في عصب القطن
وقال في بطيخة صفراء
وبطيخة مسكيّة عسلية ... لها ثوب ديباج وعرف مدام
(2/321)
وإذا فصّلت للأكل كانت أهلّة، ... وإن لم تفصل فهي بدر تمام
وقال ابن التعاويذي
ربّ صفراء أتتنا ... وهي في أحسن حلّة
تعتريها صفرةً في ... لونها، من غير علة
حلوةُ الريق، حلال ... دمها في كل مله
نصفها بدر، وإن ... قسمهتها فهي أهلَّه
وقال آخر
ألا فانظروا البطيخ وهو مشققٌّ ... وفد حاز في التشقيق كل أنيق
تروه كبلّور في زمرد ... مركبة فيه فصوص عقيق
العنب قال ابن المعتزر
كأن عناقيد الكروم وظلَّها ... كواكب در، في سماء زبرجد
وقال السري الرفاء
والكرم مستبك الأفنان، توسعنا ... أجناسه في تساوي شربها عجباً
فكرمة قطرت أغصانها سبجاً، ... وكرمة قطرت أغصانها ذهباً
كأنما الورق المخضر دونهما ... غيران، يكسوهما من سندس حجباً
وقال آخر
كأنما عنقودها ... زنجٌ، جنوا سرقهْ
فأصبحت رؤوسهم ... على الذرى معلَّقة
قصب السكر
تحكيه سمر القنا ولكن ... تراه في جسمه طلاوه
وكلمّا زدته عذاباً ... زادك من ريقه حلاوه
النبق
وسدرة كل يوم ... من حسنها في فنون
كأنما النبقْ فيها ... وقد بدا للعيون
(2/322)
جلاجلٌ من نضار ... قد علقت في الغصون
الجزر قال ابن المعتز
أنظر إلى الجزر الذي ... يحكي لنا لهب الحريق
كمذبة من سندس ... ولها نصابٌ من عقيق
وقال ابن رافع القيرواني
انظر إلى الجور البديع كأنه ... في حسنه قضبُ من المرجان
أوراقه كزبرجد في لونها، ... وقلوبه صيغت من العيقان
اللوز الأخضر قال ظافر الحداد
كأنما قلوبه ... من توأم ومفرد
جواهر لكنما ال ... أصداف من زبرجد
التين قال ابن المعتز
أنعم بتين طاب طعما، واكتسى ... حسناً، وقارب منظراتً من مخبر
في برد ثلج، في نقابير، وفي ... ريح العبير، وطيب طعم السكر
يحكي إذا ما صغّ أطباقه ... خيما، ضربن من الحرير الأحمر
الفستق
والقلب ما بين قشريه يلوح لنا ... كألسن الطير من بين المناقير
زبرجدة خضراء وسط حريرة ... بحقة عاج في غلاف أديم
زبرجدة ملفوفة في حريرة، ... مضمَّنة درا مغشى بياقوت
النارنج قال ابن المعتز
وكأنما النارنج في أغصانه ... من خالص الذهب الذي لم يخلط
(2/323)
كر رماها الصولجان إلى الهوا ... فتعلّقت في جوه لم تسقط
وأشجار نارنج كأن ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدر
وقال آخر
انظر إلى منظر تلهيك بهجته ... بمثله في البرايا يضرب المثلُ
نار تلوح على الأغصان في شجر ... لا النار تطفا، ولا الأغصان تشتعل
وقال أبو الحسن الصقلي
إذا ميَّلتها الريح مالت كأكرة ... بجت ذهباً في صولجان زبرجد
الليمون قال ابن المعتز
يا حبذا ليمونةً ... تحدثُ للنفس الطرب
كأنها كافورة ... لها غشاء من ذهب
القلم: قال "ابن المعتز": القلم مجهز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يمل استزادة، يسكت واقفاً، وينطلق سائراً، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء، وكأنه يقبل بساط سلطان، أو يفتح نوَّار بستان.
وقال "علي بن عبيد" أصم سمع النحوي، أعيا من باقل، وأبلغ من سحبان وائل، يجهل الشاهد، ويخبر الغائب، ويجعل الكتب بين الإخوان ألسنا ناطقة، وأعيناً لاحظة، وربما ضمنها ودائع القلوب ما لا تبوح به الألسن عند المشاهدة.
ومن كلام "أبي حفص بن برد الأندلسي": ما أعجب شأن القلم يشرب ظلمة، ويلفظ نوراً! قد يكون قلم الكاتب أمضى من شباة المحارب القلم سهم ينقذ المقاتل، وشفرة تطيح بها المفاصل.
وقال "محمود بن أحمد الأصبهاني"
أخرسُ ينبيك بإطرقه ... عن كل ما شئت من الأمر
(2/324)
يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السرُّ وما يدري
كعاشق أخفى هواه وقد ... نمَّت عليه عبرةٌ تجري
تبصره في كل أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعري
يرى أسيراً، في دواة وقد ... أطلق أقواماً من الأسر
أخرقُ، لو لم تبرهِ لم يكن ... يرشق أقواماً وما يبري
كالبحر إذ يجري، وكالليل إذ ... يغشى، وكالصارم إذ يفري
وقال "أحمد بن عبد ربه"
يخاطب الغائب البعيد مما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا
شختُ ضئيلٌ، لفعله خطر ... أعظم به من ملمة خطرا
تمجّ فكَّاه ريقةً صغُرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا
يواقع النفسَ منه ما حذرت ... وربما جنبت به الحذرا
مهفهفٌ تزدهي به صحفٌ ... كأنما خليت به دررا
و"لابن المعتز" في قلم الوزير "القاسم بن عبيد الله"
قلمٌ ما أراه، أم فلك يجر ... ي بما شاء "قاسم" ويسير؟
خاشع في يديه يلئم قرطا ... سا كما قبَّل البساط شكور
ولطيف المعنى، جليل، نحيف، ... وكبير الأفعال وهو صغير!
كم منايا، وكم عطايا، وكم حت ... ف وعيش تضم تلك السطور
نقشت بالدُّجا نهاراً، فما أدر ... ي أخط فيهن أم تصوير
وقال "أبو تمام" في قلم "محمد بن عبد الملك الزيات"
لك القلم الأعلى الذي بشباتِهِ ... تصابُ من الأمر الكلى والمفاصل
(2/325)
لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُه ... وأري الجنى اشتارته أيد عوامل
له ريقة طلٌّ، ولكن وقعها ... باثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقه وهو راكب، ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللّطاف وأفرغت ... عليه شعابٌ الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا، وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذهن الجليَّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
رأيتَ جليلاً شأنهُ "وهو مرهف ... ضنا" وسميناً خطبهُ "وهو ناحل"
وقال "ابن الرومي"
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب، دانت خوفه الأممُ
فالموت والموت لا شيء يغالبه ... مازال يتبعُ ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال "المتنبي"
نحيف الشوى يعدو على أمّ رأسه ... ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع
يمجّ ظلاماً في نهار لسانه ... ويفهم عمن قال ما ليس يسمع
وقال "ابن نباته السعدي":
يرنو إلى الأفكار غير ملاحظ ... ويخاطب القرطاس غير محابي
ويعلم الآداب أفهام الورى ... وفؤاده صفر من الآداب
وقال "مهيار الديلمي" في وصف الدواة والأقلام:
(2/326)
وأمَ بنين استنبطتهم، فصدرها ... غصيصٌ بهم عند الحضانَ كظيم
يعقونها بالضغط، وهي عليهم ... عطوفٌ بدرات الرضاع رؤوم
يخال الأفاعي الرقش ما ضم منهم ... حشاها، وهم فيها أخ وحميم
فمن ذي لسان مفصح وهو أخرس، ... ومن بائح بالسرّ وهو كتوم
وقال "أبو الفتح البستي"
إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد ولكرمْ
كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة ... مدى الجهر أن الله أقسم بالقلم
وقال أعرابي من بني الحرث بن كعب يصف الشمس
مخبأةٌ: أما إذا الليل جنّها ... فتخفى، وأما بالنهار فتظهر
إذا انشق عنها ساطع الفجر، وانجلى ... دجا الليل، وانجاب الحجاب المستتر
وألبس عرض الأرض لوناً كأنه ... على الأفق الشرقي ثوبٌ معصفر
تحلّت، وفيها حين يبدو شعاعها ... ولم يجل للعين البصيرة منظر
بلونٍ، كدرع الزعفران يشوبه ... شعاع تلألأ، فهو أبيض أصفر
إلى أن علت وابيضّ منها اصفرارها ... وجالت كما جال المهيج المسَّهر
وجللت الآفاق ضوءاً ينيرها ... فخرَّ لها صدر الضحا يتسعر
ترى الظل يطوى حين يعلو، وتارة ... تراه إا مالت إلى الأرض ينشر
وتدنف حتى ما يكاد شعاعها ... يبين إذا غابت لمن يتبصر
كما بدأت إذا أشرقت في مغيبها ... تعود، كما عاد الكبير المعمَّر
فأفنت قروناً، وهي في ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كل يوم وتنشر
(2/327)
وقال الطغرائي يصف طلوع الشمس
وغروب البدر:
وكأنما الشمس المنرة إذ بدت ... والبدر يجنح للغروب وما غرّب
متحاربان: لذ مجنٌّ صاغه ... من فضة، ولذا مجنٌّ من ذهب
وقال ابن خفاجه الأندلسي يصف غروبها في نهر
قد ولَّت الشمس محتثة ... إلى الغرب ترنو بطرف كخيل
كأن سناها على نهره ... بقايا نجيع بسيف صقيل
وقال ابن طاهر الكرخي:
أما تر الأفق كيف قد ضرب ال ... غيم عليه من مزنة قببا
وحاجبُ الشمس من رفافها ... يضرم فيها بوره لهبا
كأنه فضة مطرَّقة ... أطرافها قد تطوَّست ذهبا
وقال ابن مكي
كأن الشمس إذ غربت غريق ... هوى في البحر، أو وافى مغاصا
فأتبعها الهلال على غروب ... بزورقه، يريد لها خلاصا
وقال عبد العزيز القرطبي:
إني أرى شمس الأصيل عليلةً ... ترتاد من نحو المغارب مغربا
مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدَّت على الدنيا بساطاً مذهبا
وقال ابن الرومي
وقد طفلت شمس الأصيل ونفضت ... على الجانب الغربي ورساً مذعذعاً
ولاحظت النّوار وهي ميضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا
(2/328)
كما لحظت عوداه عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا
وقال ابن أفلح من قصيدة
والشمس خافضة الجناح مسفةٌ ... في الغرب تنساب انسياب الأرقط
أو كالعروس بدت فأسدل دونها ... جنبات ستر كالجساد مخطط
وأتى الظلام على الضياء ما أتى ... أجلٌ على أمل، فلم يتأبط
وقال معروف الرصافي
نزلت ةتجر إلى الغروب ذيولاً ... صفراء تشبه عاشقاً متبولاً
تهتز بين يد المغيب، كأنها ... صبٌ تململ في الفراش عليلا
ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء أصيلا
وغدت بأقصى الأفق مثل عرارة ... عطشت فأبدت صفرة وذبولا
غربت فأبقت كالشواظ عقيبها ... شفقاً بحاشية السماء طويلاً
شفق يروع القلب شاحبُ لونه ... كالسيف ضمَّخ بالدما مسلولا
رقت أعليه وأسفله الذي ... في الأفق أشبع عصفراً محلولاً
قال ابن المعتز يصف الهلال
انظر إليه كزو رق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وكأن الهلال نصف سوار ... والثريا كف تشير إليه
فخ بوسط السماء ملقى ... ينتظر الصيَّد للنجوم
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجا نرجسا
(2/329)
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدي مثل وقف العاج
وقال شاعر
قلت لما هوت لمغربها الشم ... س ولاح الهلال للنُّظَّار
أقرض الشرق ضده الغرب ودينا ... راً فأعطاه الرهن نصف سوار
وقال ابن طباطبا
وكأن الهلال لما تبدي ... شطر طوق المرآة ذي التذهيب
أو كقوس قد أحنيت أو كنؤي ... أو كنون في مهرق مكتوب
وقال أبو عاصم البصري في الهلال والثريا والزهرة
رأيت الهلال وقد حلَّقت ... نجومُ الثريا لبكي تلحقه
فشيهته وهو في إثرها ... وبينهما الزهرة المشرقة
بقوسٍ لرامٍ: رمى طائراً ... فأرسل في إثره بندقه
وقال في اقتران الثريا بالهلال
فإذا ما تقارنا قلن طوق ... من لجين قد علقت فيه درَّه
وقال إبراهيم بن خفاجة في ذلك أيضاً
وابن الغزالة فوق النجم منعطف ... كما تأود عرجون بعنقود
وقال الطغرائي
فكأنه وكأنها في جنبه ... عنقودة في زرق في عسجد
وقال أبو الفضل الميكالي
كأكرة من فضة مجلوة ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وقال شاعر
وكأنّ الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل
كأنما النجم صيغ من ورق ... معلَّقٌ من هلال الأفق في أذن
(2/330)
وقال في شرف الدين الحسين
كأنّ الهلال نزيل السماء ... وقد قارن الزهرة النيرة
سوارٌ لحسناء من عسجد ... على قفله وضعت جوهره
وقال لبدر البشتكي في الهلال والنجوم حوله
ذيالة سمع عوج الريح ضوءها ... فطار لها بالقرب بعضُ شرار
وقال علي بن محمد الكاتب
بدا مستدَّق كأنه ... على الأفق الغربي مخلبُ طائر
ولاح لمسرّى ليلتين كأنما ... تفرق منه الغيم عن إثر حافر
وشمَّر عنه الغيم ذيلاً كأنما ... تكشَّف منه عن جناح محلّق
قال: والبدر كالملك الأعلى وأنجمه ... جنوده، ومباني قصره الفلك
وقال ابن المعتز
وكأن البدر لما ... لاح من تحت الثريا
ملك أقبل في التّا ... ج يفدي ويحيا
وقال في البدر مع الشمس
حتى رأي الشمس تتل ... والبدر في أفق السماء
فكأنها وكأنه ... قد حان من خمر وماء
والبدر في أفق السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقا
وقال السلامي
والبدر في أفق السما ... ء كروضة فيها غدير
وقال الشريف العقيلي
والبدر في كبد السماء كوردة ... بيضاء تضحك في رياض بنفسج
(2/331)
وقد برز البدر المنير ووجهه ... كجام لجين فيع آثار عنبر
سوادك من حيث تمسي هلا ... لاً إلى حيث تكملُ بدراً منيراً
نقاب لنركية أسودُ ... تنزل منه يسيراً يسيراً
وقال سهل بن المرزيان
شبهت بدر سمائها لما دنت ... منه الثريا في قميص سندسي
ملكاً فكأنما هو خوذة من فضة ... قد ركبت في هامة من عنبر
وللشريف الرضي في وصف السماء والأرض والليل والبرق
سمائي مذهبة بالبروق=وأرضي مفضَّضة بالحباب وروضي مطارفه غضَّةٌ=تطرَّز أطرافها بالذهاب وليلٌ ترى الفجر في عطفه=كما شاب بعض جناح الغرابُ يغار الظّلام على شمسه=إلى أن يواريها بالحجاب وتصقلُ أنجمه العاصفاتُ=إذا صدئت من عمود السَّحاب
وقال البحتري يصف الغيث
ذات ارتجاز بحنين الرَّعد ... مجرورة الَّيل صدوق الوعد
مسفوحة الدَّمع لغير وجدٍ ... لها نسيمٌ كنسيم الوردِ
ورنة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند
جاءت بها ريح الصَّبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقدِ
فراحت الأرض بعيش رغد ... من وشي أنوار الرّبى في بردٍ
(2/332)
كأنما غدرانها في الوهد ... يلعبن من حبابها بالنردِ
ومن قصيدة لصفي الدين الحلي يصف فيها الربيع
خلع الرّبيع علي غصون البان ... حللاً فواضلها على الكثبانِ
ونمت فروع الدوح حتى صافحت ... كفل الكثيب ذوائب الأغصانِ
وتتوّجّت هام الغصون وضرّجت ... خدّ الرياض شقائق النعمانِ
وتنوعت بسط الرياض فزهرها ... متباين الأشكال والألوانِ
من أبيض يققٍ وأصفر فاقعٍ ... أو أزرق صاف وأحمر قانٍ
والظلُّ يسرع في الخمائل خطوهُ ... والغصنُ يخطر خطرة النشوانِ
وكأنما الأغصان سوق رواقصٍ ... قد قيدت بسلاسل الريحانِ
والشمس تنظر من خلال فروعها ... نحو الحدائق نظرة الغيرانِ
والأرض تعجب كيف تضحكُ والحيا ... يبكي بدمعٍ دائم الهملان
حتى إذا افترّت مباسم زهرها ... وبكى السحاب بمدمع هتان
طفح السرور عليَّ حتّى إنّه ... من عظم ما قد سرَّني أبكاني
فاصرف همومك بالرّبيع وفصله ... إن الربيع هو الشباب الثاني
وله من قصيدة في وصف واد
تعانقت الأغصان فيه فأسلبت ... على الرَّوض أستاراً من الورق الخضرِ
إذا ما حبال الشمسِ منها تخلصتْ ... إلى روضه ألقت شراكاً من التبر
ومن قول أبي الفتح كشاجم في وصف الجمر يعلوه الرماد
كأنما الجمر والرماد وقد ... كاد يواري من ناره النّورا
ورد جنيُّ القطاف أحمر قد ... ذرّت عليه الأكف كافورا
(2/333)
ومن قصيدة لأبي الفرج عبد الواحد الببغا في وصف جيش
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسّيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
رد الظلام على الضّحى فاسترجع ... الإظلام من ليل العجاج الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلةً في جلمدٍ
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمدِ
ولأبي الفرج الغساني في وصف البدر
والبدر أوّل ما بدا متلثماً ... يبدي الضياء لنا بخد مسفر
فكأنما هو خوذةٌ من فضةٍ ... قد ركبت في هامة من عنبر
وله من قصيدة في وصف روضة
مداهن يحملن طلّ الندى ... فهاتيك تبرٌ وهذي عقيق
تنظم أوراقها درّهما ... وتنثر منها التي لا تطيق
يميل النسيم بأغصانها ... فبعض نشاوى وبعضٌ مفيق
ويوم ستارته غيمه ... وقد طرّزت رفيفها البروق
جعلتا البخور دخاناً له ... ومن شرر الراح فيه حريق
تظلّ به الشمس محجوبةً ... كأن اصطباحك فيه غبوق
على شجراتٍ رافعات الذيول ... لماء الجداول منها شهيق
ومن قصيدة للحسن بن علي بن وكيع في وصف روض
أسفر عن بهجته الروض الأغر ... وابتسم الدّوح لنا عن الزهر
أبدى لنا فصل الربيع منظراً ... بمثله تفتن الألباب البشر
وشياً ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللبس لكن للنّظر
عاينه طرف السماء فانثنى ... عشقاً له يبكي بأجفان المطر
فالأرض في زي عروسٍ فوقها ... من أدمع القطر نئارٌ من درر
(2/334)
***
زمان الفرد يا (فرعون) ولّى ... ودالت دولة المتجبِّرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض ... على حكم الرَّعية نازلينا
وتذهب النحل خفا ... فاً وتجيء موقرة
حوالب الشمع من ال ... خمائل المنورة
جوالب المآذي من ... زهر الرياض النيرة
مشدودة جيوبها ... عل الجني مزررة
وكل خرطوم أدا ... ة العسل المقطرة
وكل أنف قانئ ... فيه من الشهد بره
حتى إذا جاءت به ... جاست خلال الأدوره
وغيبته كالسّلا ... ف في الديان المحضرة
فهل رأيت النحل عن ... أمانة مقصره
ما اقترضت من بقلةٍ ... أو استعارت زهرة
أدت إلى الناس به ... سكرة بسكرة
وشيٌ طواه في الثرى صوانه ... حتى إذا ملّ من الطي انتشر
ومن قصيدة له في وصف الربيع
انظر إلى زهر الربيع وما جلت ... فيه عليك طرائف الأنوار
أبدت لنا الأمطار يه بدائعاً ... شهدت بحكمة منزل الأمطار
ما شئت للأزهار فيه صحرائه ... من درهم بهج ومن دينار
وجواهر لولا تغيّر حسنها ... جلّت عن الأثمان والأخطار
وله أيضاً في وصفه
ألست ترى وشيء الربيع المنمنما ... وما رصّع الربعي فيه ونظما
فقد حكت الأرض السماء بنورها ... فلم أدر في التشبيه أيهما السما
فخضرتها كالجو في حسن لونه ... وأنوارها تحكي لعينيك أنجما
فمن نرجس لما رأى حسن نقشه ... تداخله عجبٌ به فتبسّما
وأبدى على الورد الجنّي تطاولا ... فأظهر غيظ الورد في خده دما
وزهر شقيق نازع الورد فضله ... فزاد عليه الورد فضلاً وقدماً
وظلّ لفرط الحزن يلطم خدّه ... فأظهر فيه اللطم جمراً مضرماً
ومن سوسن لما رأى الصبغ كله ... على كل أنوار الريّاض تقسّما
تجلبب من زرق اليواقيت حلّة ... فأغرب في الملبوس منه وأحكما
وأنوار منثور تخالف شكلها ... فصار بها شكل الربيع متمما
جواهر لو قد طال فينا بقاؤه ... رأيت بها كل الملوك مختّما
وللقاضي محمد بن النعمان في وصف الهلال
انظر إلى حسن ذا الهلال وقد ... بدا لست مضين من عمره
(2/335)
وقد أطافت به كواكبه ... حسناً فبينته لمعتبره
مثل زنادٍ قد صيغ من ذهب ... يقدح ناراً وهنّ من شرره
ثم تولى يريد مغربه ... في شفق الشمس وهي في أثره
فخلته غائصاً ببحر دمٍ ... يقذف بالرائعات من درره
فلم أزل ليلتي أراجعه ... لحظي وأبكي للوقت من قصره
حتى تبدّى الصبّاح منتبهاً ... قبل انتباه المخمور من سكره
ومن قصيدة لسليمان بن حسان الصيبي في وصف شمعة
ومجدولةٍ مثل صدر القنا ... ة تعرّت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روحٌ لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا رنقت لنعاس عرا ... وقطت من الرأس لمن تنعس
وإن غازلتها الصبا حرّكت ... لسانها من الذهب الأملس
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياءٌ يجلّي دجي الحندس
فنحن من النور في أسعد ... وتلك في النار في أنحس
توقّدها نزهة للعيو ... ن ورؤيتها منية الأنفسي
تكيد الظَّلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في مجلس
فيا حامل العود حث الغنا ... ويا حامل الكأس لا تحبس
ويا صالح أنعم وعش سالماً ... علي الدهر في عزك الأقعس
ولأبي حسن العقيلي في وصف الصبح والبرق
الصبح ينشر فوق مسك الليل كافور الضياء
والبرق يذهب ما تفضضه الغيوم من السماء
(2/336)
فاشرب على ديباج نبتٍ قد أحاط بشرب ماء
فالعيش في زمن الربيع رقيق حاشية الرداء
وله أيضاً في وصف نارنجة
ونارنجة بين الرّياض نظرتها ... على غصنٍ رطبٍ كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكرة ... بدت ذهباً في صولجان زمرد
ولابن أبي عمرو الطرازي في وصف نار
نار جرت في غابةٍ ... ترمي العلى بالشهب
كأنها جيش وغى ... فرسانه من ذهب
ولعلي بن لؤلؤ الكاتب في وصف الصبح والليل
ربّ صبح كطلعة الوصل جلى ... جنحَ ليلٍ كطلعة الهجران
زار في حُلّة البزاة فولّى اللي ... ل عنه في حلة الغربان
ولأبي العباس الكندي في وصف الندى على البحر
كأن الندى في البحر بحران مائع ... على مائعٍ هذا على ذاك مطبق
فهذا لجينٌ سابح مترقرق ... وذلك لجبن في السماء معلّق
إذا أبصرته الشمس بعد احتجابها ... به ساعةٌ أبصرته يتمزّق
وللسري بن أحمد الكندي في وصف الفجر من قصيدة
وركائب يخرجن من غلس الدجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا
والفجر مصقول الرداء كأنه ... جلباب خودٍ أشربته خلوقا
(2/337)
وله من أخرى في وصف سحابة
وبكر إذا جنبتها الجنوب ... حسبت العشار تؤم العشارا
ترى البرق يبسم سراً بها ... إذا انتحب الرعد فيها جهارا
يعارضها في الهواء النّس ... يم فينثر في الأرض درّاً صغاراً
فطوراً يشقّ جيوب الحيا ... وطوراً يسخّ الدموع الغزارا
وله من أخرى
غيوم تمسّك أفق السما ... ء وبرقٌ يكتبه بالذهب
وخضراء ينثر فيها الندى ... فريد ندى ماله من ثقب
فأوراقها مثل نظم الحلى ... وأنهارها مثل بيض القضب
حللت بها مع ندامى سلوا ... عن الجد واشتهروا باللعب
وأغنتهم عن بديع السما ... ع بدائع ما ضمنته الكتب
وأحسن شيءٍ ربيع الحيا ... أضيف إليه ربيع الأدب
ولأبي بكر الخالدي في وصف الجو وإدبار الليل وإقبال الفجر
والجوّ يسحب من عليل هوائه ... ثوباً يجود بطله المترقرق
حتى رأينا الليل قوسّ ظهره ... هرماً وأثر فيه شيب المفرق
وكأن ضوء الفجر في باقي الدجى ... سيفٌ حلاه من اللجين المحرق
ولسعيد بن هاشم الخالدي في وصف المطر والصبح والليل والبرق
أما ترى الطلّ كيف يلمع في ... عيون نورٍ تدعو إلى الطربِ
في كل عينٍ للطل لؤلؤة ... كدمعة في جفون منتحبٍ
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد همّ منه بالهرب
والجو في حلة ممسّكة ... قد كتبته البروق بالذّهب
(2/338)
وللمهلبي الوزير في وصف الربيع
الورد بين مضمّخ ومضرجٍ ... والزهر بين مكللٍ ومتوج
والثلج تهبط كالنثار فقم بنا ... نلتذ بابنة كرمة لم تمزج
طلع البّهار ولاح نور شقائقٍ ... وبدت سطور الورد تلو بنفسجٍ
فكأن يومك في غلالة فضةٍ ... والنبت من ذهب على فيروزج
وللقاضي التنوخي أبي القاسم علي في وصف طول الليل والفجر
وليلة مشتاق كأن نجومها ... قد اغتصبت عين الكرى وهي نوّم
كأن عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كان سواد الليل والفجر ضاحكٌ ... يلوح ويخفى أسودٌ يبتسم
وله أيضاً في وصف وحشة الليل والنجوم والسماء
ربّ ليلٍ قطعته كصدودٍ ... وفراق ما كان فيه وداع
موحشٌ كالثقيل تقذى به العي ... ن وتأبى حديثه الأسماع
وكانّ النجوم بين دجاه ... سننٌ لاح بينهن ابتداع
وكأن السماء خيمة وشي ... وكأن الجوزاء فيها شراع
وله أيضاً في وصف رياض
ورياضٍ حاكت لهنّ الثريا ... حللاً كان غزلها للرعود
نثر الغيث درّ دمع عليها ... فتحلّت بمثل درّ العقود
أقحوان معانقٌ لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
وعيونٌ من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التسهيد
وكأن الشقيق حين تبدّى ... ظلمة الصدع في خدود الغيد
وكأن الندى عليها دموعٌ ... في جفون مفجوعةٍ بفقيد
(2/339)
وكتب محمد بن عبد الله السلامي إلى صديق له يصف التاريخ
أتنشط للصبوح أبا علي ... على حكم المنى ورضى الصديق
بنهر للرياح عليه درعٌ ... تذهب بالغروب وبالشروق
إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق
وجمرٌ شبّ في الأغصان حتى ... أضاع الماء في وهج الحريق
فدهم الخيل في ميدان تبرٍ ... يصاغ لها كراتٌ من عقيقِ
وكتب إليه في وصف نهر حوله أشجار الجلّنار
ونهر تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعُقارِ
كأن الماء ارضٌ من لجين ... مغشاةٌ صفائح من نضار
وأشجار محملّة كؤوساً ... تضاحك في احمرارٍ واخضرارِ
وله من قصيدة في وصف الرياض والبرق
نسب الرياض إلى الغمام شريف ... ومحلها عند النسيم لطيف
فاشرب وثقّل وزن جامك إنه ... يومٌ على قلب الزمان خفيف
أو ما ترى طور البروق توسّطت ... أفقاً كان المزنّ فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرجٌ ... خجلٌ ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرسٌ والرياض سطوره ... والزّهر شكلٌ بينها وحروف
ولأحمد صفي الدين بن صالح بن أبي الرجال يصف بها روضة صنعاء
روضةٌ قد صبا لها السعد شوقاً ... وصفا ليلها وطاب المقيل
(2/340)
جوها سجسجٌ وفيها نسيم ... كل غصن إلى لقاه يميل
صح سكانها جميعاً من الدّا ... ء وجسم النسيم فيها عليل
إيه يا ماء نهرها العذاب صلصل ... حبّذا يا زلال منك الصليل
إيه يا ورقها المرنّة غنى ... فحياة النفوس منك الهديل
روض صنعاء فقت طبعاً ووصفاً ... فكثير الثناء فيك قليل
نهر دافقٌ وجو فتيق ... زهر فائقٌ وظلٌ ظليل
لست أنسى انتعاش شحرور غصن ... طرباً والقضيب منه يميل
وعلى رأس دوحةٍ خاطب الور ... ق ودمع الغصون طلاً يسيل
ولسان الرعود يهتف بالسح ... ب فكان الخفيف منها الثقيل
وفم السحب باسمٌ عن بروق ... مستطير شعاعها مستطيل
ولابن سكرة الهاشمي في وصف روضة
أما ترى الروضة قد نوّرت ... وظاهر الروضة قد أعشبا
كأنما الأرض سماءٌ لنا ... نقطف منها كوكبا كوكبا
ومن زهرية لابن راجح الحلي
نثرت عقوداً سمائها إلا نداء ... بيد النسيم فللثرى إثراء
وبدت تباشير الربيع كأنما ... نشرت مطارف وشيه صنعاءُ
والأرض قد زهيت بحلي نباتها ... والجو حلة سحبه دكناء
والروض في نشوات سكرته وقد ... طافت عليه الديمة الوطفاء
وثنى الحيا عطف الغدير فصفّقت ... أطرافه وتغنّت الورقاء
فكأن أعطاف الغصون منابرٌ ... والورق في أوراقها خطباء
(2/341)
ومن زهرية لبدر الدين الذهبي
ترنّح عطف البان في الحلل الخضر ... وغنّى بألحان على عوده القمري
وراقت أزاهير الحدائق بالضحى ... نواظر أحداق بنوارها النضر
وأشرق خد الورد يبدي نضاره ... وأشرق جيد الغصن في لؤلؤ القطر
وبات سقيط الطل في كل روضةٍ ... ينبه في أرجائها ناعس الزهر
وما ذهبت شمس لأصيل عشيةً ... إلى الغرب حتى أذهبت فضة النهر
وغنّت قيان الطير في كل أيكة ... وقد راق كحل الطل في مقل الغدر
أقامت لها دوح الأراك أرائكا ... وأرخت لها أوراق أستارها الخضر
وأمسى أصيل اليوم ملقى من الضنى ... على فرش الأزهار في آخر العمر
بكته حماما الأراك وشقّقت ... عليه الصبا أثواب روضتها النضر
فكم من نحيب للحمائم بالضّحى ... عليه وللأنواء من دمعة تجري
ولعلي بن أحمد الجوهري من قصيدة في وصف الغيث
زرّ الصباح علينا شملة السحب ... ومدّت الريح منها واهي الطنب
صكّ النسيم فراخ الغيث فانزعجت ... ينفضن أجنحة من عنبر الزغب
ولأبي معمر بن أبي سعيد الإسماعيلي من قصيدة في وصف الثلج
فرحنا وقد بات السماء مع الثرى ... وغاب أديم الأرض عنا فما يرى
كأن غيوم الجو صوّاغ فضة ... تواصو برد الحلي عمداً إلى الورى
ولأبي العلاء السروي في وصف روض
مررنا على الروض الذي قد تبسّمت ... ذراه وأوداج السحائب تسفك
(2/342)
فلم نر شيئاً كان أحسن منظراً ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك
وله أيضاً في وصفه من قصيدة
أما ترى قضب الأشجار قد لبست ... أنوارها تتثنى بين جلاّس
منظومة كسموط الدرّ لابسةً ... حسناً يبيح دم العنقود للحاسي
وغرّدت خطباء الطير ساجعة ... على منابر من ورد ومن آسٍ
ولأبي الفياض سعد بن أحمد الطبري من قصيدة في وصف رياض
أصبيحة النيروز خير صبيحة ... حيّت بها الأنواء والأنوار
فبكل شعب روضة معطار ... تفتر عنها ديمة مدرار
ماست بها الأفنان في أسحارها ... نشوى فماست تحتها الأشجار
وتبرّجت أزهارها وتبلّجت ... فكأنما أزهارها أبصار
ولأبي قاسم الدينوري في وصف جواد
ومطهّم طرف العنان معوّدٍ ... خوض المهالك كلّ يوم براز
وإذا توغّل في ذرى متمنّع ... صعب بعيد العهد بالمجتاز
تركت سنابكه بصمّ صخوره ... أثراً يلوح كنقش صدر البازي
وله في وصف سفرجل وتفاح ورمان وأذربون
بعثت إليك ضحى المهرجا ... ن بمعشوقة العرف والمنظرِ
(2/343)
معطرةٍ صانها في الحجا ... ل مطارف من سندس أخضر
وبيضاء رائقة غضّة ... منقطة الوجه بالعصفر
وحق عقيق ملاه الهجي ... ر من الجوهر الرائق الأحمر
وأقداح تبرٍ حشت قعرها ... يد الشمس بالمسك والعنبر
فكن ذا قبول لها إنها ... هدايا مقلٍّ إلى مكثر
وعش ما تشاء كما تشتهي ... بعزٍّ يدوم إلى المحشر
وله في النارنج
أما ترى شجر النارنج طالعة ... نجومها في غصون لدنة ميل
كأنها بين أوراق تحفُّ بها ... زهر المصابيح في خضر القناديل
ولأبي الفضل الميكالي في وصف الشقائق
تصوغ لنا كف الربيع حدائقاً ... كعقد عقيق بين سمط لآلي
وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذارى نقطت بغوالي
وله في اقتران الزهرة والهلال
أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلالٍ لونه يحكي اللهب
ككرة من فضّة مجلوةٍ ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وله في الفجر
أهلاً بفجر قد نضا ثوب الدجى ... كالسيف جرد من سواد قراب
وقال في وصف الثلج الساقط على غصون الشجر
نثر السحاب على الغصون ذرارة ... أهدت لها نوراً يروق ونوراً
شابت ذوائبها فعدن كأنها ... أجفان عين تحمل الكافورا
وقال في الجليد
رب جنين من جنى نمير ... مهتّك الأستار والضمير
(2/344)
سللته من رحم الغدير ... كأنه صحائف البلّورِ
أو أكرٌ تجسّمت من نور ... أو قطع من خالص الكافور
لو بقيت سلكاً على الدّهور ... لعطلت قلائد النّحور
وأخجلت جواهر البخور ... وسميت ضرائر الثغور
يا حسنه في زمن الحدور ... إذ فيضه مثل حشا المهجور
يهدي إلى الأكباد والصدور ... روحاً تحاكي نفثة المصدور
ولأبي طاهر بن الهاشمي في وصف روضة
وروضة زارها الندى فغدت ... لها من الزهر أنجمٌ زهر
تنشر فيها أيدي الربيع لنا ... ثوباً من الوشي حاكه القطر
كأنما شقّ من شقائقها ... على رباها مطارف خضر
ثم تبدّت كأنها حدقٌ ... أجفانها من دمائها حمر
ولأبي نصر سهل بن المرزبان في وصف البدر
كم ليلة أحييتها ومؤانسي ... طرف الحديث وطيب حث الأكؤس
شبهت بدر سمائها لما دنت ... منه الثريا في قميص سندسي
ملكاً مهيباً قاعداً في روضةٍ ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس
وللحسن بن أحمد اليروجردي في حوض لبعض الرؤساء
حوض يجود بجوهر متسلسل ... ساد الجواهر كلها بنفاستهِ
لا زال عذباً جارياً ببقاء من ... هو مثله في طبعه وسلآسته
ووصف ابن أنيس سيف عمرو بن معدي كرب فقال
أخضر المتين بين حدّيه نورٌ ... من فرند تحار فيه العيون
(2/345)
أوقدت فيه للصّواعق نارٌ ... ثم ساطت به الزعاف المنون
فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياءً فلم تكد تسبين
فكأن الفرند والرونق الجا ... ري في صفحتيه ماءٌ معين
وكأن المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون
ما يبالي من انتضاه لحربٍ ... أشمالٌ سطت به أم يمين
وقال ابن عبد ربه في وصف الرمح والسيف
بكل ردينيّ كأنّ سنانه ... شهابٌ بدا في ظلمة الليل ساطعُ
تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمالُ وهي فجائعُ
وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه ... فهنَّ لحبّات القلوب قوارعُ
وذي شطبٍ تقضي المنايا لحكمهِ ... وليس لما تقضي المنيّةُ دافعٌ
وقال أيضاً في وصف الحرب
ومعتركِ تهزّ به المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكورٍ
لوامعُ يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرفُ البصير
يحوّم حولها عقبانٌ موت ... تخطفّت القلوب من الصدور
ومن قوله في وصف الحرب وأبطالها
سيوفٌ يقيلُ الموتُ تحت ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الطلى شربٌ
إذا اصطفّت الراياتُ حمراً متونها ... ذوائبها تهفو فيهفو لها القلبُ
ولم تنظق الأبطالُ إلا بفعلها ... فألسنها عجمٌ وأفعالها عربُ
إذا ما التقوا في مازقٍ وتعانقوا ... فلقياهم طعنٌ وتعنيفهم ضربُ
(2/346)
ولابن قلاقس في وصف السحاب والبرق والغيث
سرى وجبين بالطّلّ يرشح ... وثوب الغوادي بالبروق موشّحُ
وفي طيّ أبراد النسيم خميلةٌ ... بأعطافها نورُ المنى يتفتح
يضاحك في مثنى المعاطف عارضٌ ... مدامعةُ في وجنة الرّوض تسفحُ
وتورى به كفُّ الصَّبا زندبارقٍ ... شرارته في فحمة الليل تقدحُ
ومن قصيدة لأبي القاسم عبد الصمد بن بابك في الصاحب يصف له فيها إضرام النار في بعض غياض طريقه
وليلةٍ بت أشكو الهمّ أوّلها ... وعدت آخرها أستنجد الطّربا
في غيضةٍ من غياض الحزن دانيةٍ ... مد الظلام على أوراقها طنبا
حتى إذا النار طاشت في ذوائبها ... عاد الزمرّد من عيدانها ذهبا
مرقت منها وثغر الصبّح مبتسمٌ ... إلى أغرّ يرى المذخور ما وهبا
يا أعزر الناس أنواء ومحتلبا ... وأشرف الناس أعراقاً ومنتسبا
أصبحتُ ذا ثقة بالوفر منك وإنْ ... قال العواذل ظنٌّ ربّما كذبا
فحسن ظنّي بك استوفى مدى أملي ... وحسن رأيكَ لي لم يبقِ لي أربا
ومن قصيدة لأبي سعيد الرستمي يصف بها داراً بناها الصاحب بن عباد
وسامية الأعلامِ تلحظُ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلاً
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمُز ... فأصبحَ في أرض المدائن عاطلاً
فلو لحظت جنات تدمُر حسنها ... درتْ كيف تبنى بعدهنّ المجادلا
تناطح قرن الشّمس من شرفاتها ... صفوف ظباءٍ فوقهنّ مواثلا
ولو أصبحت داراً لك الأرض كلّها ... لضاقت بمن ينتاب دارك آملاً
وأغنى الورى عن منزل من بنت له ... معاليه فوق الشعريين منازلا
ولا غرو أن يستحدث الليثَ بالثرى ... عريناً وأن يستطرقَ البحر ساحلا
ولم تعتمدْ داراً سوى حومةِ الوغى ... ولا خدماً إلا القنا والقنابلا
(2/347)
والله ما أرضى لك الدهرَ خادماً ... ولا البدرَ منتاباً ولا البحر نائلاً
ولا الفلك الدوار داراً ولا الورى ... عبيداً ولا زهر النجومِ قبائلاً
فإنَّ الذي يبينهِ مثلكَ خالدٌ ... وسائرُ مابيني الأنامُ إلى بلى
ولخليل مطران بك في وصف روض
أيها الروضُ كنْ لقلبي سلاماً ... وملاذاً من الشقاءِ الملازمْ
زهرٌ ذابلٌ كأني أراهُ ... ثملاً من أنفاسهِ في الكمائمْ
وغديرٌ صافٍ أقام سياجاً ... حولهُ باسقٌ من الدَّوح قائم
تتناغى بيضٌ من الطير فيهِ ... سابحاتٌ وتحتها النجم عائم
كيفما سرن فالطريق عقودٌ ... نظمت من محاجرِ ومباسم
حبذا البدرُ مؤنساً يتجلى ... كحبيبٍ بعدَ التغيبِ قادمُ
حبذا رسمهُ البرايا كأبهى ... ماترى العينُ في صحيفةِ راسمٍ
حبذا الماءُ والمصابيحُ فيهِ ... كبنانٍ يزينها بخواتمْ
جنةٌ بانتِ المكارهُ عنها ... وهي بكرٌ من الأذى والمحارمْ
إنما أهلهل طيورٌ حسانٌ ... إن دعاها الصباحُ قامت تنادمْ
وضياءٌ يموجُ في الماءِ حتى ... لنراهُ كأنهُ متلاطم
ومروجٌ مدبحاتٌ كوشي ... أتقنتْ صنعه حسان المعاصمْ
وغصون تهزها نسمات ... كمهود تزهن روائم
وقال البحتري واصفاً صناعة الكتابة والإنشاء
تفننتَ في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميد
في نظام من البلاغة ماش ... ك امرؤ أنه نظام فريد
(2/348)
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد
مشرق في جوانب السمع مايخ ... لقه عوده على المستفيد
ماأعيرت منه بطون القراطي ... س وما حملت ظهور البريد
حجج تخرس الألد بأل ... فاظ فرادى كالجوهر المعدود
ومعان لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
كالعذارى غدون في الحلل البي ... ض إذا رحن في الخطوط السود
وقال ابن حمد يس الصقلي يصف داراً بناها المنصور
أعمرْ بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معموراً
قصرٌ لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيراً
واشتق من معنى الجنان نسيمة ... فيكاد يحدث بالعظام نشوراً
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقاً وسديراً
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم اثنيت بناظري محسوراً
فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملاك فيه كبيراً
لو أنه بالإيوان قوبل حسنة ... ماكان شيئاً عنده مذكوراً
أعيت مصانعة على الفرس الألى ... لرفعوا البناء وأحكموا التدبير
ومضت على الروم الدهور ومابنوا ... لملوكهم شبهاً له ونظير
أذكرتنا الفردوس حين رأيتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصوراً
ومحصب بالدر تحسب أريتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصورا
ومحصب بالدر تحسب تربة ... مسكاً تضوع نشره وعبيراً
ووصف أعرابي تزوج امرأتين ماوقع له منهما فقال
تزوجتُ اثنتين لفرط جهلي ... بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أصير بينهما خروفاً ... أنعم بين أكرم نعجتين
فصرت كنعجة تضحي وتمسي ... تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذي يهيج سخط هذي ... فما أعري من إحدى السخطتين
وألقى في المعيشة كل ضر ... كذاك الضر بين الضرتين
لهذي ليلة ولتلك أخرى ... عتاب دائم في الليلتين
فإن أحببت أن تبقى كريماً ... من الخيرات مملوء اليدين
فعش عزباً فإن لم تستطعه ... فضرباً في عراض الجحفلين
وقال أبو تمام حبيب بون أوس الطائي في وصف الربيع
با صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوزه الأرض كيف تصور
تريا نهاراً مشمساً قد زانه ... زهر الربا فكأنما هو مقصر
دنيا معاشٌ للورى حتى إذا ... حل اتلربيع فإنما تهي منظر
(2/349)
أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نوراً تكاد له القلوب تنور
من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين لديك تحذر
وقال أبو عبادة البحتري يصف قصر المعتز بالله
لما كملتَ رويةً وعزيمةً ... أعملتَ رأيك في ابتناء الكامل
وغدوت من بين الملوك موفقاً ... منه لابمن حلة ومنازل
ذعر الحمام وقد ترنم فوقه ... من منظر خطر المزلة هائل
رفعت لمخترق الرياح سموكه ... وزهت عجائب حسنه المتحايل
وكأن حيطانَ الزجاج بجوه ... لجج يمجن على جنوب سواحل
وكأن تفويتَ الرخام إذا التقى ... تأليفه بالمنظر المتقابل
حبك المغمام رصفن بين منمر ... ومسير ومقارب ومشاكلٍ
لبست من الذهب الصقيل سقوفه ... نوراً يضيء على الظلام الحافل
فترى العيون يجلن في ذي رونق ... متلهب العالي أنيق السافل
وكأنما نشرت على بستانه ... سيراء وشي اليمنة المتواصل
أغنته دجلة إذ تلاحق فيضها ... عن صوب منسحب الرباب الهاطل
وتنفست فيه الصبا فتعطفت ... أشجاره من حول وحواملي
وقال المتنبي في وصف جواد
ويومٍ كلونِ المدنفين كمتنه ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
له فضلة من جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانه ... فيطغى وأرخيه مراراً فيلعب
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
(2/350)
وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وقال صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750هـ? في وصف الربيع
ورد الربيعُ فمرحبا بورودهِ ... وبنور بهجته ونور وروده
وبحسن منظره وطيب نسيمه ... وأنيق مبسمه ووشى بروده
فصل إذا افتخر الزمان فإنه ... إنسان مقلته وبيت قصيده
يغني المزاج عن العلاج نسيمة ... باللطف عند هبوبه وركوده
ياحبذا أزهاره وثماره ... ونبات ناجمة وحب حصيده
والغصن قد كسي الغلائل بعدما ... أخذت يدا كانون في تجريده
نال الصبا بعد المشيب وقد جرى ... ماء الشبيبة في منابت عوده
والو رد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف يبه سراة جنوده
ونظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده
وانظر إلى المنثور في منظومة ... متنوعاً بفضوله وعقوده
وقال أيضاً في وصف حديقة
وأطلق الطير فيها سجع منطقه ... مابين مختلف منه ومتفق
والظل يسرق الدوح خطوته ... وللمياه دبيب غير مسترق
وقد بدا الورد مفتراً مباسمه ... والنرجس الفض فيها شاخص الحدق
والسحب تبكي وثغر البرق مبتسم ... والطير تسجع من تيه ومن أنق
فالطير في طرب والسحب في حرب ... والماء في هرب والغصن في قلق
وقال أحمد شوقي بك في وصف الطبيعة
تلك الطبيعة قف بنا ياساري ... حتى أريك بديع صنع الباري
(2/351)
الأرض حولك والسماء اهتزتا ... لروائع الآيات والآثار
ولقد تمر على الغدير تخاله ... والنبت مرآة زهت بإطار
حلو التسلسل موجه وخريره ... كأنامل مرت على أوتار
ينساب في مخضلة مبتلة ... منسوجة من سندس ونضار
وترى السماء ضحى وفي جنح الدجى ... منشقة عن أنهر وبحار
في كل ناحية سلكت ومذهب ... جبلان من صخر وماء جار
وقال محمد حافظ بك إبراهيم يصف المنيل
نظرت للنيل فاهتزت جوانبه ... وفاض بالخير في صهل ووديان
يجري على قدر في كل منحدر ... لم يجف أرضاً ولم يعمد لطغيان
كأنه ورجال الري تحرسه ... مملك سار في جند وأعوان
قد كان يشكو ضياعاً مذ جرى طلقاً ... حتى أقمت له خزان أسوان
وقال أيضاً عن لسان حال اللغة العربية واصفاً لها
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني ... عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالاً وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ... وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدركامن ... فهل سألوا الغوص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني ... ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة ... وكمك عز أقوام بعز لغات
(2/352)
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا ... فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياني
ولو تزجون الطير يوماً علمتمُ ... بما تحته من عثرة وشتات
سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً ... يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي غي البلى وحفظته ... لهن بقلب دائم الحسرات
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق ... حياءً بتلك الأعظم النخرات
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً ... من القبر يدنيني بغير أناة
وأسمع للكتاب في مصر ضجة ... فأعلم أن الصائحين نعاتي
أيهجرني قومي عفا الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواتي
سرت لوثة الأعجام فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لاقيامة بعده ... ممات لنعمري لم يقس بممات
وقال شاعر العراق معرف الرصافي واصفاً قطار البخار
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها ... وتملا صدر الأرض في سيرهم رعبا
تمشت بنا ليلاً تجر وراءها ... قطاراً كصف الدوح تسحبه سحباً
فطوراً كعصف الريح شديدة ... وطوراً رخاءً كالنسيم إذا هبا
تساوى لديها السهل والصعب في السرى ... فما استسهلت سهلاً ولا استصعبت صعباً
تدك متون الحزن دكا وإنها ... لتنهب سهل الأرض في سيرها نهبا
يمر بها العالي فتعلو تسلياً ... ويعترض الوادي فتجتازه وثبا
طوت بالمسير الأرض حتى كأنها ... تسابق قرص الشمس أن تدرك الغربا
هو العلم يعلو بالحياة سعادة ... ويجعلها كالعلم محمودة العقبى
(2/353)
وقال ابن حمد يس الأندلسي في وصف
ومصفح الأبواب تبراً نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيراً
وإذا نظرت إلى غرائب شقفه ... أبصرت روضاً في السماء نضيراً
وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويراً
وكأنما الشمس فيه ليقةٌ ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازورد فيه نخزم ... بالخط في ورق السماء سطوراً
وقال المرحوم محمود باشا سامي البارودي يصف حرب سكان جزيرة اقريطش "كريد" حين خرجوا عن الطاعة سنة 1282هـ? ويتشوق إلى مصر
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب ... فوق المتالع والربى بجران
لاتستبين العين في ظلمائه ... إلا اشتغال أسنة المران
تسري به مابين لجة فتنةٍ ... تسمو غواربها على الطوفان
في كل مربأة وكل ثنية ... تهدار سامرة وعزف قيان
نستن عادية ويصهل أجرد ... وتصيح أجراس ويهتف عان
قومٌ أبى الشيطان إلا خسرهم ... فتسللوا من طاعة السلطان
ملؤا الفضاء فما يبين لناظر ... غير التماع البيض والخرصان
فالبدر أكدر والسماء مريضة ... والبحر أشكل والرماح دوان
والخيل واقفة على أرسانها ... لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا ... يتكلمون بألسن النيران
حتى إذا ماالصبح أسفر وارتمت ... عيناي بين ربى وبين مجان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوها ... داعنة والماء أحمر قان
فتوجست فرط الركاب ولم تكن ... لتهاب فامتنعت على الأرسان
فزعت فرجعت الحنين وإنما ... تحنانها شجن من الأشجان
ذكرت م وىاردها بمصر وأين من ماء بمصر منازل الرمان ...
والنفس لاهية وإن هي صادفت ... خلفاً بأول صاحب ومكان
فسقي السماك محلة ومقامة ... في مصر كل مرنة مرنان
حتى تعود الأرض بعد ذبولها ... شتى النماء كثيرة الألوان
بلدٌ خلعت بها عذار شبيبي ... وطرحت في يمنى الغرام عناني
فصعيدها أحوى النبات وسرحها ... ألمى الظلال وزهرها متداني
فارقتها لما هو كائن ... والمرء طوع تقلب الأزمان
حمل الزمان على مالم أجنه ... إن الأماثل عرضة الحدثان
نقموا علي وقد فتكت شجاعتي ... إن الشجاعة حلية الفتيان
فليهنأ الدهر النغيور برحلتي ... عن مصر ولتهدأ صروف زماني
فلئن رجعت وسوف أرجع واثقاً ... بالله أعلمت الزمان مكاني
صادقت بعض القوم حتى خانني ... وحفظت منه مغيبه فرماني
زعم النصيحة بعد أن بلغت به ... غشا وجازى الحق بالبهتان
فليجر بعد كما أراد بنفسه ... إن الشقي مطية الشيطان
وكذا اللئيم إذا أصاب كرامة ... عادى الصديق ومال بالأخوان
كل امرئ يجري على أعرافه ... والطبع ليس يحول في الغنسان
فعلام يلتمس العدو مساءتي ... من بعد ماعرف الخلائق شأني
أنا لاأدل وإنما يزع الفتى ... فقد الرجاء وقلة النإخوان
فليعلمن أخو الجهالة قصره ... عني وإن سبقت به قدمان
فلربما رجح الخسيس من الحصى ... بالدر عند تراجح الميزان
شرف خصصت به وأخطأ حاسدي ... مسعاته فهذي به وقلاني
وقال السيد عبد الله النديم المتوفى سنة 1314هـ? يصف قطاراً بخارياً
نظر الحكيم صفاته فتحيرا ... شكلاً كطود بالبخار مسيرا
دوما يحن إلى ديار أصوله ... بحديد قلب باللهيب تسعرا
ويظل يبكي والدموع تزيده ... وجداً فيجري في الفضاء تستراً
(2/354)
تلقاكه حال السير أفعى تلتوي ... أو فارس الهيجا أثار العثيرا
أو أكرة أرسلتها ترمي بها ... غرضاً فجلت أن ترى حال السرى
أو سبع غاب قد أحس بصائد ... في غابة فعدا عليه وزمجراً
فكأنه المديرون جاء غريمه ... فانسل منه وغاب عن تلك القرى
أو أكنه شهب هوت من أفقها ... أو قبة المنطاد تنبذ بالعرا
لاعجب للنيران إذ يمشي بها ... فمن اللظى تجري الورى كي تحشرا
وقال أحمد بك شوقي يصف الجسر الواصل بين ضفتي البسفور
أمير المؤمنين رأيت جسراً ... أمر على الصراط ولا عليه
له خشب يجوع السوس فيه ... وتمضي الفار لاتأوي إليه
ولا يتكلف المنشار فيه ... سوى مر الفطيم بساعديه
ويبلى فعل من يمشي عليه ... وقبل النعل يدمي أخمصيه
وكم قد جاهد الحيوان فيه ... وخلف في الهزيمة حافريه
وأسمج منه في عيني جباة ... تراهم وسطه وبجانبيه
إذا لاقيت واحدهم تصدى ... كعفريت يشير براحتيه
ويمشي (الصدر) فيه كل يوم ... بموكبه السني وحارسيه
ولكن لا يمر عليه إلا ... كما مرت يداه بعارضيه
ومن عجب هو الجسر المعلى ... على (البسفور) يجمع شاطئيه
يفيد حكومة السلطان مالا ... ويعطيها الغنى من معدنيه
يجود العالمون عليه هذا ... بعشرته وذاك بعشرتيه
وغاية أمره أنا سمعنا ... لسان الحال ينشدنا لديه
(أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ماقل ممتنعاً عليه)
(وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه)
(2/355)
بركة عليها أشجار من ذهب وفضة وعلى حافلتها أسود قاذفة بالمياه
(2/357)
وضراغم سكنت عرين رآسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا
أسدٌ كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدث هناك مثير
وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها ... ناراً وألسنها اللواحس نوراً
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديراً
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديراً
* * *
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسحوراً
شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيراً
قد سرجت أغصانها فكأنما ... قبضت بهن من الفضاء طيوراً
وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تفرد بالمياه صغيراً
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجروراً
وتريد في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤاً منثوراً
* * *
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغوراً
(2/358)
وقال حفني بك ناصيف المتوفى سنة 1919م يصف حريق عابدين
وافى يقبل راحتيك العام ... وحنت إليك رؤوسها الأيام
والدهر أقسم لايجيء بغير ما ... ترضى وكم يرت له أقسام
فاقبل معاذير الزمان فطالما ... قبلت معاذير المنيب كرام
واغفر جنايته على القصر الذي ... لم تحو مصر نظيره والشام
شبت به النيران فارتاعت لها ... مهج الأنام وهالها استعظام
لولا الدخان أحاط حول لهيبها ... ماشك فرد أنهما أعلام
أمرٌ به نفذ القضاء وليس في ... أحكامه نقضٌ ولا إبرام
بل حكمة شاء الإله بيانها ... لعبادة ليذيع الاستسلام
حتى يروا أن الملوك وإن علوا ... قدراً تسير عليهم الأحكام
فإذا اقتدى بهم الرعية أحسنوا ... صبراً وخفت عنهم الآلام
عين السماء لعابدين تطلعت ... حسداً عليك وللعيون سهام
وتشوق القصر الكريم لأهله ... والشوق في قلب المحب ضرام
لم يستطع صبراً على طول النوى ... والصبر في شرع الغرام حرام
فتصعدات زفراته وتأججت ... جمراته والصب كيف يلام
لولا الدموع من المطافئ ماانقضى ... منه الهيام ولم يبل أوام
خرقت طباق الجو إلا أنها ... برد قصارى آمرها وسلام
(2/367)
هذا: وكم نعمة في نقمة ... طويت فلم تفطن لها الأفهام
وقال يصف ابتهاج الأمة بالأمير
طاروا سروراً من شهود أميرهم ... فكأنهم حول القطار حمام
يتسابقون إلى اجتلاء سموه ... وبهم زفير نحوه وهيام
لو لم تكن نار القطار لجره ... وجد يجيش بصدرهم وغرام
في كل رستاق وكل مدينة ... شوقاً إليك تجمع وزحام
من كل فج ينسلون فأترعت ... بهم الوهاد وماجت الآكام
والنور أمسى أبحراً غرق الدجى ... فيها ومات بلجها الأظلام
فكأن وجه الأرض وجه أبلج ... بين الكواكب والغمام لثام
والناس من كل الجوانب هتف ... عش ياعزيز يحوطك الإعظام
وقال حافظ بك إبراهيم يصف خزان أسوان ويمدح الحضرة الخديوية
أخزان مصر أنت أم مصر ... أجل وأسمى في المكانة والقدر
أعدت لنا مجد القرون التي مضت ... وجددت من عهد الفراعنة الغر
وهيهات ماأهرام مصر وإن سمت ... بأرفع رأساً من حضيضك لو تدري
وليس سنان بن المشلل خالداً ... بانبه من "عباس"عصرك في الذكر
وماقطرت السحب كالدر تنهمي ... بألطف وقعاً من عقيقك إذ يجري
وماأنت خزان المياه وطميها ... وإبليزها بل خازن الدر والتبر
تدفقت بالخيرات من كل جانب ... وجمعت أقطار المنافع في قطر
فقل للغوادي وال روائح تنجلي ... وفي مصر فلتسمح على قفر
إذا ماجرت أمواهها دون حاجة ... وفاضت جرت منك المياه على قدر
ضربت على آثار مصر ولم يكن ... ليطمسها لولا جلالك من إثر
ألا فلتسد مصر على كل بقعة ... به وليطاول قطرها مسقط القطر
بناءٌ من الدهر استعار بقاءه ... وأقسم ألا يسترد من الدهر
الباب الخامس
في الاستعطاف والمعاتبات والاعتذارات قال النابغة الذبياني
يادار مية بالعلياء فالسند ... أفوت وطال عليها سالف الأبد
مناظرة السفينة والوابور للمرحوم السيد عبد الله النديم المتوفى سنة 1314هـ"
شمرت "السفينة" عن الذراع وسحبت طرفها ونشرت الشراع واعتدلت ومالت وابتدأت وقالت:
حمداً لمن أسبغ على عباده جزيل الإنعام وسخر لهم من فضله السفن والأنعام وجعلهما مطيتين لحمل الأرزاق والأثقال وحافظين للذخائر عند السفر والانتقال وامتن بهما على عباده وهو عليم بما يصنعون فقال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون: 22] وصلاةً وسلاماً على من أسفرت أسفاره عن عظيم أخلاقه فانفتح بتوجهاته الشريفة باب السياحة بعد إغلاقه وآله وأصحابه الذين تحملوا في الغزوات مشاق البرد والحر واقتحموا في نضر دينه عقبات البحر والبر "وبعد" فإن المخترعات في الدنيا كثيرة وقد صارت سهلة بعد أن كانت خطيرة ولكن من المعلوم لكل عاقل عارف بأحوال الأوائل ناقل أن شكلي أول غريب ابتدع وأحسن عظيم اختراع ما تقدمني سوى الحيوان والكواكب وضروريات الزرع وبعض آلات المعاطب وكان البحر قبلي ظلمة ما طلع له فجر وانشرح لها صدر بل غرضاً ما أصابه سهم ومعنى ما ترقى لهم وهم حتى أمر الله نبيه نوحاً بصنعي وعلمه تركيب ضلوعي عند جمعي فبذل في جهده وباشر عملي وحده وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال: (إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38] فقال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ) [هود: 37] فاستمر حتى أتم عمله وحقق رجاءه وأمله وأنزلني البحر عروساً وأطاب بي نفوساً فتلقاني البحر على رأسه وجريت بين روحه وأنفاسه وصار كل غريب حاضر لدي وكلما تلاطم البحر ضربته بيدي لا ترهبني منه الأمواج ولا تردني عنه الأبراج أحمل الذخائر والأرزاق وأجمع الأحباب والعشاق ومع ذلك فإن أصلي معدن الثمر ونزهة الأرقاء عند السمر فمن له أب كأبي ومن قبلي صنعه نبي فمجدي شامخ ومجد غيري متهدم والفضل كل الفضل للمتقدم.
فالتهبت أحشاء (الوابور) بفحم الحجر وصعدت أنفاسه مشوبة بشرر وزمجر وكفر وصاح وصفر وجرى حتى خرج عن "الشريط" وقال السكوت على هذا من التفريط ثم كر بعجله وجال وابتدأ رداً عليه فقال:
الحمد لله خالق كل شيء موجود الذي يشرفني بالذكر قبل الوجود حيث امتن على عباده بخلق عليها يحملون ثم قال: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 8] ويستأنس لي بقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) [يس: 42] ولا يغفل عن ذكري إلا الجاهلون والصلاة والسلام على من تكلم بالمغيبات من غير شك ولا التباس المنزل عليه (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ) [الحديد: 25] وأصحابه الذين اتخذوا من معدني دروعاً وتيجاناً وقاتلوا بها حتى أظهروا ديناً وأرضوا ديّاناً "وبعد" فالوقوف عند حد النفس إنصاف والخروج عنه قبيح الأوصاف: الفخر لا يكون إلا عن كبر أو غباوة وهو أول داع للحرب والعداوة فكم أثار حرباً وأضرم ناراً وكم هدم قصراً وأباد داراً ولكن شر أهر ذا ناب وكوة فتحت بها أبواب فإني ما كنت أظن أن السفينة الحقيرة المسكينة تخرج من الأجراف وهي ترفع في وجهي المجداف ولكن قد يلقى الإنسان ضد أمله والمرء مجزي بعمله ومن سل سيف البغي قتل به وأهم أمريك الذي أنت به فانتبه فقابل أعداءك بأرداء الحجارة وإياك أعني فاسمعي بإجارة فإنك وإن كنت أول عمل للخلق وصناعة نبي بوحي الحق إلا أنك حمالة الحطب قريبة العطب إن هبت عليك نسمات هلك من فيك ومات وإن كتبت لك سلامة فلا حباً ولا كرامة وإن كسر ضلعك فار علا فيك الماء وفار: بم تفتخرين وأنت مكتفة بالحبال وخدمتك ينادون بالوبال إن سلكت طرق الأمن ارتجفت القلوب وإن ساعدتك الصبا أهلكتك الجنوب تغرقين إن زاد عليك "طرد" وتهلكين إن نزل عليك "شرد" فإن أبيت السير سحبوك على وجهك وإن كلوا تركوك وباتوا على قلبك ما أقبح أصوات الأوباش حين يصعدون لسحب القماش وما أفظع تلك الضجة إذا "شحطت" وسط اللجة كم عقت محباً عن حبيبه وأحرمت تاجراً من نصيبه وكم جعلوك مطية للفساد وآلة لهلاك العباد فإن كنت ذكرت في الكتاب صراحة فقد ذكرت ضمناً وإن ظهرت قبلي لفظاً فقد كنت معنى ما تأخر لتاجر عندي سبب ولا حرم من صاحبني بلوغ أرب طريقك معوج وطريقي مستقيم لا يملني صحيح ولا يسأمني سقيم فسحبت السفينة "المداري" وقالت له "باري باري" كم تعرض وتصرح "وأصفح وأصلح" ولكن مهلاً يا أبا لهب فقد خرجت عن الأدب ولابد ما "أرسي" على برّك وأحرقك بلهيب جمرك حصرت بين "عجل وقضيب" ووقفت في جحيم ولهيب وتغذّيت "بالخشب والفحم" وتفكهت "بالزيت والشحم" وتولعت "بالمشاقة والكهنه" وتحليت "بالهباب والدهنة" وتمكن الغيظ فيك وانحبس حتى صار فيك "نفس" وجئت تقول إني حمالة الحطب وأنت حمال النار واللهب وإني قريبة العطب وأنت أبو البلايا والكرب إن جريت فضحت عرضك وإن وقفت تأكل بعضك وإن صدمك شيء هلكت ووقفت وما سلكت وإن كسر "ذراعك" وقعت وقليل إن طلعت وإن دخن أنفك تعمى صورتك وإن ظمئت يوماً طقت "ما سورتك" تجري في الخلاء والقفار وتقول النار ولا العار ما أوسخ رجالك وأضيق مجالك يا مفرق الأحباب ومفزع الركاب غريقي أرجى من غريقك وبحري أنجا من طريقك كم هرست من إنسان وطحنت من حيوان وخلفت راكباً وتركته حيران وكم جعل رجالك الناس مسخرة إذا لم يجدوا معهم "تذكرة" وكم أضعت على تاجر فلوسه إذا فقدت منه "بوليسة" أعلى غير "الشريط" تجري فضلاً عن لجي وبحري أدخل نفسك في "مخزن الوفر" (وفضك من النفخ والصفر) تفتخر على أغصان الطعوم "وأنت حديد يا مشوم" ولئن سرت على "عجل" فقلوب أهلك في وجل أما علمت أن العجلة من الشيطان وأن الباغي جزاؤه النيران شغلت بالأكل والتمشي ففاتك الرفق والتأني.
وبالجملة فإني سابقة هذا الميدان ولا ينتطح في ذلك عنزان.
فتحرك الوابور تحرك ناقد وتنهّد تنهد حاقد وقطع (قطره) وأبا (شحناً) وقال أسمع جعجعة ولا أرى طحناً أبعوض تطن في أذن فيل وصورة تعد في التماثيل ولكني أبيت مخاطبتك وعفت وكرهت وجهك المدهون "بالزفت" فإن حالك حال الحيران وصباحك صباح "القطران" وكيف أفاخر امرأة عقلها في "مؤخرتها" وهلاكها في تمزيق مئزرها تقاد بحبل طويل وتنقاد لأدنى "عويل" يديرها (شاغول) وفكرها مشغول تتبع هواها في السير ولها جناح كالطير أمية فيها (قارية) ويد عاجزة لها (باريه) ثالثة العيزين في ذل (الوتد) (وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مّسَدٍ) [المسد: 4 5] .
عصاي أركزها لصلاتي. وأعدها لعداتي. وأسوق بها دابتي. وأقوى بها على سفري. واعتمد عليها في مشيتي يتسع خطوي. وأثب بها على النهر، وتؤمنني العثر. وألقي عليها كسائي. فيقيني الحر. ويجنبني القر. وتدني إلي ما بعد عني. وهي محمل سفرتي. وعلاقة أدواتي. أفزع بها الأبواب وألقي بها عقور الكلاب. وتنوب عن الرمح الطعان. وعن السيف عند منازلة الأقران. ورثتها عن أبي وسأورثها ابني من بعدي وأهش بها على غنمي. ولي فيها مآرب أخرى.
الطاووس حيث قال:
سبحان من من خلقه الطاووس ... طير على أشكاله رئيس
تشرق في دارته شموس ... في الرأس منه شجر مغروس
كانه بنفسج يميس ... أو هو زهر حرم يبيس
287 قال بعضهم في وصف الفستق:
كأنما الفستق المملوح حين بدا ... مشققاً في لطيفات الطيافير
واللب ما بين قشرته به يلوح لنا ... كألسن الطير ما بين المناقير
288 وقيل في الفستق أيضاً:
تفكرت في معنى الثمار فلم احد ... لها ثمراً يبدو بحسن مجرد
سوى الفستق الرطب الجني فإنه ... زها بمعان زينت بتجرد
غلاله مرجان على جسم فضة ... وأحشاء ياقوت وقلب زبرجد
في الورد:
الورد أحسن ما رأت عيني وأذ ... كى ما سقى ماء السحاب الجامد
خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وهي شوارد
وإذا تبدى الغض في أغصانه ... يزهو فذا ميت وهذا حاسد
وإذا أتى وفد الربيع مبشراً ... بطلوع وفدته فنعم الوافد
ليس المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عليه من النبوة شاهد
وإذا تعرى الورد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد
االشام:
عنيت بشرق الأرض قدما وغربها ... أجوب إلى آفاقها وأسرها
فلم أر مثل الشام دار إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها
مصحة أبدان ونزهة أعين ... ولهو لنفس دائم لي سرورها
مقدسة جاد الربيع بلادها ... ففي كل ارضٍ روضة وغديرها
301 أحسن ما قيل في وصف الشطرنج قول ابن المعتز:
يا عائب الشطرنج من جهله ... وليس في الشطرنج من باس
في فهمها علم وفي لعبها ... شغل عن الغيبة للناس
لابن الأثير في وصف الخيل
(قلت في وصف فرس أدهم) : وطالما امتطيت صهوة مطهم نهد. فغنيت عن نشوة الكميت من ذات نهد. يسابق الريح فيغبر في وجهها دون شق غباره. وإذا ظهر عليها رجعت حسرى في مضماره. نسب إلى الأعوج وهو مستقيم في الكر والفر. وقد حنقت عليه عين الشمس إذ لا يمكنها أن ترسم ظله على الأرض إذا مر. ليلي الإرهاب لطم جبينه الصباح ببهائه. فعدا عليه وخاض يقتص منه في أحشائه. كما قال ابن نباتة السعدي:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
وقد أغتدي عليه والطير في وكناتها فلا يفوتني الأجدل. وإذا أطلقته لصيد الوحش رأيتني على منجرد قيد الأوابد هيكل.
(وقلت في وصف فرس هجين) : فرس له من العربية حسب ومن الكردية نسب. فهو من بينهما مستنتج. لا ينتسب إلى خبيب ولا إلى أعوج. ومن صفاته أنه رحب اللبان. عريض البطان. سلس العنان. ينثني على قدر الطعان. وعلى قدر الكرة والصولجان. قد استوت حالته قادما ومتأخرا. فإذا أقبل خلته مرتفعا. وإذا أدبر خلته منحدرا. كأنه في حسنه دمية محراب. وفي خلقه ذروة هضاب. وهو في سباقه ولحاقه مخلق بخلق المضمار. وبدم السراب والصوار فهو منسوب إلى ذوات القوادم. وإن كان محسوبا في ذوات القوائم. كأنما ثنى لجامه على سالفة عقاب. وشد حزامه على بارقة سحاب (الوشي المرقوم لابن الأثير)
قال علي بن محمد الأيادي يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد
إعجب لأسطول الإمام محمد ... ولحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المستعجب
من كل مشرقة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصب
دهماء قد لبست ثياب تصنع ... تسبي العقول على ثياب ترهب
من كل أبيض في الهواء منشر ... منها وأسحم في الخليج مغيب
كمراءة في البر يقطع سيرها ... في البحر أنفاس الرياح الشذب
محفوفة بمجادف مصفوفة ... في الجانبين دوين صلب صلب
كقوادم النسر المرفرف عريت ... من كاسيات رياشه المتهدب
وتحثها أيدي الرجال إذا ونت ... بمصعد منه بعيد مصوب
خرقاء تذهب إن يد لم تهدها ... في كل أوب للرياح ومذهب
جوفاء تحمل كوكبا في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بمركب
ولها جناح يستعار بطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطارة ... في كل لج زاخر مغلولب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب
ولواحق مثل الأهلة جنح ... لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتغلب
وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المرهب
فكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المذهب
ولصفي الدين الحلي في صفة الشمع
جلت الظلماء باللهب ... إذ بدت في الليل كالشهب
فانجلت في تاجها فجلت ... ظلم الأحزان والكرب
سفرت كالشمس ضاحكة ... من تواري الشمس في الحجب
ما رأينا قبل منظهرا ضاحكا في زي منتحب
كيف لا تحلو ضرائبها ... وبها ضرب من الضرب
خلتها والليل معتكر ... ونجوم الأفق لم تغب
قضبا من فضة غرست ... فوق كثبان من الذهب
أو يواقيتا منضدة ... بين أيدينا على قضب
أو رماحا في العدى طعنت ... فغدت محمرة العذب
أو سهاما نصلها ذهب ... لسوى الظلماء لم تصب
أو أعالي حمر ألوية ... نشرت في جحفل لجب
أو شواظا للقرى رفعت ... تتراءى في ذرى كثب
أو لظى نار الحباحب قد ... لمعت للعين عن لبب
أو عيون الأسد موصدة ... في ذرى غاب من القصب
أو شفيق الروض منتظما ... فوق مجدول من القصب
أو ذرى نيلوفر رفعت ... فوق قضبان من الغرب
ابن حمديس الصقلي يصف دارا بناها المنصور بن أعلى ببجاية
أعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا
قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
واشتق من معنى الجنان نسيمه ... فيكاد يحدث بالعظام نشورا
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا
فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا
لو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئا عنده مذكورا
أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا
ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شهبا له ونظيرا
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها وقصورا
ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا
تستخلف الأبصار منه إذا أتى ... صبحا على غسق الظلام منيرا
ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه. ثم تفنن وذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا فقال:
وضراغم سكنت عرين رئاسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها ... نارا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد صوبحت أغصانها فكأنما قبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجروها
وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلوءا منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضا في السماء نضيرا
وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقةٌ ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازرد فيه مخرم ... بالخط في ورق المساء سطورا
وصف إبليس لنفسه
قال شيخ العفاريت الطغاة المصاليت: إني من قديم الزمان. وبعيد الحدثان. أضللت كثيراً من الناس. بالمكر والخداع والوسواس. وكان من جنس بني آدم كذا وكذا ألف عالم خدامي ومعي. وجندي وتبعي. منهم رؤوس الزهاد. وعلماء العباد. وعلى محبتي مضوا. وبإتباع أوامري قضوا. فأنا فتنة العالم. وأعدى أعداء بني آدم. الشيطان الرجيم. وإبليس الذميم. اسم ذاتي ووصف صفاتي. أنا رأس العفاريت المتمردين. ومحل غضب رب العالمين. خلقت من مارج من نار. وطبعت على إلقاء البوار والدمار. رجوم النجوم إنما أعدت لأجلي. وعتاة الغواة لا تصل رؤوسها إلى مواطئ رجلي. الشياطين تستمد من زواخر مكري. والزنديق يقتبس من ضمائر فكري. لم تمر قضية من الزمان الغابر إلا ولي شركة فيها. ولا حدثت محنة لنبي ولا ولي إلا وأنا متعاطيها. جدي إبليس. نهض لجدي التعيس. وإلى نحو آدم هوى. فعصى ربه فغوى. وأنا قضيت بالتسويل. حتى قتل قاين هابيل. أنا سولت لأولاد يعقوب وحاولت في قضية أيوب. وأنا كنت العون. لهامان وفرعون. وجرأت على قتل الأنبياء والأولياء وتوصلت بتزيين الوسواس. لقاتلي الذين يأمرون بالقسط من الناس. ودعوت إلى عبادة العجل قوم موسى. وساعدت في التفريق والإضلال بين أمة عيسى. وكم أغويت من بلدان. بما زخرت من أوثان. وقد بلغني عن جمع من مسترقي السمع وطن على أذني ووعاه خاطري. ووقر في ذهني.
وأنا أشارف التخوم. وأسارق النجوم. واسابق الوجوم. بي تكثر البدع بين الجماعات والجمع. ويظهر من الفتن ما بطن. ويغلب من التتار. وأهل البوار والخسار. أنواع الشرور والجدال. إلى حين يظهر الدجال وتستمر إلي هذه الأمور. إلى يوم البعث والنشور. وبالجملة والتفصيل أنا شيخ التكفير والتضليل. وتلك صنعتي من الابتداء. وحرفتي إلى الانتهاء. أسهم مرامي المشؤومة نافذة في المشارق والمغارب. وسيوف مناشري المسمومة قاطعة في الأعاجم والأعارب. كم لي في الأطراف والآفاق والأكناف من قاض ونائب. ومانع من الخير وصاحب. وكم لي من جابي. منوط بتفريق قلوبهم وجمع سويدائها إلى بابي. وكم لي في الزوايا من خبايا. وفي أصحاب الروايات من درايات. وفقيه في النادي. فاق الحاضر والبادي. يعلم لي في الشيطنة أولادي. وفي البيلسة حفدتي وأجنادي. وبالجملة غالب الطوائف. وأرباب الوظائف. على باب خدمتي واقف. وعلى طاعة مراسيمي ليلاً ونهاراً عاكف. مناي مناهم. ورضاي رضاهم. وإن خالف بعض سري نجواهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم (ابن عربشاه) .
وصف بعض البلغاء رجلاً فقال: إن بسيط الكف. رحب الصدر. موطأ الأكناف. سهل الخلق. كريم الطباع. غيث مغوث. وبحر زخور. وضحوك السن. بشير الوجه. بادي القبول.
غير عبوس. يستقبلك بطلاقة. ويحييك ببشر. ويستدبرك بكرم غيث وجميل بشر. تبهجك طلاقته. ويرضيك بشره. ضحاك على مائدته عبد لضيفائه. غير ملاحظ لأكيله. بطين من العقل. خميص من الجهل. راجح الحلم. ثاقب الرأي. طيب الخلق. محصن الضريبة. معط غير سأال. كاس من كل مكرمة. عار من كل ملامة. إن سئل بذل. وإن قال فعل (للقيرواني) .
زهرية صفي الدين الحلي
ورد الربيع فمرحباً بوروده ... وبنور بهجته ونور وروده
وبحسن منظره وطيب نسيمه ... وأنيق ملبسه ووشي بروده
فصل إذا افتخر الزمان فإنه ... إنسان مقلته وبيت قصيده
يغني المزاج عن العلاج نسيمه ... باللطف عند هبوبه وركوده
يا حبذا أزهاره وثماره ... ونبات ناجمه وحب حصيده
وتجاوب الأطيار في أشجاره ... كبنات معبد في مواجب عوده
والغصن قد كسي الغلائل بعدما ... أخذت يدا كانون في تجريده
نال الصبا بعد المشيب وقد جرى ... ماء الشبيبة في منابت عوده
والورد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف به سراة جنوده
وانظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده
وأعجب لآذريونه وبهاره ... كالتبر يزهو باختلاف نقوده
وانظر إلى المنظوم من منثوره ... متنوعاً بفصوله وعقوده
أو ما ترى الغيم الرقيق وما بدا ... للعين من أشكاله وطروده
والسحب تعقد في السماء مآتماً ... والأرض في عرس الزمان وعيده
والغيم يحكي الماء في جريانه ... والماء يحكي الغيم في تجعيده
فابكر إلى روض الصراة وظلها ... فالعيش بين بسيطه ومديده
قال أبو الحسن بن نزار في مدينة وادي آش:
وادي الأشات يهيج وجدي كلما ... أذكرت ما أفضت بك النعماء
لله ظلك والهجير مسلط ... قد بردت لفحاته الأنداء
والشمس ترغب أن تفوز بلحظة ... منه فتطرف طرفها الأفياء
والنهر يبسم بالحباب كأنه ... سلخ نضته حية رقطاء
فلذاك تحذره الغصون فميلها ... أبداً على جنباته إيماء
قال مجير الدين بن تميم:
مذ قيل للأغصان إن الورد قد ... وافى إلى الأزهار وهو أمير
بسمت ثغور الأقحوان مسرة ... لقدومه وتلون المنثور
قال الصابئ في شمعة:
وليلة من محاق الشهر مدجنة ... لا النجم يهدي السرى فيها ولا القمر
كلفت نفسي بها الإدلاج ممتطياً ... عزماً هو الصارم الصمصامة الذكر
إلى حبيب له في النفس منزلة ... ما حلها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفة ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصن من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتة صفراء تستعر
تأتيك ليلاً كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طوتها دونها الجدر
قال أبو العلاء المعري في الشمعة أيضاً:
وصفراء لون التبر مثلي جليدة ... على نوب الأيام والعيشة الضنك
تريك ابتساماً دائماً وتجلداً ... وصبراً على ما نابها وهي في الهلك
ولو نطقت يوماً لقالت أظنكم ... تخالون أني من حذار الردى أبكي
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته ... فقد تدمع الأحداق من كثرة الضحك
وقال بعض الشعراء يصف بغداد بعد أن حاصرها طاهر بن الحسين وخرب بناءها:
بكيت دماً على بغداد لما ... فقدت نضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرور ... ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتنا من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق
وقوم أحرقوا بالنار قسراً ... ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي وإصباحا ... وباكية لفقدان الشقيق
تفر من الحريق إلى التهاب ... ووالدها يفر إلى الحريق
حيارى هكذا ومفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشفيق من الشفيق
ومغترب قرب الدار ملقى ... بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعاً ... فما يدرون من أي الفريق
فما ولد يقيم على أبيه ... وقد فر الصديق من الصديق
ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرفيق
فقال ابن الجزري في حمامة:
وما نازحات ساجعات بشجوها ... ترنح أغصان النقا وترنم
تنوح بلا إلف وتملي غرامها ... على ورق الأشجار والطل يرقم
وتغرب في ألحانها وفنونها ... فتعرب عن أشجانها وهي تعجم
وتنظر فرخيها قد اختطفتهما ... كواسر أطيار على الأفق حوم
ترامت بها أيدي النوى عن وكونها ... فلا عيشها يصفو ولا يتصرم
بأكثر مني لوعة وصبابة ... سوى أنها تبدي الغرام وأكتم
لقصيدة الشيخ عبد الغني النابلسي في وصف الشام:
إن سامك الخطب المهول فأقلقا ... فانزل بأرض الشام واسكن جلقا
تجد المرام بها وكل مناك بل ... وترى بها عزاً وتفصح منطقا
بلد سمت بين البلاد محاسناً ... ونمت بهاء واستزادت رونقا
زاد السرور بها لكل معرج ... لاسيما إن كان من أهل التقى
إن تعشقوا وطناً فذي أولى لكم ... دون البلاد بأن تحب وتعشقا
خير الأناس أناسها يرعون أن ... واع الوداد ويحفظون الموثقا
هي جنة للطائعين معدة ... يتمتعون ولا يرون بها شقا
طابت هواء للنفوس وماؤها ... عذب زلال سائغ لمن استقى
جلت محاسنها عن التعداد فلن ... أت بما يختار منه وينتقى
يا حسن واديها وطيب شميمه ... قد فاح عرف الزهر فيه وعبقا
وتراسلت أطياره بين الربى ... سحراً فهيجت الفؤاد الشيقا
تنجكيف اتجهت يخر نحوك ماؤه ... وإليك يركع كل غصن أورقا
يا حبذا إشراق مرجتها التي ... أضحى غني الهم فيها مملقا
وتلاعبت فرسانها وتراكضت ... ما بينها تعلو الجياد السبقا
ضحكت أزاهرها على أغصانها ... فأتى النسيم يميلهن وصفقا
قد دندنت أنهارها في جريها ... لما شدا ذاك الحمام وشقشقا
والصالحية يا لها من منزل ... فيها قبور الصالحين أولي التقى
وبها القصور العاليات تزخرفت ... مثل النجوم زهت بكل من ارتقى
تسمو على أطراف جلق بهجة ... وطلاوة فيها السرور تحققا
سقيت دمشق الشام صوب غمامة ... أشفى على غيطانها فتدفقا
كم نزهة للعين فيها قد زهت ... وسرت على طرف الهموم فأطرقا
ما الجامع الأموي إلا نزهة ... فيها تراه بالعبادة مشرقا
(4/226
ن حجة الحموي يصف حماة ويتشوق إليها
يا صادقا الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا
يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربى
وإذا تنسمت الذا وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا
عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيدا طيبا
وأحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا
وأسرع إلي وداو في مصر به ... قلبا على نار البعاد مقلبا
لله ذاك السفح والوادي الذي ... مازال روض الأنس فيه مخصبا
وانعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسبا
ارض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشا طيبا
ومهالك الحرمان تمنع عبدكم ... من أن ينال من التلاقي مطلبا
وإذا اشتهيت السير نحو دياركم ... قرأ النوى لي في الأواخر من سبا
وقد التفت إليك يا دهري بطو ... ل تعتبي ويحق لي أن أعتبا
قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الدود مرتبا
وأسرتني لكن بحق محمد ... يا دهر كن مخلصي متسببا
فمحمد ومدينة قد حلها لم ... ألق غيرهما لقلبي مطلبا
قال أبو بكر الأرجاني يصف الشمعة وقد أحسن فيها كل الإحسان واستغرق كل الصفات
نمت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... ألا ترى فيه نارا من تراقيها
غريقة في دموع وهي تخرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها
تنفست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يذكيها
يخشى عليها الردى مهما ألم بها ... نسيم ريح إذا وافى يحييها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكف إن أهويت تجنيها
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقيها
صفر غلائلها حمر عمائمها ... سود ذوائبها بيض لياليها
صفة نزهة على نهر سرقسطة
قال علي بن ظافر: ذكر صاحب قلائد العقيان ما هذا معناه: إن المستعين بالله أحمد بن أحمد بن المؤتمن بن هود الجذامي صاحب سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقد بعض معاقله. المنتظمة بجيد ساحله. وهو نهر رق ماؤه وراق. وأزرى على نيل مصر ودجلة والعراق. وقد اكتنفته البساتين من جانبيه وألقت ظلالها عليه. فما تطاد عين الشمس أن تنظر إليه. هذا على اتساع عرضه. وبعد سطح الماء من أرضه. وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة
وأحاكت به إحاطة الطفاوة للغزالة. وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء. وأخاف حتى حوت السماء. وأهلة الهالات طالعة من الموج في سحاب. وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب. فلا ترى إلا صيودا كصيد الصوارم. وقدود اللهاذم. فقال الوزير أبو الفضل بن حسادي والطرب قد استهواه. وبديع ذلك المرأى استرق هواه:
لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر
كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر
نسير في زورق حف السفين به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر
مد الشراع به نشرا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن في هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر
تثار من قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغواص بالدرر
وصف ابن سليمان الحلبي غلبة على التتار
(قال) إن التتار استنجدوا بكل طائفة وأقدموا على البلاد الإسلامية بنفوس طامعة. وقلوب خائفة. وذلك بعد أن أقاموا مدة يشترون المخادعة بالموادعة. ويسرون المصارمة. في المسالمة. وحين تيسر مرادهم. وتكمل احتشادهم. استدرجناهم إلى مصارعهم.
بواستجريناهم ليقربوا في القتل من مضاجعهم. ويبعدوا في الهرب عن مواضعهم. وصدمناهم بقوة الله صدمة لم يكن لهم بها قبل. وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها إلى ذلك الجبل. وهل يعصم من أمر الله جبل. فحصرناهم في ذلك الفضاء المتسع. وضايقناهم كما قد رأى ومزقناهم كما قد سمع. وأنزلناهم على حكم السيف الذي نهل من دمائهم حتى روي وأكل من لحومهم حتى شبع. وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطفهم رماحها. وتتلقفهم صفاحها. ويبددهم في الفلوات رعبها. ويفرقهم في القفار طعنها المتدارك وضربها. ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع. ويخيل للحي منهم أن وطنه كالدنيا التي ليس للميت إليها رجوع. ولعله قد رأى من ذلك فوق ما وصف عيانا. وأنهم ما أقدموا إلا ونصرنا الله عليهم في مواطن كثيرة. وما ساقتهم الأطماع في وقت ما إلا إلى حتوفهم. ولا عاد منهم قط في وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم. ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التي كان في مهاد أمنها ووهاد يمنها. وحماية عفوها. وبرد رأفتها التي كدرها بالمخالفة بعد صفوها. يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والسار. ويحمي أهل ملته بالحذر عن الحركات التي ما نهضوا إليها إلا وجروا ذيول الخسار. ولقد عرض نفسه وأصحابه لسيوفنا التي كان من سطواتها في أمان. ووثق بما ضمن له التتار من
الموقوله من قصيدة في مدح أمير المؤمنين، المقتفي لأمر الله، يصف القر الشديد:
وإذا استمرَّ المَحْلُ يشفَعُ شرَّهُ ... خَصَرٌ يعضُّ له الحصى والجَنْدَلُ
واستخمد الشَّفّانُ كلَّ ضَرِيمةٍ ... وإذا تَلَظِّي كلِّ جمرٍ أفْكَلُ
ببعيدة الإصباح حالكةِ الدُّجى ... سَهِرَ النَّؤومُ بها ونام المُفْضِلُ
تثْنِي مَطارفَها الجوارحُ عندَها ... حتّى تُظِلَّ الرّاحَ فيها الأنْمُلُ
وأطارتِ الهَوْجاءُ كلَّ مُطَنَّبٍ ... فالرَّثُّ فانٍ والصَّحيحُ مُرَعْبَلُ
واستهذَمَ الجدبُ الغواربَ والذُّرا ... حيثُ البهازِرُ والصِّعابُ الُبَّزلُ
في أزْمَةٍ قُذُفٍ كأنّ أخيرَها ... من بؤسها للضّعف عنه أوّلُ
غبراءُ رَيعانِ الرَّبيعِ، لَقِيطُها ... في المَحْلِ لا مَرْعَىً ولا مُتَبَقَّلُ
فقَدِيرُ زادِ المُتْرَفِينَ على الطَّوى ... قِدٌّ تَناهَبُهُ الأكُفُّ، وحنظَلُ
آوى أميرُ المؤمنينَ مُحّمدٌ ... بدر الضّيوفِ، فكلُّ وعرٍ مُسْهِلُ
وقَرَى فأشهبُ كلِّ جَوْنٍ هاطلٌ ... هامٍ، وأغْبَرُ كلِّ روضٍ مُبْقِلُ
ومنها في وصف البرد والجدب والقر:
إذا أخمدَ النّيرانَ رَيْعانُ زعزعِ ... يُعيدُ ذكيَّ الجمرِ قَرّانَ شاتيا
وخَرَّ على الأحفاض كلُّ معمَّدٍ ... أطال الرَّواسي في الثّرى والأواخيا
وجعجعَ قُرُّ الليلِ من فَرْطٍ صِرّه ... شِدادَ الصّفايا والعِشارَ المَواليا
وزاولَ راعي الذَّوْدِ عهداً، فلم يُطقْ ... وفاءً، ولم يبرَحْ أميناً ووافيا
ومالت إلى الصّرمِ العزيبِ جوافلٌ ... يرَيْنَ اللِّقاحَ الجَمَّ للذُّعرِ قاصِيا
على حينِ غبراءُ المطالع أزمةٌ ... تَعيدُ غنيّ الحيّ خُمصانَ عافيا
تساوى بها نِينانُ لُجٍّ وكُنَّسٌ ... بوجرةَ يَرْأَمْنَ الظِّباءَ الجوازيا
فأضحت وكثبان الصَّريمِ وعالجٍ ... من المحل قد شاكَهْنَ نِهْياً وواديا
قَرَى شرفُ الدين الغِنى، وأبت له ... مَعاذِرُهُ أن يحتبسنَ الطّواهيا
ومنها في وصف القلم:
ومضطمر الجنبين يَخْطِر مائساً ... على لاحبٍ من طِرْسه وقوِاء
يذيب على الأطراس كلّ بليغة ... تذوب عليها أنفس العلماء
ومنها في صفة الحية:
وما مُطرِقٌ بالرّملِ يُخفي اهتزازُهُ ... رُواءً كعقدِ الخَيزرانة خافيا
يُلَعِّنُ مرهوباً، كأنَّ اعتصابَهُ ... حَبابُ مَخِيضٍ لاطَمَ الوَطْبَ رَاغيا
يؤّلنُ عُصلا لا بُنُهنَّ هنيةً ... ضعافاً، ولا أطرافهنَّ نوابيا
تَجَنَّبُهُ الرُّفْشُ القواتنُ خيفة ... ويَطويهٍ معتلُّ النّسيمِ تفاديا
إذا اعتسّ شَرّابُ الهمومِ لقوته ... تَوَدَّعَ خُمصاناً وأصبح طاويا
بأنفذَ من أقلامه في عدوّه ... إذا رقَشَتْ فوقَ الطُّرُوسِ الدّواهيا
ومنها في صفة الموتى:
في معشرٍ أغضوا على جورِ الرَّدى ... بالرُّغم منهم أيَّما إِغضاءِ
رقدوا على غير الكرى، وتوسّدوا ... بعدَ الرِّحالِ نَمارِقَ الدَّهناءِ
وتضّمخوا دفُعَ َالصَّديدِ، وطالما ... رثِموا بكلّ لَطِيمةٍ ذَفْراءِ
قد شوَّهَ الحسنَ الِبلى بوجوههم ... وأسالَ كلّ كَحيلةٍ نجلاءِ
النّومُ بَعدَك للجفون محرّمٌ ... إّلا الغِشاشَ وعاِلطَ الإِغفاءِ
ولقد شفى نفسي، وهوّنَ وَجدَها ... حِلفُ العُلى وبقيّةُ الكرماءِ
مَنْ كلّما نظرت إليه عيوننا ... عدّتك في الباقين والأحياءِ
ومنها في صفة السيل:
وما مقبلٌ من قُنّة الطَّودِ زاخرٌ ... له صَخَباتُ الأسدِ عَنَّ مَصالُها
تَظَلُّ به عُصْمُ اليَفاعِ غريقةً ... ويتبَعُها ضَبُّ الفَلا وغَزالُها
إذا مرّ بالوَعْساءِ وهو مزمجرٌ ... تَدَهْدى له كُثبانُها ورِمالُها
ترى شجرَ الغُلاّن فيه كأنّها ... سفائنُ يَمٍّ أسلمتها رجالُها
كأنّ بياضاً راغياً في عُبابه ... لغُامُ المَطايا أثقلتها رِحالُها
أفادته غِبَّ المَحْلِ وَطْفاءُ جَوْنةٌ ... أقامتْ نُعاماها وغابَ شَمالُها
سرتْ لبني الآمالِ من بعد هَجعةٍ ... إلى الصّبحَ سَحّاً وَدْقُها وانهمالُها
بأغزرَ من يُمناهُ جوداً إذا همى ... على مُعْتَفِيها رِفْدُها ونَوالُها
يصف الفرس:
يَطوي على طُول الطَّوَى في مَهْمَةٍ ... بُرْداً تَهالَكَ طُولُه في عَرْضهِ
بالسُّهْبِ أو بالشُّهْب يُنفقُ عُمرَهُ ... ما بينَ مُنْقِضِهِ إلى مُنْقَضِّهِ
طِرْفٌ يُغِضُّ بسيره طَرْفَ الفَلا ... ينضو قَميصَ المجدِ منْ لم يُنْضِهِ
ينأى عن اللؤماءِ بي من مطمع ... يقضي بأَسْوّدِه على مُبْيَضِّهِ
فعوارفُ الكُرَماءِ ختمُ عطائِها ... أجللتُ نفسي عن تَعاطي فَضِّهِ
مُذِقت مَذاقتُهم فلو كشَّفْتُهم ... صَرَّحْتُ شائبَ وْدِّهم عن مَحْضهِ
مُذْ عَلَّنِي عِدَّ السُّؤالِ أَعَلَّنِي ... وَأعافَ عافيهِ بنَهْلَة بَرْضِهِ
مَنْ لي بعزمٍ عَزَّ مطلبُ شَأْوهِ ... من سابحٍ غَرَضُ العلى في غَرْضهِ
وقوله من قصيدة في صفة الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا
ومهما أطابت نفسه قام صارخاً ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية القرطا
وقال في صفة الثلج:
لله ندمان صدق بات مصطلياً ... ناراً من القدَح الملآن تستعر
والأرض فِضّيّة الآفاق تحسبها ... شمطاء حاسرة قد مسّها الكِبَر
بكل نجد ووهد قد أظلّ به ... روض تحلّى بنور ما له ثمر
وللأقاحي ثغور فيه باسمة ... لها من الثلج ريق بارد خَصِر
كأنّ في الجوّ أشجاراً منوّرةً ... هبّ النسيم عليها فهي تنتثر
صفة الأعلام:
ومُطِلّةٍ في الخافِقَيْنِ خوافِقٍ ... كقلوب أعداء ذوات وجيب
من كلّ منشور على أفُق الوغى ... مسطوره كالمُهْرَقِ المكتوب
جاءت تُتَرِّبُهُ العِتاق بركضها ... والريح تنفُضه من التتريب
صُوَر خُلِقن على الموات فخُيِّلت ... فيه الحياة بسَوْرَة ووثوب
وفغَرْن أفواهاً رِحاباً عُطِّلَتْ ... أشداقها من ألْسُنٍ ونُيوبِ
من كل جسم يحتشي من ريحه ... روحاً يحرّك جسمه بهبوب
وقال من قصيدة يصف فيها الكبل:
تعطف في ساقي تعطف أرقم ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم
وإني من كان الرجال لسيبه ... ومن سيفه في جنة وجهنم
وقال في وصف مصلوب. قال ابن بشرون وأظنه لغيره:
وسنان لا قرّة الظلماء توقظه ... ولا الهجيرة في البيداء تؤذيه
أغفى فيا ليت شعري هل يلم به ... إذا دجا الليل طيف كان يأتيه
خط السنان كتاباً بين أضلعه ... فمال يقرأه سراً ويخفيه
كأنّه مصقع من فوق منبره ... يبدي الخشوع لرب كان باريه
أراد عُلُوّ مرتبة وقدر ... فأصبح فوق جِذع وهو عال
ومَدّ على صليب الجذع منه ... يميناً لا تطول الى الشمال
ونكّس رأسه لعتاب قلب ... دعاه الى الغواية والضلال
قال في مصلوب:
ورَأت يداه عظيم ما جنتا ... ففررن ذي شرقاً وذي غربا
وأمال نحو الصدر منه فماً ... ليلوم في آرائه القلبا
أورد له في وصف المرية:
قالوا المريّة صفها ... فقلت جبْلٌ وشيحُ
قالوا أفيها معاش ... فقلت إن هب ريح
وله في المعنى:
قالوا المرية عدن ... فقلت إذ ذاك إيه
كأنّها طست تبر ... ويبصق الدم فيه
في وصف القلم:
وأصفر مصقول الأديم أجلته ... فريعت متون البيض والذبل السمر
إذا استنطقت يمناك منه مُفَوّهاً ... أجاب بما تثنى به نُوَبُ الدهر
وإن خضبت أعلاه مجة حبره ... قضى بالحبور الجم عن ذلك الحبر
إليك أبا بكر بعثت عقيلة ... وما أن لها إلا قبولك من مهر
ولست كمن يبغي نوال ممدح ... ولو نولتني الشِّعْرَيَيْنِ يد الشعر
ودونكها غراء أما نسيمها ... فكالروض يندى أو كعنبرة السحر
بقيت مكين العزّ مقتبل العلا ... فسيح المدى سامي المراتب والذكر
الفي وصف البرق:
وممّا شجا نفسي تألق بارق ... يقدّ جلابيب الدجنّة إذ يسري
مليح إذا ما اهتاج قلت صفيحة ... من الهند أو رجم من الأنجم الزهر
ينوء به مستمطر ذو هيادب ... كما نهضت بدن الحجيج الى النّحر
الى كم أطيع القلب في طلب الصبا ... وأجهد نفسي في هوى البيض والسمر
سأثني عنان الشعر عن سبل الهوى ... الى مدحة القاضي الأجل أبي بكر
فتى أنهض الإسلام في سبل الهدى ... وصير طيّ المَعْلُواتِ الى النشر
وشيّد أركان الديانة فاغتدت ... تزاحم أشباح النعائم والنسر
حفيظ على ذات الإلاه ودينه ... مليء بما يرضيه في السر والجهر
يكشّف إظلام الخطوب بهديه ... كما صدعت جنح الدجى غرة الفجر
ويخدم أنحاء المعالي برأيه ... فيجمع بين النفع فيهنّ والضر
تحدث عن آثاره فتية السرى ... كما حدثوا في المحل عن سبل القطر
به نظمت للمجد أفراد عقده ... وتوجت الأيام كالغادة البكر
فناهيك من عقد تحلى به العلى ... وناهيك من تاج على مفرق الدهر
ألست الذي فرّجت كل عماية ... كما انفرجت سحم الغمام عن البدر
وإنّك من قوم لهم تعقد الحُبا ... وتعقد آباط المحبسة الضمر
لهم عنفوان الماء في كلّ منهل ... وإن نظرت خزر القبائل عن شزر
أسود الشرى والمرقلون الى الردى ... بحور الندى والجابرون من الفقر
وقال من أخرى في وصف ضيافة:
سمت السوام به الحمام كأنّها ... أخذت لشأن من ذوي الشنآن
وتبعتها ذات الجناح كأنّما ... فعلت جناحاً قبل في الطيران
حتى غدا حمل السماء وثورها ... حذرين مما حلّ بالحملان
نار بأرجاء المرية سقطها ... مزر ببيت النار في أرجان
بوقال من أخرى في وصف ضيافة:
سمت السوام به الحمام كأنّها ... أخذت لشأن من ذوي الشنآن
وتبعتها ذات الجناح كأنّما ... فعلت جناحاً قبل في الطيران
حتى غدا حمل السماء وثورها ... حذرين مما حلّ بالحملان
نار بأرجاء المرية سقطها ... مزر ببيت النار في أرجان
ومنها في وصف الترك وما سُبق إلى هذا المعنى:
وفتيةٍ من كُماة الترك ما تركت ... للرعد كبّاتهم صَوْتاً ولا صِيتا
قومٌ إذا قُوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
مُدّت إلى النهب أيديهم وأعينهم ... فزادهم قلق الأحداق تثبيتا
بدار قارون لو مرّوا على عجلٍ ... لبات من فاقةٍ لا يملك القوتا
بالحرص فَوَّتني دهري فوائده ... وكلما زدت حرصاً زاد تفويتا
حبلُ المنى مثل حبل الشمس، متصلاً ... يُرى، وإن كان عند اللمس مبتوتا
فلا تقل ليت صرف الدهر ساعدني ... فإنّ في لَيْتَ أَوْماً يقطع اللِيتا
وشاوِرِ السيف فيما أنت مُزْمعُه ... فالله نبّت منه العز تنبيتا
واحرّ قلباه من قوم سواسية ... لما دَعَوْني سُكَيْتاً ظِلْتُ سِكّيتا
والجهل لو كان عوداً يجتني ثمراً ... للعندليب لأمسى فوقه حوتا
دنيا اللئيم يدٌ في كفها بَرَصٌ ... وكل من لمسته صار ممقوتا
كُفْرٌ رجاؤك مَنْ لا فهمَ يَصْحَبُه ... كان الغبيّ لمن يرجوه طاغوتا
ما سامعٌ بيتَ شعرٍ ليس يفهمه ... إلا كطارق بَيْتٍ ما حوى بيتا
لا تفخرنّ بما جاد الزمان به ... ما كلّ من جاب مَرْتاً كان خِرّيتا
كم من بكور إلى إحراز مَنْقَبَةْ ... جَعَلْتَه لعُطاسِ الفجر تسميتا
بعزمة لو غدا كيوان حاسدها ... لبات في الفلك العلوي مكبوتا
يا خاطراً موته بالأمس أخرسني ... أُنْطِقْتَ بالحاجب الكافي وأُحييتا
أغناك عن كل مِنطيق، ولا عجب ... وُرُودُك البحرَ ينسيك الهراميتا
سلمان، سُلِّم، من عَزّت مطالبه ... بُعداً فخاف من الأعداء تبكيتا
مَنْ زيّن الوزراء الشُّمَّ مجتبياً ... وشرّف الرؤساء الغرّ منعوتا
في العلم والجسم لا تخفى زيادته ... فهل أعادت لنا الأيامُ طالوتا
أقلامه الشَمَع المرغوب فيه ضُحىً ... ما صافحتْ نارُه زَنْداً وكبريتا
أما ترى أن قطّ الرأس أصلحها ... فزاد جِرْمُ سناها بعد ما ليتا
وحسبها من ضياء نسجُها حُلَلاً ... من منطق لم يكن بالهُجْر مسحوتا
عبارة كزَليخا بهجةً، لقيت ... خطَّا كيوسف إذ قالت له هِيتا
كن يا أبا الفتح مفتاح النجاح لنا ... وصارماً في خطوب الدهر إصليتا
يا مَنْ هو البحر جوداً والأَضا نسباً ... جُدْلي بما شئت قد أدركت ما شيتا
وله من قصيدة في مدح الصاحب مكرم بكرمان وقد قصد التجنيس في أوله:
وُرود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشَمُّ تراب الربع يَشْفي الترائبا
إذا شِمتَ من برق العقيق عقيقةً ... فلا تنتجع دون الجفون سحائبا
منازل أُنسٍ من رَبائب مازنٍ ... ألثَّ رَبابُ المزن فيهنّ ساكبا
ومرّتْ عليها البيضً والسود برهةً ... فَبّدَّلْنَها بالبيض أسودَ ناعبا
تفرّد واجتاب السواد فخلتُه ... من الزُّهد فيما يجمع الشمل، راهبا
حملنا من الأيام ما لا نُطيقه ... كما حمل العظمُ الكسيرُ العصائبا
وليلٍ رجونا أن يَدِبَّ عِذارُه ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
فلا تحمَدِ الأيام فيما تفيده ... فما كان منها كاسياً كان سالبا
وله من أخرى في وصف القلم:
في كفّه من اليرا ... ع ذابلٌ مزعزِعُ
روعُ الزّمان أبداً ... من وقعه مروّعُ
إذا انبرى لحادثٍ ... فهْوَ سنانٌ مشْرَعُ
ليْنُ المجسِّ قاتلٌ ... والصِّلُّ ليْنٌ يلسعُ
أخرسُ إلا أنّه ... في إصبعَيْهِ مصقَعُ
فكم لسانٍ ناطقٍ ... أفصحُ منه إصبَعُ
يعلمُ الورْقاءَ في ال ... أغصان كيف تسجَعُ
وقال من أبياتٍ في وصف كتاب:
حَيِّ كتاباً فَضَضْتُ خاتِمَه ... عن مثل وَشْي الرّياض أَو أَملحْ
يا كرّم الله وجه كاتبه ... عرّض لي بالجَفاء أَو صَرَّح
شحّ بأَلفاظه وخاطِرُه ... بالدرّ من كلّ خاطرٍ أسمح
حتى أَتاني كتابُه فشفا ... كلَّ فؤادٍ بِبَيْنِه مُقْرَح
النّوله في وصف الذّكاء:
وعنديَ شوقٌ دائمٌ وصبابةٌ ... ومن أنا ذا حتّى أقولَ له عندي
الى رجلٍ لو أنّ بعضَ ذكائِه ... على كلّ مولودٍ تكلّم في المهدِ
ولولا نداه خِفْتُ نارَ ذكائه ... عليه ولكنّ النّدى مانعُ الوَقْدِ
وَجومنها في وصف فرس:
ومُقْرَبٍ لو أَعرتَه اللَّمْحَ بالعي ... ن كبا في غُباره اللَّمْحُ
على الدُّجى منه مَسحةٌ وعلى ... مَتْن الضيا من يمينه مَسْح
أَغرّ، صافي الأَديم أَدهم لا ... يخجل إلّا من لونه الجُنِح
كأَنما قُدَّ جسمه من دُجا ال ... ليل ومنوجهه بدا الصُّبح
قصّر عن شأوه الجِياد كما ... قصّر عن مَكْرُماتك المَدْحُ
وقوله أيضاً في وصف غلام ينظر في مرآة:
روحي الفداءُ لساجي الطرف ساحرِه ... تَحار في وصفه الألبابُ والفِكَرُ
يُرَنِّحُ التّيهُ قدّاً منه مُعتَدِلاً ... كالغُصنِ ما شانه طولٌ ولا قِصَرُ
بدا لنا فازدهانا حسْنُ صورته ... حتى امترَيْنا لها في أنه بشَرُ
وقابلَتْ وجهَهُ مِرآتُه فبدَتْ ... كأنَّها هالةٌ في وسْطِها قمر
وله من قصيدة يصف إبريق المدام:
ترى الإِبريقَ يحملُه أَخوهُ ... كِلا الظَّبْيَيْن يَلْثِمُهُ ارتِشافا
يَظَلُّ كمُطرِقٍ في القوم يبكي ... دماً أَو ناكسٍ يشكو الرُّعافا
وقال يصف الرمانة:
ومُحْمَرَّةٍ من بنات الغصو ... ن يمنعها ثِقْلُها أَن تميدا
مُنَكَّسة التّاجِ في دَسْتها ... تفوق الخُدودَ وتحكي النُّهودا
تُفَضُّ فَتَفْتَرُّ عن مَبْسِمٍ ... كأَنَّ به من عَقيقٍ عُقودا
كأَنّ المقابل من حَبِّها ... ثُغورٌ تُقَبِّل فيها خُدودا
وله يصف الوباء والإفرنج بالشام:
ولقد حلَلتُ من الشآم ببُقعةٍ ... أَعْذِرْ بساكن ربعها المسكينِ
وُبْئَتْ وجاورَها العدوُّ فأَهلُها ... شهداءُ بين الطّعن والطاعون
ومنها في صفة القلم:
يُجيل غداةَ الوغى مُرهَفاً ... شديدَ الجِلادِ خفيّ الكُلومِ
نحيفاً يردّ بإسهابِه ... وصولَتِه كلّ خطْبٍ جسيمِ
فما يتميّز عبدُ الحمي ... دِ حين يراهُ من ابنِ الخطيم
ومنها في صفة القلم:
لا يبلغُ الشرفَ اليراعُ وإنما ... خَيْرُ الرِّياسة ما أتى برئاسِ
بمُهنّدٍ في جسمه من جَوْهَرٍ ... ما في الفتى من جوهرٍ حسّاس
وأَصمَّ رَعّاف وليس بذي دمٍ ... فتراه يَرْعَفُ من دماء الناس
أَظْمَى، كَصِلِّ الرمل، يُؤمَنُ مَتْنُه ... والحَتفُ راسٍ في شَباةِ الراس
كلاّ مَنارُ العلم أرفعُ والعُلى ... مقرونةٌ منه إلى أمراس
فُرسانُه فوق الدُّسوتِ وما همُ ... كمُلازمي سَرَواتِها الأحْلاسِ
إن طاعنوا فبألسُنٍ، أو ناضلوا ... أغنى قياسهمُ عن الأقواس
أفراسُهم قَصَبٌ، لها قصبُ المدى ... فضلاً إذا مَزَعَتْ مع الفرّاس
رُقْشٌ يذوبُ لُعابُها، أفواهُها ... لا ذاتُ أنيابٍ ولا أضراس
مَبئرِيّةٌ فإذا تبارَتْ قَطَّرَتْ ... عَرَقَاً من الأنقاسِ في الأطراس
تجري إذا هي بالشباب تلفّعت ... ونقوم إن بلغت إلى الأحلاس
أكياس مالهمُ القلوب، وهكذا ... خُلقُ السَّراةِ وشيمة الأكياس
وبحارهُمْ كُتب العلوم فكلما ... قرأوا أصابوا الدُّرَّ في قرطاس
وهي الحُلِيّ لهم ولكن ربّما ... فُقِدَتْ فأعطتهم من الوسواس
ومنها في صفة الأباريق:
جُليت علينا في مراكز محكَم ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتون رِقاقِ
وكأنّ أفواه الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
فكأنَّها بين الحضور حمائمٌ ... حُمرُ الصُّدور لوامع الأَطواقِ
قلت: اسْقِني منها بكأسٍ قَرْقَفاً ... صهباءَ لاحقةَ الشّعاع، دِهاقِ
وخُذِ الَّذي نعطيك غيرَ مُماكسٍ ... يا عمُّ من ذهب ومن أَعْلاقِ
فأبى عَليَّ، وقال: كلاّ، والّذي ... أهوى عبادَه مع الخَلاّقِ
لا شَمَّ مَفْرِقَ رأسِهما ذو مَعْطِسٍ ... إلا بكَثرةِ رغبةٍ وصَداقِ
تَلمنها في صفة الجيش:
بجيشٍ يضيعُ الليلُ فيه إذا سَرَى ... وتُخْفي نجومَ الجوِّ منه القساطلُ
إِذا ما خَبَتْ فيه المشاعلُ عاضَها ... من ايدي الجيادِ المُنْعَلاتِ مشاعل
وتَطَّرِدُ الراياتُ فيه كأنّها ... أَفاعٍ إلى أوكارهنَّ جوافل
فما لاحَ ضوءُ الصبحِ حتى تحكَّمَتْ ... لهم في أعاديهمْ قناً ومناصل
كأنّ مُثارَ النقعِ وَبِيضهُمْ ... بُرُوقٌ تَلاَلاَ فيه، والدم وابلُ
ومنها في صفة السيف:
ومهَّندٍ متمّوجٍ متضرِّمٍ ... من صفحتيه بغمدهِ فَجْرَانِ
عَضْبٌ ترقرقَ ماؤه في نارهِ ... فَعَجبْتُ كيف تَأَلَّفَ الضِّدَّانِ
يَنْدَى ويَدْمَى تارةً فكأنما ... لَمَسَتْ مضاربَهُ يَدَا رِضْوَانِ
اومنها يصف داره:
ويوم ابتدرنا الإذنَ نُرْعَدُ هيبةً ... وقد غصَّ بالرفد الرواقُ المحجَّبُ
وصلنا وسلَّمنا على البدرِ جادَهُ ... سماءٌ لها من ذائبِ التِّبْرِ هَيْدَبُ
وقد نَمْنَم الكفُّ الصَّنَاعُ بأُفْقِها ... رياضاً كأنَّ الجوَّ منهنَّ مُعْشِبُ
ومصقولةِ الأرجاءِ ملثومةِ الثرى ... إلى جنة الفردوسِ تُعْزَى وتنسَبُ
نخالُ بأُولى نظرةٍ أنَّ دُرَّها ... يُنَثَّرُ أو عِقْيانها يَتَصَوَّبُ
ومنها في وصف الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الأبطا
ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأن أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
له في وصف الغرق:
ينضج جسمي على الفراش لما ... بالقلب من لوعة ومن حُرق
لعارض يستهلّ واكفه ... عليّ واش بالوابل الغدِق
مثل غريق نجا بمهجته ... وكابد الموجَ خشيةَ الغرق
الهاء وقوله يصف منزلاً في قصر:
منزلٌ ودّتِ المنازلُ في أعْ ... لى ذُراها لو أنّها إيّاه
فأجِلْ فيه لحظَ عينيكَ تُبصرْ ... أيّ حسنٍ دون القصور حواه
سال في سقفِه النُضار ولكن ... جمدتْ في قراره الأمواه
وله يصف قبح منزله وضيقه:
ليَ بَيْتٌ كأَنَّهُ بيتُ شِعْرٍ ... لابن حجَّاجَ من قصيدٍ سخيفٍ
ضايقتني بناتُ ورْدان حتى ... أنا فيه كفارةٍ في كنيف
أين للعنكبوتِ بَيْتٌ ضعيفٌ ... مثله وهو مثلُ عقلي الضعيف
وإذا هبَّ فيه ريحُ السراويلِ ... فَسَلِّمْ على اللِّحَى والأنوف
بُقْعَةٌ صَدَّ مطلعُ الشمس عنها ... فأنا مُذْ سَكَنْتُهَا في الكسو
وهْو لو كان بين حجِّي وَنُسْكِي ... صدَّ في بغضهِ عن التَّطْوِيف
أنت وسَّعْتَ بيتَ مالي فَوَسِّعْ ... منزلي فهو منزلٌ للضيوف
وَأَجِرْني من الضنا واجْرِني منك ... على حسن خُلْقِكَ المأْلُوفِ
الوصف والتشبيه فمنه قول عبد الله بن المعتز:
كأن سماءنا لما تجلت ... خلال نجومهم عند الصباح
رياض بنفسج خضل، نداه ... تفتح بينه نور الأقاح
وقال آخر:
كأن سماءنا، والشهب فيها، ... وأصغرها لأكبرها مزاحم
بساط زمرد نثرت عليه ... دنانير تخالطها دراهم
ونحوه قول الآخر:
كأن سماء الأرض نطع زمرد، ... وقد فرشت فيه الدنانير للصرف
وقال آخر:
ورأيت السماء كالبحر إلا ... أن مرسوبه من الدر طافى.
فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك خافي.
وقال التنوخي يصف ليلة:
كأنما نجومها، ... نصب عيون الرمق
دراهم قد نثرت ... على بساط أزرق
وقال أبو طالب الرقي:
وكأن أجرام السماء، لوامعا، ... درر نثرن على بساط أزرق.
وقال ظافر الحداد:
كأن نجوم الليل، لما تبلجت، ... توقد جمر في خلال رماد.
حكى، فوق ممتد المجرة شكلها، ... فواقع تطفو فوق لجة وادي.
وقال آخر:
كأن النجوم، نجوم السما، ... وقد لحن للعين من فرط بعد،
مسامير من فضة سمرت ... على وجه لوح من اللازورد.
وقال محمد بن عاصم:
ترى صفحة الخضراء، والنجم فوقها، ... ككف سدوسى بدا فيه درهم.
ترى، وعلى الآفاق أثواب ظلمة، ... وأزرارها منها شمال ومرزم.
وفي الفلك قال أبو العلاء المعري:
يا ليت شعري! وهل ليت بنافعه؟ ... ماذا وراءك أو ما أنت يا فلك؟
كم خاض في إثرك الأقوام واختلفوا ... قدما! فما أوضحوا حقا ولا تركوا.
وشمس تغيب ويقفوا إثرها قمر، ... ونور صبح يوافي بعده حلك.
طحنت طحن الرحى من قبلنا أمما ... شتى، ولم يدر خلق أية سلكوا.
وقال، إنك طبع خامس، نفر. ... عمري! لقد زعموا بطلا وقد أفكوا!
راموا سرائر للرحمن حجبها. ... ما نالهن نبي، لا ولا ملك.
وقال الرئيس أبو علي بن سينا:
بربك! أيها الفلك المدار، ... أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مدارك، قل لنا، في أي شيء؟ ... ففي أفهامنا منك ابتهار!
وعندك ترفع الأرواح؟ أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار؟
وفيك الشمس رافعة شعاعا، ... بأجنحة قوادها قصار؟
قطوف، ذي النجوم اللآلى؟ ... هلال أم يد فيها سوار؟
وشهب، ذي المجرة أم ذبال ... عليها المرخ يقدح والعفار؟
وترصيع، نجومك أم حباب ... تؤلف بينها اللجج الغزار؟
تمد رقومها ليلا وتطوى ... نهارا، مثل ما طوى الإزار!
فكم بصقالها صدى البرايا! ... وما يصدا لها أبدا غرار.
وتبدو ثم تخنس راجعات ... وتكنس مثل ما كنس الصوار.
فبينا الشرق يقدمها صعودا ... تلقاها من الغرب انحدار.
هي العشواء، ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار.
وقال أبو عبادة البحتري:
أناة! أيها الفلك المدار! ... انهب ما تصرف أم خيار؟
ستبلى مثل ما نبلى، وتفنى ... كما نفنى، ويؤخذ منك ثار.
وصف الشمس وتشبيهها من ذلك قول الوزير المهلبي:
الشمس في مشرقها قد بدت ... منيرة ليس لها حاجب
كأنها بودقة أحميت، ... يجول فيها ذهب ذائب.
وقال ظافر الحداد:
انظر لقرن الشمس بازغة ... في الشرق تبدو ثم ترتفع!
كسبيكة الزجاج ذائبة ... حمراء ينفخها فتتسع.
وقال أبو هلال العسكري:
والشمس واضحة الجبين كأنها ... وجه المليحة في الخمار الأزرق!
وكأنها عند انبساط شعاعها ... تبر يذوب على فروع المشرق!
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبي:
أو ما ترى شمس الأصيل عليلة ... تزداد من بين المغارب مغربا؟
مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدت على الدنيا ملاء مذهبا!
ومما وصفت به - وقد قابلت القمر - قول الشاعر:
أما ترى الشمس، وهي طالعة، ... تمنع عنا إدامة النظر؟
حمراء صفراء في تلونها ... كأنها تشتكي من السهر.
مثل عروس غداة ليلتها ... تمسك مرآتها من القمر.
وقال مؤيد الدين الطغرائي، عفا الله عنه ورحمه:
وكأنما الشمس المنيرة إذ بدت، ... والبدر يجنح للمغيب وما غرب،
متحاربان: لذا مجن صاغه ... من فضة، ولذا مجن من ذهب.
ومن أحسن ما وصفت به في الطلوع والزوال والغروب قول أعرابي.
مخبأة: أما إذا الليل جنها ... فتخفى وأما في النهار فتظهر.
إذا انشق عنها ساطع الفجر وانجلى ... دجى الليل وإنجاب الحجاب المستر
وألبس عرض الأفق لونا كأنه ... على الأفق الغربي ثوب معصفر
عليها دروع الزعفران، يشوبه ... شعاع تلالا فهو أبيض أصفر:
ترى الظل يطوى حين تبدو وتارة ... تراه إذا زالت على الأرض ينشر.
فافنت قرونا، وهي في ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كل يوم وتنشر!
وقال آخر:
وبدا لنا ترس من الذهب، الذي ... لم ينتزع من معدن بتعمل.
مرآة نور لم تشن بصياغة ... كلا ولا جليت بكف الصيقل.
تسمو إلى كبد السماء كأنها ... تبغي هناك دفاع أمر معضل.
حتى إذا بلغت إلى حيث انتهت ... وقفت كوقفة سائل عن منزل.
ومما وصفت به، وقد قابلت الغيم، قول ابن المعتز :
تظل الشمس ترمقنا بطرف ... خفي لحظه من خلف ستر.
تحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنين يحاول نيل بكر.
وقال آخر :
وعين الشمس ترنو من بعيد ... رنو البكر من خلف الستور.
وقال محمد بن رشيق:
فكأن الشمس بكر حجبت ... وكأن الغيم ستر قد ستر.
مما وصفت به على طريق الذم فمن ذلك ما قاله عبد الملك بن عمير، وقد سئل عنها فقال: مظهرة للداء، مثقلة للهواء، مبلاة للثوب، جالبة للهب.
وقال آخر: الشمس تشحب اللون، وتغير العرق، وترخى البدن، وتثير المرة.
إذا احتجمت فيها، أمرضتك؛ وإن أطلت النوم فيها، أفلجتك؛ وإن قربت منها، صرت زنجيا، وإن بعدت عنها، صرت صقليا .
وقال ابن سينا الملك:
لا كانت الشمس! فكم أصدأت ... صفحة خد كالحسام الصقيل!
وكم وكم صدت بوادي الكرى ... طيف خيال جاءني عن خليل!
وأعدمتني من نجوم الدجى ... ومنه روضا بين ظل ظليل!
تكذب في الوعد؛ وبرهانه ... أن سراب القفر منها سليل.
وهي إذا أبصرها مبصر ... حديد طرف، راح عنها كليل!
ياعلة المهموم، يا جلدة ال ... محموم، يا زفرة صب نحيل!
يا قرحة المشرق عند الضحى، ... وسلحة المغرب عند الأصيل!
أنت عجوز، لم تبرجت لي، ... وقد بدا منك لعاب يسيل؟
وقال التيفاشي، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
في خلقه الشمس وأخلاقها ... شتى عيوب ستة تذكر .
رمداء، عمشاء، إذا أصبحت، ... عمياء عند الليل، لا تبصر.
ويغتدى البدر لها كاسفا ... وجرمها من جرمه أكبر .
حرورها في القيظ لا تتقى ... ودفؤها في القر مستحقر.
وخلقها خلق المليك الذي ... ينكث في العهد ولا يصبر.
ليست بحسناء. وما حسن من ... يحسر عنه اللحظ يبصر؟
وقال أبو الطيب المتنبي:
تسود الشمس منا بيض أوجهنا ... ولا تسود بيض العذر واللمم.
وكان حالهما في الحكم واحدة ... لو اختصمنا من الدنيا إلى حكم.
ما قيل في الكسوف
وقال محمد بن هانئ في الكسوف.
هي الحوادث لا تبقى ولا تذر! ... ما للبرية من محتومها وزر!
لو كان ينجي علو من بوائقها ... لم تكسف الشمس بل لم يخسف القمر
قيل في وصفه وتشبيهه من ذلك قول عبد الله بن المعتز في الهلال:
وانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حموله من عنبر!
وقول عبد الجبار بن حمديس الصقلي:
ورب صبح رقبناه، وقد طلعت ... بقية البدر في أولى بشائره!
كأنما أدهم الإظلام حين نجا ... من أشهب الصبح، ألقى نعل حافره!
وقال آخر:
قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد!
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود!
وقال أبو الهلال العسكري:
في هلال كأنه حية الرم ... ل أصابت على اليفاع مقيلا.
بات في معصم الظلام سورا ... وعلى مفرق الدجى إكليلا.
وقال آخر:
والجو صاف والهلال مشنف ... بالزهرة الزهراء نحو المغرب.
كصحيفة زرقاء فيها نقطة ... من فضة من تحت نون مذهب.
وقال آخر:
قلت لما دنت لمغربها الشم ... ش ولاح الهلال للنظار:
أقرض الشرق صنوه الغرب دينا ... را فأعطاه الرهن نصف سوار
وقال أبو العلاء المعري:
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بذوب النضار الكاتب ابن هلال.
وقال آخر:
وكأن الهلال نون لجين ... غرفت في صحيفة زرقاء.
وقال أبو عاصم البصري من شعراء التيمة:
رأيت الهلال، وقد أحدقت ... نجوم الثريا لكي تسبقه.
فشبهته وهو في إثرها ... وبينهما الزهرة المشرقة،
بقوس لرام رمى طائرا ... فأتبع في إثره بندقه.
وقال آخر:
ولاح لنا الهلال كشطر طوق ... على لباب زرقاء اللباس.
وقال الواوا الدمشقي رحمه الله:
وكأن الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل!
وقال لإبراهيم بن محمد المرادي، من شعراء الأنموذج، ملغزا فيه:
دع ذا! وقل للناس: ما طارق، ... يطرقكم جهرا ولا يتقي؟
ليس له روح على أنه ... يركب ظهر الأدهم الأبلق.
شيخ رأى آدم في عصره ... وهو إلى الآن نجد نقي.
ومد وسط السجن مع قومه ... لا ينبرى من نهجة الضيق.
هذا ويمشي الأرض في ليلة ... أعجب به من موثق مطلق.
فتارة ينزل تحت الثرى ... وتارة وسط السما يرتقى.
وتارة يوجد في مغرب ... وتارة يوجد في المشرق.
وتارة تحسبه سابحا ... يسرى بشاطئ البحر البحر كالزورق.
وتارة تحسبه وهو في ... أستاره والبعض منه بقي،
ذبابة من صارم مرهف ... بارزة من جفنه المطبق.
يدنو إلى عرس له حسنها ... يختطف الأبصار بالرونق.
حتى إذاجامعها يرتدي ... بحلة سوداء كالمحرق.
وهو على عادته دائما ... يجامع الأنثى ولا يتقي.
ثم يجوب القفر من أجلها ... مشتملا في مطرف أزرق.
حتى إذا قابلها ثانيا ... تشكه بالرمح في المفرق.
وبعد ذا تلبسه حلة ... يا حسنها في لونها المونق!
فجسمه من ذهب جامد ... وجلده صيغ من الزئبق.
وهو إذا أبصرته هكذا ... أملح من صاحبة القرطق.
وقال ابن المعتز:
نظرت في يوم لذة عجبا ... وافى به للسعود مقدار.
يقابل الشمس فيه بدر دجى ... يأخذ من نورها ويمتار.
كصير في يروح منتقدا ... في كفه درهم ودينار.
وقال عبد الله بن علي الكاتب:
كشف البدر وجهه لتمام، ... فوجوه النجوم مستترات.
وكأن البدر التمام عروس، ... وكأن النجوم مستنقبات.
مما قيل فيه على طريق الذم حكى أن أعرابيا رأى رجلا يرقب الهلال. فقال له: ما ترقب فيه، وفيه عيوب لو كانت في الحمار لرد بها؟ قال: وما هي؟ فقال: إنه يهدم العمر، ويقرب الأجل، ويحل الدين، ويقرض الكتان، ويشحب اللون، ويفسد اللحم، ويفضح الطارق، ويدل السارق.
ومن عيوبه أن الإنسان إذا نام في ضوئه حدث في بدنه نوع من الاسترخاء والكسل، ويهيج عليه الزكام والصداع؛ وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة في ضوئه، تغبرت طعومها وروائحها.
وقال ابن الرومي:
رب عرض منزه عن قبيح ... دنسته معرضات الهجاء.
لو أراد الأديب أن يهجو البد ... ر، رماه بالخطة الشنعاء.
قال: يا بدر أنت تغدر بالسا ... رى وتزرى بزروة الحسناء.
كلف في شحوب وجهك يحكى ... نكتا فوق وجنة برضاء.
يعتريك المحاق ثم يخلي ... ك شبيه القلامة الحجناء.
ويليك النقصان في آخر الشه ... ر فيمحوك من أديم السماء.
فإذا البدر نيل بالهجو، هل يأ ... من ذو الفضل ألسن الشعراء؟
لا لأجل المديح، بل خيفة الهج ... و أخذنا جوائز الخلفاء!
هذا ما أمكن إيراده في القمر، فلنذكر خبر عباد القم
رقما قيل في وصف الكواكب وتشبيهها من ذلك ما قاله ابن حجاج في المجرة:
يا صاحبي استيقظا من رقدة ... تزرى على عقل اللبيب الأكيس!
هذى المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس!
وقال آخر:
وكان المجر جدول ماء ... نور الأقحوان في جانبيه.
وقال المهذب بن الزبير فيها:
وترى المجرة والنجوم كأنها ... تسقى الرياض بجدول ملآن.
لو لم يكن نهرا، لما عامت به ... أبدا نجوم الحوت والسرطان.
وقال أبو هلال العسكري:
تبدو المجرة منجرا ذوائبها ... كالماء ينساح أو كالأيم ينساب
وقال هشام بن إلياس في الجوزاء:
فكأنما جوزاؤه في غربها ... بيضاء سابحة ببركة زئبق.
وكأنما أومت ثلاث أنامل ... منها تقول: إلى ثلاث نلتقي!
وقال آخر:
وكأن الجوزاء لما استقلت ... وتدلت، سرادق ممدود.
وقال العلوي فيها أيضا:
ها إنها الجوزاء في أفقها ... واهية ناعسة تسحب.
نطاقها واه لدى أفقها ... ينسل منها كوكب كوكب.
وقال ابن وكيع فيها:
قم فاسقني صافية ... تهتك جنح الغسق!
أما ترى الصبح بدا ... في ثوب ليل خلق؟
أما ترى جوزاءه ... كأنها في الأفق،
منطقة من ذهب ... فوق قباء أزرق؟
وقال كعب الغنوي:
وقد مالت الجوزاء حتى كأنها ... فساطيط ركب بالفلاة نزول.
وقال امرؤ القيس في الثريا:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... تعرض أثناء الوشاح المفصل.
وقال ابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنها ... جمان وهي من سلكه، فتبددا.
وقال المبرد:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت ... يراها حديد العين ستة أنجم.
على كبد الجرباء وهي كأنها ... جبيرة در ركبت فوق معصم.
وقال عبد الله بن المعتز:
فناولنيها، والثريا كأنها ... جنى نرجس حيا الندامى بها الساقي.
وقال أيضا
كأن الثريا في أواخر ليلها ... تفتح نور أو لجام مفضض.
وقال السلامي، شاعر اليتيمة فيها:
فسمونا، والفجر يضحك في الشر ... ق إلينا مبشرا بالصباح.
والثريا كراية أو لجام ... أو بنان أو طائر أو وشاح،
وكأن النجوم في يد ساق ... يتهادى تهادى الأقداح.
وقال ابن المعتز:
ولاحت لساريها الثريا كأنها ... على الأفق الغربي قرط مسلسل.
وقال أبونضلة:
وتأملت الثريا ... في طلوع ومغيب.
فتخيرت لها التش ... بيه في المعنى المصيب.
وهي كأس في شروق ... وهي قرط في غروب.
وقال آخر:
كأن الثريا هودج فوق ناقة ... يسير بها حاد مع الليل مزعج،
وقد لمعت بين النجوم كأنها ... قوارير فيها زئبق يترجرج.
وقال ابن سكرة الهاشمي:
ترى الثريا، والغرب يجذبها ... والبدر يهوى والفجر ينفجر.
كف عروس لاحت خواتمها ... أو عقد در في البحر ينتثر.
وقال محمد بن حسن الحاتمي:
وخلت الثريا كف عذراء طفلة ... مختمة بالدر منها الأنامل.
تخيلتها في الجو طرة جعبة ... ملوكية لم تعتلقها جمائل.
كأن نبالا ستة من لآلئ ... يوافي بها في قبة الأفق نابل.
وقال أحمد بن إبراهيم الضبي، شاعر اليتيمة:
خلت الثريا إذ بدت ... طالعة في الحندس:
مرسلة من لؤلؤ ... أو باقة من نرجس
وقال أبو العلاء المعري في سهيل:
وسهيل كوجنة الحب في اللو ... ن وقلب المحب في الخفقان.
مستبدا كأنه الفارس المع ... لم يبدو معارض الفرسان.
وقال عبد الله بن المعتز:
وقد لاح للساري سهيل كأنه ... على كل نجم في السماء رقيب!
وقال الشريف بن طباطبا:
وسهيل كأنه قلب صب ... فاجأته بالخوف عين الرقيب.
وقال أبو عبادة البحتري:
كأن سهيلا شخص ظمآن جانح ... من الليل في نهر من الماء يكرع.
وقال ابن طباطبا:
كأن سهيلا، والنجوم أمامه ... يعارضها، راع أمام قطيع.
وقال الشريف الرضي في الفرقدين:
وهبت لضوء الفرقدين نواظري ... إلى أن بدا ضوء من الفجر ساطع.
كأنهما إلفان قال كلاهما ... لشخص أخيه: قل فإني سامع!
وقال آخر:
قلت للفرقدين والليل مرخ ... ستر ظلمائه على الآفاق:
ابقيا ما بقيتما سوف يرمى ... بين شخصيكما بسهم الفراق!
وقال القاضي التنوخى:
وأشقر الجو قد لاجت كواكبه ... فيه كدر على الياقوت منثور.
وقال القاضي الفاضل، عبد الرحيم من رسالة: سرنا، وروضة السماء فيها من الزهر زهر، ومن المجرة نهر؛ والليل كالبنفسج تخلله من النجوم أقاح، أو كالزنج شعله من الرمح جراح، والكواكب سائرات المواكب لا معرس لها دون الصباح؛ وسهيل كالظمآن تدلى إلى الأرض ليشرب، أو الكريم أنف من المقام بدار الذل فتغرب، فكأنه قبس تتلاعب به الرياح، أو زينة قدمها بين يدي الصباح؛ أو ناظر يغضه الغيظ ويفتحه، أو معنى يغمضه الحسن ثم يشرحه؛ أو صديق لجماعة الكواكب مغاضب، أو رقيب على المواكب مواكب؛ أو فارس يحمي الأعقاب، أو داع به إليها وقد شردت عن الأصحاب.
والجوزاء كالسرادق المضروب، أو الهودج المنصوب؛ أو الشجرة المنورة، أو الحبر المصورة. والثريا قد هم عنقودها أن يتدلى، وجيش الليل قد هم أن يتولى.
وصف السحاب والمطر قال أبو تمام الطائي:
سحابة صادقة الأنواء ... تجر أهدابا على البطحاء.
تجمع بين الضحك والبكاء: ... بدت بنار وثنت بماء.
وقال أبو عبادة البحتري عفا الله تعالى عنه:
ذات ارتجاس بحنين الرعد ... مجرورة الذيل صدوق الوعد،
مسفوحة الدمع بغير وجد ... لها نسيم كنسيم الورد،
ورنة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند.
جاءت بها ريح الصبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقد.
وراحت الأرض بعيش رغد ... من وشي أنوار الثرى في برد.
كأنما غدرانها في الوهد ... يلعبن ترحابا بها بالرند.
وقال أبو الحسن علي بن القاسم القاشاني من شعراء اليتيمة عفا عنه:
إذا الغيوم أرجحن باسقها ... وحف أرجاءها بوارقها،
وعبيت للثرى كتائبها ... وانتصبت وسطها عقائقها،
وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألح خافقها،
وابتسمت فرحة لوامعها ... واختلفت عبرة حمالقها،
وقيل: طوبى لبلدة نتجت ... بجو أكنافها بوارقها.
أية نعماء لا تحل بها؟ ... وأي بأساء لا تفارقها؟
وقال القاضي التنوخي:
سحاب أتى كالأمن بعد تخوف ... له في الثرى فعل الشفاء بمندف.
أكب على الآفاق إكباب مطرق ... يفكر أو كالنادم المتلهف.
ومد جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف.
غدا البر بحرا زخرا وانثنى الضحى ... بظلمته في ثوب ليل مسجف.
فعبس عن برق به متبسم ... عبوس بخيل فيه تبسم معتف.
تحاول منه الشمس في الجو مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف.
وقال ابن الرومي:
سحائب قيست بالبلاد فألفيت ... غطاء على أغوارها ونجودها.
حدتها النعامى مقبلات فأقبلت ... تهادى رويدا سيلها كركودها.
وقال أبو هلال العسكري:
وبرق سرى، والليل يمحى سواده ... فقلت: سوار في معاصم أسمرا!
وقد سد عرض الأفق غيم تخاله ... يزر على الدنيا قميصا معنبرا.
تهادى على أيدي الحبائب والصبا ... كخرق من الفتيان نازع مسكرا.
تخال به مسكا وبالقطر لؤلؤا ... وبالروض ياقوتا وبالوحل عنبرا.
سواد غمام يبعث الماء أبيضا ... وغرة أرض تنبت الزهر أصفرا.
أتتك به أنفاس ريح مريضة ... كمفظعة رعناء تستاق عسكرا.
فألقى على الغدران درعا مسردا ... وأهدى إلى القيعان بردا محبرا.
تخال الحيا في الجو درا منظما ... وفي وجنات الروض درا منثرا.
وأقبل نشر الأرض في نفس الصبا ... فبات به ثوب الهواء معطرا.
إذا ما دعت فيه الرعود فأسمعت ... أجاب حداة واستهل فأغزرا.
ويبكي إذا ما أضحك البرق سنه ... فيجعل نار البرق ماء مفجرا.
كأن به رؤد الشباب خريدة ... قد اتخذت ثنى السحابة معجرا.
فثغر يرينا من بعيد تبلجا ... ودمع يرينا من بعيد تحدرا.
وقال مؤيد الدين الطغرائي:
سارية ذات عبوس برقها ... يضحك والأجفان منها تهمل.
كحلة دكناء في حاشية ... فيها طراز مذهب مسلسل.
إذا دنت عشارها، صاح بها ... قاصف رعد وحدتها الشمأل.
وقال عبد الله بن المعتز:
ومزنة جاد من أجفانها المطر: ... فالروض منتظم والقطر منتثر.
ترى مواقعة في الأرض لائحة ... مثل الدراهم تبدو ثم تستر.
وقال أيضا:
ما ترى نعمة السماء على الأر ... ض وشكر الرياض للأمطار؟
وكان الربيع يجلو عروساوكأنا من قطره في نثار؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟!
وقال ابن عوف الكاتب في إطباق الغيم وقربه:
في مزنة أطبقت فكادت ... تصافح الترب بالغمام.
وقال آخر:
تبسمت الريح، ريح الجنو ... ب فيها هوى غالبا وادكار.
وساقت سحابا كمثل الجبال ... إذا البرق أومض فيه، أنارا.
إذا الرعد جلجل في جانبي ... ه روى النبات وأروى الصحاري.
تطالعنا الشمس من دونه ... طلاع فتاة تخاف اشتهار ،
تخاف الرقيب على نفسها ... وتحذر من زوجها أن يغارا.
فتستر غرتها بالخما ... رطورا، وطورا تزيل الخمارا.
فلما رآه هبوب الجنو ... ب وانهمر الماء فيه انهمارا،
تبسمت الارض لما بكت ... عليها السماء دموعا غزار؟؟؟؟؟؟؟؟؟!
وقال الأسعد بن بليطة من شعراء الذخيرة:
لو كنت شاهدنا عشية أمسنا، ... والمزن تبكينا بعيني مذنب،
والشمس قد مدت أديم شعاعها ... في الأرض تجنح غير أن لم تذهب،
خلت الرذاذ برادة من فضة ... قد غربلت من فوق نطع مذهب!
وقال أبو عبد الله محمد بن الخياط من شعرائها:
راحت تذكر بالنسيم الراحا ... وطفاء تكسر للجنوح جناحا.
أخفى مسالكها الظلام فأوقدت ... من برقها، كي تهتدي، مصباحا.
وكان صوت الرعد خلف سحابها ... حاد إذا ونت السحائب، صاحا.
جادت على التلعات فاكتست الربا ... مللا أقام لها الربيع وشاحا.
وقال ابن برد الأصغر الأندلسي من شعرائها:
ومازلت أحسب فيه السحاب، ... ونار بوارقها تلتهب:
بخاتي توضع في سيرها ... وقد قرعت بسياط الذه
ثم أرسل الله الرياح من كنائنها، وأخرجها من خزائنها؛ قجرت ذيولها، وأجرت خيولها؛ خافقة بنودها، متلاحقة جنودها؛ فاثارت الغمام، وقادته بغير زمام؛ وأنشأت بحرية من السحاب، ذات أتراب وأصحاب؛ كثيرا عددها، غزيرا مددها، فبشرت بالقطر كل شائم، وانذرت بالورد كل حائم، والريح تنثها، والبرق يحثها، كأنه قضيب من ذهب، أو لسان من لهب؛ وللسحاب من ضوء البرق هاد، ومن صوت الرعد حاد؛ والريح توسع بلحمتها سداها، وتسرع في حياكتها يداها. فلما التحم فتقها، والتأم رتقها؛ وامتدت أشطانها، واتسعت أعطانها؛ وانفسحت أجنابها، وانسدلت أطنابها؛ وتهدل خملها، وتمخض حملها؛ ومدت على آفاق السماء نطاقها، وزرت على أعناق الجبال أطواقها، كأنها بناء على الجو مقبوب، أو طبق على الأرض مكبوب؛ تمشي من الثقل هونا، وتستدعى من الريح عونا؛ ومخايلها تقوى، وعارضها أحوى. فلما أذن الله لها بالانحدار، وأنزل منه الودق بمقدار، أرسلت الريح خيوط القطر من رود السحائب، وأسبلتها إسبال الذوائب، فدرت من خلف مصرور، ونثرت طلها نثر الدرور. ثم انخرق جيبها وانبثق سيبها؛ وصار الخيط حبلا،والطل وبلا. فالسحاب يتعلق، والبرق يتألق، والرعد يرتجس، والقطر ينبجس، والنقط تترامى طباقا، وتتبارى اتساقا، فيردف السابق المصلي، ويتصل التابع بالمولى، كما يقع من المنخل البر، وينتثر من النظام الدر، فجيوب السماء تسقطه، وأكف الغدران تلقطه؛ والأرض قد فتحت أفواها، وجرعت أمواها، حتى أخذت ريها من المطر، وبلغت منه غاية الوطر، خفى من الرعد تسبيحه، وطفئت من البرق مصابيحه، وحسرت الماء نقابها، وولت المطر أعقابها؛ وحكت في ردها طلق السابق، وهرب الآبق.
ومن رسالة لمحمد بن شرف القيرواني: برئ عليل البرى، وأثرى فقير الثرى، وتاريخ ذلك انصرام ناجر، وقد بلغت القلوب الحناجر، محمارة أحمرت لها خضرة السماء، واغبرت مرآة الماء، حتى انهل طالع وسمي، وتلاه تابع ولى، دنا فأسف، ووكف فما كف. فما فتئ مسكوبا قطره، محجوبا شمسه وبدره، وجليب عروس الشمس، معتذرة عن مغيبها بالأمس، فعندها مزق عن الدقعاء صحيح إهابها، واختزن در البر في أصداف ترابها. فما مرت أيام إلا والقيعان مسندسه، والآكام مطوسه.
ومن رسالة لأبي القاسم، محمد بن عبد الله بن أبي الجد في وصف مطر بعد قحط: قال: لله تعالى في عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكام، لا تنالها الأوهام. تختلف والعدل متفق، وتفترق والفضل مجتمع متسق. ففي منحها نفائس المأمول، وفي محنها مداوس العقول. وفي أثناء فوائدها حدائق الإنعام رائقه، وبين أرجاء سرائرها بوارق الإعذار والإنذار خافقه. وربما تفتحت كمائم النوائب، عن زهرات المواهب. وانسكبت غمائم الرزايا، بنفحات العطايا. وصدع ليل اليأس صبح الرجاء، وخلع عامل البأس وإلى الرخاء. ذلك تقدير اللطيف الخبير، وتدبير العزيز القدير!
(1/17)
ولما ساءت بتثبط الغيث الظنون، وانقبض من تبسط الشك اليقين، واسترابت حياض الوهاد، بعهود العهاد، وتأهبت رياض النجاد، لبرود الحداد، واكتحلت أجفان الأزهار، بإثمد النقع المثار، وتعطلت أجياد الأنوار، من حلى الديمة المدرار، أرسل الله بين يدي رحمته ريحا بليلة الجناح، مخيلة النجاح، سريعة الإلقاح، فنظمت عقود السحاب، نظم السخاب، وأحكمت برود الغمام، رائقة الأعلام. وحين ضربت تلك المخيلة في الأفق قبابها، ومدت على الأرض أطنابها، لم تلبث أن انهتك رواقها، وانبتك وشيكا نطاقها، وانبرت مدامعها تبكي بأجفان المشتاق، غداة الفراق، وتحكي بنان الكرام، عند أريحية المدام، فاستغربت الرياض ضحكا ببكائها، واهتز رفات النبات طربا لتغريد مكائها، واكتسب ظهور الأرض من بيض إنائها، خضر ملائها. فكأن صنعاء قد نشرت على بسيطها بساطا مفوفا، وأهدت إليها من زخارف بزها ومطارف وشيها ألطافا وتحفا. وخيل للعيون أن زواهر النجوم، قد طلعت من مواقع التخوم، ومباسم الحسان، قد وصلت بافتزاز الغيظان. فيا برد موقعها على القلوب والأكباد! ويا خلوص ريها إلى غلل النفوس الصواد! كأنما استعارت أنفاس الأحباب، أو ترشفت شنب الثنايا العذاب، أو تحملت ماء الوصال، إلى نار البلبال. أو سرت على أنداء الأسحار وريحان الآصال. لقد تبين للصنع الجليل، من خلال ديمها تنفس ونصول، وتمكن للشكر الجميل، ومن ظلال نعمها معرس ومقيل. فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر؛ وتوقد قبس، وتردد نفس؛ وهو الكفيل تعالى بإتمام النعمى، وصلة أسباب الحياة والحيا بعزته! وقال الوزير أبو عمرو الباجي في مثل ذلك: إن لله تعالى قضايا واقعة بالعدل، وعطايا جامعة للفضل؛ ونعم يبسطها إذا شاء إنعاما وترفيها، ويقبضها متى أراد إلهاما وتنبيها؛ ويجعلها لقوم صلاحا وخيرا، ولآخرين فسادا وطيرا. " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد " .
وإنه كان من امتساك السقيا، وتوقف الحيا؛ ما ريع به الأمن واستطير له الساكن؛ ورجفت الأكباد فزعا، وذهلت الألباب جزعا؛ وأذكت ذكاء حرها، ومنعت السماء ردها؛ وكتست الأرض غبرة بعد خضرة، ولبست شحوبا بعد نضرة؛ وكادت برود الرياض تطوى، ومدود نعم الله تزوى، ثم نشر الله تعالى رحمته، وبسط نعمته، وأتاح منته، وأزاح محنته. فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح؛ بماء يتدفق، ورواء غدق، من سماء طبق. استهل جفنها فدمع، وسمح دمعها فهمع، وصاب وبلها فنقع. فاستوفت الأرض ريا، واستكملت من نباتها أثاثا وريا؛ فزينت الأرض مشهورة، وحلة الزهر منشورة، ومنه الرب موفوره، والقلوب ناعمة بعد بؤسها، والوجوه ضاحكة أثر عبوسها؛ وأثار الجزع ممحوه، وسور الشكر متلوه؛ ونحن نستزيد الواهب نعمة التوفيق ونستهديه في قضاء الحقوق إلى سواء الطريق؛ ونستعيذ به من المنة أن تعود فتنه، والمنحة أن تصير محنه! والحمد لله رب العالمين! مما وصف به الثلج والبرد قال أبو الفتح كشاجم:
الثلج يسقط أم لجين يسبك، ... أم ذا حصى الكافور ظل يفرك؟
راحت به الأرض الفضاء كأنها ... في كل ناحية بثغر تضحك!
شابت ذوائبها فبين ضحكها ... طربا وعهدي بالمشيب ينسك!
وتردت الأشجار منه ملاءة ... عما قليل بالرياح تهتك!
وقال أيضا
ثلج وشمس وصوب غادية ... فالأرض من كل جانب غره!
باتت وقيعانها زبر جدة. ... فأصبحت قد تحولت دره!
كأنها والثلوج تضحكها ... تعار ممن أحبه ثغره!
شابت فسرت بذاك وابتهجت ... وكان عهدي بالشيب يستكره!
وقال الصاحب بن عباد:
أقبل الثلج في غلائل نور ... تتهادى بلؤلؤ منثور!
فكأن السماء صاهرت الأر ... ض فصار النثار من كافور!
وقال النميري:
أهدى لنا بردا يلوح كأنه ... في الجو حب لآلئ لم يثقب،
أو ثغر حواء اللثات تبسمت ... عن واضح مثل الأقاحي أشنب!
وصف الرعد والبرق قال أبو هلال العسكري، عفا الله عنه:
والرعد في أرجائه مترنم ... والبرق في حافاته متلهب.
كالبلق ترمح، والصوارم تنتضى ... والجو يبتسم، والأنامل تحسب
وقال آخر:
إذا ونت السحب الثقال وحثها ... من الرعد حاد ليس يبصر أكمه،
أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهن مقهقه،
إذا صاح في آثارهن حسبته ... يجاور به من خلفه صاحب له
وقال ابن الدقاق الأندلسي:
أرى بارقا بالأبلق الفرد يومض ... يذهب أكناف الدجى ويقضض.
كأن سليمى من أعاليه أشرفت ... تمد لنا كفا خضيبا وتقبض.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
ويوم جرى برقه أشقرا ... يطارد من مزنه أشهبا:
ترى الأرض فيه وقد فضضت ... ووجه السماء وقد ذهبا!
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبي، شاعر الذخيرة:
ولما تجلى الليل والبرق لامع ... كما سل زنجي حساما من التبر.
وبت سمير النجم وهو كأنه ... على معصم الدنيا جبائر من در.
وقال محمد بن عاصم، شاعر الخريدة عفا الله عنه:د
أضاء بوادي الأثل والليل مظلم ... بريق كحد السيف ضرجه الدم.
إذا البرق أجرى طرفه فصهيله ... إذا ما تفرى رعده المترنم.
فشبهته إذ لاح في غسق الدجى ... بأسنان زنجي بدت تتبسم.
وقال أيضا:
والبرق يضحك كالحبيب وعنده ... رعد يخشن كالرقيب مقاله!
وقال آخر:
أرقت لبرق غدا موهنا ... خفي كغمزك بالحاجب
كأن تألقه في السماء ... يدا كاتب أو يد حاسب.
وقال عبد الله بن المعتز، يشير إلى سحابة:
رأيت فيها برقها منذ بدت ... كمثل طرف العين أو قلب يحب.
ثم حدت بها الصبا حتى بدا ... فيها إلى البرق كأمثال الشهب.
تحسبه فيها إذا ما انصدعت ... أحشاؤها عنه شجاعا يضطرب.
وتارة تبصره كأنه ... أبلق مال جله حين وثب.
حتى إذا ما رفع اليوم الضحى ... حسبته سلالا من الذهب.
قوله شجاعا مأخوذ من قول دعبل
أرقت لبرق آخر الليل منصب ... خفى كبطن الحية المتقلب.
وقال أيضا:
ما زلت أكلأ برقا في جوانبه ... كطرفة العين تخبر ثم تختطف.
برق تجاسر من حفان لامعه ... يقض اللبانة من قلبي وينصرف
وصف وتشبيه القوس قال أبو الفرج الوأواء، عفا الله تعالى عنه و :
سقيا ليوم بدا قوس الغمام به ... والشمس طالعة والبرق خلاس!
كأنه قوس رام والبروق له ... رشق السهام وعين الشمس برجاس
وقال سعيد بن حميد القيرواني، رحمة الله عليه:
أما ترى القوس في الغمام وقد ... نمق فيه الهواء نورا؟
حكى الطواويس وهي جاعلة ... أذنابها للمياه أستارا.
أخضر في أحمر على يقق ... على وشاح السحاب قد دارا.
كأنما المزن وهي راهبة ... شدت على الأفق منه زنارا.
وقال ظاهر الدين الحريري. شاعر الخريدة عفا الله عنه:
ألست ترى الجو مستعبرا ... يضاحكه برقه الخلب؟
وقد بات من قزح قوسه ... بعيدا وتحسبه يقرب؟
كطاقي عقيق وفيروزج ... وبينهما آخر مذهب.
وقال سيف الدولة بن حمدان، من أبيات:
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجود كنا والحواشي على الأرض.
يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر وسط مبيض.
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة،والبعض أقصر من بعض.
وقال عبد المحسن الصوري، عفا الله تعالى عنه:
تأمل الجو ترى واليا ... قد ولى العهد على السحب!
سار، وقوس الله تاج له، ... ركضا من الشرق إلى الضرب!
اوصف الهواء وتشبيهه
قال عبد الله بن المعتز، رحمة الله عليه:
ونسيم يبشر الأرض بالقط ... ر كذيل الغلالة المبلول.
ووجوه البلاد تنتظر الغي ... ث انتظار المحب رد الرسول.
وقال ابن الرومي:
حيتك عنا الشمال طاف طائفها ... تحية، فجرت روحا وريحانا.
هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه ... سرابها، وتنادى الطير إعلانا.
ورق تغنى على خضر مهدلة ... تسمو بها وتشم الأرض أحيانا.
(1/22)
يخال طائرها نشوان من طرب ... والغصن من هزه عطيفة نشوانا.
وقال أيضا:
كأن نسيمها أرج الخزامى ... ولاها بعد وسمي ولي.
هدية شمال هبت بليل ... لأفنان الغصون بها نجي.
إذا أنفاسها نسمت سحيرا ... تنفس كالشجي لها الخلي
وقال آخر:
وأنفاس كأنفاس الخزامى ... قبيل الصبح بلتها السماء.
تنفس نشرها سحرا فجاءت ... به سحرية المسرى رخاء.
وقال إسحاق الموصلي:
يا حبذا ريح الجنوب إذا جرت ... في الصبح وهي ضعيفة الأنفاس!
قد حملت برد الندى وتحملت ... عبقا من الجثجاث والبسباس!
وقال آخر:
إذا خلا الجو من هواء، ... فعيشهم غمة وبوس.
فهو حياة لكل حي، ... كأن أنفاسه نفوس.
وقال ابن سعيد الأندلسي:
الريح أقود ما يكون لأنها ... تبدي خفايا الردف والأعكان.
وتميل الأغصان بعد علوها ... حتى تقبل أوجه الغدران.
وكذلك العشاق يتخذونها ... رسلا إلى الأحباب والأوطان.
وقال آخر:
أيا جبلى نعمان بالله خليا ... سبيل الصبا يخلص إلى نسيمها.
أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها.
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست ... على كبد حراء، قلت همومها.
وقال ابن هتيمل اليمني:
هبت لنا سحرا، والصبح ملتثم، ... والليل قد غاب فيه الشيب والهرم.
سقيمة من نبات الشرق أضعفها ... عن قوة السير، لما هبت، السقم.
فبلغت بلسان الحال قائلة ... ما لم يبلغه يوما إلى فم،
سرا لغاينه تسرى إلى به ... من النسيم رسول ليس يتهم.
أصافح الريح إجلالا لما حملت ... إلى من ريح برديها وأستلم.
وصف النار وتشبيهها قال عبد الله بن المعتز، غفر الله له:
كأن الشرار على نارها ... وقد راق منظرها كل عين.
سحالة تبر إذا ما علا ... فإما هوى ففتات اللجين.
أخذه العسكري فقال:
أوقدت بعد الهدو نارا ... لها على الطارقين عين.
شرارها إن علا نضار ... لكنه إن هوى لجين.
وقال السري الرفاء:
والتهبت نارنا، فمنظرها ... يغنيك عن كل منظر عجب.
إذا رمت بالشرار فاطردت ... على ذراها مطارد اللهب،
رأيت ياقوتة مشبكة ... تطير عنها قراضة الذهب.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
حمراء نازعت الرياح رداءها ... وهنا وزاحمت السماء بمنكب.
ضربت سماء من دخان فوقها، ... لم تدر منها شعلة من كوكب.
وتنفخت عن كل نفحة جمرة ... باتت لها ريح الشمال بمرقب.
قد ألهبت فتذهبت فكأنها ... شقراء تمرح في عجاج أكهب.
وقال أبو الفتح كشاجم:
كأنما النار والرماد وقد ... كاد يوارى من نورها النورا:
ورد جني القطاف أحمر قد ... ذرت عليه الأكف كافورا.
وقال تاج الملوك بن أيوب:
أما ترى النار وهي تضرم في ... أحشاء كانونها وتلتهب؟
كأنما الفحم فوقها قضب ... من عنبر وهي تحته ذهب.
وقال أبو مروان بن أبي الخصال:
لابنة الزند في الكوانين جمر ... كالدراري في دجى الظلماء.
خبروني عنها و لا تكتموني، ... ألديها صناعة الكيمياء؟
سبكت فحمها صفائح تبر ... رصعتها بالفضة البيضاء.
كلما رفرف النسيم عليها ... رقصت في غلالة حمراء.
هذا البيت مأخوذ من قول الخفاجي:
وكأنها والريح عابثة بها ... تزهى فترقص في قميص أحمر.
وقال أبو هلال العسمري:
نار تلعب بالسقوف كأنها ... حلل مشققة على حبشان.
ردت عليها الريح فضل دخانها ... فأنت به سبجا على عقيان.
فالجو يضحك في ابيضاض شرائر ... منها ويعبس في اسوداد دخان.
وقال ابن أبي الخصال:
وعوجوا على ياقوتة ذهبية ... يهيم بها المقرور بالسبرات.
إذا ما ارتمت من فحمها بشرارها ... رأيت نجوم الليل منكدرا
وقال سيف الدولة بن حمدان:
كأنما النار والرماد معا ... وضوءها في ظلامه يحجب:
وجنة عذراء مسها خجل ... فاستترت تحت عنبر أشهب.
وقال آخر:
فحم كيوم الفراق تشعله ... نار كنار الفراق في الكبد.
أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرمد.
وقال أبو طالب المأموني:
ما نرى النار كيف أسقمها الق ... ر فأضحت تخبو وطورا تسعر؟
وغدا الجمر والرماد عليه ... في قميص مذهب ومعنبر؟
وقال أبو فراس الحمداني:
لله برد ما أش ... د ومنظر ما كان أعجب!
جاء الغلام بناره ... هو جاء في فحم تلهب.
فكأنما جمع الحلي ... فمحرق منه ومذهب.
ثم انطفت فكأنما ... ما بيننا ند معشب.
الشمعة والشمعدان " والسراج والقنديل " أما الشمعة، فمن جيد ما قيل فيها قول الأرجاني:
نمت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها.
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... إلا برقية نار من تراقيها.
سقيمة لم يزل طول اللسان لها ... في الحي يجني عليها ضرب هاديها.
غريقة في دموع، وهي تحرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها.
تنفست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يبكيها.
يخشى عليها الردى مهما ألم بها ... نسيم ريح إذا وافى يحيها.
بدت كالنجوم هوى في إثر عفرية ... في الأرض فاشتعلت منه نواصيها.
نجم رأى الأرض أولى أن يبوأها ... من السماء، فأمسى طوع أهليها.
كأنها غرة قد سال شادخها ... في وجه ذهماء يزهيها تجليها.
أو ضرة خلقت للشمس حاسدة، ... فكلما حجبت، قامت تحاكيها.
وحيدة كشباة الرمح هازمة ... عساكر الليل إن حلت بواديها.
ما طنبت قط في أرض مخيمة ... إلا وأقمر للأبصار داجيها.
لها غرائم تبدو من محاسنها، ... إذا تفكرت يوما في معانيها.
كصعدة في حشا الظلماء طاعنة ... تسقي أسفلها ريا أعاليها.
فالوجنة الورد إلا في تناولها ... والقامة الغصن إلا في تثنيها.
صفراء هندية في اللون إن نعتت ... والقد واللين إن أتممت تشبيها.
فالهند تقتل بالنيران أنفسها ... وعندها أن ذاك القتل يحييها.
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكف إن أهويت تجنيها.
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت، ... وما على غصنها شواك يوقيها.
ما إن تزال تبيت الليل ساهرة ... وما بها غلة في الصدر تطفيها.
صفر غلائلها، حمر عمائمها ... سود ذوائبها، بيض لياليها.
تحيي الليالي نورا، وهي تقتلها. ... بئس الجزاء لعمر الله تجزيها!
قدت على ثوب قد تبطنها ... ولم يقدر عليها الثوب كاسيها.
غراء فرعاء ما تنفك قالية ... تقص لمتها طورا وتفليها.
شباء شعثاء لا تكسي غدائرها ... لون الشبيبة إلا حين تبليها.
قناة ظلماء لا تنفك يأكلها ... سنانها طول طعن أو يشظيها.
مفتوحة العين تفنى ليلها سهرا؛ ... نعم، وإفناؤها إياه يفنيها.
وربما نال من أطرافها مرض ... لم يشف منه بغير القطع مشفيها.
وقال آخر:
بيضاء أضحكت الظلام فراعها ... فبكت واسبلت الدموع بوادرا.
جفت دموع جفونها فكأنما ... كسيت من الطلع النضيد ظفائرا.
وقال أبو القاسم المطرز من الأبيات:
وللشموع عيون كلما نظرت ... تظلمت من يديها أنجم الغسق.
من كل مرهفة الأعطاف كالغصن ... المياد لكنه عار من الور
إني لأعجب منها وهي وادعة ... تبلى وعيشتها من ضربة العنق!
وقال آخر:
جاءت بجسم كأنه ذهب ... تبكي وتشكي الهوى وتلتهب.
كأنها في أكف حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب.
وقال محمد بن أبي الثبات، شاعر اليتيمة:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرت وباطنها مكتسي.
لها مقلة هي روح لها، ... وتاج على الرأس كالبرنس.
إذا غازلتها الصبا حركت ... لسانا من الذهب الأملس.
وتنتج من حيث ما ألقحت ... ضياء يجلي دجى الحندس.
فنحن من النور في أسعد ... وتلك من النار في أنحس!
وقال آخر:
ورشيقة بيضاء تطلع في الدجى ... صبحا وتشفى الناظرين بدائها.
شابت ذوائبها أوان شبابها ... واسود مفرقها أوان فنائها.
كالعين: في طبقاتها ودموعها ... وبياضها وسوادها وضيائها.
وقال الصاحب بن عباد:
وشمعة قدمت إلينا ... تجمع أوصاف كل صب:
صفرة لون وذوب جسم ... وفيض دمع، وحر قلب.
وقال السري الرفاء:
مفتولة مجدولة ... تحكي لنا قد الأسل.
كأنها عمر الفتى ... والنار فيها كالأجل.
ومما ورد في وصفها نثرا.
من رسالة لابن الأثير الجزري جاء منها: وكان بين يدي شمعة تعم مجلسي بالإيناس، وتغني بوجودها عن كثرة الجلاس، وكانت الريح تتلاعب بشعبها، وتدور على قطب لهبها؛ فطورا تقيمه فيصير أنمله، وطورا تميله فيصير سلسله؛ وتارة تجوفه فيصير مدهنه، وتارة تجعله ذا ورقات فيمثل سوسنه؛ وآونة تنشره فيبسط منديلا، وآونة تلقه على رأسها فيستدير إكليلا.
ومن رسالة أخرى له: وكانت الريح تتلاعب بلهبها لدى الخادم فتشكله أشكالا، فتارة تبرزه نجما، وتارة تبرزه هلالا، ولربما سطع طورا كالجلنارة في تضاعيف أوراقها، وطورا كالأصابع في انضمامها وافتراقها.
وقال سيف الدين المشد في الفانوس:
وكأنما الفانوس في غسق الدجى ... دنف براه سقمه وسهاده.
حنيت أضالعه ورق أديمه ... وجرت مدامعه وذاب فؤاده.
ومما قيل في السراج من رسالة لأبي عبد الله محمد بن أبي الخصال، جاء منها: عذرا إليك أيدك الله! فإني خططت والنوم مغازل، والقرنازل؛ والريح تلعب بالسراج، وتصول عليه صولة الحجاج؛ فطورا تبرزه سنانا، وتحركه لسانا؛ وآونه تطويه جنابه، وأخرى تنشره ذوائبه؛ وتارة تقيم إبرة لهب، وتعطفه برة ذهب؛ وحينا تقوسه حاجب فتات، ذات غمزات؛ وتسلطه على سليطه، وتديله على خليطه؛ وربما نصبته أذن جواد، ومسخته حدق جراد؛ ومشتقه حروف برق، بكف ودق؛ ولثمت بسناه قنديله، وألقت على أعطافه منديله؛ فلاحظ منه للعين، ولا هداية في الطرس لليدين.
رسالة القنديل والشمعدان. من إنشاء الولى الفاضل البارع البليغ تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني، سمعتها من لفظه، وقرأتها عليه، وأجاز لي روايتها عنه، وهي الموسومة بزهر الجنان، في المفاخرة بين القنديل والشمعدان.
ابتدأها بأن قال: الحمد لله الذي أنار حالك الظلماء، بأنوار بدر السماء؛ وحلي جيدها، بعقود النجوم، وحرس مشيدها، بسهام الرجوم؛ وجعلها عبرة للاستبصار، ونزهة للأبصار؛ غشاؤها لا زورد مكلل بنضار، أو أقاحي خميلة تفتحت فيها أزرار الأزهار؛ تهدى السارى بسواريها، وتزرى بالدررر أنوار دراريها؛ كرع في نهر مجرتها النسران، ورتع في مراعي رياضها الفرقدان.
أحمده على نعمه التي لا يقوم بشكرها لسان، ولا يؤدي واجب حقها إنسان يجلب إلى الحامد أنواع الإحسان، ويسوق إلى الشاكر ركائب الخيرات الحسان.
وأصلي وأسلم على سيدنا محمد الذي أنار الله بوجوده ظلمة الوجود، وأظهر بظهور أفعال الركوع والسجود؛ صلى الله عليه وسلم وعلى آله الوافين للعهود، وعلى أصحابه أهل الإفضال والجود، صلاة وسلام دائمين إلى اليوم الموعود!
وبعد فإن فنون الآداب كثيرة الشعوب، متباينة الأسلوب؛ طالما تلاعب الأديب بفنونها بين جد ومجون، وكيف لا والحديث ذو شجون. وكنت بحمد الله ممن هو قادر على إبراز ملح الأدب، وعلى إظهار لطائف لغة العرب؛ فتمثل في خاطري المفاخرة بين الشمعدان والقنديل، ولا بد من إبراز المفاخرة بينهما في أحسن تمثيل؛ لأنهما آلتا نور، ونديما سرور؛ طالما مزقا جلباب الدجى بأضوائهما، وحسما مادة الظلمة بأنوارهما؛ وطلعا في سماء المجالس بدورا، وأخجلا نور الرياض لما أصدر من جوهرهما نورا. سما كل واحد منهما إلى أنه الأصل،وأن بمدحه يحسن الفضل والوصل؛ وأنه الجوهرة اليتيمة، والبدرة التي ليست لها قيمة؛ سارت بمحاسنه ركائب الركبان، ونظمت في جيد مجده قلائد العقيان.
فأحببت أن أنظمهما في ميدان المناظرة ليبرز كل واحد منهما خصائصه الواضحة، ويظهر نقائص صاحبه الفاضحة؛ وليتسم غارب الاستحقاق بالفضيلة، ويؤكد في تقرير فضائله الراجحة دليله؛ مع أنه لا تقبل الدعاوى إلا بالبرهان، ولعمري لقد قيل قدما:
من تحلى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحان.
فأتلع الشمعدان جيدة للمطاولة، وعرض سمهريه اللجيني للمناضلة،وقال: استنت الفصال حتى القرعى لست بنديم الملوك في المجالس، كلا ولا الروضة الغناء للمجالس! طالما أحدقت بي عساكر النظار، ووقفت في استحسان هياكلي رؤية الأبصار؛ وحملت على الرؤوس إذا علقت بآذانك، وجليت كجلاء المرهفات إذا اسود وجهك في دخانك.
فنضنض لسان القنديل ونضنضة الصل، وارتفع ارتفاع البازي المطل. وقال: إن كان فخرك بمجالسة السلاطين، فافتخاري بمجالسة أهل الدين!، طالما طلعت في أفق المحراب نجما ازداد علا، وازدانت الأماكن المقدسة بشموس أنواري حلا؛ جمع شكلي مجموع العناصر، فعلى مثلي تعقد الخناصر؛ يحسبني الرائي جوهرة العقد الثمين، إذا رأى اصفرار لونك كصفرة الحزين؛ ولقد علوتك في المجالس زمانا، ومن صبر على حر المشقة ارتفع مكانا.
فنظر إليه الشمعدان مغضبا، وهم بأن يكون عن جوابه منكبا. وقال: أين ثمنك من ثمني، ومسكنك من مسكني؟ صفائحي صفحات الإبريز، فلذا سموت عليك بالتبريز؛ تنزه العيون في حمائلي الذهبية، وتسر النفوس ببزوغ أنواري الشمسية؛ ولا يملكني إلا من أوطنته السعدة مهادها، وقربت له الرياسة جيادها؛ ولقد نفعت في الصحة والسقم، وازدادت قيمتي إذا نقصت في القيم؛ وإن انفصمت عراك فلا تشعب، ولا تعاد إلى سبك نار فتصب وتقلب؛ لست من فرسان مناظرتي، ولا من قرناء مفاخرتي.
فالتفت القنديل التفات الضرغام، وفوق إلى قرينه سهام الملام. وقال: أنت عندي كثعاله، ولا محاله؛ طالك العنقود، فأبرزت أنواع الحقود؛ وأين الثريا من يد المتناول؟ أم أين السها من كف المتطاول؟ تالله إنك في صرفك بصفرك مغلوط! لقد خصصت بالعلو وخصصت بالهبوط. ترى باطني من ظاهري مشرقا، وتخالني لخزائن الأنوار مطلقا؛ فحديث سيادتي مسلسل، وتاج فضائلي بجوهر العلو مكلل.
فلحظه الشمعدان بطرف طرفه، وأرسل في ميدان المناظرة عنان طرفه. وقال: إن افتخارك بالعلو غير مفيد، وميزة اختصاصك به ليس له أبهة مزيد؛ طالما على القتام وانحطت الفرسان، ومكث الجمر وسما الدخان؛ ولقد صيرتك كنظر المشنوق حاله، وكضوء السها ذباله؛ وأنت الخليق بما قيل: وقلب بلا لب، وأذن بلا سمع وسلاسلك تشعر بعقلك، وعلوك يبني على غلو إسقاط كمثلك؛ عادلت التبر كفة بكفه، ووزنته إذا كان فيه خفه؛ فأصخ لمفاخري الجليله، واستمع مناقبي الجميلة. أطارد جيوش الظلماء برمحي، وأمزق أثواب الديجور بصبحي؛ وجمع عاملي بين طلع النخل، وحلاوة النحل، يتلو سورة النور لساني، ويقوى في مصادمة عساكر الليل البهيم جناني؛ أسامر المليك خلوه، ويستجلى من محاسني أحسن جلوه.
ولله در القائل:
انظر إلى شمعدان شكله عجب ... كروضة روضت أزهارها السحب.
يطارد الليل رمح فيه ورق ... سنانه لهب من دونه الذهب.
فمثل هذه المناقب تتلى، ومثل هذه المحاسن تظهر وتجلى.
فأضرم نار تبيينه، في أحشاء قرينه. فعندها قال القنديل:
لقد أطلت الافتخار بمحاسن غيرك، لما وقفت في المناظرة ركائب سيرك؛ فاشكر اليد البيضاء من شمعك، واحرص على معرفة قيمتك ووضعك؛ وأما افتخارك بتلاوة سورة النور، فأنا أحق بها منك إذ محلي الجوامع، والفرقان فارق بيني وبينك مع أنه ليس بيننا جامع؛ ففضيلتي فيه بينه،وآية نورى في سورة النور مبينة؛ فاقطع مواد اللجاجة، واقرأ الآية المشتملة على الزجاجة؛ يظهر لك من هو الأعلى، ومن بالفتخار الأولى؛ تخالني درة علقت في الهواء، أو كوكبا من بعض كواكب الجوزاء.
ولله در القائل:
قنديلنا فاق بأنواره ... نور رياض لم تزل مزهره.
ذبالة فيه إذا أوقدت ... حكت بحسن الوضع نيلوفره.
لا يحمل الأقذاء خاطري، ولا يغتم مشاهدي وناظري؛ فأنا خلاصة السبك، والتبر الذي لا يفتقر إلى الحك؛ اشتقاق اسمك من النحوس، ومن جرمك تقام هياكل الفلوس؛ لقد عرضت نفسك للمنية، وانعكست عليك مواد الأمنية؛ مع أن الحق أوضح من لبة الصباح، وأسطع من ضوء المصباح؛ والآن غضصت بريقك، وخفيت لوامع بروقك؛ فهذه الشهباء والحلبة، وهذه ميادين المناظلة رحبه.
فحار الشمعدان في الجواب، وجعل ما بداه أولا فصل الخطاب.
فقال القنديل: لا بد من الإقرار بأن قدح المعلى، وأن عليك بالتقديم الأولى؛ وأن مقامي العالي، ونوري المتوالي.
فقال الشمعدان: لا منازعة فيما جاء به الكتاب من تفضيلك، وكونك الكوكب الدري الذي قصر عن بلوغك باع مثيلك.
فجنح الشمعدان للسلم، وترفع عن استيطان مواطن الإثم؛ وشرع يبدي شعائر الخضوع، وينشر أعلام الأوبة عما قال والرجوع؛ قال: لولا حمية النفوس، ما تجملت بمفاخرنا صفحات الطروس؛ ولولا القال والقيل، ما ضمنا معرض التمثيل؛ ولكن أين صفاءك من كدري، وأين نظرك من نظري؛ خصك الله بنوره، وذكرك في فرقانه وزبوره.
فعندها تهلك أسارير القنديل، وتبسم فرحا بالتعظيم والتبجيل. وقال: حيث رجعنا إلى شرع الإنصاف، وإظهار محاسن الأوصاف؛ ففضلك لا يبارى، ووصفك لا يجارى؛ يحسبك الرائي خميلة نور تفتحت أزهارها، وحديقو نرجس أطردت أنهارها؛ تسر بك النفوس، وتدار على نضارتك الكؤوس؛ وإن اللائق بحالنا طي بساط المنافسة، وإخماد شرر المقابسة؛ واستغفار فيما فرض من كلامنا، والرجوع إلى الله في إصلاح أقوالنا وأفعالنا.
ونقول: الأصل فيما نقلناه عدمه، فقد حف كل واحد منا في إبراز معايبة قلمه. ونسأل الله أن تدوم لنا نعمه، ويتعاهدنا في المساء والصباح كرمه! بمنه وجوده وكرمه! آمين!
وصف الليل وتشبيهه
قد أكثر الشعراء في وصف الليل بالطول والقصر. وذكروا سبب الطول الهموم وسبب القصر السرور.
ولهذا أشار بعض الشعراء في قوله:
إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر بينها الأعمار.
فقصارهن مع الهموم طويلة، ... وطوالهن مع السرور قصار.
وقال آخر:
إن التواصل في أيامه قصر، ... كما التهاجر في أيامه طول.
فليس يعرف تسهيدا ولا رمد ... جفن برؤية من يهواه مشغول.
وقال ابن بسام:
لا أظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تغور.
ليل كما شاءت فإن لم تزر ... طال؛ وإن زارت، فليل قصير.
صله من قول علي بن الخليل:
لاأظلم الليل ولا أدعي ... أن نجوم الليل ليست تعول.
ليل كما شاءت قصير إذا ... جادت، وإن صدت، فليل طويل.
وقال آخر:
أخو الهوى يستطيل الليل من سهر، ... والليل في طوله جار على قدره.
ليل الهوى سنة في الهجر مدته؛ ... لكنه سنة في الوصل من قصر.
وقال الوليد ين يزيد بن عبد الملك:
لا أسأل الله تغيرا لما صنعت: ... نامت وقد أسهرت عيني عيناها.
فالليل أطول شيء حين أفقدها ... والليل أقصر شيء حين ألقاها.
ما وصف به من الطول
قال الخباز:
وليل كواكبه لا تسير ... ولا هو منها يطيق البراحا.
كيوم القيامة في طوله ... على من يراقب فيه الصباحا.
وقال ابن المعتز:
مالي أرى الليل مسبلا شعرا ... عن غرة الصبح غير مفروق.
وقال بشار:
خليلي!ما بال الدجى لا يزحزح، ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح؟
أضل النهار المستنير طريقه؟ ... أم الدهر ليل كله ليس يبرح؟
وقال الرفاء:
ألا رب ليل بت أرعى نجومه ... فلم أغتمض فيه ولا الليل أغمضا.
كأن الثريا راحة تشبر الدجى ... لتعلم طال الليل لي أم تعرضا.
عجبت لليل بين شرق ومغرب ... يقاس بشبر كيف يرجى له انقضا؟
وقال محمد بن عاصم:
أقول، والليل دجى مسبل ... والأنجم الزهر به مثل:
يا طول ليل ما له آخر ... منك، وصبح ما له أول!
وقال التنوخي:
وليلة كأنها قرب أمل ... ظلامها كالدهر ما فيه خلل.
كأنما الإصباح فيها باطل ... أزهقه الله بحق، فبطل.
ساعاتها أطول من يوم النوى ... وليلة الهجر وساعات العذل.
مؤصدة على الورى أبوابها ... كالنار لا يخرج منها من دخل.
وقال أبو محمد، عبد الله بن السيد البطليوسي:
ترى ليلنا شابت نواصيه كبرة ... كما شب، أو في الجوروض نهار؟
كأن الليالي السبع في الأفق جمعت ... ولا فصل في ما بينها بنهار.
وقال الشريف البياضي:
أقول لصحبي والنجوم كأنها، ... وقد ركدت في بحر حندسها غرقى:
أرى ثوب هذا الليل لا يعرف البلى! ... فهل أرين للصبح في ذيله فتقا؟
وقال أيضا:
أقول وللدجى عمر مديد ... وآخره يرد إلى معاد.
وقد ضلت كواكبه، فظلت ... حيارى ما لها في الأفق هادي:
لعل الليل مات الصبح فيه، ... فلازم بعده لبس الحداد.
وقال آخر:
أما لظلام ليلي من صباح؟ ... أما للنجم فيه من براح؟
كأن الأفق سد، فليس يرجى ... به نهج إلى كل النواحي.
كأن الشمس قد مسخت نجوما ... تسير مسير رواد طلاح.
كأن الصبح مهجور طريد، ... كأن الليل مات صريع راح.
كأن بنات نعش متن حزنا، ... كأن النسر مكسور الجناح.
وقال آخر:
يا ليلة طالت على عاشق ... منتظر للصبح ميعادا!
كادت تكون الحول في طولها؛ ... إذا مضي أولها، عاد.
وقال ابن الرومي:
رب ليل كأنه الدهر طولا ... قد تناهى فليس فيه مزيد.
ذا نجوم كأنهن نجوم الش ... يب ليست تزول، لكن تزيد.
وقال أبو الأحنف:
حدثوني عن النهار حديثا ... أو صفوه فقد نسيت النهارا.
وقال بشار:
طال هذا الليل بل طال السهر! ... ولقد أعرف ليلة بالقصر.
لم يطل حتى دهاني بالهوى ... ناعم الأطراف فتان النظر.
فكأن الهجر شخص مائل ... كلما أبصره النوم نفر.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأنداسي:
يا ليل وجد بنجد ... أما لطيفك مسرى؟
وما لدمعي طليق ... وأنجم الجو أسرى؟
وقد طما بحر ليل ... لم يعقب المد جزرا.
يعبر الطرف فيه ... غير المجرة جسرا.
وقال أبو مروان ابن أبي الخصال:
وليل كأن الدهر أفضى بعمره ... جميعا إليه، فانتهى في ابتدائه.
يحدث بعض القوم بعضا بطوله، ... ولم يمض منه غير وقت عشائه.
وقال إبراهيم ولد ابن لنكك البصري، شاعر اليتيمة:
وليلة أرقني طولها ... فبتها في حيرة الذاهل.
كأنما اشتقت لإفراطها ... في طولها من أمل الجاهل.
وقال امرؤ القيس:
وليل كموج البحر مرخ سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي.
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف اعجازا وناء بكلكل:
ألا أيها الليل الطويل، ألا أنجلي ... بصبح! وما الإصباح منك بأمثل!
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بأمراس كتان إلى صم جندل.
وقال آخر:
أراقب في السماء بنات نعش؛ ... ولو أستطيع، كنت لهن حادي.
كأن الليل أوثق جانباه ... وأوسطه بأمراس شداد.
وقال أخرم بن حميد:
وليل طويل الجانبين قطعته ... على كمد، والدمع تجري سواكبه.
كواكبه حسرى عليه كأنها ... مقيدة دون المسير كواكبه.
وقال ابن الرقاع:
وكأن ليلي حين تغرب شمسه ... بسواد آخر مثله موصول.
أرعى النجوم. إذا تغيب كوكب، ... أبصرت آخر كالسراج يجول.
وقال آخر:
ما لنجوم الليل لا تغرب؟ ... كأنها من خلفها تجذب!
رواكد ما غار في غربها ... ولا بدا من شرقها كوكب.
وقال سعيد ين حميد:
يا ليل، بل يا أبد! ... أنائم عنك غد؟
يا ليل لو تلقى الذي ... ألقى بها أو تجد،
قصر من طولك أو ... ضعف منك الجلد!
وقال سيف الدين المشد:
مات الصباح بليل ... أحييته حين عسعس.
لو كان في الدهر صبح ... يعيش، كان تنفس.
ما وصف به من القصر
فمن ذلك قول إبراهيم بن العباس:
وليلة إحدى الليالي الزهر، ... قابلت فيها بدرها ببدري.
لم تك غير شفق وفجر، ... حتى تولت وهي بكر الدهر.
وقال الشريف الرضي:
يا ليلة كاد من تقاصرها ... يعثر فيها العشاء بالسحر.
وقال آخر:
يا ليلة جمعتنا بعد فرقتنا ... فبت من صبحها لما بدا، فرقا.
لما خلوت بآمالي بها، قصرت ... وكاد يسبق فيها فجرها الغسقا.
وقال آخر:
يا رب ليل سرور خلته قصرا ... يعارض البرق في أفق الدجى برقا.
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشفقا.
وقال القاضي السعيد بن سناء الملك:
يا ليلة الوصل، بل يا ليلة العمر! ... أحسنت، إلا إلى المشتاق، في القصر.
يا ليت زيد بحكم الوصل فيك لنا ... ما طول الهجر من أيامك الأخر.
أو ليت نجمك لم تقفل ركائبه، ... أو ليت صبحك لم يقدم من السفر.
أو ليت لم يصف فيك الشرق من غبش، ... فذلك الصفو عندي غاية الكدر.
أو ليت كل من الشرقين ما ابتسما، ... أو ليت كلا من النسرين لم يطر،
أو ليت كنت كما قد قال بعضهم: ... ليل الضرير فصبحي غير منتظر.
أو ليت فجرك لم ينفر به رشئي، ... أو ليت شمسك ما جارت على قمري.
أو ليت قلبي وطرفي تحت ملك يدي ... فزدت فيه سواد القلب والبصر.
أو ليت ألقى حبيبي سحر مقلته ... على العشاء فأبقاه بلا سحر.
أو ليت كنت سألتيه مساعدة ... فكان يحبوك بالتكحيل والشعر.
كأنها حين ولت قمت أجذبها ... فانقد في الشرق منها الثوب من دبر.
لا مرحبا بصباح جاءني بدلا ... من غرة النجم أو من طلعة القمر!
وقال عبد الله بن المعتز:
يل ليلة ما كان أط ... يبها سوى قصر البقاء!
أحييتها فأمتها ... وطويتها طي الرداء.
حتى رأيت الشمس تت ... لو البدر في أفق السماء.
فكأنه وكأنها ... قد حان من خمر وماء.
وقال المهلبي:
قد قصر الليل عند ألفتنا ... كأن حادي الصباح صاح به.
وقال آخر:
كأنما الليل راكب فرسا ... منهزما والصباح في طلبه.
ما وصف به من الإشراق
فمن ذلك قول شاعر أندلسي:
رب ليل عمرته ... فيك خال من الفكر.
كثرت حوله الحجو ... ل وسارت به الغرر.
وقال أبو بكر الصنوبري:
يا ليلة طلعت بأسعد طالع ... تاهت على ضوء النهار الساطع.
بمحاسن مقرونة بمحاسن ... وبدائع موصولة ببدائع.
ضوء الشموع وضوء وجهك مازجا ... ضوء العقار وضوء برق لامع.
فكأنما ألقى الدجى جلبابه ... وأراك جلباب النهار الساطع
ما وصف به من الظلمة
قال الله عز وجل: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض " . فهذه أتم أوصاف الظلمة.
وقال مضرس بن ربعي:
وليل يقول الناس في ظلماته: ... سواء صحيحات العيون وعورها
كأن لنا منه بيوتا حصينة ... مسوح أعاليها وساج كسورها
وقال أبو تمام:
إليك هتكنا جنح ليل كأنما ... قد اكتحلت منه البلاد بإثمد
وقال أبو نواس:
أبني لي: كيف صرت إلى حريمي، ... وجفن الليل مكتحل بقار
وقال العلوي الأصفهاني:
ورب ليل باتت عساكره ... تحمل في الجو سود رايات
لامعة فوقها أسنتها ... مثل الأزاهير وسط روضات
ومن رسالة لأبي عبد الله بن أبي الخصال. جاء منها: والليل زنجي الأديم، تبري النجوم؛ قد جللنا ساجه، وأغرقتنا أمواجه؛ فلا مجال للحظ، ولا تعارف إلا باللفظ؛ ولو نظرت فيه الزرقاء لاكتحلت، ولو خضبت به الشيبة ما نصلت.
تباشير الصباح
قال أبو محمد العلوي:
كأن اخضرار الجو صرح ممرد ... وفيه لآل لم تشن بثقوب.
كأن سواد الليل في ضوء صبحه ... سواد شباب في بياض مشيب.
وقال أبو علي بن لؤلؤ، الكاتب:
رب فجر كطلعة البدر جلى ... جنح ليل كطلعة الهجران،
زار في حلة النراة فولى الليل عنه في حلة الغربان.
وقال الخالديان:
وكأنما الصبح المنير وقد بدا ... باز أطار من الظلام غرابا
وقال النظام البلخي، من شعراء الخريدة:
فلاح الصبح مبتسم الثنايا ... وطار الليل مقصوص الجناح.
يطير غراب أو كاز الدياجي ... إذا ما حل بازي الصباح.
وقال تميم بن المعز:
وكأن الصباح في الأفق باز ... والدجى بين مخلبيه غراب.
وقال ابن وكيع:
غرد الطير فنبه من نعس. ... وأدر كأسك فالعيش خلس!
سل سيف الفجر من غمد الدجى ... وتعرى الصبح من ثوب الغلس.
وانجلى في حلة فضية ... ما بها من ظلمة الليل دنس.
وقال أبو مروان بن أبي الخصال:
لما رأيت الغرب قد غص بالدجى ... وفي الشرق من ثوب الصباح دلائل،
توهمت أن الغرب بحر أخوضه ... وأن الذي يبدو من الشرق ساحل.
وقال أسعد بن بليطة الأندلسي:
جرت بمسك الدجى كافورة السحر ... فغاب إلا بقايا منه في الطرر،
صبح يفيض وجنح الليل منغمس ... فيه كما غرق الزنجي في نهر.
قد حار بينهما في برزخ قمر ... يلوح كالشنف بين الخد والشعر.
وقال أحمد بن عبد العزيز القرطبي:
بتنا كأن حداد الليل شملتنا ... حتى بدا الصبح في ثوب سحولي.
كأن ليلتنا والصبح يتبعها، ... زنجية هربت قدام رومي.
وقال أبو نواس:
فقمت والليل يجلوه الصباح، كما ... جلا التبسم عن غر الثنيات.
وقال عبد الله بن المعتز:
أغتدي والليل في جلبابه ... كالحبشي فر من أصحابه.
والصبح قد كشر عن أنيابه ... كأنما يضحك من ذهابه.
وقال السري:
وشرد الصبح عنا الليل فاتضحت ... سطوره البيض في آياته السود.
وقال أبو فراس:
مددنا علينا الليل، والليل راضع ... إلى أن تردى رأسه بمشيب.
بحال ترد الحاسدين بغيظهم ... وتطرف عنا عين كل رقيب.
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه ... مبادى نصول في عذار خضيب.
وقال عبد الصمد بن بابك، شاعر اليتيمة:
واستهلت لمصرع الليل ورق ... ثاكلات،حدادها التطويق.
فتضاحكت شامتا وكأن الصبح جيب على الدجى مشقوق.
وقال أبو بكر الصنوبري:
وليلة كالرفرف المعلم ... محفوظة الظلماء بالأنجم.
تعلق الفجر بأرجائها، ... تعلق الأشقر بالادهم.
وقال السلامي، شاعر اليتيمة:
وقد خالط الفجر الظلام كما التقى ... على روضة خضراء ورد وأدهم.
وعهدي بها، والليل ساق ووصلنا ... عقار، وفوها الكأس أو كأسها الفم.
إلى بدرنا بالنجوم، وغربها، ... يفض عقود الدر والشرق ينظم.
ونبهت فتيان الصبوح للذة ... تلوح كدينار يغطيه درهم.
ومن رسالة للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني، عفا الله عنه. حاء منها: فلما قضى الليل نحبه، وأرسل الصباح على دهمه شهبه؛ شمر الليل إزاره، ووضع النجم أوزاره؛ ونزح بالطيف طادرا، وظل وراء الصبح ناشدا؛ وفجر الفجر نهر النهار، واسترد البنفسج وأهدى البهار؛ فمواكب الكواكب منهزمة، وغرة الفجر كغرة مولاي مبتسمة.
وصف النهار وتشبيهه
فمن ذلك قول شاعر،يصفه بالقصر:
ويوم سرور قد تكامل وصفه ... سوى قصر، لا عيب فيه سواه!
وعهدي به كالرمح طولا، فعندما ... هززناه للهو التقى طرفاه.
وقال آخر:
بأبي من نعمت منه بيوم، ... لم يزل للسرور فيه نمو!
يوم لهو، قد التقى طرفاه ... فكأن العشى فيه غدو
وقال آخر:
لم ينتشر فلق الإصباح من قصر ... فيه إلى أن طواه فيلق الغسق
ولم يكن ملتقى جفنى أخي رمد ... كملتقى طرفيه: الصبح والشفق.
وما تناولت فيه الرطل مصطبحا ... إلا أعادته منى كف مغتبق.
وقال آخر:
لله يوم مسرة ... أضوا وأقصر من ذبالة!
لما نصبنا للمنى ... فيه بإشراك حباله.
طار النهار مروعا ... وفيه وأجفلت الغزالة!
وقال آخر:
حث الكؤوس! فذا يوم به قصر، ... وما به من تمام الحسن تقصير.
صحو وغيم، يروق الطرف حسنهما: ... فالصحو فيروزج، والغيم بلور.
وقال آخر:
ويوم كحلي الغانيات سلبته ... حلي الربا حتى انثنى.
سبقت إليه الشمس، والشمس غضة ... وصبغ الدجى من مفرق الفجر ناصل.
ومن كلام ابن برد الأصغر الأندلسي: اليوم يوم بكت أمطاره، وضحكت أزهاره؛ وتقنعت شمسه، وتعطر نسيمه؛ وعندما بلل هزج، وساق غنج؛ وسلافتان: سلافة أخوان، وسلافة دنان؛ قد تشاكلتا في الطباع، وازدوجنا في إثارة السرور. فأخرق إلينا سرادق الدجن تجد مرأي لم يحسن إلا لك ولا يتم إلا بك.
ومن كلامه أيضا: لم نلتق منذ عرينا مركب اللهو، وأخلينا ربع الأنس، وقصصنا جناح الطرب، وعبسنا في وجوه اللذات. فإن رأيت أن تخف إلى مجلس قد نسخت فيه الرياحين بالدواويين، والمجامر والمحابر، والأطباق، بالأوراق، وتنازع المدام، بتنازع الكلام؛ واستماع الأوتار، باستماع الأخبار؛ وسجع البلابل، بسجع الرسائل؛ كان أشحذ لذهنك، وأرشد لرأيك.
ومالاصطرلاب وما قيل فيه. فقال أبو طالب، عبد السلام المأموني:
وشبيه بالشمس يسترق الأنوار من نور جرمها في في خفاء.
فتراه أدرى وأعلم منها، ... وهو في الأرض، بالذي في السماء.
وقال أيضا :
وعالم بالغيب من غير ما ... سمع ولا قلب، ولا ناظر!
يقابل الشمس فيأتي بما ... ضمنها من خبر حاضر.
كأنه ناجته لما بدا ... لعينها بالفكر والخاطر.
وألهمته على ما يحتوي ... عليه صدر الفلك الدائر.
وقال أبو إسحاق الصابي، وقد أهداه في مهرجان إلى مخدومه:
أهدى إليك بنو الآمال واجتهدوا ... في مهرجان جديد أنت تبليه.
لكنك عبدك إبراهيم حين رأى ... سمو قدرك عن شيء يساميه.
لم يرض بالأرض يهديها إليك ... فقد أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه!
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز:
أفضل ما استصحب النبيل فلا ... يعدل به في المقام والسفر،
جرم إذا ما التمست قيمته ... جل عن التبر وهو من صفر.
مختصر وهو إذ تفشته ... عن ملح العلم غير مختصر.
ذو مقلة تستنير ما رمقت ... عن صائب اللحظ صادق النظر.
تحملته وهو حامل فلك ... لو لم يدر بالبنان لم يبدر.
مسكنه الأرض وهو ينبئنا ... عن جل ما في السماء من خبر.
أبدعه رب فكرة بعدت ... في اللطف عن إن تقاس بالفكر.
فاستوجب الشكر والثناء به ... من كل ذي فطنة من البشر.
فهو لذي اللب شاهد عجب ... على اختلاف العقول والفطر.
وكتب أبو الفرج الببغاء يصف اصطرلابا أهداه فقال:
وصف فصل الربيع
وتشبيهه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبري:
الدهر إلا الربيع المستنير إذا ... جاء الربيع، أتاك النور والنور.
فالأرض ياقوتة، والجو لؤلؤة، ... والنبت فيروزج، والماء بلور.
وقال آخر:
اشرب هنيئا قد أتاك زمان ... متعطر، متهلل، نشوان!
فالأرض وشي، والنسيم معنبر، ... والماء راح، والطيور قيان.
وقال الثعالبي:
أظن الربيع العام قد جاء زائرا ... ففي الشمس بزازا، وفي الريح عطارا.
وما العيش إلا أن تواجه وجهه ... وتقضي بين الوشي والمسك أوطارا.
وقال آخر:
وفصل فصل الربيع الرياض ... عقودا ورصع منها حليا.
وفاخر بالأرض أفق السماء ... فحلى الثرى بنجوم الثريا.
وقال الحسن بن وهب:
طلعت أوائل للربيع فبشرت ... نور الرياض بجدة وشباب!
وغدا السحاب يكاد يسحب في الثرى ... أذيال أسحم حالك الجلباب.
فترى السماء إذا أجدر بابها ... فكأنما التحفت جناح غراب.
وترى الغصون إذا الرياح تناوحت ... ملتفة كتعانق الأحباب.
وقال بعض فضلاء أصفهان في وصف فصل الربيع من رسالة ذكرها العماد الأصفهاني في الخريدة: أما بعد. فإن الزمان جسد وفصل الربيع روحه، وسر حكمة إلهية وبه كشفه ووضوحه؛ وعمر مقدور وهو الشبيبة فيه، ومنهل جم وهو نميره وصافيه؛ ودوحة خضرة وهو ينعها وجناها، وألفاظ مجموعة وهو نتيجتها ومعناها؛ فمن لم يستهو طباعه نسيم هوائه، ولم يدرك شفاء دائه في صفاء دوائه؛ لم يذق لطعم حياته نفعا، ولم يجد لخفض حظه من أيامه رفعا.
وأما فصل الصيف، فإن طبيعته الحرارة واليبس، ودخوله عند حلول الشمس برج السرطان والأسد والسنبلة.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السن الشباب؛ ومن الرياح الصبا؛ ومن الساعات الرابعة والخامسة والسادسة؛ ومن القوى القوة الماسكة؛ ومن الأخلاط المرة الصفراء؛ ومن الكواكب المريخ، والشمس؛ ومن المنازل بعض الهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة والطرف والجبهة " وهي أربعة عشر يوما " والخراتان وبعض الصرفة. وتنزل الشمس في برج السرطان في الرابع عشر من حزيران. وعدد أيامه ثلاثة وتسعون يوما، ويوافقه ينير من شهور الروم؛ وفي العشرين من بؤونة، وإذا حلت الشمس برج السرطان، أخذ الليل في الزيادة، والنهار في النقصان. والله أعلم.
ذكر ما قيل في وصف فصل الصيف وتشبيهه نظما ونثرا فمن ذلك ما قاله ذو الرمة:
وهاجرة حرها واقد ... نصبت لحاجبها حاجبي.
تلوذ من الشمس أطلائها ... لياذ الغريم من الطالب.
وتسجد للشمس حربائها ... كما يسجد القس للراهب.
وقال مسكين الدارمي.
وهاجرة ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتقتها بالقرون سجود.
تلوذ بشؤبوب من الشمس فوقها ... كما لاذ من حرالسنان طريد.
وقال ابن الفقيسي:
في زمان يشوي الوجوه بحر، ... ويذيب الجسوم لو كن صخرا.
لا تطير النسور فيه إذا ما ... وقفت شمسه وقارب ظهرا.
ويود الغصن النضير به لو ... أنه من لحائه يتعرى.
وقال أيضا:
يا ليلة بت بها ساهدا ... من شدة الحر وفرط الأوار.
كأنني في جناحها محرم ... لو أن للعورة مني استتار.
وكيف لا أحرم في ليلة ... سماؤها بالشهب ترمي الجمار؟
وقال آخر:
ويوم سموم خلت أن نسيمه ... ذوات سموم للقلوب لوداغ،
ظللت به أشكو مكابدة الهوى ... فكوزي ملآن ومائي فارغ.
وقال محمد بن أبي الثياب، شاعر اليتيمة:
وهاجرة تشوي الوجوه كأنها ... إذا لفحت خدي نار توهج.
وماء كلون الزيت ملح كأنه ... بوجدي يغلي أو بهجرك يمزج.
وقال الثعالبي:
رب يوم هواؤه يتلظى ... فيحاكي فؤاد صب متيم.
قلت إذ صك حره حر وجهي: ... ربنا اصرف عنا عذاب جهنم!
ومما وصف به من النثر قول بعضهم:
أوقدت الظهيرة نارها، وأذكت أوارها؛ فأذابت دماغ الضب، وألهبت قلب الصب، هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت بنيران الفراق، حر تهرب له الحرباء من الشمس، وتستجير بمراكب الرمس، لا يطيب معه عيش، ولا ينفع معه سرج ولا خيش؛ فهو كقلب المهجور، أو كالتنور المسجور.
وأما فصل الخريف، فإن طبعه بارد يابس؛ ودخوله عند حلول الشمس برأس الميزان والعقرب والقوس.
وهذه البروج تدل على الحركة؛ وله من السن الكهولة؛ ومن الرياح الشمال؛ ومن الساعت السابعة والثامنة والتاسعة؛ ومن القوى القوة الهاضمة؛ ومن الأخلاط المرة السوداء؛ ومن الكواكب زحل؛ ومن المنازل بعض الصرفة والعواء و السماك والغفر والزبانيان والقلب وبعض الشولة؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما؛ ويكون حلول الشمس الميزان في الخامس عشر من أيلول، ويوافقه ستمبر من شهور الروم، وفي الثامن عشر من توت.
وفي هذا الفصل يبرد الهواء، ويتغير الزمان، ويغبر وجه الأرض، ويصفر ورق الشجر، وتهزل البهائم، وتموت الهوام، وتنحجر الحشرات، وتطلب الطير المواضع الدفئة، وتصير الدنيا كأنها كهلة مدبرة.
ويقال: فصل الخريف ربيع النفس كما أن فصل الربيع ربيع العين. والله أعلم.
ذكر ما قيل في وصف فصل الخريف وتشبيه نظما ونثرا.
فمن ذلك ما قاله الصنوبري، عفا الله عنه:
ما قضى في الربيع حق المسرا ... ت مضيع زمانه في الخريف.
نحن منه على تلقي شتاء ... يوجب القصف أو وداع مصيف.
في قميص من الزمان رقيق ... ورداء من الهواء خفيف.
يرعد الماء منه خوفا إذا ما ... لمسته يد النسيم الضعيف.
وقال عبد الله بن المعتز:
طاب شرب الصبوح في أيلول! ... برد الظل في الضحى والأصيل!
وخبت جمرة الهواجر عنا، ... واسترحنا من النهار الطويل.
وخرجنا من السموم إلى بر ... د نسيم، وطيب ظل ظليل،
وشمال تبشر الأرض بالقطر كذيل الغلالة المبلول.
فكأنا نزداد قربا إلى الجنة في كل شارق وأصيل.
ووجوه البقاع تنتظر الغيث انتظار المحب رد الرسول.
تبتغي غلة لتعمل روضا ... بكثير من الحيا أو قليل.
وقال آخر:
اشرب على طيب الزمان فقد حدا ... بالصيف من أيلول أسرع حاد.
وأشمنا بالليل برد نسيمه ... فارتاحت الأرواح في الأجساد.
وأفاك بالأنداء قدام الجيا ... فالأرض للأمطار في استعداد.
كم في ضمائر تربها من روضة ... بمسيل ماء أو قرارة واد.
تبدو إذا جاد السحاب بقطره ... فكأنما كانا على ميعاد.
وقال آخر:
لا تضع للوم إن اللوم تضليل ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحليل.
فقد مضى القيظ واجتثت رواحله، ... وطابت الراح لما آل أيلول.
وليس في الأرض نبت يشتكي يبسا ... إلا وناظره بالطل مكحول.
وقال آخر:
خذ بالتدثر في الخريف فإنه ... مستوبل، ونسيمه خطاف.
يجري مع الأيام جري نفاقها ... لصديقها ومن الصديق يخاف.
ومما وصف به النثر: قال أبو إسحاق الصابي يصفه: الخريف أصح فصول السنة زمانا، وأسهلها أوانا، وهو أحد الاعتدالين، المتوسطين بين الانقلابين، حين أبدت الأرض عن ثمرتها، وصرحت عن زينتها؛ وأطلقت السماء حوافل أنوائها، وتأذنت بانسكاب مائها؛ وصارت الموارد،كمتون المبارد؛ صفاء من كدرها، وتهدبا من عكرها؛ واطراد من نفحات الهواء، وحركات الريح الشجواء؛ واكتسب الماشية وبرها القشيب، والطائر ريشه العجيب.
وقال ابن شبل: كل ما يظهر في الربيع نواره، ففي الخريف تجني ثماره، فهو الحاجب أمامه، والمطرق قدامه.
وقال ضياء الدين ابن الأثير الجزري عن الخريف يفتخر على فصل الربيع: أنا الذي آتي بذهاب السموم، وإياب الغيوم، واعتصار بنات الكروم، وتكاثر ألوان المشروب والمطعوم؛ وفي يترقرق صفاء الأنهار، فتشبه القوابل بالأسحار، وأيامي هي الذهبيات وتلك نسبة كريمة النجار؛ ومن ثمراتي ما لا تزال أمهاته حوامل، وأوراقه نواضر وغيره ذوابل، وقد شبه بالمصابيح وشبهت أغصانه بالسلاسل.
ولقد أنصف من قال:
محاسن للخريف بهن فخر ... على زمن الربيع، وأي فخر!
به صار الزمان أمام برد ... يراقب نزحه وعقيب حر.
وأما فصل الشتاء، فإن طبعه بارد رطب، ودخوله عند حلول الشمس رأس الجدي والدلو والحوت.
وهذه البروج تدل على السكون. وله من السن الشيخوخة؛ ومن الرياح الدبور؛ ومن الساعات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة؛ ومن القوى القوة الدافعة؛ ومن الأخلاط البلغم؛ ومن الكواكب المشتري وعطارد؛ ومن المنازل بعض الشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد السعود وسعد الأخبية وبعض الفرغ المقدم؛ وعدد أيامه تسعة وثمانون يوما.
ويكون حلول الشمس برأس الجدي في الثالث عشر من كانون الأول، وإذا حلت الشمس ببرج الجدي يشتد البرد، ويخشن الهواء، ويتساقط ورق الشجر، وتنجحر الحيوانات، وتضعف قوى الأبدان، وتكثر الأنواء، ويظلم الجو، وتصير الدنيا كأنها عجوز هرمة قد دنا منها الموت.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: توقوا البرد في اوله، وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار: أوله يحرق وآخره يورق.
ذكر ما قيل في وصف فصل الشتاء وتشبيهه.
فمن ذلك ما قاله جرير شاعر الحماسة:
في ليلة من جمادى ذات أندية ... لا يبصر الكلب في ظلمائها ظلما.
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى يلف على خيشومه الدنيا.
وقال ابن حكينا البغدادي:
البس إذا قدم الشتاء برودا ... وافرش على رغم الحصير لبودا.
الريق في اللهوات أصبح جامدا ... والدمع في الآماق صار برودا.
وإذا رميت بفضل كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا.
وترى على برد المياه طيورها ... تختار حر النار والسفودا.
يا صاحب العودين لا تهملهما ... أوقد لنا عودا وحرك عودا.
وقال آخر:
ويومنا أرواحه قرة ... تخمش الأبدان من قرصها.
يوم تود الشمس من برده ... لو جرت النار إلى قرصها!
وقال عبد الله بن المعتز:
قد منع الماء من اللمس ... وأمكن الجمر من المس.
فليس نلقى غير ذي رعدة ... ومسلم يسجد للشمس!
وقال آخر:
ليس عندي من آلة البرد إلا ... حسن صبري، ورعدتي، وقنوعي.
فكأني لشدة البرد هر ... يرقب الشمس في أوان الطلوع.
وقال ابن سكرة الهاشمي، عفا الله تعالى عنه ورحمه:
قيل: ما أعدت للبر ... د وقد جاء بشدة؟
قلت: دراعة برد ... تحتها جبة رعده.
وقال أبو سعيد المخرومي:
إذا كنت في بلدة نازلا ... وحل الشتاء حلول المقيم،
فلا تبرزن إلا أن ترى ... من الصخور يوما صحيح الأديم.
فكم زلقة في حواشي الطريق ... ترد الثياب بخزي عظيم.
وكم من لئيم غدا راكبا ... يحب البلاء لماش كريم.
وقال الصاحب بن عباد:
أنى ركبت فكف الأرض كاتبة ... على ثيابي سطورا ليس تنكتم.
فالأرض محبرة، والحبر من لثق ... والطرس ثوبي، ويمني الأشهب القلم.
قال أبو علي كاتب بكر شاعر اليتيمة:
يا بلدة أسلمني بردها ... وبرد من يسكنها للقلق.
لا يسلم الشاتي بها من أذى ... من لثق، أو دمق، أو زلق.
ومما وصف به نثرا قول بعضهم: إذا حلتالشمس برج الجدي مد الشتاء رواقه، وحل نطاقه، ودبت عقارب البرد لاسبة، ونفع مدخور الكسب كاسبه.
ومن رسالة لابن أبي الخصال، جاء منها.
الكلب قد صافح خيشومه ذنبه، وأنكر البيت وطنبه؛ والتوى التواء الحباب، واستدار استدارة الغراب؛ وجلده الجليد، وضربه الضريب وصعد أنفاسه الصعيد؛ فحماه مباح مباح، ولا هرير، ولا نباح، والنار كالصديق، أو كالرحيق، كلاهما عنقاء مغرب، أو نجم مغرب.
وقال بعضهم: برد يغير الألوان، وينشف الأبدان، ويجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق، برد حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره.
(1/46)
وقيل لبعضهم: أي البرد أشد؟ فقال: إذا دمعت العينان، وقطر النخران، وتلجلج اللسان، واصطكت الأسنان.ووصف ابن وكيع الفصول الأربعة في أرجوزة فقال:
عندي في وصف الفصول الأربعة مقالة ... مقالة تغني اللبيب مقنعة.
ما قيل في فصل الصيف
أما المصيف، فاستمع ما فيه ... من فطن يفهم سامعيه.
فصل من الدهر إذا قيل حضر، ... أذكرنا بحرة نار سقر.
ظل فيه القلب مقشعرا ... والأرض تشكو خره المضرا.
أوله فيه ندى منغص ... كأنه على القلوب يقنص.
يلصق منه الجلد بالثياب ... ويعلق التراب بالأثواب.
حتى إذا ما طردته الشمس ... وفرحت بأن يزول النفس.
فتحت النار لنا أبوابها ... وشب فيها مالك شهابها.
حر يحيل الأوجه الغرانا ... حتى ترى الروم به حبشانا.
يعلو به الكرب ويشتد القلق ... وتنضج الأبدان فيه بالعرق.
تبصره فوق القميص قد علا ... حتى ترى مبيضه مصندلا.
إن كان رثا، زاد في تمزيقه؛ ... أو مستجدا، جد جبل زيقه.
ثم يعيد الماء نارا حامية ... يزيد في كرب القلوب الصاديه.
شاربه يكرع في حميم ... كأنه من ساكني الجحيم.
ينسه ما يلقى من التهابه ... أن يحمد الله على شرابه.
حتى إذا أعيا، انقضى نهاره ... وأرخيت من ليله أستاره،
تحركت في جنحه دواهي ... سارية، وأنت عنها لاهي.
من عقرب يسعى كسعي اللص ... سلاحها في إثره كالشص.
وحية تنقث سما قاتلا ... تزود الملسوع حتفا عاجلا.
تبصر ما بجلدها من الرقش ... كوجنة مصفرة فيها نمش.
لو نهشت بالناب منها الخضرا، ... لنثرت منه الحياة نثرا.
فلا تقل إن جاء يوما أهلا ... فلعنة الله عليه فضلا.
ما قيل في فصل الخريف
حتى إذا زال، أتى الخريف: ... فصل بكل سوأة معروف.
أهونه يسرع في حل الجسد ... وهو كطبع الموت يبس وبرد.
يجني على الأجسام من آفاته، ... وأرضه قرعاء من نباته.
لا يمكن الناس اتقاء شره ... ولا خلاف برده وحره.
تبصره مثل الصبي الأرعن ... من كثرة العشاق والتلون.
فأنت منه خائف على حذر ... لأنه يمزج بالصفو الكدر.
أحسن ما يهدي لك النسيما ... يقلبه في ساعة سموما.
وهو على المعدود من ذنوبه ... خير من من الصيف على عيوبه.
ما قيل في فصل الشتاء
حتى إذا ما أقبل الشتاء ... جاءتك منه غمة عمياء.
لو أنه روح، لكان فدما ... أو أنه شخص لكان جهما.
يلقاك منه أسد يزير ... له وعيد وله تحذير.
يأتيك في أيامه رياح ... ليس على لاعنها جناح.
حراكها ليس إلا سكون ... تضر بالأسماع والعيون.
يحدث من أفعالها الزكام ... هذا إذا ما فاتك الصدام.
ثم يليها مطر مداوم ... كأنه خصم لنا ملازم.
يقطعنا بعضا عن الطريق ... وعن قضاء الحق للصديق.
وربما خر عليك السقف ... فإن عفا عنك أتاك الوكف.
وإن أردت في النهار الشربا ... فيه، فقد قاسيت خطبا صعبا.
واحتجت أن توقد فيه نارا ... تطير نحو الحدق الشرارا.
يترك مبيض الثياب أرقطا ... يحكي السعيدي لك المنقطا.
وبعد ذا تسدد النقابا ... من خوفه وتغلق الأبوابا.
نعم، وترخى دونه الستورا ... حتى ترى صباحه ديجورا.
(1/47)
وإن أردت الشرب في الظلام ... عاقك عن تناول المدام.
حسبك أن تدنس في اللحاف ... من خشية البرد على الأطراف.
ورعده يشغل عن كل عمل ... ويؤثر النوم ويستحلي الكسل.
حتى إذا جئت إلى الرقاد، ... نمت على فرش من القتاد.
إن البراغيث عذاب مزعج ... لكل قلب ولجلد ينضج.
لا يستلذ جلدك المضاجعا ... كأنما أفرشه مباضعا.
تنح فصلا فوق ما ذممته ... لو أنه يظهر لي قتلته.
حتى إذا ما هو عنا بانا ... وزال عنا بغضه لا كانا!
ما قيل في فصل الربيع
جاء إلينا زمن الربيع ... فجاء فصل حسن الجميع.
لبرده وحره مقدار ... لم يكتنف حدهما إكثار.
عدل في أوزانه حتى اعتدل ... وحمد التفصيل منه والجمل.
نهاره في أحسن النهار ... في غاية الإشراق والاسفار.
تضحك فيه الشمس من غير عجب ... كأنها في الأفق جام من ذهب.
وليله مستلطف النسيم ... مقوم في أحسن التقويم.
لبدره فضل على البدور ... في حسن إشراق وفرط نور.
كجامة البلور في صفائها ... أذابت الجراد في نقابها.
كأنها إذا دنت من بدره ... جوزاؤه قبل طلوع فجره.
رومية حلتها زرقاء ... في الجيد منها درة بيضاء.
هذا وكم تجمع من أمور ... إطراء مطريها من التقصير.
فيه تظل الطير في ترنم ... حاذقة باللحن لم تعلم.
غناؤها ذو عجمة لا يفهمه ... سامعه وهو على ذا يغرمه.
من كل دبسي له رنين ... وكل قمري له حنين.
في قرطق أعجل أن يوردا ... خاط له الخياط طوقا أسودا.
تبصره منه على الحيزوم ... كمثل عقد سبج منظوم.
هذا وفيه للرياض منظر ... يفشىالسرىفي سره مايضمر.
سر نبات حسنه إعلانه ... إذا سواه زانه كتمانه.
فيه ضروب لنبات الغض ... يحكي لباس الجند يوم العرض.
من نرجس أبيض الثغور ... كأنه مخانق الكافور.
وروضة تزهر من بنفسج ... كأنها أرض من الفيرزوج.
قد لبست غلالة زرقاء ... وكايدت بلونها السماء.
يضحك منها زهر الشقيق ... كأنه مداهن العقيق.
مضمنات قطعا من السبج ... قد أشرقت من احمرار ودعج.
كأنما المحمر في المسود ... منه إذا لاح عيون الرمد.
وارم بعينيك إلى البهار ... فإنه من أحسن الأزهار.
كأنه مداهن من عسجد ... قد سمرت في قضب الزبرجد.
فانهض إلى اللهو ولا تخلف ... فلست في ذلك بالمنعف.
واشرب عقارا طال فينا كونها ... يصفر من خوف المزاج لونها.
دونك هذي صفة الزمان ... مشروحة في أحسن التبيان!
وارض بتقليدي فيما قلته ... فإنني أدرى بما وصفته.
وصف الأرض وتشبيهها قال الأخطل:
وتيهاء ممحال كان نعامها ... بأرجائها القصوى أباعر همل.
ترى لامعات الآل فيها كأنها ... رجال تعرى تارة وتسربل.
وجوز فلاة لا يغمض ركبها ... ولا عين هاديها من الخوف تغفل.
وكل بعيد الغور لا يهتدي له ... بعرفان أعلام ولا فيه منهل.
ملاعب جنان كأن ترابها ... إذا اطردت فيها الرياح تغربل.
ترى الثعلب الحولى فيها كأنه ... إذا ما علا نشز حصان محجل.
وقال ذو الرمة:
ودوية جرداء جداء خميت ... بها هبوات الصيف من كل جانب.
سباريت يخلو سمع مجتازها بها ... من الصوت، إلا من صياح الثعالب.
وقال ذو الرمة:
وهاجرة السراب من الموامي ... ترقص في عساقلها الأروم.
تموت قطا الفلاة بها أواما ... ويهلك في جوانبها النسيم.
مللت بها المقام فأرقتني ... هموم لا تنام ولا تنيم.
وقال ضابئ البرجمي:
وداوية تيه يحاربها القطا ... على من علاها من ضلول ومهتدي.
مسافهة للعيس ناء نياطها؛ ... إذا سار فيها راكب، لم يغرد.
وقال مسلم بن الوليد:
وقاطعة رجل السبيل مخوفة ... كأن على أرجائها حد مبرد.
مؤزرة بالآل فيها كأنها ... رجال قعود في ملأ معمد.
وقال الصاحب بن عباد:
وتيهاء لم تطمث بخف وحافر ... ولم يدر فيها النجم كيف يغور.
معالمها أن لا معالم بينها، ... وآياتها أن المسير غرور.
ولو قيل للغيث، اسقها: ما اهتدى لها ... ولو ظل ملء الأرض وهو جذور.
تجشمتها والليل وحف جناحه ... كأني سر والظلام ضمير.
وقال الشريف الرضي:
وتنوفه حصباؤها ... خلقت لنار القيظ جمرا.
تبدأ جنادبها الأنين أسى على المجتاز ظهرا.
وترى بها العصفور متخذا وجاز الضب وكرا.
وقال المتنبي:
مهالك لم يصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
ومفازة لا نجم في ظلمائها ... يسري ولا فلك بها دوار.
تتلهب الشعرى بها فكأنها ... في كف زنجي الدجى دينار.
يرمي بها الغيطان فيها والربى ... آل كما يتموج التيار.
والقطب ملتزم لمركزه بها ... فكأنه في ساجه مسمار.
قد لفنا فيها الظلام وطاف بي ... ذئب يلم مع الدجى زوار.
طراق ساحات الديار معاور ... خبث لأبناء السرى غدار.
يسري، وقد فضح الدجى وجه الضيا، ... في فروة قد مسها اقشعرار.
فعشوت في ظلماء لم يقدح بها ... إلا لمقلته، وباس نار.
ورفلت في خلع على من الدجى ... عقدت بها من أنجم أزرار.
والليل يقصر خطوه، ولربما ... طالت ليالي الركب وهي قصار.
وقال آخر:
مجهولة الأعلام طامسة الصوى ... إذا عسفتها العيس بالركب، ضلت.
إذا ما تهادى الركب في فلواتها، ... أجابت نداء الركب فيها فأصدت.
وقال مسعود أخو ذي الرمة يصف بعد فلاة:
ومهمهة فيها السراب يلمح ... يدأب فيها القوم حتى يطلحوا.
ثم يظلون كأن لم يبرحوا ... كأنما أمسوا بحيث أصبحوا.
وقال مسلم:
تجري الرياح بها مرضى مولهة ... حسرى تلوذ بأطراف الجلاميد.
وقال آخر:
ودية مثل السماء قطعتها ... مطوقة آفاقها بسمائها.
وقال بعض الأعراب في الآل:
كفى خزنا أنى تطاللت كي أرى ... ذرى علمي دمخ فما يريان!
كأنما، والآل ينجاب عنهما ... من البعد عينا برفع خلقان.
قال أبو هلال: وهذا من أغرب ما روي من تشبيهات القدماء.
وقال آخر:
والآل تنزو بالصوى أمواجه ... نزوالقطا الكدري في الأشراك.
والظل مقرون بكل مطية ... مشى المهار الدهم بين رماك.
وقال ابن المعتز:
وما راعني بالبين إلا ظعائن ... دعون بكائي، فاستجاب سواكبه.
بدت في بياض الآل والبعد دونه ... كأسطر رق أمرض الخط كاتبه.
وصف الجبال وتشبيهها قال السموءل بن عاديا:
لنا جبل يحتله من نجيره ... منيع يرد الطرف وهو كليل!
رسا أصله تحت الثرى وسما به ... إلى النجم فرع لا يرام طويل!
قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
أرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول أعنان السماء بغارب.
يصد مهب الريح من كل وجهة ... ويزحم ليلا شبهه بالمناكب.
وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي ناظر في العواقب.
يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب.
أضحت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السرى بالعجائب.
وقال: ألا كم كنت ملجأ فاتك ... وموطن أواه وموئل تائب!
وكم مر بي من مدلج ومؤوب ... وقال بسفحي من مطي وراكب!
ولا طم من نكب الرياح معاطفي ... وزاحم من خضر البحار جوانبي!
فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... فطارت بهم ريح النوى والنوائب.
وما غيض السلوان دمعي كل عبرة ... يترجمها عنه لسان التجارب.
فسلى بما أبكى، وسر بما شجى، ... وكان على ليل السرى خير صاحب.
وقلت وقد نكبت عنه مطيتي: ... سلام فأنا مقيم وذاهب!
وقال أيضا عفا الله عنه:
وأشرف طماح الذؤابة شامخ ... تمنطق بالجوزاء ليلا، له خصر.
وقور على مر الليالي كأنما ... يصيخ إلى نجوى وفي أذنه وقر.
تمهد منه كل ركن زكا به ... فقطب إطراقا وقد ضحك البدر.
ولاذ به نسر السماء كأنما ... يجر إلى وكر به ذلك النسر.
فلم أدر من صمت له وسكينة ... أكبرة سن وقرت منه أم كبر.
وقال أيضا يصفه نثرا من رسالة كتبها لبعض الرؤساء: وكيف لي بقربك ودونك كل علم باذخ، مج الليل عليه رض به، وصافحت النجوم هضابه؛ قد ناء بطرفه؛ وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه، قد لاث من غمامه عمامه، وأرسل من ربابه ذؤابه؛ تطرزها البروق الخواطف، وتهفو بها الرياح العواصف؛ بحيث مده البسيط بساطا، وضريب السماء فسطاطا.
في وصف البحر وتشبيهه قال ابن رشيق عفا الله عنه:
البحر مر المذاق صعب ... لا جعلت حاجتي إليه.
أليس ماء ونحن طين؟ ... فما عسى صبرنا عليه؟
وقال ابن حمديس:
لا أركب البحر، أخشى ... غلي منه المعاطب!
طين أنا وهو ماء، ... والطين في الماء ذائن.
وقال آخر:
وزاخر ليس له صوله ... إلا إذا ما هبت الريح.
فهو إذا ما سكنت ساكن ... كأنما الريح له روح.
وقال أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت:
تناهى البحر في عرض وطول، ... وليس له على التحقيق كنة.
وأعجب كلما شاهدت فيها ... سلامتنا على الأهوال منه.
فحسبي أن أراه من بعيد ... وأهرب فوق ظهر الأرض عنه.
ومما وصف به البحر والسفن قال بشر بن أبي خازم:
أطاعن صفهم ولقد أراني ... على زوراء تسجد للرياح
إذا اعترضت براكبها خليجا، ... تذكر ما عليه من جناح.
ونحن على جوانبها قعود، ... نغض الطرف كالإبل القماح.
وقال ابن تولو من أبيات:
تحث بنا فيه قلاص كأنها ... وعال، تبدت من جبال شواهق.
لها كافلا ماء وريح كلاهما ... يعلمها في الجري سبق السوابق.
إذا انحدرت؛ فالماء ألطف قائد ... وإن صعدت، فالريح أعسف سائق.
وقال السلامي:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد.
ركبت به إلى اللذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد!
جرى فظننت أن الأرض وجهه ... ودجلة ناظر، وهو السواد.
وقال محمد بن هانئ:
معطفة الأعناق نحو متونها ... كما نبهت أيدي الحواة الأفاعي
إذا أعملوا فيها المجاذيف سرعة، ... ترى عقربا منها على الماء ماشيا.
إذا ما ورزن الماء شوقا لبرده،صدرن ولم يشربن غرثى صواديا.
وقال الرسمي:
لم نزل مشفقين مذ قيل : سارت ... بك دهم قليلة الأوضاح.
أصلها البر وهي ساكنة في ... البحر سكنى إقامة لا براح.
هي في الماء وهي صفر من الما ... ء سوى نضح موجها النضاح.
فإذا أوقرت، فذات وقار؛ ... وإذا أخليت، فذات جماح.
وتراها في اللج ذات جناح ... ين وإن لم تكن بذات جنا
من مطايا لا يغتدن ولا يس ... أمن سير البكور بعد الرواح.
منشآت من الجواري اللواتي ... لسن من صتعة الجواري الملاح.
والدت مولدات بلا حل ... نكاح ولا حرام سفاج.
لا من البيض بل من السود ألوا ... نا وذات الألواح والأرواح.
طائرات مع الرياح، طورا ... كاسرات بالجري حد الرياح.
سائرات لا يشتكين سرى اللي ... ل ولا يرتقبن ضوء الصباح.
ساكنات بلا خضوع سكون ... جامحات بلا غرام جماع.
لا يخفن الغمار يقذفن فيها، ... ويفن المرور بالضحضاح.
إن صدمن الحصى عطبن ولا ... يعطبن إما صدمن حد الرماح.
ما رأى الناس من قصور على الما ... ء سواها يسير سير القداح.
يتسبسبن كالأساود في الخفة ... لا في معاداة الأشباح.
فإذا ما تقابلت، قلت: ذود ... من كباش تقابلت للنطاج.
شرعها البيض كالغمامات في الصي ... ف صحاحا منها وغير صحاح.
كم مدل بالجاه والمال فيها، ... وبه حاجة إلى الملاح!
قائد جنده لهم أدوات ... نفعها ثم فوق نفع السلاح.
فإذا البحر صال، صالوا عليها ... بمواض تمضي بغير جراح.
يكثرون الصياح حتى كأن السفن ... تجري من خوف ذاك الصياح.
ومما وصفت به البحار والسفن نثرا وقال أبو عمرو صاحب الصلاة القرطبي يصف شانيا سافر فيه:
فارقت مولاي حين أخذت للسفر عدة الحزم، وشددت عقدة العزم؛ وانتظمت مع السفر في سلك، وركبنا على اسم الله ظهر الفلك، في شان عظيم الشان، أحدقت به النطق إحداق الحيازم، وأمسكته لإمساك الأبازم؛ ثم تتبع خلله فسد، ورخوه فشد؛ حذرا على ألواحه من الإنخاع،واتصلت بعرانيسه اتصال الجلود بالأضلاع؛ ثم جلببت جلبابا من القار، ومخ في المتنين ولبفقار؛ فامتاز بأغرب ميسم، وعاد كالغراب الأعصم؛ قد حسن منه المخبر، وكأن الكافور قد قرن فيه بالعنبر، له من التماسيح أجنابها، ومن الخطاطيف أذنابها؛ واستقلت رجله بفراشها، استقلال السهام برياشها؛ وقد مد قليعه ذراعيه متلقيا من وفد الرياح مصافحه، ومستهديا منها منافخة. تقلد الحكم عليها إشتيام ذو تيقظ واستبصار، واستدلال على الأعماق والأقصار؛ يستدل باختلاف المياه إذا جرى، ويهتدي بالنجوم إذا سرى؛ قد جعل السماء مرآة ينظر فيها، ويحذر من دجن يوافيها؛ فإذا أصدأها الظلام بحنادسه، وصقلها الضياء بمداوسه، يسبح الله فيمصبحه وممساه، ويبسمل في مجراه ومرساه، ويذكر ربا يحفظه ولا ينساه. قد اتخذ فيه مولتيه، من أنجد النواتية؛ مشمرين الأثواب، مدبرين بالصواب؛ يفهمون عنه بالإيماء، ويتصرفون له تصرف الأفعال للأسماء؛ ويترنمون عند الجذب والدفع، والحط والرفع: بهيمنة تبعثهم على النشاط. والجمام، وتؤديهم في عملهم بالتمام. فخرجنا ونفح الريح نسيم، ووجه البحر وسيم؛ وراحة الريح تصافح عبابه مصافحة الخل، وتطوي جناحه طي السجل؛ وتجول من لججه أبرادا، وتصوغ منحبكه أزرادا: كأنما ترسم في أديم رقشا، أو تفتح في فصوص نقشا. قلما توسطنا ثبج البحر، وصرنا منه بين السحر والنحر؛ صحت الريح من سكرها، وطارت من وكرها؛ فسمعنا من ددوي البحر زئرا، ومن جبال الشاني صفيرا؛ ورأيناه يزبد ويضطرب، كأنه بكأس الجنوب قد شرب؛ واستقبلنا منه وجه باسر، وطارت من أمواجه عقبان كواسر؛ يضطرب ويصطفق، ويختلف ولا يتفق؛ كأن الجو يأخذ بنواصيها، ويجدبها من أقاصيها؛ والشاني تلعب به أكف الموج، ويفحص منها بكلكله فوجا بعد فوج؛ ويجوب منها ما بين أنجاد وأغوار، وخنادق وأسوار؛ والبحر تحتتنا كأرض تميد بأهلها، وتتزلزل بوعرها وسهلها؛ ونحن قعود، دود على عود؛ قد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألستنا؛ والرش يكتفنا من كل جانب، ويسيل من أثوابنا سيل المذانب. فشممنا ريح الموت وظننا التلف والفوت؛ وبقينا في هم ناصب، وعذاب واصب؛ حتى انتهينا إلى كنف الجون،وصرنا منه فيكن وصون؛ وهدأ من البحر ما استشرى، وتنادينا بالبشرى؛ ووطئنا من الأرض جددا، ولبسنا أثواب الحياة جددا! ومن رسالة لأبي عامر بن عقال الأندلسي عفا الله عنه جاء منها: وكان جوازه، أيده الله على بحر ساكن، قد ذل بعد استصعابه، وسهل بعد أن رأى الشامخ من هضابه؛ وصار حيه ميتا، وهديره صمتا؛ وجباله لا ترى بها عوجا ولا أمتا، وضعف بعد تعاطيه، وعقد السلم بين موجه وشاطيه. فعبر آمنا من لهواته، ممتلكا لصهواته؛ على جواد يقطع البحر سبحا، ويكاد يسبق الريح لمحا؛ لا يحمل لجاما ولا سراجا، ولا يعرف غير اللجة سرجا؛ فلله هو من جواد، له جسم وليس له فؤدا؛ يخترق الهواء ولا يرهبه، ويركض في الماء ولا يشربه! ومن رسالة للأستاذ ابن العميد في مثل ذلك جاء منها: وكأن العشاريات وقد رديت بالقار، وحليت باللجين والنضار؛ عرائس منشورة الذوائب، مخضوبة الحواجب؛ موشحة المناكب، مقلدة الترائب؛ متوجة المفارق، مكللة العواتق، فضية الحلل والقراطق؛ أو طواويس أبرزت رقابها، ونشرت أجنحتها وأذنابها؛ وكأنها إذا حدت في اللحاق، وتنافست في السباق؛ نوافر نعام، أو حوافل أنعام، أو عقارب شالت بالإبر، أو دهم الخيل واضحة الحجول والغرر؛ وكأن المجاذيف طير تنفض خوافيها، أو حبائب تعانق حبائب بأيديها.
في وصف الماء وتشبهه
فأما ما اختص به نهر النيل من الوصف.
فمن ذلك قول ابن النقيب:
كأن النيل ذو فهم ولب ... لما يبدو لعين الناس منه.
فيأتي حين حاجتهم إليه، ... ويمضي حين يستغنون عنه!
وقال تميم بن المعز العبيدي:
يوم لنا بالنيل مختصر ... ولكل يوم مسرة قصر.
والسفن تجري كالخيول بنا ... صعدا، وجيش الماء منحدر.
فكأنما أمواجه عكن ... وكأنما داراته سرر.
ومن رسالة للقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني قال: وأما النيل فقد ملأ البقاع، وانتقل من الإصبع إلى الذراع. فكأنما غار على الأرض فغطاها، وعار عليها فاستقعدها وما تخطاها.فما يوجد بمصر قاطع طريق سواه، ولا مرغوب مرهوب إلا إياه.
وأما ما اختصت به دجلة من الوصف.
قال التنوخي:
وكأن دجلة إذ تغمض موجها ... ملك يعظم، خيفة ويبجل.
عذبت، فما أدري أماء ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل؟
وكأنها ياقوتة أو أعين ... زرق يلاءم بينها ويوصل.
ولها بمد بعد جزر ذاهب ... جيشان: يدبرذا، وهذا يقبل.
وقال محمد بن عبد الله السلامي، شاعر اليتيمة:
وميدان تجول به خيول ... تقود الدارعين ولا تقاد.
ركبت به إلى اللذات طرفا ... له جسم وليس له فؤاد.
جرى فظننت أن الأرض وجه ... ودجلة ناظر وهو السواد.
وقال الصنوبري:
فلما تعالى البدر واشتد ضوءه ... بدجلة في تشرين بالطول والعرض
وقد قابل الماء المفضض نوره ... وبعض نجوم الليل يطفي سنا بعض،
توهم ذو العين البصيرة أنه ... يرى ظاهر الأفلاك في باطن الأرض.
ومما وصفتبه الأنهار قال الصنوبري:
والعوجان الذي كلفت به ... قد سوى الحسن فيه مذ عوج.
ما أخطأ الأيم في تعوجه ... شيئا إذا مااستقام أو عرج.
تدرج الريح متنه فترى ... جوشن ماء عليه قد درج.
إن أعنقت بالجنوب أعنق في ... لطف، وإن هملجت به هملج.
من أين طافت شمس النهار به ... حسبت شمسا من جوفه تخرج.
وقال أبو فراس:
والماء يفصل بين زهر الروض في الشطين فصلا.
كبساط وشى جردت ... أيدي القيان عليه نصلا.
وقال الناجم:
انظر إلى الروض الذك ... ي فحسنه للعين قرة؟؟!
فكأن خضرته السما ... ء، ونهره فيه المجرة.
وقال عبد الله بن المعتز:
وترى الرياح إذا مسحنا غديره ... وصفينه ونقينا كل قذاة،
ما أن يزال عليه ظبي كارع ... كتطلع الحسناء في المرآة.
ومثله قول الآخر:
وغدير رقت حواشيه حتى ... بان في قعره الذي كان ساخا.
وكأن الطيور إذا وردته ... من صفاء به، تزق فراخا.
وقال آخر:
والنهر مكسو غلالة فضة؛ ... فإذا جرى سيل، فثوب نضار.
وإذا استقام، رأيت صفحة منصل؛ ... وإذا استدار، رأيت عطف سوار.
وقال أبو مروان بن أبي الخصال:
النهر قد رقت غلالة خصره ... وعليه من صبغ الأصيل طراز.
تترقرق الأمواج فيه كأنها ... عكن الخصور تهزها الأعجاز.
وقال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
لله نهر سال في بطحاء ... أشهى ورودا من لمى الحسناء!
وغدت تحف به الغصون كأنها ... هدب تحف بمقلة زرقاء.
والريح تعبث بالغصون وقد جرى ... ذهب الأصيل على لجين الماء!
وقال أبو القاسم بن العطار:
مررنا بشاطئ النهر بين حدائق ... بها حدق الأزهار تستوقف الحدق.
وقد نسجت كف النسيم مفاضة ... عليه، وما غير الحباب لها حلق!
وقال محمد بن سهل البلخي، شاعر " الذخيرة " :
راقنا النهر صفاء ... بعد تكدير صفائه.
كان مثل السيف مدمى ... فجلوم من دمائه.
أو كمثل الورد غضا ... فهو اليوم كمائه.
وقال القاضي التنوخي، شاعر " اليتيمة " :
أحبب إلي بنهر معقل الذي ... فيه لقلبي من همومي معقل!
عذب إذا ما عب فيه ناهل ... فكأنه من ريق حب ينهل.
متسلسل فكأنه لصفائه ... دمع بخدي كاعب يتسلسل.
فإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنها درع جلاه الصيقل!
وقال مؤيد الدين الطغرائي في الغدير:
عجنا إلى الجزع الذي مد في ... أرجائه الغيم بساط الزهر.
حول غذير ماؤه المنتمي ... إلى بنات المزن يشكو الخصر.
لولاذه الريح سموما به ... لانقلبت وهي نسيم السحر.
حصباؤه در ورضراضه ... سحالة العسجد حول الدرر.
وقد كسته الريح من نسجها ... درعا به يلقى نبال المطر.
وألبسته الشمس من صبغها ... نوارا به يخطف نور البصر.
كأنها المرآة مجلوة ... على بساط أخضر قد نشر.
وقال أيضا:
ملنا إلى النشر الذي ترتقي ... إليه أنفاس الصبا عاطره.
حول غدير ماؤه دراع ... والأرض من رقته حاسرة.
والشمس إن حاذته رأد الضحى ... حسناء في مرآتها ناظرة.
والهب إن حاذته جنح الدجى ... تسبح في لجته الزاخرة.
قد ركب الخضراء فيه فمن ... حصبائه أنجمها زاهرة.
يخضر إن مرت بأرجائه ... لفح سموم في لظى هاجره.
أنموذج الماء الذي جاءنا ... الوعد بأن نسقاه في الآخرة!
ومما وصفت به البرك قال البحيري عفا الله عنه:
يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها ... والآنسات التي لاحت مغانيها!
ما بال دجلة كالغيري تنافسها ... في الحسن طورا ، وأطوارا تباهيها؟
كأن جن سليمان الذين ولوا ... إبداعها فأدقوا في معانيها.
فلو تمر بها بلقيس عن عرض ، ... قالت: هي الصرح تمثيلا وتشبيها.
تنصب فيها وفود الماء معجلة ... كالخيل خارجة من حبل مجريها .
كأنما الفضة البيضاء سائلة ... من السبائك تجري في مجاريها.
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها.
إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا، حسبت سماء ركبت فيها.
لا يبلغ السمك المحصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها.
يعمن فيها بأوساط مجنحة ... كالطير تنقض في جو خوافيها.
كأنها حين لجت في تدفقها ... يد الخليفة لما سال واديها!
وقال ابن طباطبا:
كم ليلة ساهرت أنجمها لدى ... عرصات أرض ماؤها كسمائها.
قد سيرت فيها النجوم كأنما ... فلك السماء يدور في أرجائها.
أحسن بها بحرا إذا التبس الدجى، ... كانت نجوم الليل من حصبائها!
ترنو إلى الجوزاء وهي غريقة ... تبغي النجاء، ولات حين نجائها!
تطفو وترسب في اصطفاق مياهها ... لا مستعان لها سوى أسمائها.
والبدر يخفق وسطها فكأنه ... قلب لها قد ريع في أحشائها.
وقال عبد الجبار بن حمديس، يصف بركة يجري إليها الماء من شاذروان من أفواه طيور وزرافات وأسود، من أبيات:
والماء منه سبائك من فضة ... ذابت على دولاب شاذروان!
فكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الروع كف جبان!
كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان!
عجبا لها تسقي هناك ينائعا ... ينعت من الثمرات والأغصان!
خصت بطائرة على فنن لها ... حسنت، فأفرد حسنها من ثاني!
قس الطيور الساجعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان.
فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان.
وكأن صانعها استبد بصنعة ... فجر الجماد بها على الحيوان!
أوفت على حوض لها فكأنها ... منها إلى العجب العجاب روان.
وكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا، فذاقته بكل لسان.
وزرافة في الجو من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران.
مركوزة كالرمح حيث ترى له ... من طعنه الحلق انعطاف سنان.
وكأنما ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان!
لو عاد ذاك الماء نفطا، أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان.
في بركة قامت على حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان!
نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها، ... فلذلك انتزعت من الأبدان.
وكأنما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في غدران.
وكأنما الحيتان إذ لم تخشها ... أخذت من المنصور عهد أمان!
وقال آخر:
ولقد رأيت، وما رأيت كبركة ... في الحسن ذات تدفق وخرير!
عقدت لها أيدي المياه قناطرا ... من جوهر فيلجة من نور!
وقال علي بن الجهم، يصف فوارة:
(1/79)
وفوارة ثارها في السماء، ... فليست تقصر عن ثارها!
تراها إذا صعدت في السماء ... تعود إلينا بأخبارها
ترد على المزن ما أنزلت ... على الأرض من صوب مدرارها!
وقال ابن حجاج فيها:
علمت في دارك فوارة ... غرقت الأفق بها الأنجما!
فاض على نجم السما ماؤها، ... فأصبحت أرضك تسقي السما!
وقال تميم بن المعز العبيدي:
وقاذفة بالماء في وسط بركة ... قد التحفت ظلا من الأيك سجسجا.
إذا أينعت بالماء سلته منصلا ... وعاد عليها ذلك النصل هودجا.
تحاول إدراك النجوم بقذفها، ... كأن لها قلبا على الجو محرجا!
ومما وصفت به الدواليب والنواعير قال أبو حفص بن وضاح:
لله دولاب يطوف بسلسل ... في روضة قد أينعت أفنانا!
قد طارحت فيه الحمائم شجوها ... بنحيبها، وترجع الألحانا.
فكأنه دنف يطوف بمعهد، ... يبكي ويسأل فيه عمن بانا.
ضاقت مجاري طرفه عن دمعه، ... فتفتحت أضلاعه أجفانا!
وقال الموفقي، رحمه الله:
ناعورة تحسب من صوتها ... متيما يشكو إلى زائر.
كأنما كيزانها عصبة ... رموا بصرف الزمن الواتر.
قد منعوا أن يلتقوا فاغتدوا ... أولهم يبكي على الآخر!
وقال آخر:
وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحي، وأجرت مقلتي دموعها!
وقد ضعفت مما تئن، وقد غدت ... من الضعف والشكوى تعد ضلوعها!
وقال ابن منير الطرابلسي:
لنواعيرها على الماء ألحا ... ن تهيج الشجا لقلب المشوق.
فهي مثل الأفلاك شكلا وفعلا ... قسمت قسم جاهل بالحقوق:
بين عال، هام، ينكسه الخط ... ويعلو بسافل مرزوق.
وقال أبو الفرج الوأواء:
وكريمة سقت الرياض بدرها ... فغدت تنوب عن السحاب الهامع.
بلباس محزون، ودمعة عاشق، ... وحنين مشتاق، وأنه جازع.
فكأ،ها فلك يدور، وعلوه ... يرمي القرار بكل نجم طالع.
وقال الصنوبري:
فلك من الدولاب فيه كواكب ... من مائة تنقض ساعة تطلع.
متلون الأصوات: يخفض صوته ... بغنائه، طورا وطورا يرفع.
ومما وصف به نثرا من رسالة للشيخ ضياء الدين القرطبي إلى بعض إخوانه يستدعى منه ثلاثة أسهم ومليات. جاء منها: والحاجة داعية إلى ثلاثة أسهم، كأنها هقعة الأنجم؛ ممتدة امتداد الرمح، مقومة تقويم القدح؛ غير مشعئة الأطراف، ولا معقدة الأعطاف؛ ولا مسوسة الأجواف؛ تحاسن الغصون بقوامها، والقدود بتمامها؛ وتخالف هيفها لامتلاء خصورها وتساوي " بين " هواديها وصدورها؛ معتدلة القدود، ناعمة الحدود؛ مع مليات أخذت النار منها مأخذها فاسودت وتطاولت عليها مدة الجفاف فاشتدت؛ وترامت بها مدة القدم، كأنها في حيز العدم؛ صلاب المكاسر، غلاظ المآزر؛ تشبه أخلاقه في هيجاء السلم، وتحكي صلابة آرائه في نفاذ الرأي ومضاء العزم؛ تكظم على الماء بغيظها، فتجود على الأرض بفيضها؛ تمد يد أيدها في اقتضاء إرادتها، وتطلع طلوع الأنجم في فلك إدارتها؛ وتعانق أخواتها معانقة التشييع، فآخر التسليم أول التوديع، على أنها بحقائق الاعتبار، وتجري جري الفلك المدار في قناة الأعمار:
تمر كأنفاس الفتى في حياته ... وتسعى كسعي المرء أثناء عمره.
يفارق خل خله، وهو سائر ... على مثل حال الخل في إثر سيره.
ويعلمه التداور، لو يعقل الفتى ... بأن مرور العمر فيه كمره.
فمن أدركت أفكاره سر أمرها ... فقد أدركت أفكاره سر أمره.
ومن فاته، الإدراك أدركه الردى: ... إذا جزعت أنفاسه كأس مره.
ومما وصفت به الجداول قال ابن المعتز، عفا الله عنه:
على جدول ريان، لا يقبل القذى: ... كأن سواقيه متون المبارد.
وقال الناجم:
(1/80)
وجهه
أحاطت أزاهير الربيع سوية ... سماطين مصطفين، تستنبت المرعى.
على جدول ريان كالسهم مرسلا، ... أو الصارم المسلول، أو حية تسعى.
وقال المفجع:
على جدول ريان ينساب متنه ... صقيلا، كمتن السيف وافى مجردا.
إذا الريح ناغته، تحلق وجهه ... دروعا وضاء، أو تحزز مبردا.
وقال ابن الرومي:
على خفاقي جدول مسجور ... أبيض مثل المهرق المنشور.
أو مثل متن المنصل المشهور ... ينساب مثل الحية المذعور.
وقال ذو الرمة:
فما انشق ضوء الصبح حتى تبينت ... جداول أمثال السيوف القواطع.
فمن ذلك قول كعب الأشقري، يصف قلعة:
محلقة دون السماء كأنها ... غمامة صيف زال عنها سحابها.
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلا، ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها.
ولا خوفت بالذنب ولدان أهلها، ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها.
وقال أبو تمام يصف عمروية:
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها ... كسرى وصدت صدودا عن أبي كرب.
بكر، فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النوب.
من عهد إسكندر أو قبل ذاك، فقد ... شابت نواصي الليالي وهي لم تشب!
وقال الخالديان:
وخلقاء قد تاهت على من يرومها ... بمرقبها العالي وجانبها الصعب.
يزر عليها الجو جيب غمامه ... ويلبسها عقدا بأنجمه الشهب.
إذا ما سرى برق بدت من خلاله ... كما لاحت العذراء من خلل الحجب.
سموت لها بالرأي يشرق في الدجى ... ويقطع في الجلى، ويصدع في الهضب.
فأبرزتها مهتوكة الجيب بالقنا ... وغادرتها ملصوقة الخد بالترب!
وقالا أيضا في قلعة:
وقلعة عانق العيوق سافلها، ... وجار منطقة الجوزا أعاليها.
لا تعرف القطر، إذ كان الغمام لها ... أرضا توطأ قطريه مواشيها.
إذا الغمامة لاحت، خاص ساكنها ... حياضها قبل أن تهمي عزاليها.
يعد من أنجم الأفلاك مرقبها، ... لو أنه كان يجري في مجاريها.
على ذرى شامخ وعر: قد امتلأت ... كبرا به، وهو مملوء بها تيها.
له عقاب: غقاب الجو حائمة ... من دونها، فهي تخفي في خوافيها.
وقال أبو بكر الخوارزمي:
وبكر تحامتها البعول مخاقة، ... فقد تركت من كثرة المهر أيما.
أممنعة لم يغلط الدهر باسمها، ... ولم يرها في النوم إلا توهما.
تزل عقاب الجو عن شرفاتها ... وتبغي إليها الريح مرقي وسلما!
ويسمع في الأفلاك صيحة ديكها ... فتحسب ديك العرش صاح ترنما.
عجوز، ترى في صحة الجسم كاعبا ... ولو أرخت، كانت من الدهر أقدما!
تواري أساسا بالتخوم مؤزرا، ... وتبرز رأسا بالنجوم معمما.
تنازعها الأرض السماء وتدعي ... لديها بها حقا لها متهضما.
وتحسبها زهر الكواكب كوكبا ... هوى خلف شيطان رجيم، فخيما!
القصر
وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك قول السرى:
مجلس في فناء دجلة، يرتا ... ح إليه الخليع والمستور.
طائر في الهواء، فالبرق يسرى ... دون أعلاه والحمام يطير.
فإذا الغيم سار، أسبل منه ... حلل دون جدره وستور.
وإذا غارت الكواكب صبحا، ... فهو الكواكب الذي لا يغور!
وقال أيضا:
منزل كالربيع حلت عليه ... حاليات السحاب عقد النطاق.
يمتع العين في طرائف حسن ... تتحامى بها عن الإطراق.
بين ساج كأنه ذائب التبر ... على مثل ذائب الأوراق.
وقال أيضا:
والقصر يبسم عن وجه الضحى،فترى ... وجه الضحى عند ما أبدي له شحبا.
يبيت أعلاه بالجوزاء منتطقا، ... ويغتدي برداء الغيم محتجبا!
وقال أبو سعيد الرستمي، يصف دارا بناه الصاحب بن عباد:
وسامية الأعلام تلحظ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلا.
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمز، ... فأصبح في أرض المداين عاطلا.
فلو أبصرت ذات العماد عمادها، ... لامست أعاليها حياء أسافلا.
ولو لحظت جنات تدمر حسنها، ... درت كيف تبني بعدهن المجادلا.
متى ترها خلت السماء سرادقا ... عليها وأعلام النجوم تماثلا.
وقال علي بن يوسف الإيادي، يذكر دارا بناها المعز العبيدي بمصر وسماها العروسين :
بنى منظرا يسمى العروسين رفعة، ... كأن الثريا عرست في قبابه.
إذا الليل أخفاه بحلكة لونه، ... بدا ضوءه كالبدر تحت سحابه.
تمكن من سعد السعود محله، ... فأضحى ومفتاح الغنى فتح بابه.
ولو شاده عزم المعز ورأيه ... على قدره في ملكه ونصابه،
لكان حصى الياقوت والتبر مفرغا ... على المسك من أجره وترابه.
وقال عبد الجبار بن حمديس الصقلي، يصف دارا بناها المعتمد بن عباد من أبيات:
ويا حبذا دار قضى الله أنها ... يجدد فيها كل عز ولا يبلى!
وما هي إلا خطة الملك التي ... يحط إليها كل ذي أمل رحلا.
إذا فتحت أبوابها، خلت أنها ... تقول بترحيب لداخلها: أهلا.
وقد نقلت صناعها من صفاته ... إليها أفانينا، فأحسنت النقلا.
فمن صدره رحبا، ومن نوره سنا، ... ومن صيته فرعا، ومن حلمه أصلا!
فأعلت به في رتبة الملك ناديا، ... وقل له فوق السماكين أن يعلى.
نسيت به إيوان كسرى، لأنني ... أراه له مولى من الحسن لا مثلا.
ترى الشمس فيها ليقة تستمدها ... أكف، أقامت من تصاويرها شكلا.
لها حركات أودعت في سكونها، ... فما تبعت من نقلهن يد رجلا.
ولما عشينا من توقد نورها، ... تخذنا سناه في نواظرنا كحلا.
وقال أيضا من قصيدة يصف فيها دارا بناها المنصور ببجاية، جاء منها:
واعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا!
قصر لو انك قد كحلت بنوره ... أعمى، لعاد على المقام بصيرا.
واشتق من معنى الحياة نسيمه، ... فيكاد يحدث للعظام نشورا.
فلو أن بالإيوان قوبل حسنه، ... ما كان شيئا عنده مذكورا.
نسي الصبيح مع المليح بذكره، ... وسما ففاق خورنقا و سديرا.
أعيت مطالعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا.
ومضت على القوم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شبها له ونظيرا.
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها، وقصورا.
فلك من الأفلاك، إلا أنه ... حقر البدور فأطلع المنصورا .
أبصرته فرأيت أبدع منظرا ... ثم انثنيت بناظري محسورا.
وظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا.
وإذا الولائد فتحت أبوابها، ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا.
عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكشيرا.
فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخوله مأمورا.
تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه، فتكبو عن مداه قصورا.
بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش البها وتوشح الكافورا.
ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا.
يستخلف الإصباح منه إذا انقضى ... صبحا على غسق الظلام منيرا.
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت له زهر النجوم ثغورا.
ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش بين شكوله تنظيرا.
تبدو مسامير النضار كما علت ... فلك النهود من الحسان صدورا.
خلعت عليه غلائلا ورسية ... شمس ترد الطرف عنه حسيرا.
فإذا نظرت إلى غرائب حسنه، ... أبصرت روضا في السماء نضيرا.
وعجبت من خطافي عسجده التي ... حامت لتبني في ذراه وكورا.
وضعت به صناعه أقلامها، ... فأرتك كل طريدة تصويرا.
فكأنما للشمس فيه ليقة ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا.
وكأنما فرشوا عليه ملاءة ... تركوا مكان وشاحها مقصورا.
يا مالك الملك الذي أضحى له ... ملك السماء على العداة نصيرا.
كم من قصور للملوك تقدمت ... فاستوجبت بقصورك التأجيرا.
فعمرتها وملكت كل رياسة ... منها، ودمرت العدا تدميرا.
وقال عمارة اليمني، يصف دارا بناه فارس الإسلام من أبيات:
فتمل دارا شيدتها همة، ... يغدو العسير بأمرها متيسرا.
فاقت على الإطلاق كل بنية ... وسمت بسعدك عزة وتكبرا.
أنشأت فيها للعيون بدائعا ... دقت فأذهل حسنها من أ بصرا.
فمن الرخام: مسيرا، ومسهما، ... ومنمنما، ومدرهما، ومدنرا.
وسقيت من ذوب المضار سقوفها ... حتى يكاد نضارها أن يقطرا.
لم يبق نوع صامت أو ناطق ... إلا غدا فيها الجميع مصورا.
فيها حدائق لم تجدها ديمة ... كلا ولا نبتت على وجه الثرى.
لم يبد فيها الروض إلا مزهرا ... والنخل والرمان إلا مثمرا.
والطير مذ وقعت على أغصانها ... وثمارها لم تستطع أن تنفرا.
وبها من الحيوان كل مشبه ... لبس الحرير العبقري مصورا.
لا تعدم الأبصار بين مروجها ... ليثا ولا ظبيا بوجرة أعفرا.
أنست نوافر وحشها لسباعها ... فظبائها لا تتقي أسد الشرى.
وكأن صولتك المخيفة أمنت ... أسرابها أن لا تخاف فتذعرا.
وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا.
نوبية المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا.
جبلت على الإيقاع من أعجازها ... فتخالها في التيه تمشي القهقرى!
وقال أبو الصلت أمية بن عبد العزيز، يصف قصرا بناه علي بن تميم بن المعز بمصر:
لله، مجلسك المنيف! فبابه ... بموطد فوق السماك مؤسس.
موف على حبك المجرة تلتقي ... فيه الجواري بالجوار الكنس.
تتقابل الأنوار في جنباته ... فالليل فيه كالنهار المشمس.
عطفت حناياه دوين سمائه ... عطف الأهلة والحواجب والقسي.
واستشرفت عمد الرخام وظوهرت ... بأجل من زهر الربيع وأنفس.
فهواؤه من كل قد أهيف، ... وقراره من كل خد أملس.
فلك تحير فيه كل منجم ... وأقر بالتقصير كل مهندس.
فبدا للحظ العين أحسن منظرا ... وغدا لطيب العيش خير معرس.
فاطلع به قمرا، إذا ما أطلعت ... شمس الخدور عليك شمس الأكؤس.
فالناس أجمع دون قدرك رتبة ... والأرض أجمع دون هذا المجلس!
وقال الوزير أبو سليمان بن أبي أمية:
يا دار، آمنك الزما ... ن خطوب ونوائبه.
وجرت سعودك بالذي ... يهوى نزيلك دائبه.
فلنعم مأوى الضيف أن ... ت إذا تحاموا جانبه.
خطر شأوت الديا ... ر، فأذعنت لك قاطبة.
وقال أبو صخر القرطبي:
ديار عليها من بشاشة أهلها ... بقايا، تسر النفس أنسا ومنظرا.
ربوع كساها المزن من خلع الحيا ... برودا، وحلاها من النور جوهرا
وقال الشريف الرضي:
ما زلت أطرق المنازل باللوى ... حتى نزلت منازل النعمان.
بالحيرة البيضاء حيث تقابلت ... شم العماد، عريضة الأعطان.
شهدت بفضل الرافعين قبابها. ... ويبين بالبنيان فضل الباني!
ما ينفع الماضين أن بقيت لهم ... خطط معمرة بعمر فاني!
وأما ما وصفت به المنازل الخالية: فمن ذلك ما قاله البحتري يشير إلى الكرمان الذي بناه كسرى أو أنو شروان من أبيات:
فكأن الكرمان من عدم الأن ... س وإخلائه بنية رمس.
لو تراه، علمت أن الليالي ... خلعت في مأتما بعد عرس.
وهو ينبيك عن عجائب قوم، ... لا يشاب البيان فيها بلبس.
وإذا ما رأيت صورة أنطاك ... ية ارتعت بين روم وفرس.
والمنايا مواثل وأنو شروا ... ن يزجي الصفوف تحت الدرفس!
وقال أيضا من قصيدة يرثى فيها المتوكل، ويذكر قصره الجعفري:
محل على القاطول أخلق داره، ... وعادت صروف الدهر جيشا تعاوره.
كأن الصبا توفي نذورا، إذا انبرت ... تجر به أذيالها وتباكره.
ورب زمان ناعم تم عهده، ... ترق حواشيه ويونق ناظره.
تغير حسن الجعفري وأنسه ... وقوض بادي الجعفري وحاضره.
تحمل عنه ساكنوه فجاءة، ... فعادت سواء دوره ومقابره
إذا نحن زرناه، أجد لنا الأسى؛ ... وقد كان قبل اليوم يبهج زائره.
ولم أنس وحش القصرإذريع سربه ... وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره.
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت ... على عجل أستاره وسرائره.
وأوحشه حتى كأن لم يكن به ... أنيس ولم تحسن العين مناظره.
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة ... بشاشتها، والملك يشرق زاهره.
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها ... وبهجتها والعيش غض مكاسره.
فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت ... بهيبتها أبوابه وستائره؟
وأين عمود الملك في كل نوبة ... تنوب وناهي الدهر فيه وآمره؟
وقال عمرو ابن أبي ربيعة:
يا دار أمسى دارسا رسمها ... وحشا قفارا ما بها آهل.
قد جرت الريح بها ذيلها ... واستن في أطلالها الوابل.
وقال شاعر أندلسي:
قلت يوما لدار قوم تفانوا: ... أين سكانك الكرام لدينا؟
فأجابت: هنا أقاموا قليلا ... ثم ساروا، ولست أعلم أينا!
وقال عبد الله بن الخياط الأندلسي:
يا دار علوة، قد هيجت لي شجنا ... وزدتني حزنا! حييت من دار!
كم بت فيك على اللذات معتكفا ... والليل مدرع ثوبا من القار!
كأنه راهب في المسح ملتحف، ... شد المجر له وسطا بزنار!
وقال أبو حامد أحمد الأنطاكي:
إن ربعا عرفته مألوفا ... كان للبيض مربعا ومصيفا.
غيرت آيه صروف الليالي، ... وغدا عنه حسنه مصروفا.
ما مررنا عليه إلا وقفنا ... وأطلنا شوقا إليه الوقوفا.
ألفا للبكاء فيه كأني ... لم أكن فيه للغواني أليفا.
حاسدا للجفون لما أذالت ... في مغانيه دمعها المذروفا!
وقال الشريف الرضي من أبيات:
ولقد رأيت بدير هند منزلا ... ألما من الضراء والحدثان!
بالي المعالم أطرقت شرفاته ... إطراق منجذب القرينة عانى.
أمقاصر الغزلان غيرك البلى ... حتى غدوت مراتع الغزلان!
وملاعب الأنس الجميع طوى الردى ... منهم فصرت ملاعب الجنان!
وقال أبو الحسن علي القابوسي نثرا: " قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب، ومقصد الوفد؛ فاستبدل بالأنس وحشه، وبالنضارة غبره، وبالضياء ظلمه؛ واعتاض من تزاحم المواكب، بالأدم النوادب؛ ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل " .
ومن رسالة لضياء الدين بن الأثير الجزري، جاء منها: " دار لعبت بها أيدي الزمن، وفرت بين الساكن والسكن. كانت مقاصير جنة، فأضحت وهي ملاعب جنة. ولقد عميت أخبار قطانها وعفت آثارها آثار وطانها، حتى شابهت إحداهما في الجفا الأخرى في العفا. وكنت أظن أنها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام؛ غير أن السحاب بكاهم وأجرى بها سوافح دموعه، والليل شق عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه " .
الإذكر شيء مما قيل في الحمام قال إبراهيم بن خفاجة الأندلسي:
أهلا ببيت النار من منزل ... شيد لأبرار وفجار!
يدخله ملتمس لذة ... فيدخل الحنة في النار!
وقال أبو عامر بن شهيد الأندلسي:
نعم، أبا عامر بلذته ... وأعجب لأمرين فيه قد جمعا!
نيرانه من زنادكم قدحت ... وماءه من بنانكم نبعا!
وقال علي بن عطية البلنسي:
رب حمام تلظى ... كتلظي كل وامق.
ثم أذرت عبرات ... صوبها بالوجد ناطق.
فغدا مني ومنه ... عاشق في جوف عاشق!
وقال أبو طالب المأموني، شاعر اليتيمة:
وبيت كأحشاء المحب دخلته ... ومالي ثياب فيه غير إهابي
أرى محرما فيه وليس بكعبة ... فما ساغ إلا فيه خلع ثيابي.
بماء كدمع الصب في حر قلبه ... إذا آذنت أحشاؤه بذهاب.
توهمت فيه قطعة من جهنم ... ولكنها من غير مس عقاب.
يثير ضبابا بالبخار مجدلا ... بدور زجاج في سماء قباب!
وقال آخر:
إن حمامك هذا ... غير مذموم الجوار.
ما رأينا قبل هذا ... جنة في وسط نار!
وأنشدني جمال الدين محمد بن الحكم لنفسه:
قالوا: نراك دخلت حماما وما ... حلف الهوى يلتذ بالأهواء.
فأجبتهم: لم تكف أدمع مقلتي ... حتى بكيت بحمله الأعضاء
الشعر
وقال ابن الرومي:
وفاحم وارد يقبل مم ... شاه إذا اختال مرسلا غدره
أقبل كالليل من مفارقه ... منحدرا لا يذم منحدره
حتى تناهى إلى مواطنه ... يلثم من كل موطئ عفره
كأنه عاشق دنا شغفا ... حتى قضى من حبيبه وطره
وقال فتح الدين بن عبد الظاهر:
حل ثلاثا يوم حمامه ... ذوائبا يعبق منها الغوال
فقلت، والقصد ذؤاباته: ... يا سهري في ذي الليال الطوال!
وقال آخر:
قد علق القلب بدبوقة ... وجن منها فهو مفتون؟
واعجيا للعشق في حكمه ... بشعرة قيد مجنون!
وقال آخر:
رأيت على قد الحبيب ذؤابة ... فعيني على تلك الذؤابة تهمع
يقول لي الواشون: مالك باكيا؟ ... فقلت: بعيني شعرة فهي تدمع
وقال آخر:
وشعرة عاينهنا ناظري ... على قوام مائس الخطرة
فسال دمعا وهمي جفنه، ... والدمع لا شك من الشعرة
وقال آخر:
ولرب ممشوق القوام تضمه ... ممشوقة، فتعانقا غصنين
أرخت ذوائبها وأسبل شعره، ... فتقابلا قمرين في ليلين
وقد أوسع الشعراء في وصف العيون ووصفوها بالمرض والسقم، وإن كانت صحيحة. فمن ذلك قول الشاعر:
برح السقم بي وليس صحيحا ... من رأت عينه عيونا مراضا.
إن للأعين المراض سهاما ... صيرت أنفس الورى أغراضا.
جوهر الحسن منذ أعراض للقل ... ب ثنى الجسم كله أعراضا.
وقال جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا.
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا.
وقال ذو الرمة:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولين بالألباب ما تفعل الخمر.
ومما وصفت به العيون على لفظ التذكير، فمن ذلك قول عبد الله بن المعتز:
عليم بما تحت الصدور من الهوى ... سريع بكر اللحظ والقلب جازع.
ويجرح أحشائي بعين مريضة ... كما لان مس السيف والسيف قاطع.
وقال خالد:
عينه سفاكة المهج ... من دمي في أعظم الحرج.
أسهرتني وهي لاهية ... باحورار العين والدعج.
وقال الهمذاني:
تعمل الأجفان بالدعج ... عمل الصهباء بالمهج.
قل لظبي تسترق له ... مهج الأحرار بالدعج.
أنت والأجفان ما لحظت ... من فتور العين في حرج.
كيف أدعو الله أسأله ... فرجا ممن به فرجي؟
وقال خالد:
ومريض طرف ليس يصرف طرفه ... نحو امرئ، إلا رماه بحتفه.
قد قلت إذ أبصرته متمايلا، ... والردف يجذب خصره من خلفه:
يا من يسلم خصره من ردفه، ... سلم فؤاد محبه من طرفه!
وقال أبو هفان:
أخو دنف رمته فأقصدته ... سهام من جفونك لا تطيش.
قواتل لاقداح سوى احورار ... بهن، ولا سوى الأهداب ريش.
وقال أبو تمام:
يا سقم الجفن من حبيبي، ... ألبستني حلة السقام!
كم قتلت مقلتاك ظلما ... من عاشق القلب مستهام.
يا من بعينيه لي غرام ... قرب من مهجتي حمامي!
قد رويت من دمي، فحسبي ... صوائب النبل والسهام!
وقال العسكري:
فأرعى تحت حاشية الدياجي ... شقائق وجنة سقيت مداما.
إذا كرت لواحظ مقلتيه، ... حسبت قلوبنا مطرت سهاما.
وقال ابن المعلم:
سل من بعينيه يصول: ... أهي اللحاظ أم النصول؟
ما جردت يوم النوى، ... إلا لتختلس العقول!
شهرت عيونهم سيو ... فا، ما بمضربها فلول.
تصمي بغير جراحة، ... تفري بغير دم يسيل.
ولها بأفئدة الهوى ... فتك، وليس لها صليل.
وقال آخر:
روحي الفداء لمن أدار بلحظه ... صهباء في عقلي لها تأثير!
ومن العجائب أن يدير بلحظه ... مشمولة، وإناؤها مكسور!
وقال آخر:
القلب بك المسلوب والملسوب ... والصب بك المعتوب والمتعوب.
يا من طلبت لحاظه سفك دمي: ... مهلا، ضعف الطالب والمطلوب!
وقال أبو تمام:
متطلب بصدوده قتلي ... فرد المحاسن وجهه شغلي.
ألحاظه في الخلق مسرعة ... فيما تريد كسرعة النبل.
وقال آخر:
ألحاظكم تجرحنا في الحشا، ... ولحظنا يجرحكم في الخدود.
جرح بجرح، فاجعلوا ذا بذا! ... فما الذي أوجب هذا الصدود؟
وقال آخر:
ومقلة شادن أودت بقلبي، ... كأن السقم لي ولها لباس.
يسل اللحظ منها مشرفيا ... لقتلي، ثم يغمده النعاس.
وقال ابن الرومي:
يا عليلا، جعل الع ... لة مفتاحا لظلمي!
ليس في الأرض عليل ... غير جفنيك وجسمي.
بك سقم في جفون، ... سقمها أكد سقمي.
وقال تاج الدين بن أيوب:
أسقمني طرفك السقيم، وقد ... حكاه مني في سقمه الجسد!
هب نسيم من نحو أرضك لي ... فزادني في هواك ما أجد.
وهاج شوقي، والنار ما برحت ... عند هبوب الرياح تتقد.
وقال ابن المعتز:
ضعيفة أجفانه، ... والقلب منه حجر!
كأنما ألحاظه ... من فعله تعتذر.
وصف العيون على لفظ التأنيث
فمن ذلك ما قاله عدي بن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم.
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم؟
وقال الناجم:
كاد الغزال يكونها، ... لكنما هو دونها.
والنرجس الغض الجن ... ي أغض منه جفونها.
من كان يعرف فضلها ... فعن القياس يصونها.
وقال أبو دلف:
نقتنص الآساد من غيلها، ... وأعين العين لنا صائده!
ينبو الحسام العضب عنا وقد ... تكلم فينا النظرة القاصدة!
تهابنا الأسد، ونخشى المها: ... آبدة ما مثلها آبده!
وقال آخر:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر!
أمضى وأنفذ في القلو ... ب من الخناجر في الحناجر!
وقال آخر:
ينظرن من خلل السجوف كأنما ... يمطرن أحشاء الكريم نبالا!
وقال أبو فراس الحمداني عفا الله تعالى عنه ورحمه:
وبيض بألحاظ العيون كأنما ... هززن سيوفا أو سللن خناجرا.
تصدين لي يوما بمنعرج اللوى ... فغادرن قلبي بالتصبر غادرا.
سفرن بدورا، وانتقبن أهلة، ... ومسن غصونا، والتفتن جاذرا.
وأطلعن في الأجياد للدر أنجما ... جعلن لحبات القلوب ضرائرا.
وقال ابن الرومي:
نظرت، فأقصدت الفؤاد بطرفها، ... ثم انثنت عني، فكدت أهيم!
ويلاي! إن نظرت وإن هي أعرضت: ... وقع السهام ونزعهن أليم!
وقال أيضا:
لطرفها وهو مصروف كموقعه ... في القلب حين يروع القلب موقعه.
تصد بالطرف لا كالسهم تصرفه ... عني، ولكنه كالسهم تنزعه.
وقال الأرجاني:
نقبوهن خشية العشاق! ... أو لم تكف فتنة الأحداق؟
إن في الأعين المراض لشغلا ... للمعنى عن الخدود الرقاق!
كل ما فات في الليالي المواضي ... فهو في ذمة الليالي البواقي.
وقال أيضا:
سترن المحاسن إلا العيونا ... كما يشهد المعرك الدارعونا.
سللن سيوفا ولاقيننا! ... فلا تسأل اليوم ماذا لقينا.
كسرن الجفون ولولا الرضا، ... بحكم الغرام كسرنا الجفونا.
وحسب الشهيد سرورا بأن ... يعاين حورا مع القتل عينا.
وقال أبو نواس:
ضعيفة كر الطرف تحسب أنها ... قريبة عهد بالإفاقة من سقم.
وقال آخر:
يا من تكحل طرفها ... بالسحر لا بالإثمد!
نفسي كما عذبتها ... وقتلتها بالإثم، دي!
عرضن! فعرضن القلوب من الجوى ... لأسرع في كي القلوب من الجمر!
كأن الشفاه اللعس فيها خواتم ... من المسك، مختوم بهن على در.
وقال أيضا:
كالغصن في روضة تميس: ... تصبو إلى حسنها النفوس.
ما شهدت والنساء عرسا، ... فشك في أنها عروس!
تبسم عن باسم برود ... تعبق من طيبه الكؤوس.
يجمع فيه لمجتنيه: ... مسك، وورد، وخندريس.
وقال المتنبي:
ويبسمن عن در تقلدن مثله ... كأن التراقي وشحت بالمباسم.
وقال الصنوبري:
تلك الثنايا من عقدها نظمت، ... بل نظم العقد من ثناياها.
وقال البحتري:
ويرجع الليل مبيضا إذا ضحكت ... عن أبيض خصل السمطين وضاح.
وقال ابن الرومي:
كأني لم أبت أسقى رضابا: ... يموت به ويحيا المستهام!
تعللنيه واضحة الثنايا، ... كأن لقاءها حولا لمام.
تنفس كالشمول ضحى شمال ... إذا ما فض عن فمها الختام.
وقال النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا، أسف لثاته بالإثمد.
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه، وأسفله ندى.
وقال شقيق بن سليل:
وتبسم عن ألمى اللثات، مفلج: ... خليق الثنايا بالعذوبة والبرد.
وقال جميل:
بذي أشر كالأقحوان يرينه ... ندى الطل، إلا أنه هو أملح.
وقال السمهري:
كأن وميض البرق بيني وبينها، ... إذا حان من بعض البيوت، ابتسامها.
وقال آخر:
أحاذر في الظلماء أن تستشفني ... عيون العبارى في وميض المضاحك!
في السواك
قول بعض الشعراء:
أقول لمسواك الحبيب: لك الهنا، ... بلثم فم ما ناله ثغر عاشق!
فقال، وفي أحشائه حرق الجوى ... مقالة صب للديار مفارق:
تذكرت أوطاني فقلبي كما ترى، ... أعلله بين العذيب وبارق!
وقال آخر:
نقل الأراك بأن ريقة ثغره ... من قهوة، مزجت بماء الكوثر.
قد صح ما نقل الأراك لأنه ... قد جاء يروي عن " صحاح الجوهري " .
وقال آخر:
بالله، إن جزت بوادي الأراك ... وقبلت أغصانه اللدن فاك،
فانبعث إلى المملوك من بعضها ... فإنني والله مالي سواك!
الأسد
أقبل يتضالع من بغيه، ولصدره تحيط، ولبلاعيمه غطيط؛ ولطرفه وميض ولأرساغه نقيض؛ كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما؛ وإذا هامة كالمجن، وخد كالمسن؛ وعينان سجراوان، كأنهما سراجان؛ وقصرة ربله، ولهزمة رهله؛ وساعد مجدول وعضد مفتول؛ وكف شثنة البراثن، ومخالب كالمحاجن؛ وفم أشدق كالغار الأخرق؛ يفتر عن معاول مصقوله، غير مفلوله؛ فهجهجنا به ففرفر وبربر، ثم زأر فجرجر؛ ثم لحظ فخلت البرق يتطاير من جفونه، عن شماله ويمينه؛ فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل؛ وجحظت العيون، وساءت الظنون، ولحقت الظهور بالبطون.
ووصفه بعض الأعراب فقال: له عينان حمراوان مثل وهج الشرر، كأنما نقرتا بالمناقير في عرض حجر؛ لونه ورد، وزئيره رعد؛ هامته عظيمه، وجبهته شتيمه؛ نابه شديد؛ وشره عتيد؛ إذا استقبلته قلت: وإذا استدبرته قلت: أفرع؛ لا يهاب إذا الليل عسعس، ولا يجبن إذا الصبح تنفس؛ ثم أنشد:
عبوس شموس مصلخد مكابر ... جريء على الأقران للقرن قاهر
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضى في وجهه الشر طائر
يدل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق عنها خناجر
ومن التهويل في وصف الأسد قول الشاعر
إياك لا تستوش ليثا مخدرا! ... للهول في غشق الدجى دواسا
مرسا كأمراس القليب جدوله ... لا يستطيع له الأنام مراسا
شثن البراثن كالمحاجن عطفت ... اظفاره فتخالها أقواسا
لان الحديد لجلده فإهابه ... يكفيه من دون الحديد لباسا
مصطكة أرساغه بعظامه ... فكأن بين فصولها أجراسا
وإذا نظرت إلى وميض جفونه ... أبصرت بين شفورها مقباسا
وقال آخر:
توق وقاك رب الناس ليثاحديد الناب والأظفار وردا
كأن بملتقى اللحيين منه ... مذربة الأسنة أو أحدا
وتحسب لمح عينيه هدوءا ... ورجع زئيره برقا ورعدا
تهاب الأسد حين تراه منه ... إذا لاقينه في الغاب فردا
تصد عن الفرائس حين يبدو ... وكانت قبل تأنف أن تصدا
وقال أبو الطيب المتنبي - رحمه الله - :
ورد إذا ورد البحيرة واردا ... ورد الفرات زئيره والنيلا
متخصب بدم الفوارس لابس ... في غيله من لبديته غيلا
في وحده الرهبان إلا أنه ... لا يعرف التحريم والتحليلا
وقعت على الردن منه بلية ... نظمت بها هام الرفاق تلولا
يطأ البري مترفقا من تيهه ... فكأنه أس يجس عليلا
ويرد غفرته إلى يافوخه ... حتى تصير لرأسه إكليلا
فصرت مخافته الخطا فكأنما ... ركب الكمي جواده مشكولا
وقال عبد الجبار بن حمديس:
وليث مقيم في غياض منيعة ... أمير على الوحش المقيمة في القفر
يوسد شبليه لحوم فوارس ... ويقطع كاللص السبيل على السفر
هزبرله في فيه نار وشفرة ... فما يشتوي لحم القتيل على الجمر
سراجاه عيناه إذا أظلم الدجى ... فإن بات يسري باتت الوحش لا تسري
له جهة مثل المجن ومعطس ... كأن على أرجائه صبغة الحبر
يصلصل رعد من عظيم زئيره ... ويلمع برق من حماليقه الحمر
له ذنب مستنبط منه سوطه ... ترى الأرض منه وهي مضروبة الظهر
ويضرب جنبيه به فكأنما ... له فيهما طبل يحض على الكر
ويضحك في التعبيس فكيه عن مدي ... نيوب صلاب ليس تهتم بالفهر
يصول بكف عرض شبرين عرضها ... خناجرها أمضى من القضب البتر
يجرد منها كل ظفر كأنه ... هلال بدا للعين في أول الشهر
وقال بشر بن عوانة الفقعسي يصف ملاقاته الأسد وما كان بينهما:
أفاطم لو شهدت ببطن خبت ... وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا
إذا لرأيت ليثا رام ليثا ... هزبرا أغلبا لاقى هزبرا
تبنهس إذ تقاعس عنه مهرى ... محاذرة فقلت: عقرت مهرا
أنل قدمي ظهر الأرض إني ... وجدت الأرض أثبت منك ظهرا
وقلت له وقد أبدى نصالا ... مذربة ووجها مكفهرا
يدل بمخطب وبحد ناب ... وباللحظات تحسبهن جمرا
وفي يمناي ماضي الحد أبقى ... بمضربه قراع الموت أثرا
ألم يبلغك ما فعلت ظباه ... بكاظمة غداة لقيت عمرا
وقلبي مثل قلبك لست أخشى ... مصاولة ولست أخاف ذعرا
وأنت تروم للأشبال قوتا ... واطلب لابنة الأعمام مهرا
ففيم تروم مثلي أن يولى ... ويترك في يديك النفس قسرا؟!
نصحتك فالتمس يا ليث غيري ... طعاما إن لحمي كان مرا
ولما ظن أن الغش نصحي ... وخالفني كأني قلت هجرا
دنا ودنوت من أسدين راما ... مراما كان إذ طلباه وعرا
يكفكف غيلة إحدى يديه ... ويبسط للوثوب علي أخرى
هززت له الحسام فخلت أني ... شققت به من الظلماء فجرا
حساما لو رميت به المنايا ... لجاءت نحوه تعطيه عذرا
وجدت له بجائفة رآها ... بمن كذبته ما منته غدرا
بضربة فيصل تركته شفعا ... زكان كأنه الجلمود وترا
فخر مضرجا بدم كأني ... هدمت به بناء مشمخرا
وقلت له: يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقهرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك فلم أطق يا ليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا ... لعمري أبيك قد حاولت نكرا
فلا تبعد لقد لاقاك حر ... يحاذر أن يعاب فمت حرا
ووصف كشاجم النمر من طرديه فقال:
وكالح المغضب المهيج ... جهنم المحيا ظاهر النشيج
يكشر عن مثل مدي العلوج ... أو كشبا أسنة الوشج
مدبج الجلد بلا تدبيج ... كأنه من نمط منسوج
تريك فيه لمع التدريج ... كواكبا لم تك في بروج
ولم أقف في وصف النمر إلى غير ذلك فأذكره.
بن الأثير الجزري يصف فهذا بعد أن ذكر ظبيا، قال: فأرسلنا عليه فهذه سلس الضريبه، ميمون النقيبه، منتسبا إلى نجيب من الفهود ونجيبه؛ كأنما ينظر من جمره، ويسمع من صخره، ويطأ من كل برتن على شفره؛ وله إهاب قد جبل من ضدين: بياض وسواد، وصور على أشكال العيون فتطلعت إلى انتزاع الأرواح من الأجساد؛ وهو يبلغ المدى الأقصى في أدنى وثباته، ويسبق الفريسة ولا يقبضها إلا عند التفاته.
وقال أحمد بن زياد بن أبي كريمة يصفها بعد أن وصف الكاتب من أبيات:
بذلك أبغي الصيد طورا وتارة ... بمخطفة الأكفال رحب الترائب
مرققة الأذناب نمر ظهورها ... مخططة الأذان غلب الغوارب
مدنرة ورق كأن عيونها ... حواجل تستوعي متون الرواكب
إذا قلبتها في الحجاج حسبتها ... سنا ضرم في ظلمة الليل ثاقب
مولعة فطس الأنوف عوابس ... تخال على أشداقها خط كاتب
نواصب للآذان حتى كأنها ... مداهن، للإجراس من كل جانب
ذوات أشاف ركبت في أكفها ... نوافذ في صم الصخور نواشب
ذراب بلا ترهيف قين كانها ... تعقرب أصداغ الملاح الكواعب
فوارس ما لم تلق حربا، ورجلة ... إذا آنست بالبيد شهب الكتائب
ترو وتسكين يكون دريئة ... لهن بذي الأسراب في كل لاحب
تضاءل حتى ما تكاد تبينها ... عيون لدى الضبرات غير كواذب
حراص يفوت البرق أمكث جريها ... ضراء مبلات بطول التجارب
توسد أجياد الفرائس أذرعا ... مرملة تحكي عناق الحبائب
ولا صيد إلا بوثابة ... تطير على أربع كالعذب
ملمعة من نتاج الرياح ... تريك على الأرض شيئا عجب
تضم الطريد إلى نحرها ... كضم المحبة من لا يحب
إذا ما رآى عدوها خلفه ... تناجت ضمائره بالعطب
لها مجلس في مكان الرديف ... كتركية قد سبتها العرب
ومقلتها سائل كحلها ... وقد حليت سبحا من ذهب
متى أطلقت من قلاداتها ... وطار الغبار وجد الطلب
غدت وهي واثقة أنها ... تقوم بزاد الخميس اللجب
وقال محمد بن أحمد السراج يصفه:
وأهرت الشدق في فيه وفي يده ... ما في الصوارم والخطية الذبل
تساهم الليل فيه والنهار معا ... فقمصا بجلباب من المقل
والشمس مذ لقبوها بالغزالة لم ... تطلع لناظره إلا على وجل
وقال آخر:
وأهرت الشدق بادي السخط مطرح ال ... حياء جهم المحيا سيئ الخلق
والشمس مذ لقبوها بالغزالة أع ... طته الرشاء جدا من ثوبها اليقق
ونقطته حباء كي يسالمها ... على المنايا نعاج الرمل بالحدق
وقال آخر:
تغاير الليل فيه والنهار معا ... فحلياه بجلباب من الحدق
والشمس مذ لقبوها بالغزالة لم ... تطلع على وجهه من شدة الحنق
كلب عريق المناسب، نجيح المكاسب؛ حلو الشمائل، نجيب المخايل؛ حديد الناظرين، أغضف الأذنين، أسيل الخدين، مخطف الجنبين؛ عريض الزور، متين الظهر؛ أبي النفس، ملهب الشد؛ لا يمس الأرض إلا تحليلا وإيماء، ولا يطؤها إلا إشارة وإيحاء.
وقال بعض الشعراء:
أبعث كلبا يكسر اليحمورا ... مجربا مدربا صبورا
يأنف أن يشاكل الصفورا ... منفردا بصيده مغيرا
ذا شية تحسبها حريرا ... قد حبرت نقوشها تحبيرا
إذا جرى حسبته المقدورا ... يكاد للسرعة أن يطيرا
حتفا لما عن له مبيرا ... أعجز أن أرى له نظيرا
وقال أبو نواس:
هجنا بكلب طالما هجنا به ... ينتسف المقود من جذابه
كأن متينه لدى انسلابه ... متنا شجاع لج في انسيابه
كأنما الأظفور في قنابه ... موسى صناع رد في نصابه
تراه في الحضر إذت ها هي به ... يكاد أن يخرج من إهابة
ترى سوام الوحش إذ تحوى به ... يرحن أسرى ظفره ونابه
وقال أيضا:
كأن لحييه لدى افتراره ... شك مسامير على طواره
سمع إذا استروح لم تثماره ... إلا بأن يطلق من عذاره
فانصاع كالكوكب في انحداره ... لفت المشير موهنا بناره
شد إذا أخصف في إحضاره ... خرق أذنيه شبا أظفاره
وقال بعض الأندلسيين:
وأغضف تلقى أنفه فكأنما ... يقود به نور من الصبح أنور
إذا ألهبته شهوة الصيد طامعا ... رأيت عقيم الريح عنه تقصر
وقال أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة:
ومورس السربال يخلع قده ... عن نجم رجم في سماء غبار
يستن في سنن الطريق وقد عفا ... قدما فيقرأ أحرف الآثار
عطف الضمور سراته فكأنه ... والنقع يحجبه هلال سرار
كيفتر عن مثل المصال وإنما ... يمشي على مثل القنا الخطار
وقال آخر:
ومودب الآساد يمسك صيده ... متوقفا عن أكله كالصائم
صب إذا ما صاد عانق صيده ... طرب المقيم إلى لقاء القادم
وقال آخر:
وما الظبي منه في حشاشة نفسه ... ولكنه كالطفل في حجر أمه
يلازمه دون اخترام كأنما ... تعلق خصم عند قاض بخصمه
وقال ابن المرغري النصراني الأندلسي منشدا:
لم أر ملهى لذي اقتناص ... ومكسبا مقنع الحريص
كمثل خطلاء ذات جيد ... أتلع مصفرة القميص
كالقوس في شكلها ولكن ... تنفذ كالسهم للقتيص
لو أنها تستثير برقا ... لم يجد البرق من محيص
محبولة الظهر لم يخنه ... لحوق بطن به خميص
اتخذت أنفها دليلا ... قاد إلى الكانس العويص
وكلبة تاهت على الكلاب ... بجلدة صفراء كالزرياب
تنساب مثل الحية المنساب ... كأنها تنظر من شهاب
وقال أحمد بن زياد بن أبي كريمة يصف كلب صيد من قصيدة طويلة، أولها:
وغب غمان مزقت عن سمائه ... شأمية حصاء جون السحائب
مواجه طلق لم يردد جهامه ... تذاؤب أرواح الصبا والجنائب
بعثت وأثواب الدجى قد تقلصت ... بعزة مشهور من الصبح ثاقب
وقد لاح ناعي الليل حتى كأنه ... لساري الدجى في الفجر قنديل راهب
بها ليل لا يثنيهم عن عزيمة ... وإن كان جم الرشد لوم الأقارب
لتجتنب غضف كالقداح لطيفة ... مشرطة آذانها بالمخالب
تخال سياطا في صلاها منوطة ... طوال الهوادي كالقداح الشوازب
إذا افترشت خبتا أثارت بمتنه ... عجاجا وبالكذان نار الحباحب
تفوت خطاها الطرف سبقا كأنها ... سهام مغال أو رجوم الكواكب
طراد الهوادي لاحها كل شتوة ... بطامسه الأرجاء مرت المسارب
تكاد من الأحراج تنسل كلما ... رأت شبحا لولا اعتراض المناكب
تسوف وتوفي كل نشز وفدفد ... مرابض أبناء النفاق الأرانب
كأن بها ذعرا يطير قلوبها ... أنين المكاكي أو صرير الجنادب
تدير عيونا ركبت في براطل ... كجمر الغضى خرزا، ذراب الأنايب
إذا ما استحثت لم يجن طريدها ... لهن ضراء أو مجاري المذانب
وإن باصها صلتا مدى الطرق أمسكت ... عليه بدون الجهد سبل المذاهب
تكاد تفري الأهب عنها إذا انتحت ... لنبأة شخت الجرم عاري الرواجب
كأن غصون الخيزران متونها ... إذا هي جالت في طراد الثغالب
كواشر عن أنيابهن كوالح ... مذلقة الآذان شوس الحواجب
كأن بنات القفر حين تفرقت ... غدون عليها بالمنايا الشواعب
وقد وصف الشعراء الذئب بما ذكرناه من عادته وطبعه، فقال حميد بن ثور:
ونمت كنوم الذئب عن ذي حفيظة ... أكلت طعاما دونه وهو جائع
ترى طرفيه يعسلان كليهما ... كما اهتر عود النبعة المتتابع
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ... بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع
وقال إبراهيم بن خفاجة:
ولرب رواغ هنالك أنبط ... ذلق المسامع أطلس الأطمار
يجري على حذر فيجمع بسطه ... يهوي فيتعطف انعطاف سوار
والعرب تقول في أمثالها: " أحمق من جهيزة " قالوا: وجهيزة عرس الذئب، لأنها تدع ولدها وترضع ولد الضبع، وهو معنى قول ابن جدل الطعان:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها ولم ترقع بذلك مرقعا
وقول الآخر:
كانوا كتاركة بنيها جانبا ... سفها وغيرهم ترب وترضع
ويقولون: إن الضبع إذا قتلت أو صيدت فإن الذئب يأتي أولادها باللحم وأنشدوا قول الكميت:
كما خامرت في حضنها أم عامر ... لدى الحبل حتى عال أوس عيالها
أبو جعفر الببغاء:
قد بلونا الذكاء في كل ناب ... فوجدناه صنعة السنجاب
حركات تأبى السكون وألحا ... ظ حداد كالنار في الالتهاب
خف جدا على النفوس فلو شا ... ء ترامى مجاورا للتصابي
واشتهت قربه العيون إلى أن ... خلته عندها أخا للشباب
لابس جلدة إذا لاح خلن ... ه بها في مزرة من سحاب
لو غدا كل ذي ذكاء تطوقا ... رد في ساعة الخطاب جوابي
قال أبو الفرج الببغاء يصفه:
وأعفر المسك تلقاه فتحسبه ... من أدكن الحز مخبوء بخيفان
كأن أذنيه في حسن انتصابهما ... إذا هما انتصبا للحس زجان
يسري وينبعه من خلفه ذنب ... كأنه حين يبدو ثعلب ثاني
فلا يشك الذي بالبعد يبصره ... فردا بأنهما في الخلقة اثنان
وقال آخر:
جاؤوا بصيد عجب من العجب ... أزيرق العينين طوال الذنب
تبرق عيناه إلى ضوء الشهب
الما استودعته ديانتك، واستحفظته أمانتك؛ من كتبي التي هي أنفس ذخائري وأسراها، وأحقها بالصيانة وأحراها؛ وما كنت أرتضي فيها بالتغريب، لولا الترجي لمعاودة الطلب عن قريب؛ ولا شك أنها منك ببال، وبمكان تهمم واهتبال؛ لكن ربما طرقها من مردة الفئرة طارق، وعاث فيها كما يعيث الفاسق المارق؛ فينزل فيها قرضا، ويفسدها طولا وعرضا؛ إلا أن يطوف عليها هر نبيل، ينتمي من القطاط إلى أنجب قبيل؛ له رأس كجمع الكف، وأذنان قد قامتا على صف؛ ذواتا لطافة ودقه، وسباطة ورقه؛ يقيمهما عند التشوف، ويضجعهما عند التخوف؛ ومقلة مقتطعة من الزجاج المجزع، وكأن ناظرها من العيون البابلية منتزع؛ قد استطال الشعر حول أشداقه، وفوق أماقه؛ كابر مغروزة على العيون، كما أحكمت برد أطرافها القيون؛ له ناب كحد المطرد، ولسان كظهر المبرد؛ وأنف أخنس وعنق أوقص، وخلق سوي غير منتقص، أهرت الشدقين، موشى الساعدين والساقين ململم اليدين والرجلين؛ يرجل بها وبره ترجيل ذوي الهمم، لما شعث من اللمم؛ فينفض ما لصق به من الغبار، وعلق من الأوبار، ثم يجلوه بلسانه جلاء الصقيل للحسام، والحمام للأجسام؛ فينفي قذاه، ويواري أذاه؛ ويقعي إقعاء الأسد إذا جلس، ويثب وثبة النمر إذا اختلس؛ له ظهر شديد، وذنب مديد؛ يهزه هز السمهري المثقف، وتارة يلونه لي الصولج المعقف؛ يجول في الخشب والأرائك، كما تجول في الكسايد حائك؛ يكب على الماء حين يلغه، ويدني منه فاه ولا يبلغه؛ ويتخذ من لسانه رشاء ودلوا، ويعلم به إن كان الماء ملحا أو حلوا؛ فتسمع للماء خضخضة من قرعه، وترى للسان نضنضة من حرعه؛ يحمي داره حماية النقيب، ويحترسها حراسة الرقيب؛ فإن رأى فيها كلبا، صار عليه إلبا؛ وصعر خده وعظم قده حتى يصير نده؛ أنفة من جنانه أن يطرق، وغيرة على حجابه أن يخرق؛ وإن رأى فيها هرا، وجف إليه مكفهرا؛ فدافعه بالساعد الأشد، ونازعه منازعة الخصم الألد؛ فإذا أطال مفاوضته، وأدام مراوضته؛ أبرز برثنه لمبادرته، وجوشنه لمصادرته؛ ثم تسلل إليه لواذا، واستحوذ عليه استحواذا؛ وشد عليه شده، وضمه من غير موده؛ فأنسل وبره إنسالا، وأرسل دمه إرسالا؛ بأنياب عصل، أمضى من نصل، ومخلب كمنقار الصخر، درب بالاقتناص والعقر؛ فيصير قرنه ممزق الإهاب، مستبصرا في الذهاب، قد أفلت من بين أظفار وأنياب، ورضي من الغنيمة بالإياب؛ هذا وهو يخاتله دون جنه، ويقاتله بلا سيوف ولا أسنة؛ وإنما جنته، منته؛ وشفاره، أظفاره؛ وسنانه، أسنانه؛ إذا سمعت الفئرة منه مغاء، لم تستطع له إصغاء؛ وتصدعت قلوبها من الحدر، وتفرقت جموعها شذر مذر؛ تهجع العيون وهو ساهر، وتستر الشخوص وهو ظاهر؛ يسري من عينيه بنيرين وضاحين، تخالهما في الظلام مصباحين؛ يسوف الأركان، ويطوف بكل مكان؛ ويحكي في ضجعته تحنيا، وقضيب الخيزران تثنيا؛ ثم يغط إذا نام، ويتمطى إذا قام؛ ولا يكون بالنار مستدفئا، ولا للقدر مكفئا؛ ولا في الرماد مضطجعا، ولا للجار منتجعا؛ بل يدبر بكيده، وينتصر على صيده؛ قد تمرن على قتل الخشاش، وافترس الطير في المسارح والأعشاش؛ يستقبل الرياح بشمه، ويجعل الاستدلال أكبر همه؛ ثم يكمن للفأر حيث يسمع لها خبيثا، أو يلمح من شيطانها دبيبا؛ فيلصق بالأرض، وينطوي بعضه في بعض، حتى يستوى منه الطول والعرض؛ فإذا تشوفت الفأرة من جحرها، وأشرفت بصدرها ونحرها؛ دب إليها دبيب الصل وامتد إليها امتداد الظل؛ ثم وثب في الحين عليها وجلب الحين إليها؛ فأثخنها جراحا، ولم يعطها براحا؛ فصاحت من شدة أسره، وقوة كسره؛ وكلما كانت صيحتها أمد، كانت قبضته عليها أشد، حتى يستأصل أوداجها فريا، وعظامها بريا، ثم يدعها مخرجة الدماء، مضرجة بالدماء؛ وإن كان جرذا مسنا، لم يضع عليه سنا؛ وإن كان درصا صغيرا فغر عليه فاه، وقبض مترفقا على قفاه؛ ليزداد منه تشهيا وبه تلهيا؛ ثم تلاعب به تلاعب الفرسا
ببالأعنة، والأبطال بالأسنة؛ فإذا أوجعه عضا، وأوعبه رضا؛ أجهز في الفور عليه، وعمد بالأكل إليه؛ فازدرد منه أطيب طعمه، واعتده أهنأ نعمه؛ ثم أظهر بالالتعاق شكره، وأعمل في غيره فكره؛ فرجع إلى حيث أثاره؛ ويتبع فيه آثاره راجيا أن يجد في رباعه، ثانيا من أتباعه، فيلحقه بصاحبه في الردى، حتى يفنى جميع العدي؛ وربما انحرف عن هذه العوائد، والتقط فتات الموائد، بلاغا في الاحتماء، وبرا بالنعماء، فماله على خصاله ثمن، ولا جاء بمثاله زمن؛ وقد أوردت - أعزك الله - من وصفه فصلا مغربا، وهزلا مطربا؛ إخلاصا من الطوية واسترسالا، وتسريحا للسجية وإرسالا، على أني لو استعرت في وصفه لسان أبي عبيد، وأظهرت في نعته بيان أبي زبيد؛ ما انتهيت في النطق إلى خطابك، ولا احتويت في السبق على أقصابك
وقال ابن طباطبا يصف هرة بلقاء:
فتنتني بظلمة وضياء ... إذ تبدت بالعاج والآبنوس
تتلقى الظلام من مقلتيها ... بشعاع يحكي شعاع الشموس
ذات دل قصيرة كلما قا ... مت تهادت، طويلة في الجلوس
لم تزل تسبغ الوضوء وتنفي ... كل عضو لها من التنحيس
دأبها ساعة الطهارة دفن ال ... عنبر الرطب في الحنوط اليبيس
وقال أبو بكر الصنوبري من أبيات - وذكر الجرذان - :
ذاد همي بهن أورق ترك ... ي السبالين أنمر الجلباب
ليث غاب خلقا وخلقل فمن عا ... ينه قال: إنه ليث غاب
قنفذ في ازبراره وهو ذئب ... في اغترار وحية في انسياب
ناصب طرقه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينتصي الظفر حين يظفر في الحر ... ب وإلا فظفره في قراب
يسحب الصيد في أقل من اللم ... ح ولو كان صيده في السحاب
ومنها:
قرطوه وقلدوه وعالو ... ه أخيرا وأولا بالخضاب
فهو طورا يبدو بنحر عروس ... وهو طورا يمشي على عناب
حبذا ذاك صاحبا فهو في الصح ... بة أو في سائر الأحباب
وقال أبو بكر بن العلاف يرثي هرا - ، وقد قيل: إنما رثى بها ابنه، لأنه تعرض إلى حريم بعض الأكابر فاغتالوه، وقتلوه؛ وقيل: بل رثى بها عبد الله بن المعتز، وورى بهر خوفا من المقتدر بالله، فقال:
يا هر فارقتنا ولم تعد ... وكنت منا بمنزل الولد
وكيف ننفك عن هواك وقد ... كنت لنا عدة من العدد
تمنع عنا الأذى وتحرسنا ... بالغيب من خنفس ومن جرد
وتخرج الفأر من مكامنها ... ما بين مفتوحها إلى السدد
يلقاك في البيت منهم عدد ... وأنت تلقاهم بلا عدد
وكان يجري ولا سداد لهمأمرك في بيتنا على سدد
حتى اعتقدت الأذى لجيرتنا ... ولم تكن للأذى بمعتقد
وحمت حول الردى بظلمهم ... ومن يحم حول حوضه يرد
وكان قلبي عليك مرتعدا ... وأنت تنساب غير مرتعد
تدخل برج الحمام متئدا ... وتخرج الفرخ غبر متئد
وتطرح الريش في الطريق لهم ... وتبلع اللحم بلع مزدرد
أطعمك الغي لحمها فرأى ... فتلك أربابها من الرشد
كادوك دهرا فما وقعت وكم ... أفلت من كيدهم ولم تكد
حتى إذا خاتلوك واجتهدوا ... وساعد النفس كيد مجتهد
صادوك غيظا عليك وانتقموا ... منك وزادوا ومن يصد يصد
ثم شفوا بالحديد أنفسهم ... منك ولم يربعوا على أحد
لم يرحموا صوتك الضعيف كما ... لم ترث منها لصوتها الغرد
فحين كاشفت وانتهكت وجا ... هرت وأسرفت غير مقتصد
أذاقك الموت من أذاق كما ... أذقت أطياره يدا بيد
كأنهم يقتلون طاغية ... كان لطاغوته من العبد
فلو أكبوا على القرامط أو ... مالوا على زكرويه لم يزد
يا من لذيذ الفراخ أوقعه ... ويحك هلا قنعت بالقدد
ما كان أغناك عن تسورك ال ... برج ولو كان جنة الخلد
لا بارك الله في الطعام إذا ... كان هلاك النفوس في المعد
كم أكلة داخلت حشا شره ... فأخرجت روحه من الجسد
أردت أن تأكل الفراخ ولا ... يأكلك الدهر أكل مضطهد
هذا بعيد من القياس وما ... أعزه في الدنو والبعد
ولم تكن لي بمن دهاك يد ... تقوى على دفعه يد الأبد
ولا تبين حشو جلدك عن ... د الذبح من طاقة ومن جلد
كأن حبلا حوى بحوزته جيداك للذبح كان من مسد
كأن عيني تراك مضطربا ... فيه وفي فيك رغوة الزبد
وقد طلبت الخلاص منه فلم ... تقدر على حيلة ولم تجد
فجدت بالنفس والبخيل بها ... كنت ومن لم يجد بها يجد
عشت حريصا يقوده طمع ... ومت ذا قاتل بلا قود
فما سمعنا بمثل موتك إذ ... مت ولا مثل عيشك النكد
عشنا بخير وكنت تكلؤنا ... ومات جيراننا من الحسد
ثم تقلبت في فراخهم ... وانقلب الحاسدون بالكمد
قد انفردنا بمأتم ولهم ... بعدك بالعرس أي منفرد
قد كنت في نعمة وفي سعة ... من المليك المهيمن الصمد
تأكل من فأر بيتنا رغدا ... وأين بالشاكرين للرغد
قد كنت بددت شملهم زمنأ ... فاجتمعوا بعد ذلك البدد
وفتتوا الخبز في السلال فكم ... تفتتت للعيال من كبد
فلو يبقوا لنا على سبد ... في جوف أبياتنا ولا لبد
وفرغوا قعرها وما تركوا ... ما علقته يد على وتد
ومزقوا من ثيابنا جددا ... فكلنا في مصائب جدد
فاذهب من البيت خير مفتقد ... واذهب من البرج شر مفتقد
ألم تخف وثبة الزمان وقد ... وثبت في البرج وثبة الأسد؟
أخنى على الدار فيه بالأمس ... ومن قبلها على لبد
ولم يدع في عراضها أحدا ... ما بين علياشها إلى السند
عاقبة البغي لا تنام وإن ... تأخرت مدة من المدد
من لم يمت يومه غده ... أو لا يمت في غد فبعد غد
والحمد لله لا شريك له ... فكل شيء يرى إلى أمد
وفيه أيضا:
يا هر بعث الحق بالباطل ... وصرت لا تصغي إلى عاذل
إذا أتيت البرج من خارج ... طارت قلوب الطير من داخل
علما بما تصنع في برجها ... فهي على خوف من الفاعل
قد كنت لا تغفل عن أكلها ... ولم يكن ربك بالغافل
فانظر إلى ما صنعت بعد ذا ... عقوبة المأكول بالآكل
ما زلت يا مسكين مستقتلا ... حتى لقد منيت للقاتل
قد كنت للرحمة مستأهلا ... إذ لم أكن منك بمستأهل
وقال أيضا:
يا رب بيت ربه ... فيه تضايق مستقره
لما تكاثر فأره ... وجفاه بعد الوصل هره
وسعى إلى برج امرئ ... فيه الفراخ كما يسره
ظن المنافع أكلها ... فإذا منافعها تضره
وصف الفيل نظما
من ذلك ما قاله الأرجاني من أيبات وصف فيها مجلس ممدوحه، فقال:
والفيل في ذيل السماط له ... زجل يهال له الفتى ذعرا
في موقف الحجاب يؤمر أو ... ينهى فيمضي النهي والأمرا
أذنان كالترسين تحتهما ... نابان كالرمحين إن كرا
يعلو له فياله ظهرا ... فيظل مثل من اعتلى قصرا
وقال عبد الكريم النهشلي يصفه:
وأضخم هندي النجار تعده ... ملوك بني ساسان إن نابها دهر
يجيء كطود جائل فوق أربع ... مضبرة لمت كما لمت الصخر
له فخذان كالكثيبين لبدا ... وصدر كما أوفى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كراووق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر
وجبان لا يروي القليب صداهما ... ولو أنه بالقاع منهرت حفر
وأذن كنصف البرد تسمعه الندا ... خفيا وطرف ينفض العيب مزور
ونابان شقا لا يريد سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما بتر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو صوت الصقر
وله ابن طباطبا:
أعجب بفيل آنس وحشي ... بهيمة في فطنة الإنسي
يفهم عن سائسه الهندي ... غيب معاني رمزه الخفي
مثل السدى الموثق المبني ... منزه في خلقه السوي
عن لين مشي ركب المطي ... ذي ذنب مطول ثوري
في مثل ردف الجمل البختي ... منخفض الصوت طويل العي
يطوف كالمزدجر المنهي ... يرنو بطرف منه شادني
في قبح وجه منه خنزيري ... خرطومه كجعبة التركي
حكى فما من سمك بحري ... تبصره في فيه ذا هوي
كالدلو إذ تهوى إلى القري ... يصب في مصهرج مطوي
ناباه في هولهما المخشي ... كمثل قرني ناطح طوري
أذناه في صبغهما الفضي ... كطيلساني ولدي ذمي
سائسه عليه ذو رقي ... منتصب منه على كرسي
يطيعه في أمره المأبي ... كطاعة القرقور للنوتي
وقال آخر منشدا:
من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يحمله محمول
على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول
وقال ابن الرومي:
يقلب جثمانا عظيما موثقا ... يهد بركنيه الجبال إذا زحم
ويسطو بخرطوم يطاوع أمره ... ومشتبهات ما أصاب بها غنم
ولست ترى بأسا يقوم لبأسه ... إذا أعمل النابين في البأس أو صدم
وقال هارون بن موسى مولى الأزد يصفه ويذكر خوفه من الهر:
أليس عجيبا بأن خلقة ... لها فطن الإنس في حرم فيل
وأظرف من مشيه زوله ... بحلم يجل عن الخنشليل
وأوقص مختلف خلقه ... طويل النيوب قصير النصيل
ويلقى العدو بناب عظيم ... وجوف رحيب وصوت ضئيل
وأشبه شيء إذا قسته ... بخنزير بر وجاموس غيل
ينازعه كل ذي أربع ... فما في الأنام له من عديل
ويعصف بالببر بعد النمور ... كما تعصف الريح بالعندبيل
وشخص ترى يده أنفه ... فإن وصفوه فسيف صقيل
وأقبل كالطود هادي الخميس ... بهول شديد أمام الرعيل
ومر يسيل كسيل الآتي ... بوطء خفيف وجسم ثقيل
فإن شمته زاد في هوله ... بشاعة أذنين في رأس غول
وقد كنت أعددت هرا له ... قليل التهيب للزندبيل
فلما أحس به في العجاج ... أتانا الإله بفتح جليل
فسبحان خالقه وحده ... إله الأنام ورب الفيول
وقال أبو الحسن الجوهري يضف الفيل من قصيدته التي أولها:
قل للوزير وقد تبدى ... يستعرض الكرم المعدا
أفنيت أسباب العلا ... حتى أبت أن تستجدا
لو مس راحتك السحا ... ب لأمطرت كرما ومجدا
لم ترض بالخيل التي ... شدت إلى العلياء شدا
وصرائم الرأي التي ... كانت على الأعداء جندا
حتى دعوت إلى العدى ... ما لا يلام إذا تعدى
متقمصا تيه العلو ... ج وفطنة أعيت معدا
متعسفا طرق العوا ... لي حين لا يستاق قصدا
فيلا كرضوى حين يل ... بس من رقاق الغيم بردا
مثل الغمامة ملئت ... أكنافها برقا ورعدا
رأس كقلة شاهق ... كسيت من الخيلاء جلدا
فتراه من فرط الدلا ... ل مصعرا في الناس خدا
يزهى بخرطوم كمث ... ل الصولجان يرد ردا
متمدد كالأفعوا ... ن تمده الرمضاء مدا
أو كم راقصة تش ... ربه إلى الندمان وجدا
أو كالمصلب شد جن ... باه إلى جذعين شدا
وكأنه بوق يحر ... كه لينفخ فيه جدا
يسطو بساريتي لجي ... ن يحطمان الصخر هدا
أذناه مروحتان أسند ... تا إلى الفودين عقدا
عيناه غائرتان ضي ... قتا لجمع الضوء عمدا
فك كفوهة الخلي ... ج يلوك طول الدهر حقدا
تلقاه من بعد فتح ... سبه غماما قد تبدى
متنا كبنيان الخور ... نق ما يلاقي الدهر كدا
ردفا كدكة عنبر ... متمايل الأوراك نهدا
ذنبا كمثل السوط يض ... رب حوله ساقا وزندا
يخطو على أمثال أع ... مدة الخباء إذا تصدى
أو مثل أميال نضد ... ن من الصخور الصم نضدا
متورد حوض المن ... ية حين لا يشتاق وردا
متملق فكأنه ... متطلب ما لن يودا
متلفع بالكبريا ... ء كأنه ملك مفدى
أدنى إلى الشيء البعي ... د يراد من وهم وأهدى
أذكى من الإنسان حتى ل ... و رأى خللا لسدا
لو أنه ذو لهجة ... وفى كتاب الله سردا
عقته أرض الهند حت ... ى حل من زهو هرندا
قل للوزير: عبدت حت ... ى قد أتاك الفيل عبدا
سبحان من جمع المحا ... سن عنده قربا وبعدا
الكركدن
وصف الزرافة
وقد وصفها الشعراء وشبهوها في أشعارهم، فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن حمديس الصقلي:
ونوبية في الخلق فيها خلائق ... متى ما ترق العين فيها تسفل
إذا ما اسمها ألقاه في السمع ذاكر ... رأى الطرف منها ما عناه بمقول
لها فخذا وأظلاف فرهب ... وناظرتا رثم وهامة إيل
كأن الخطوط البيض والصفرا أشبهت ... على جسمها ترصيع عاج بصندل
ودائمة الإقعاء في أصل خلقها ... إذا قابلت أدبارها مقبل
تلفت أحيانا بعين كحيلة ... وجيد على طول اللواء المظلل
وتنفض رأسا في الزمام كأنما ... تريك له في الجو نفضة أجدل
إذا طلع النطح استجادت نطاحه ... رأس له هاد على السحب معتلي
وعرف رقيق الشعر تحسب نبته ... إذا الريح هزته ذوائب سنبل
وتحسبها من مشيها إن تبخترت ... توف إلى بعل عروسا وتنجلي
فكم منشد قول القيس عندها ... أفاطم مهلا بعض التدلل
وقال عمارة اليمني - وقد وصف تصاوير دار منها زرافة - :
وبها زرافات كأن رقابها ... في الطول ألوية تؤم العسكرا
نوبية المنشا تريك من المها ... روقا ومن بزل المهاري مشفرا
جبلت على الإقعاء من إعجابها ... فتخالها للتيه تمشي القهقرى
وقال أبو علي بن رشيق منشدا:
ومجنونة أبدا لم تكن ... مذللة الظهر للراكب
قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السنام بلا غارب
ملمعة مثلما لمعت ... بحناء وشى يد الكاعب
كأن الجواري كنفنها ... تخلج من كل ما جانب
وقال أيضا:
وأتتك من كسب الملوك زرافة ... شتى الصفات للونها أثناء
جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... في خلقها وتنافت الأعضاء
تحتثها بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء
وتمد جيدا في الهواء يزينها ... فكأنه تحت اللواء لواء
حطت كآخرها وأشرف صدرها ... حتى كأن وقوفها أقعاء
وكأن فهر الطيب ما رجمت به ... وجه الثرى لو لمت الأجزاء
وتخيرت دون الملابس حلة ... عيت بصنعة مثلها صنعاء
لونا كلون الذبل إلا أنه ... حلى وجزع بعضه الجلاء
أو كالسحاب المكفهرة خططت ... فيها البروق وميضها إيماء
أو مثلما صدئت صفائح جوشن ... وجرى على حافاتهن جلاء
نعم التجافيف التي قد درعت ... من جلدها لو كان فيه وقاء
وقال محمد بن شرف القيرواني:
غريبة أشكال غريبة دار ... لها لون فضة ونضار
فلون لها لون البياض وصفرة ... كما مزجت بالماء كأس عقار
وآخر ما بين اسوداد وحمرة ... كما احمر مسود الدخان بنار
أعيرت شخوصا وهي في شخص واحد ... يحير في نشز لها وقفار
تقوم على ما بين ظلف وحافر ... له جسم جلمود وصبغة قار
وأربعة تحكي سبائك عسجد ... تطير بها في الأرض كل مطار
لها عنق قد خالط الجو تحته ... طوال لها تخطو أمام قصار
وذات قرى وعر الركوب وإنما ... أجلت بذا عن ذلة وصغار
لها عجبة التياه عجبا بنفسها ... ولكن ذاك العجب تحت وقار
وصف المها
فمن ذلك ما قاله كاتب أندلسي من رسالة طردية، جاء منها: وعن لنا سرب نعاج يمشين وهوا كمشي العذارى، ويتثنين زهوا تثني السكارى؛ كأنما تجلل بالكافور جلودها، وتضمخ بالمسك قوائمها وخدودها؛ وكأنما لبسن الدمقس سربالا، واتخذن السندس سروالا.
من كل مهضمة الحشا وحشية ... تحمي مداريها دماء جلودهاتسربل
وكأنما أقلام حبر كتبت ... بمداد عينيها طروس خدودها
فأرسلنا أولي الخيل على أخراها، وخليناها وإياها؛ فمضت مضي السهام، وهوت هوي السمام؛ فجالت في أسرابها يمينا وشمالا؛ فكأنما أهدت لآجالها آجالا؛ فمن متق بروقه، وكاب أتاه حتفه من فوقه.
وقال الأخطل يصف ثورا:
فما به غير موشي أكارعه ... إذا أحس بشخص ماثل مثلا
كأن عطارة باتت تطيف به ... حتى تسربل ماء الورس وانتعلا
كأنه ساجد من نضج ديمته ... مقدس قام تحت الليل فابتهلا
ينفي التراب بروقيه وكلكله ... كما استماز رئيس المقنب النفلا
وقال عدي بن الرقاع يصف ثورين يعدوان:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... بيضاء محكمة هما نسجاها
تطوى إذا وردا مكانا جاسيا ... وإذا السنابك أسهلت نشراها
وقال الطرماح يصف عدوه بسرعة:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
ما وصف به الوعل
وقد وصفه الشعراء، فمن ذلك ما قاله الصاحب بن عباد:
وأعين كالذرى في سفلاته ... سواد وأعلى ظاهر اللون واضح
موقف أنصاف اليدين كأنه ... إذا راح يجري بالصريمة رامح
وقال أبو الطيب المتنبي:
وأوفت الفدر من الوعال ... مرتديات بقسي الضال
نواخس الطراف للكفال ... يكدن ينفذن من الطال
لحى سود بلا سبال ... يصلحن ضحاك الإجلال
كل أثيث نبته متفال ... لم يغذ بالمسك ولا الغوالي
يرضى من الأدهان بالأبوال
الغزال
قال ذو الرمة - وذكر محبوبته - :
ذكرتك أن مرت بنا أم شادن ... أمام المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة ... شعاع الضحى في متنها يتوضح
هي الشبه أعطافا وجيدا ومقلة ... ومية أبهى بعد منها وأملح
وقال آخر:
وحالية بالحسن والجيد عاطل ... ومكحولة العينين لم تكتحل قط
على رأسها من قرنها الجعد وفرة ... وفي خدها من صدغها شاهد سبط
وقد أدمجت بالشحم حتى كأنما ... ملاءتها من فرط ما اندمجت قمط
الأرنب
تنجدانه
وصفت به النعامة
وقد وصفها إبراهيم بن خفاجة الأندلسي فقال:
ولرب طيار خفيف قد جرى ... فشلا بجار خلفه طيار
من كل فاجرة الخطا مختالة ... مشي القناة تجر فضل إزار
مخضوبة المنقار تحسب أنها ... كرعت على ظمأ بكأس عقار
لا تستقر بها الأداحي خشية ... من ليل ويل أو نهار بوار
وقال الحماني:
قد ألبس الليل حتى يتثنى خلقا ... وأركب الهول بالغر الغرانيق
وأنتحي لنعام الدو ملهبة ... كأنها بعض أحجار المجانيق
تسدي الرياح بها ثوبا وتلحمه ... كما تلبس من نسج الخداريق
كأنما ريشها والريح تقرفه ... أسمال راهبة شيبت بتشقيق
كأنها حين مدت رؤوسها فرقا ... سود الرجل تعادى بالمزاريق
كأن أعناقها وهنا إذا خفقت ... بها البلاقع أدقال الزواريق
فما استلذ بلحظ العين ناظرها ... حتى تغصص أعلاهن بالريق
وأقب نهد للصواهل شطره ... يوم الفخار وشطره للشحج
خرق يتيه على أبيه ويدعي ... عصبية لبني الضبيب وأعوج
مثل المذرع جاء بين عمومة ... في غافق وخؤولة للخزرج
وقال أبو الفرج الوأواء من قصيدة يشكر بعض أصحابه وقد أهدى له بغلة:
قد جاءت البغلة السفواء يجنبها ... للبرق غيث بدا ينهل ماطره
عريقة ناسبت أخوالها فلها ... بالعتق من أكرم الجنسين فاخره
ملء الحزام وملء العين مسفرة ... يريك غائبها في الحسن حاضره
أهدى لها الروض من أوصافه شية ... خضراء ناضرة إن زال ناضره
ليست بأول حملان شريت به ... حمدي ولا هي ياذا الجود آخره
كم قد تقدمها من سابح بيدي ... عنانه وعلى الجوزا حوافره
وقال أبو المكارم بن عبد السلام:
كأنها النار في الحلفاء إن ركضت ... كأنها السيل إن وافتك من جبل
كأنها الأرض إن قامت لمعتلف ... كأنها الريح إن مرت على القلل
ما يعرف الفكر منها منتهى حضر ... ما صور الوهم فيها وصمة الكسل
إذا اقتعدت مطاها وهي ماشية ... ثهلان تبصره في زي منتقل
هذا ما اتفق إيراده من صفات البغال التي تقتضي المدح.
فأما ما جاء في ذمها فالمثل المضروب في بغلة أبي دلامة. وقال أبو دلامة في بغلته:
أبعد الخيل أركبها ورادا ... وشقرا في الرعيل إلى القتال
رزقت بغيلة فيها وكال ... وخير خصالها فرط الوكال
رأيت عيوبها كثرت وعالت ... ولو أفنيت مجتهدا مقالي
تقوم فما تريم إذا استحثت ... وترمح باليمين وبالشمال
رياضة جاهل وعليج سوء ... من الأكراد أحبن ذي سعال
شتيم الوجه هلباج هدان ... نعوس يوم حل وارتحال
فأدبها بأخلاق سماج ... جزاه الله شرا عن عيالي
فلما هدني ونفى رقادي ... وطال لذاك همي واشتغالي
أتيت بها الكناسة مستغيثا ... أفكر دائبا كيف احتيالي
بعدة سلعة ردت قديما ... أطم بها على الداء العضال
فبينما فكرتي في القوم تسدي ... إذا ما سمت أرخص أم أغالي
أتاني خائب حمق شقي ... قديم في الخسارة والضلال
وراوغني لخلو بي خداعا ... ولا يدري الشقي بمن يخالي
فقلت بأربعين فقال أحسن ... فإن البيع مرتخص وغالي
فلما ابتاعها مني وبتت ... له في البيع غير المستقال
أخذت بثوبه وبرئت مما ... أعد عليك من شنيع الخصال
برئت إليك من مشش قديم ... ومن جرد وتخريق الجلال
ومن فرط الحران ومن جماح ... ومن ضعف الأسافل والأعالي
ومن عقر اللسان ومن بياض ... بناظرها ومن حل الحبال
وعقال يلازمها شديد ... ومن هدم المعالف والركال
تقطع جلدها جربا وحكا ... إذا هزلت وفي غير الهزال
ومن شد العضاض ومن شباب ... إذا ما هم صحبك بالرقال
وأقطف من دبيب الذر مشيا ... وتنحط من متابعة السعال
وتكسر سرجها أبدا شماسا ... وتسقط في الوحول وفي الرمال
ويهزلها الجمام إذا خصبنا ... ويدبر ظهرها مس الجلال
تظل لركبة منها وقيدا ... يخاف عليك من ورم الطحال
وتضرط أربعين إذا وقفنا ... على أهل المجالس للسؤال
فتخرس منطقي وتحول بيني ... وبين كلامهم مما توالي
وقد أعيت سياستها المكاري ... وبيطارا يعقل بالشكال
حرون حين تركبها لحضر ... جموح حين تعزم للنزال
وذئب حين تدنيها لسرج ... وليث عند خشخشة المخالي
وفيل إن أردت بها بكورا ... خذول عند حاجات الرجال
وألف عصا وسوط أصبحي ... ألذ لها من الشرب الزلال
وتصعق من صياح الديك شهرا ... وتذعر للصفير وللخيال
إذا استعجلتها راثت وبالت ... وقامت ساعة عند المبال
ومثفار تقدم كل سرج ... تصير دفتيه على القذال
وتحفى في الوقوف إذا أقمنا ... كما تحفى البغال من الكلال
ولو جمعت من هنا وهنا ... من الأتبان أمثال الجبال
فإنك لست عالفها ثلاثا ... وعندك منه عود للخلال
وكانت قارحا أيام كسرى ... وتذكر تبعا قبل الفصال
وقد قرحت ولقمان فطيم ... وذو الأكتاف في الحجج الخوالي
وقد أبلى بها قرن وقرن ... وآخر يومها لهلاك مالي
فأبدلني بها يا رب بغلا ... يزين جمال مركبه جمالي
كريم حين ينسب والداه ... إلى كرم المناسب في البغال
وقال اقاضي بهاء الدين زهير الكاتب:
لك يا صديقي بغلة ... ليست تساوي خردله
مقدار خطوتها الطوي ... لة حين تسرع أنمله
وتخال مدبرة إذا ... ما أقبلت مستعجله
تمشي فتحسبها العيو ... ن على الطريق مشكله
تهتز وهي مكانها ... فكأنما هي زلزله
المدح والذم في وصفها
قال أبو العيناء لبعض سماسرة الحمير: اشتر لي حمارا لا بالطويل اللاحق، ولا بالقصير اللاصق؛ إن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق؛ لا يصادم بي السواري، ولا يدخل تحت البواري؛ إن كثرت علفه شكر، وإن قللته صبر؛ وإن ركبته هام، وإن ركبه غيري قام. فقال به السمسار: إن مسخ الله بعض قضاتنا حمارا أصبت حاجتك، وإلا فليست موجودة.
للفضل الرقاشي: إنك لتؤثر الحمير على جميع الدواب؛ قال: لأنها أرفق وأوفق؛ قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها لا تستبدل بالمكان، على طول الزمان؛ ثم قال: هي أقل داء، وأيسر دواء، وأخفض مهوى، وأسلم صرعا؛ وأقل جماحا، وأشهر فرها، وأقل بطرا؛ يزهى راكبه وقد بواضع بركوبه؛ ويعد مقتصدا وقد أسرف في ثمنه.
وقال احمد بن طاهر يصف حمارا:
شية كأن الشمس فيها أشرقت ... وأضاء فيها البدر عند تمامه
وكأنه من تحت راكبه إذا ... ما لاح، برق لاح تحت غمامه
ظهر كجري الماء لين ركوبه ... في حالتي إتعابه وجمامه
سفهت يداه على الثرى فتلاعبت ... في جريه بسهوله وإكامه
عن حافر كالصخر إلا أنه ... أقوى وأصلب منه في استحكامه
ما الخيزران إذا انثنت أعطافه ... في لين معطفه ولين عظامه
عنق يطول بها فضول عنانه ... ومحزم يغتال فضل حزامه
وكأنه بالريح منتعل، وما ... جري الرياح كجريه ودوامه
أخذ المحاسن آمنا من عيبه ... وحوى الكمال مبرأ من ذامه
وقال آخر:
لا تنظرن إلى هزال حماري ... وانظر إلى مجراه في الأخطار
متوقد جعل الذكاء إمامه ... فكأنما هو شعلة من نار
عادت عليه الريح عند هبوبها ... فكأنه ريح الدبور يباري
هذا ما ورد في مدحها.
وأما ما جاء فيها على سبيل الذم، فمن ذلك قولهم: " أضل من حمار أهله " . وقولهم: " أخزى الله الحمار مالا، لا يزكي ولا يذكي " . ومنه قول جرير بن عبد الله: لا تركب حمارا، فإنه إن كان حديدا أتعب يديك، وإن كان بليدا أتعب رجليك.
والمثل مضروب في الحمير المهزولة بحمار طياب، كما يضرب المثل ببغلة أبي دلامة.
قال شاعر:
وحمار بكت عليه الحمير ... دق حتى به الرياح تطير
كان فيما مضى يسير بضعف ... وهو اليوم واقف لا يسير
كيف يمشي وليس شيء يراه ... وهو شيخ من الحمير كبير
لمح القت مرة فتغني ... بحنين وفي الفؤاد زفير:
ليس لي منك يا ظلوم نصيب ... أنا عبد الهوى وأنت أمير
وقال خالد الكاتب:
وقائل إن حماري غدا ... يمشي إذا صوب أو أصعدا
فقلت لكن حماري إذا ... أحثثته لا يلحق المقعدا
يستعذب الضرب فإن زدته ... كاد من اللذة أن يرقدا
وقال أبو الحسين الجزار:
هذا حماري في الحمير حمار ... في كل خطو كبوة وعثار
قنطار تبن في حشاه شعيرة ... وشعيرة في ظهره قنطار
ولما مات حمار هذا الشاعر داعبه شعراء عصره بمراث وهزليات؛ فقال بعضهم:
مات حمار الأديب قلت قضى ... وفات من أمره الذي فاتا
مات وقد خلف الأديب ومن ... خلف مثل الأديب ما ماتا
ونحو هذين البيتين قول الآخر:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب
ق وصلت رقعتك؛ ففضضتها عن خط مشرق، ولفظ مؤنق؛ وعبارة مصيبة، ومعان غريبة؛ واتساع في البلاغة يعجز عنه عبد الحميد في كتابته، وسبحان في خطابته. وذكرت فيها حملا، جعلته بصفتك جملا؛ وكان كالمعيدي أسمع به ولا أراه. وحضر، فرأيت كبشا متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد؛ قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور؛ فظننته أحد الزوجين اللذين حملهما نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته. صغر عن الكبر، ولطف في القدر؛ فبانت دمامته، وتقاصرت قامته؛ وعاد نحيفا ضئيلا، باليا هزيلا؛ بادي السقام، عاري العظام؛ جامعا للمعايب، مشتملا على المثالب؛ يعجب العاقل من حلول الروح فيه؛ لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد؛ لا تجد فوق عظامه سلبا، ولا تلقى اليد منه إلا خشبا؛ لو ألقي للسبع لأباه، أو طرح للذئب لعافه وقلاه؛ وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده؛ لم ير القت إلا نائما، ولا الشعير إلا حالما. وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه خصب الشهر؛ فملت إلى استبقائه؛ لما تعلمه من محبتي في التوفير، ورغبتي في التثمير؛ وجمعي للولد، وادخاري لغد؛ فلم أجد فيه مستمتعا للبقاء، ولا مدفعا للفناء؛ لأنه ليس بأنثى فيحمل، ولا بفتي فينسل، ولا بصحيح فيرعى، ولا بسليم فيبقى؛ فملت إلى الثاني من رأييك، وعملت بالأخر من قوليك؛ وقلت: أذبحه فيكون وظيفة للعيال، وأقيمه رطبا مقام قديد الغزال؛ فأنشدني وقد أضرمت النار، وحددت الشفار، وشمر الجزار:
أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمنشحمه ورم
وما الفائدة لك في ذبحي! وإنما أنا كما قيل:
لم يبق إلا نفس خافت ... ومقلة إنسانها باهت
ليس لي لحم يصلح للأكل، فإن الدهر أكل لحمي؛ ولا جلد يصلح للدبغ، فإن الأيام مزقت أديمي؛ ولا صوف يصلح للغزل، فإن الحوادث حصت وبري. وإن أردتني للوقود فكف بعر أدفأ من ناري، ولم تف حرارة جمري برائحة قتاري. ولم يبق إلا أن تطالبني بذحل أو بيني وبينك دم. فوجدته صادقا في مقالته، ناصحا في مشورته. ولم أعلم من أي أموره أعجب: أمن مماطلته الدهر على البقاء، أم من صبره على الضر والبلاء، أم من قدرتك عليه مع عوز مثله، أم من إتحافك الصديق به على خساسة قدره. ويا ليت شعري إذا كنت والي سوق الأغنام، وأمرك ينفذ في المعز والضأن؛ وكل حمل سمين، وكبش بطين؛ مجلوب إليك، وموقوف عليك، تقول فيه فلا ترد. وتريد فلا تصد؛ وكانت هديتك هذا الذي كأنه انشر من القبور، أو أقيم عند النفخ في الصور؛ فما كنت مهديا لو انك رجل من عرض الكتاب، كأبي علي وأبي الخطاب! ما تهدي إلا كلبا أجرب، أو قردا أحدب.
وقال شاعر في هذا المعنى:
ليت شعري عن الخروف الهزيل ... ألك الذنب فيه أم للوكيل
لم أجد فيه غير جلد وعظم ... وذنيب له دقيق طويل
ما أراني أراه يصلح إذ أص ... بح رسما على رسوم الطلول
لا لشي ولا لطبخ ولا بي ... ع ولا بر صاحب وخليل
أعجف لو مطفل نال منه ... لغدا تائبا عن التطفيل
وقال شرف الدين بن عين وقد أهدى له بعض أصدقائه خروفا بعد ما مطله به:
أتاني خروف ما تشككت أنه ... حليف جوى قد شفه الهجر والمطل
إذا قام في شمس الظهرة خلته ... خيالا سرى في ظلمة ما له ظل
فناشدته: ما تشتهي؟ قال: قتة ... وقاسمته: ما شفه؟ قال لي: الأكل
فأحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... منعمة ما خص أطرافها فتل
وظل يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدمع في الخد منهل:
أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل
وقال الحمدوني في المعزى:
أبا سعيد لنا في شاتك العبر ... جاءت وما إن بها بول ولا بعر
وكيف تبعر شاة عندكم مكثت ... طعامها الأبيضان: الشمس والقمر
لو أنها أبصرت في نومها علفا ... غنت له ودموع العين تنحدر:
يا مانعي لذة الدنيا بما رحبت ... إني ليقنعني من وجهك النظر
وقال أيضا:
ما أرى إن ذبحت شاة سعيد ... حاصلا في يدي غير الإهاب
ليس إلا عظامها، ولو تراها ... قلت هذي أرزان في جراب
وقال فيها:
لسعيد شويهة ... سلها الضر والعجف
قد تغنت وأبصرت ... رجلا حاملا علف:
بأبي من بكفه ... برء دائي من الدنف
فأتاها مطمعا ... فأتته لتعتلف
فتولى وأقبلت ... تتغنى من الأسف:
ليته لم يكن وقف ... عذب القلب وانصرف
وصف الأفاعي
قال بعض الشعراء يصف حية:
ر ينبت العشب في واد تكون به ... ولا يجاورها وحش ولا شجر
جرداء شابكة الأنياب ذابلة ... ينبو من اليبس عن يافوخها الحجر
لو شرحت بالمدي ما مسها بلل ... ولو تكنفها الحاوون ما قدروا
قد جاهدوها فما قام الرقاة لها ... وخاتلوها فما نالوا ولا ظفروا
يكبو لها الورل العادي إذا نفخت ... جبنا ويهرب منها الحية الذكر
وقال خلف الأحمر:
وكأنما لبست بأعلى جسمها ... بردا من الأثواب أنهجه البلى
في عينها قبل وفي خيشومها ... فطس وفي أنيابها مثل المدى
وقال آخر:
أرقم كالدرع فيه وشم ... منمنم الظهر واللبان
يزحف كالسيل من تلاع ... كأن عينيه كوكبان
يهشم ما مش من نبات ... ويجذب النفس بالعنان
وقال ابن المعتز:
أنعت رقشاء لا تحيا لديغتها ... لو قدها السيف لم يعلق به بلل
تلقى إذا انسلخت في الأرض جلدتها ... كأنها كم درع قده بطل
وقال الظاهر البصري شاعر اليتيمة:
سرت وصحبي وسط قاع صفصف ... إذا أشرفت من فوق طود مشرف
رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومي برأس مثل رأس المجرف
وذنب مندمج معقف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفي
علوتها بحد سيف مرهف ... فظل يجري دمها كالقرقف
أتلفتها لم أرادت تلفي
وقال خلف الأحمر:
له عنق مخضرة مد ظهره ... وشوم كتحبير اليماني المرقم
إلى هامة مثل الرحى مستديرة ... بها نقط سود وعينان كالدم
وقال آخر:
وحنش كحلقة السوار ... غايته شبر من الأشبار
كأنه قضيب ماء جاري ... يفتر عن مثل تلظي النار
وقال خلف الأحمر:
صل صفا لا تنطوي من القصر ... طويلة الإطراف من غير حسر
داهية قد صغرت من الكبر ... مهروتة الشدقين حولاء النظر
تفتر عن عوج حداد كالإبر
وقال أبو هلال العسكري:
وخفيفة الحركات تفترع الربى ... كالبرق يلمع في الغمام الرائح
منقوطة تحكي صدور صحائف ... إبان تبدو من بطون صفائح
ترضى من الدنيا بظل صخيرة ... ومن المعيشة باشتمام روائح
وقال ابن المعتز:
كأنني ساورتني يوم بينهم ... رقشاء مجدولة في لونها برق
كأنها حين تبدو من مكامنها ... غصن تفتح فيه النور والورق
ينسل منها لسان تستغيث به ... كما تعوذ بالسبابة الفرق
وقال الهذلي في مزاحف الحيات:
كأن مزاحف الحيات وهنا ... قبيل الصبح آثار السياط
وقال آخر:
كأن مزاحفه أنسع ... جررن فرادى ومنها ثني
وقد وصف الشعراء العقرب وشبهوها في أشعارهم؛ فمن ذلك قول السري الرفاء:
سارية في الظلام مهدية ... إلى النفوس الردى بلا حرج
شائلة، في ذنبها حمة ... كأنها سبجة من السبج
وقال آخر:
ونضوة تعرف باسم ولقب ... ما بين عينيها هلال منتصب
موجودة معدومة عند الطلب ... تطعن من لاقته من غير سبب
بخنجر تسله عند الغضب ... كأنه شعلة نار تلتهب
وقال آخر:
تحمل رمحا ذا كعوب مشتهر ... فيه سنان بالحريق مستعر
أنف بأنيفا على حين قدر ... تأنيف أنف القوس شدت بالوتر
وقال عبد الصمد بن المعذل: يدعو بها على عدو له.
يا رب ذي إفك كثير خدعه ... مستجهل الحلم خبيث مرتعه
يسري إلى عرض الصديق قذعه ... صبت عليه حين جمت بدعه
ذات ذنابي متلف من يلسعه ... تخفضه طورا وطورا ترفعه
أسود كالسبجة فهي مبضعه ... ينطف منه سمه وسلمعه
تسرع فيه الحتف حين تشرعه ... يبرز كالقرنين حين تطلعه
في مثل صدر السبت حين تقطعه ... لا تصنع الرقشاء ما قد تصنعه
وقال ابن حمديس:
ومشرعة بالموت للطعن صعدة ... فلا قرن إن نادته يوما يجيبها
تذيقك حر السم من وخز إبرة ... إذا لسبت ماذا يلاقي لسيبها
إذا لم يكن لون البهارة لونها ... فمن يرقان دب فيها شحوبها
لها سورة خصت بمنكر صورة ... ترى العين فيها كل شيء يريبها
لها طعنة لا تستبين لناظر ... ولا يرسل المسبار فيها طبيبها
نسيت بها قيسا وذكرى طعينه ... وقد دق معناها وجل ندوبها
تجيء كأم الشبل غضبى توقدت ... وقد توج اليأفوخ منها عسيبها
عدو مع الإنسان يعمر بيته ... فكيف يوالي رقدة يستطيبها
ولولا دفاع الله عنا بلطفه ... لصبت من الدنيا علينا خطوبها
الباب الثاني فيما هو ليس قاتلا بفعله من دواب السموم
كأن يدي حربائها متشمسا ... يدا مذنب يستغفر الله تائب
وقال فيه أيضا:
وقد جعل الحرباء يصفر لونه ... وتخضر من لفح الهجير غباغبه
ويشبح بالكفين شبحا كأنه ... أخو فجرة عالي به الجذع صالبه
وقال فيه أيضا:
يصلي بها الحرباء للشمس ماثلا ... على الجذع إلا أنه لا يكبر
إذا حول الظل العشي رأيته ... حنيفا وفي وقت الضحى يتنصر
القنفذ
وقال أبو بكر الخوارزمي يصفه:
ومدجج وسلاحه من نفسه ... شاكي الدوابر أعزل الأقبال
يمسي ويصبح لم يفارق بيته ... ولقد سرى عددا من الأميال
وتراه يكمن بعضه في بعضه ... فتطيش عنه أسهم الأهوال
عيناه مثل النقطتين وخطمه ... يحكي ثدي رضاعة الأطفال
وكأن أقلاما غرزن بظهره ... مس المداد رءوسها ببلال
تتهارب الحيات حين يرينه ... هرب اللصوص رأت سواد الوالي
وكأنه الخنزير إلا جلده ... وصياحه وتقارب الأوصال
وقد وصف الشعراء الفأر وشبهوه في أشعارهم وذكروا سوء فعله. فمن ذلك قول أعرابي وقد دخل البصرة فاشترى خبزا فأكله الفأر:
عجل رب الناس بالعقاب ... لعامرات البيت بالخراب
حتى يعجلن إلى التباب ... كحل العيون وقص الرقاب
مجررات فضل الأذناب ... مثل مداري الطفلة الكعاب
كيف لها بأنمر وثاب ... منهزت الشدق حديد الناب
كأنما يكشر عن حراب ... يفرسها كالأسد الوثاب
وقال أبو بكر الصنوبري:
يا لحدب الظهور قعس الرقاب ... لدقاق الخرطوم والأذناب
للطاف آذانها والخراطي ... م حداد الأظفار والأنياب
خلقت للفساد مذ خلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقبات في الأرض والسقف والحا ... ئط نقبا أعيا على النقاب
آكلات كل المآكل لا تس ... أمها شاربات كل الشراب
آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب
وقال في فأرة بيضاء:
وفأرة بيضاء لم تبتذل ... يوما لإطعام السنانير
إذ فأرة المسك سمعنا بها ... وهذه فأرة الكافور
النمل
وحي أناخوا في المنازل باللوى ... فصاروا به بعد القطين قطينا
إذا اختلفوا في الدار ظلت كأنها ... تبدد فيها الريح بزر قطونا
إذا طرقوا قدري مع الليل أصبحت ... بواطنها مثل الظواهر جونا
لهم نظرة يسرى ويمنى إذا مشوا ... كما مر مرعوب يخاف كمينا
ومشون صفا في الديار كأنما ... يجرون خيطا في التراب منينا
وفي كل بيت من بيوتي قرية ... تضم صنوفا منهم وفنونا
فيا من رأى بيتا يضيق بخمسة ... وفيه قريات يسعن مئينا
وقد وصفها الشعراء فمن ذلك ما قاله أبو الفرج الببغاء:
ما كل ذات مخلب وناب ... من سائر الجارح والكلاب
بمدرك في الجد والطلاب ... أيسر ما يدرك العقاب
شريفة الصبغة والأنساب ... تطير من جناحها في غاب
وتستر الأرض عن السحاب ... وتحجب الشمس بلا حجاب
يظل منها الجو في اغتراب ... مستوحشا للطير كالمرتاب
ذكية تنظر من شهاب ... ذات جران واسع الجلباب
ومنكب ضخم أثيث رابي ... ومنسر موثق النصاب
وراحتي ليث شرى غلاب ... نيطت إلى براثن صلاب
مرهفة أمضى من الحراب ... وكل ما حلق في الضباب
البيضة والدجاجة والديك فمن ذلك ما وصفوا به البيضة. قال أبو الفرج الأصبهاني من أبيات:
فيها بدائع صنعة ولطائف ... ألفن بالتقدير والتلفيق
خلطان مائيان ما اختلطا على ... شكر ومختلف المزاج رقيق
فبياضها ورق وزئبق محها ... في حق عاج بطنت بدبيقي
وصفراء في بيضاء رقت غلالة ... لها وصفا ما فوقها من ثيابها
جماد ولكن بعد عشرين ليلة ... ترى نفسها معمورة من خرابها
وقال كشاجم من أبيات يذكر فيها جونة أهديت إليه وفيها بيض مسلوق مصبوغ أحمر:
وجاءنا فهيا ببيض أحمر ... كأنه العقيق ما لم يقشر
حتى إذا قدمه مقشرا ... أبز من تحت عقيق دررا
يخال أن الشطر منه من لمح ... أعاره تلوينه قوس قزح
ومما قيل في الدجاجة والديك
قال الشاعر:
غدوت بشربة من ذات عرق ... أبا الدهناء من حلب العصير
وأخرى بالعقنقل ثم رحنا ... نرى العصفور أعظم من بعير
كأن الديك ديك بني نمير ... أمير المؤمنين على السرير
كأن دجاجهم في الدار رقطا ... وفود الروم في قمص الحرير
فبت أرى الكواكب دانيات ... ينلن أنامل الرجل القصير
أدافعهن بالكفين عني ... وأمسح جانب القمر المنير
وقال أبو بكر الصنوبري من أبيات يصف ديكا:
مغرد الليل ما يألوك تغريدا ... مل الكرى فهو يدعو الصبح مجهودا
لما تطرب هز العطف من طرب ... ومد للصوت لما مده الجيدا
كلا بس مطرفا مرخ جوانبه ... تضاحك البيض من أطرافه السودا
حالي المقلد لو قيست قلادته ... بالورد قصر عنها الورد توريدا
ران بفصي عقيق يدركان له ... من حدة فيهما ما ليس محدودا
تقول هذا عقيد الملك منتسبا ... في آل كسرى عليه التاج معقودا
أو فارس شد مهمازيه حين رأى ... لواء قائده للحرب معقودا
قال أبو هلال العسكري:
متوج بعقيق ... مقرط بلجين
عليه قرطق وشي ... مشمر الكمين
قد زين النحر منه ... ثنتان كالوردتين
حتى إذا الصبح يبدو ... مطرز الطرتين
دعا فأسمع منا ... من كان ذا أذنين
يزهى بطوق وتاج ... كأنه ذو رعين
وقال الأسعد بن بليطة:
وقام لنا ينعى الدجى ذو شقيقة ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الإبطا
ومهما اطمانت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأن أنو شروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
سبى حلة الطاوس حسن لباسها ... ولم يكفه حتى سبى المسية البطا
وقال أبو عبد الله المالكي:
رعى الله ذا صوت أنسنا بصوته ... وقد بان في وجه الظلام شحوب
دعا من بعيد صاحبا فأجابه ... يخبرنا أن الصباح قريب
وقال ابن المعتز:
بشر بالصبح هاتف هتفا ... صاح من الليل بعد ما انتصفا
مذكر بالصبوح صاح لنا ... كأنه فوق منبر وقفا
صفق إما ارتياحة لسنا ال ... فجر وإما على الدجى أسفا
وقال أيضا فيه:
وقام فوق الجدار مشترف ... كمثل طرف علاه أسوار
رافع رأس طورا وخافضه ... كأنما العرف منه منشار
وقال السري الرفاء:
كشف الصباح قناعه فتألقا ... وسطا على الليل البهيم وأبرقا
وعلا فلاح على الجدار وشح ... بالوشي توج بالعقيق وطوقا
مرخ فضول التاج من لباته ... ومشمر وشيا عليه منمقا
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني يرثي ديكا ويصفه:
ابني منزلنا ونشو محلنا ... وغذى أيدينا نداء مشوق
لهفي عليك أبا النذير لو أنه ... دفع المنايا عنك لهف شقيق
وعلى شمائلك اللواتي ما نمت ... حتى ذوت من بعد حسن سموق
بقعت وصرت علق مضنة ... ونشأت نشو المقبل الموموق
وتكاملت جمل الجمال بأسرها ... لك من جليل خالص ودقيق
وكسيت كالطاوس ريشا لامعا ... متلألئا ذا رونق وبريق
من صفرة مع خضرة في حمرة ... تخييلها يخفى على التحقيق
عرض يجل عن القياس وجوهر ... لطفت معانيه عن التدقيق
وكأن سالفتيك تبر سائل ... وعلى المفارق منك تاج عقيق
وكأن مجرى الصوت منك، إذا نبت ... وجفت عن الأسماع بح حلوق،
ناي رقيق ناعم قرنت به ... نغم مؤلفة من الموسيقي
تزقو وتصفق بالجناح كمنتش ... وصلت يداه الصوت بالتصفيق
وخطرت ملتحفا بمرط حبرت ... فيه بديع الوشي كف أنيق
كالجلنارة أو ضياء عقيقة ... أو لمع نار أو وميض بروق
وكأنما الجادي جاد بصبغه ... لك أو غدوت مضمخا بخلوق
وقال شاعر أندلسي:
وكأن نفي النوم من عين فان ... بديع الملاحة حلو المعاني
بأجفان عينيه ياقوتتان ... كأن وميضهما جمرتان
على رأسه التاج مستشرفا ... كتاج ابن هرمز في الهرجان
وقرطان من جوهر أحمر ... يزينانه زين قرط الحصان
له عنق حولها رونق ... كما حوت الخمر إحدى القناني
ودار برائله حولها ... لها ثوب شعر من الزعفران
ودارت بجؤجئه حلة ... تروق كما راقك الخسرواني
وقام له ذنب معجب ... كباقة زهر بدت من بنان
وقاس جناحا على ساقه ... كما قيس ستر على خيرزان
وصفق تصفيق مستهتر ... بمحمرة من بنات الدنان
وغرد تغريد ذي لوعة ... يبوح بأشواقه للغواني
وقال أبو علي بن رشيق حيث مزق عنه جلباب الممادح، وتركه من شمل الذم في الرأي الفاضح:
قام بلا عقل ولا دين ... يخلط تصفيقا بتأذين
فنبه الأحباب من نومهم ... ليخرجوا من غير ما حين
بصرخة تبعث موتى الكرى ... قد أذكرت نفخ سرافين
كأنها في حلقه غصة ... أغصه الله بسكين
وقد وصف الشعراء السمك في أشعارها؛ فمن ذلك قول ابن الرومي يخاطب رئيسا ويستدعي منه سمكا:
عسرت علينا دعوة السمك ... أنى وجودك ضامن الدرك
اعلم وقيت الجهل أنك في ... قصر تلته مطارح الشبك
وبنات دجلة في فنائكم ... مأسورة في كل معترك
بيض كأمثال ا لسبائك بل ... مشحونة بالشحم كالعكك
حسنت مناظرها وساعدها ... طعم كحل معاقد التكك
فليصطد الصياد حاجتنا ... يصطد مودتنا بلا شرك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومحجوبة بالماء عن كل ناظر ... ولكنها في حجبها تتخطف
أخذنا عليهن السبيل بأعين ... رواصد إلا أنها ليس تطرف
فجئنا بها بيض المتون كأنها ... خناجر في أيماننا تتعطف
وقال أبو عبادة البحتري وذكر بركة:
لا يبلغ السمك المقصور غايتها ... لبعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنحة ... كالطير تنفض في جو خوافيها
وقال أبو طالب المأموني في المقلي منه:
ماوية فضية لحمها ... ألذ ما يأكله الآكل
يضمها من جلدها جوشن ... مذيل فهو لها شامل
لونت من فضتها عسجدا ... بالقلي لما ضافني نازل
وقال أيضا:
مائية في النار مصلية ... يصبغ من فضتها عسجد
كأنما جلدتها جوشن ... مزرفن الصنعة أو مبرد
وقال البحتري في الموضوع نفسه
وإذا دجتْ أقلامه ثم انتحت ... برقت مصابيح الدُّجى في كتبه
فاللفظ يقربً فهمه في بعده ... منّا ويبعدُ نيله في قربه
فكأنهما والسمع معقودٌ بها ... شخص الحبيب بدا لعين محبه
الموز، وقال النجم بن إسرائيل يصفه
أنعتهُ موزاً شهيّ المنظر، ... مستحكم النُّضج، لذيذَ المخبرَ
كأنَّ تحت جلده المزعفر ... لفاتِ زبد، عجنت بسكر
وقال البهاء زهير
في ريحه، ولونه وطعمه ... كالمسك، أو كالتبرأ وكالضَّرب
وافت به أطباقه منضدَّاً ... كأنه مكاحهل من ذهب
وقال آخر
تحكي إذا قشرّته ... أنياب أفيال صغار
ذو باطن مثل الإقا ... ح، وظاهر مثل البهار
الكمثرى
وكمثراء بستان ... شهيّ الطعم والمنظر
له طعم إذا ذيق ... كماء الورد والسكرْ
كأنه في شكله، ولونه، ... وطعمه: قوالب من سكر
التفاح قال ابن المعتز
كأنما التفاح لما بدا ... يرفل في أثوابه الحمر
شهدٌ بماء الورد، مستودعَ ... في أكر من جامد الخمر
كأننا حين نحيّا به ... نستنشق النّدمن الجمر
الخوخ
كأنما الخوخ على دوحه ... وقد بدا أحمره العنْدمي
بنادٌ من ذهب على دوحه ... قد خضبت أنصافها بالدم
وخوخة بستان ذكي نسيمها ... من المسك والكافور وقد كسبت نشرا
ملبَّسة ثوباً، من التبر نصفه ... مصوغٌ، وباقيه كياقوتة حمرا
المشمش
ومشمشٍ جاءنا من أعجب العجب ... أشهى إليّ من اللّذات ولطربِ
كأنَّه وهبوبُ الريح ينثره ... بنادقٌ خرطت من خالص الذهب
وكأنما الأفلاك من طرب به ... نثرت كواكبها على الأغصان
وقال محيي الدين بن عبد الظاهر
حبذا مشمش على الدَّوح أضحى ... ذا شعاع يستوقف الأبصارا
شجرٌ أخضر لنا جعل اللّ ... هـ "تعالى" منه كما قال نارا
الرمان
رمانة صبغ الزمان أديمها ... فتبسَّمت في ناضر الأغصان
فكأنما هي حقة من عجسد ... قد أودعت خرزاً من المرجان
كأنها حقة، فإن فتحت ... فصرّة من فصوص ياقوت
حقاق كأمثال العقيق تضمَّنت ... فصوص بلخش، في غشاء حرير
إذا فضَّ عنه قشره فكأنه ... فصوص عقيق، في حقاق من الدرُّ
فدرٌّ، ولكن لم يدنسه عارض ... وماء، ولكن في مخازن من جمر
النخيل والبلح
كأن النخيل الباسقات وقد بدت ... لناظرها حسناً قبابُ زبرجد
وقد علقت من حولها زينةً لها ... قناديلُ ياقوتٍ بأمراس عسجد
وقال السّري الرفاء
فالنخل من باسق فيه وباسقة ... يضاحك الطلعُ في قنواته الرُّطبا
أضحت شماريخه في النحر مطلعة ... إما ثرّيا، وإما معصما خضبا
تريك في الظل عقياناً، إن نظرت ... شمسُ النهار إليها خلتها لهبا
وقال آخر في البلح الأخضر
أما ترى النخل قد نثرت بلحاً ... جاء بشيراً بدولة الرطب
مكاحلا من زمرد خرطت، ... مقمَّعات الرؤوس بالذَّهب
وفي البلح الأحمر
أنظر إلى البسر إذ تبدّى ... ولونه قد حكى الشَّقيقا
كأنما خوصه عليه ... زبرجد مثمرٌ عقيقا
البطيخ
رأيتها في كف جلاّبها ... وقد بدت في غاية الحُسن
كسلّة خضراء مختومة ... عل الفصوص الحمر في القطن
وقال أبو طالب المأموني
ومبيضة فيها طرائق خضرة ... كما اخضرّ مجرى السيل من صيب المزن
كحقة عاج ضببّت بزبرجد ... حوتْ قطعه الياقوت في عصب القطن
وقال في بطيخة صفراء
وبطيخة مسكيّة عسلية ... لها ثوب ديباج وعرف مدام
(2/321)
وإذا فصّلت للأكل كانت أهلّة، ... وإن لم تفصل فهي بدر تمام
وقال ابن التعاويذي
ربّ صفراء أتتنا ... وهي في أحسن حلّة
تعتريها صفرةً في ... لونها، من غير علة
حلوةُ الريق، حلال ... دمها في كل مله
نصفها بدر، وإن ... قسمهتها فهي أهلَّه
وقال آخر
ألا فانظروا البطيخ وهو مشققٌّ ... وفد حاز في التشقيق كل أنيق
تروه كبلّور في زمرد ... مركبة فيه فصوص عقيق
العنب قال ابن المعتزر
كأن عناقيد الكروم وظلَّها ... كواكب در، في سماء زبرجد
وقال السري الرفاء
والكرم مستبك الأفنان، توسعنا ... أجناسه في تساوي شربها عجباً
فكرمة قطرت أغصانها سبجاً، ... وكرمة قطرت أغصانها ذهباً
كأنما الورق المخضر دونهما ... غيران، يكسوهما من سندس حجباً
وقال آخر
كأنما عنقودها ... زنجٌ، جنوا سرقهْ
فأصبحت رؤوسهم ... على الذرى معلَّقة
قصب السكر
تحكيه سمر القنا ولكن ... تراه في جسمه طلاوه
وكلمّا زدته عذاباً ... زادك من ريقه حلاوه
النبق
وسدرة كل يوم ... من حسنها في فنون
كأنما النبقْ فيها ... وقد بدا للعيون
(2/322)
جلاجلٌ من نضار ... قد علقت في الغصون
الجزر قال ابن المعتز
أنظر إلى الجزر الذي ... يحكي لنا لهب الحريق
كمذبة من سندس ... ولها نصابٌ من عقيق
وقال ابن رافع القيرواني
انظر إلى الجور البديع كأنه ... في حسنه قضبُ من المرجان
أوراقه كزبرجد في لونها، ... وقلوبه صيغت من العيقان
اللوز الأخضر قال ظافر الحداد
كأنما قلوبه ... من توأم ومفرد
جواهر لكنما ال ... أصداف من زبرجد
التين قال ابن المعتز
أنعم بتين طاب طعما، واكتسى ... حسناً، وقارب منظراتً من مخبر
في برد ثلج، في نقابير، وفي ... ريح العبير، وطيب طعم السكر
يحكي إذا ما صغّ أطباقه ... خيما، ضربن من الحرير الأحمر
الفستق
والقلب ما بين قشريه يلوح لنا ... كألسن الطير من بين المناقير
زبرجدة خضراء وسط حريرة ... بحقة عاج في غلاف أديم
زبرجدة ملفوفة في حريرة، ... مضمَّنة درا مغشى بياقوت
النارنج قال ابن المعتز
وكأنما النارنج في أغصانه ... من خالص الذهب الذي لم يخلط
(2/323)
كر رماها الصولجان إلى الهوا ... فتعلّقت في جوه لم تسقط
وأشجار نارنج كأن ثمارها ... حقاق عقيق قد ملئن من الدر
وقال آخر
انظر إلى منظر تلهيك بهجته ... بمثله في البرايا يضرب المثلُ
نار تلوح على الأغصان في شجر ... لا النار تطفا، ولا الأغصان تشتعل
وقال أبو الحسن الصقلي
إذا ميَّلتها الريح مالت كأكرة ... بجت ذهباً في صولجان زبرجد
الليمون قال ابن المعتز
يا حبذا ليمونةً ... تحدثُ للنفس الطرب
كأنها كافورة ... لها غشاء من ذهب
القلم: قال "ابن المعتز": القلم مجهز لجيوش الكلام، يخدم الإرادة، ولا يمل استزادة، يسكت واقفاً، وينطلق سائراً، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء، وكأنه يقبل بساط سلطان، أو يفتح نوَّار بستان.
وقال "علي بن عبيد" أصم سمع النحوي، أعيا من باقل، وأبلغ من سحبان وائل، يجهل الشاهد، ويخبر الغائب، ويجعل الكتب بين الإخوان ألسنا ناطقة، وأعيناً لاحظة، وربما ضمنها ودائع القلوب ما لا تبوح به الألسن عند المشاهدة.
ومن كلام "أبي حفص بن برد الأندلسي": ما أعجب شأن القلم يشرب ظلمة، ويلفظ نوراً! قد يكون قلم الكاتب أمضى من شباة المحارب القلم سهم ينقذ المقاتل، وشفرة تطيح بها المفاصل.
وقال "محمود بن أحمد الأصبهاني"
أخرسُ ينبيك بإطرقه ... عن كل ما شئت من الأمر
(2/324)
يذري على قرطاسه دمعة ... يبدي بها السرُّ وما يدري
كعاشق أخفى هواه وقد ... نمَّت عليه عبرةٌ تجري
تبصره في كل أحواله ... عريان يكسو الناس أو يعري
يرى أسيراً، في دواة وقد ... أطلق أقواماً من الأسر
أخرقُ، لو لم تبرهِ لم يكن ... يرشق أقواماً وما يبري
كالبحر إذ يجري، وكالليل إذ ... يغشى، وكالصارم إذ يفري
وقال "أحمد بن عبد ربه"
يخاطب الغائب البعيد مما ... يخاطب الشاهد الذي حضرا
شختُ ضئيلٌ، لفعله خطر ... أعظم به من ملمة خطرا
تمجّ فكَّاه ريقةً صغُرت ... وخطبها في القلوب قد كبرا
يواقع النفسَ منه ما حذرت ... وربما جنبت به الحذرا
مهفهفٌ تزدهي به صحفٌ ... كأنما خليت به دررا
و"لابن المعتز" في قلم الوزير "القاسم بن عبيد الله"
قلمٌ ما أراه، أم فلك يجر ... ي بما شاء "قاسم" ويسير؟
خاشع في يديه يلئم قرطا ... سا كما قبَّل البساط شكور
ولطيف المعنى، جليل، نحيف، ... وكبير الأفعال وهو صغير!
كم منايا، وكم عطايا، وكم حت ... ف وعيش تضم تلك السطور
نقشت بالدُّجا نهاراً، فما أدر ... ي أخط فيهن أم تصوير
وقال "أبو تمام" في قلم "محمد بن عبد الملك الزيات"
لك القلم الأعلى الذي بشباتِهِ ... تصابُ من الأمر الكلى والمفاصل
(2/325)
لعابُ الأفاعي القاتلات لعابُه ... وأري الجنى اشتارته أيد عوامل
له ريقة طلٌّ، ولكن وقعها ... باثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح إذا استنطقه وهو راكب، ... وأعجم إن خاطبته وهو راجل
إذا ما امتطى الخمس اللّطاف وأفرغت ... عليه شعابٌ الفكر وهي حوافل
أطاعته أطراف القنا، وتقوضت ... لنجواه تقويض الخيام الجحافل
إذا استغزر الذهن الجليَّ وأقبلت ... أعاليه في القرطاس وهي أسافل
رأيتَ جليلاً شأنهُ "وهو مرهف ... ضنا" وسميناً خطبهُ "وهو ناحل"
وقال "ابن الرومي"
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب، دانت خوفه الأممُ
فالموت والموت لا شيء يغالبه ... مازال يتبعُ ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وقال "المتنبي"
نحيف الشوى يعدو على أمّ رأسه ... ويحفى فيقوى عدوه حين يقطع
يمجّ ظلاماً في نهار لسانه ... ويفهم عمن قال ما ليس يسمع
وقال "ابن نباته السعدي":
يرنو إلى الأفكار غير ملاحظ ... ويخاطب القرطاس غير محابي
ويعلم الآداب أفهام الورى ... وفؤاده صفر من الآداب
وقال "مهيار الديلمي" في وصف الدواة والأقلام:
(2/326)
وأمَ بنين استنبطتهم، فصدرها ... غصيصٌ بهم عند الحضانَ كظيم
يعقونها بالضغط، وهي عليهم ... عطوفٌ بدرات الرضاع رؤوم
يخال الأفاعي الرقش ما ضم منهم ... حشاها، وهم فيها أخ وحميم
فمن ذي لسان مفصح وهو أخرس، ... ومن بائح بالسرّ وهو كتوم
وقال "أبو الفتح البستي"
إذا أقسم الأبطال يوماً بسيفهم ... وعدوه مما يكسب المجد ولكرمْ
كفى قلم الكتاب عزاً ورفعة ... مدى الجهر أن الله أقسم بالقلم
وقال أعرابي من بني الحرث بن كعب يصف الشمس
مخبأةٌ: أما إذا الليل جنّها ... فتخفى، وأما بالنهار فتظهر
إذا انشق عنها ساطع الفجر، وانجلى ... دجا الليل، وانجاب الحجاب المستتر
وألبس عرض الأرض لوناً كأنه ... على الأفق الشرقي ثوبٌ معصفر
تحلّت، وفيها حين يبدو شعاعها ... ولم يجل للعين البصيرة منظر
بلونٍ، كدرع الزعفران يشوبه ... شعاع تلألأ، فهو أبيض أصفر
إلى أن علت وابيضّ منها اصفرارها ... وجالت كما جال المهيج المسَّهر
وجللت الآفاق ضوءاً ينيرها ... فخرَّ لها صدر الضحا يتسعر
ترى الظل يطوى حين يعلو، وتارة ... تراه إا مالت إلى الأرض ينشر
وتدنف حتى ما يكاد شعاعها ... يبين إذا غابت لمن يتبصر
كما بدأت إذا أشرقت في مغيبها ... تعود، كما عاد الكبير المعمَّر
فأفنت قروناً، وهي في ذاك لم تزل ... تموت وتحيا كل يوم وتنشر
(2/327)
وقال الطغرائي يصف طلوع الشمس
وغروب البدر:
وكأنما الشمس المنرة إذ بدت ... والبدر يجنح للغروب وما غرّب
متحاربان: لذ مجنٌّ صاغه ... من فضة، ولذا مجنٌّ من ذهب
وقال ابن خفاجه الأندلسي يصف غروبها في نهر
قد ولَّت الشمس محتثة ... إلى الغرب ترنو بطرف كخيل
كأن سناها على نهره ... بقايا نجيع بسيف صقيل
وقال ابن طاهر الكرخي:
أما تر الأفق كيف قد ضرب ال ... غيم عليه من مزنة قببا
وحاجبُ الشمس من رفافها ... يضرم فيها بوره لهبا
كأنه فضة مطرَّقة ... أطرافها قد تطوَّست ذهبا
وقال ابن مكي
كأن الشمس إذ غربت غريق ... هوى في البحر، أو وافى مغاصا
فأتبعها الهلال على غروب ... بزورقه، يريد لها خلاصا
وقال عبد العزيز القرطبي:
إني أرى شمس الأصيل عليلةً ... ترتاد من نحو المغارب مغربا
مالت لتحجب شخصها فكأنها ... مدَّت على الدنيا بساطاً مذهبا
وقال ابن الرومي
وقد طفلت شمس الأصيل ونفضت ... على الجانب الغربي ورساً مذعذعاً
ولاحظت النّوار وهي ميضة ... وقد وضعت خداً على الأرض أضرعا
(2/328)
كما لحظت عوداه عين مدنف ... توجع من أوصابه ما توجعا
وقال ابن أفلح من قصيدة
والشمس خافضة الجناح مسفةٌ ... في الغرب تنساب انسياب الأرقط
أو كالعروس بدت فأسدل دونها ... جنبات ستر كالجساد مخطط
وأتى الظلام على الضياء ما أتى ... أجلٌ على أمل، فلم يتأبط
وقال معروف الرصافي
نزلت ةتجر إلى الغروب ذيولاً ... صفراء تشبه عاشقاً متبولاً
تهتز بين يد المغيب، كأنها ... صبٌ تململ في الفراش عليلا
ضحكت مشارقها بوجهك بكرة ... وبكت مغاربها الدماء أصيلا
وغدت بأقصى الأفق مثل عرارة ... عطشت فأبدت صفرة وذبولا
غربت فأبقت كالشواظ عقيبها ... شفقاً بحاشية السماء طويلاً
شفق يروع القلب شاحبُ لونه ... كالسيف ضمَّخ بالدما مسلولا
رقت أعليه وأسفله الذي ... في الأفق أشبع عصفراً محلولاً
قال ابن المعتز يصف الهلال
انظر إليه كزو رق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
وكأن الهلال نصف سوار ... والثريا كف تشير إليه
فخ بوسط السماء ملقى ... ينتظر الصيَّد للنجوم
انظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضة ... يحصد من زهر الدجا نرجسا
(2/329)
يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود
في ليلة أكل المحاق هلالها ... حتى تبدي مثل وقف العاج
وقال شاعر
قلت لما هوت لمغربها الشم ... س ولاح الهلال للنُّظَّار
أقرض الشرق ضده الغرب ودينا ... راً فأعطاه الرهن نصف سوار
وقال ابن طباطبا
وكأن الهلال لما تبدي ... شطر طوق المرآة ذي التذهيب
أو كقوس قد أحنيت أو كنؤي ... أو كنون في مهرق مكتوب
وقال أبو عاصم البصري في الهلال والثريا والزهرة
رأيت الهلال وقد حلَّقت ... نجومُ الثريا لبكي تلحقه
فشيهته وهو في إثرها ... وبينهما الزهرة المشرقة
بقوسٍ لرامٍ: رمى طائراً ... فأرسل في إثره بندقه
وقال في اقتران الثريا بالهلال
فإذا ما تقارنا قلن طوق ... من لجين قد علقت فيه درَّه
وقال إبراهيم بن خفاجة في ذلك أيضاً
وابن الغزالة فوق النجم منعطف ... كما تأود عرجون بعنقود
وقال الطغرائي
فكأنه وكأنها في جنبه ... عنقودة في زرق في عسجد
وقال أبو الفضل الميكالي
كأكرة من فضة مجلوة ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وقال شاعر
وكأنّ الهلال تحت الثريا ... ملك فوق رأسه إكليل
كأنما النجم صيغ من ورق ... معلَّقٌ من هلال الأفق في أذن
(2/330)
وقال في شرف الدين الحسين
كأنّ الهلال نزيل السماء ... وقد قارن الزهرة النيرة
سوارٌ لحسناء من عسجد ... على قفله وضعت جوهره
وقال لبدر البشتكي في الهلال والنجوم حوله
ذيالة سمع عوج الريح ضوءها ... فطار لها بالقرب بعضُ شرار
وقال علي بن محمد الكاتب
بدا مستدَّق كأنه ... على الأفق الغربي مخلبُ طائر
ولاح لمسرّى ليلتين كأنما ... تفرق منه الغيم عن إثر حافر
وشمَّر عنه الغيم ذيلاً كأنما ... تكشَّف منه عن جناح محلّق
قال: والبدر كالملك الأعلى وأنجمه ... جنوده، ومباني قصره الفلك
وقال ابن المعتز
وكأن البدر لما ... لاح من تحت الثريا
ملك أقبل في التّا ... ج يفدي ويحيا
وقال في البدر مع الشمس
حتى رأي الشمس تتل ... والبدر في أفق السماء
فكأنها وكأنه ... قد حان من خمر وماء
والبدر في أفق السماء كدرهم ... ملقى على ديباجة زرقا
وقال السلامي
والبدر في أفق السما ... ء كروضة فيها غدير
وقال الشريف العقيلي
والبدر في كبد السماء كوردة ... بيضاء تضحك في رياض بنفسج
(2/331)
وقد برز البدر المنير ووجهه ... كجام لجين فيع آثار عنبر
سوادك من حيث تمسي هلا ... لاً إلى حيث تكملُ بدراً منيراً
نقاب لنركية أسودُ ... تنزل منه يسيراً يسيراً
وقال سهل بن المرزيان
شبهت بدر سمائها لما دنت ... منه الثريا في قميص سندسي
ملكاً فكأنما هو خوذة من فضة ... قد ركبت في هامة من عنبر
وللشريف الرضي في وصف السماء والأرض والليل والبرق
سمائي مذهبة بالبروق=وأرضي مفضَّضة بالحباب وروضي مطارفه غضَّةٌ=تطرَّز أطرافها بالذهاب وليلٌ ترى الفجر في عطفه=كما شاب بعض جناح الغرابُ يغار الظّلام على شمسه=إلى أن يواريها بالحجاب وتصقلُ أنجمه العاصفاتُ=إذا صدئت من عمود السَّحاب
وقال البحتري يصف الغيث
ذات ارتجاز بحنين الرَّعد ... مجرورة الَّيل صدوق الوعد
مسفوحة الدَّمع لغير وجدٍ ... لها نسيمٌ كنسيم الوردِ
ورنة مثل زئير الأسد ... ولمع برق كسيوف الهند
جاءت بها ريح الصَّبا من نجد ... فانتثرت مثل انتثار العقدِ
فراحت الأرض بعيش رغد ... من وشي أنوار الرّبى في بردٍ
(2/332)
كأنما غدرانها في الوهد ... يلعبن من حبابها بالنردِ
ومن قصيدة لصفي الدين الحلي يصف فيها الربيع
خلع الرّبيع علي غصون البان ... حللاً فواضلها على الكثبانِ
ونمت فروع الدوح حتى صافحت ... كفل الكثيب ذوائب الأغصانِ
وتتوّجّت هام الغصون وضرّجت ... خدّ الرياض شقائق النعمانِ
وتنوعت بسط الرياض فزهرها ... متباين الأشكال والألوانِ
من أبيض يققٍ وأصفر فاقعٍ ... أو أزرق صاف وأحمر قانٍ
والظلُّ يسرع في الخمائل خطوهُ ... والغصنُ يخطر خطرة النشوانِ
وكأنما الأغصان سوق رواقصٍ ... قد قيدت بسلاسل الريحانِ
والشمس تنظر من خلال فروعها ... نحو الحدائق نظرة الغيرانِ
والأرض تعجب كيف تضحكُ والحيا ... يبكي بدمعٍ دائم الهملان
حتى إذا افترّت مباسم زهرها ... وبكى السحاب بمدمع هتان
طفح السرور عليَّ حتّى إنّه ... من عظم ما قد سرَّني أبكاني
فاصرف همومك بالرّبيع وفصله ... إن الربيع هو الشباب الثاني
وله من قصيدة في وصف واد
تعانقت الأغصان فيه فأسلبت ... على الرَّوض أستاراً من الورق الخضرِ
إذا ما حبال الشمسِ منها تخلصتْ ... إلى روضه ألقت شراكاً من التبر
ومن قول أبي الفتح كشاجم في وصف الجمر يعلوه الرماد
كأنما الجمر والرماد وقد ... كاد يواري من ناره النّورا
ورد جنيُّ القطاف أحمر قد ... ذرّت عليه الأكف كافورا
(2/333)
ومن قصيدة لأبي الفرج عبد الواحد الببغا في وصف جيش
قاد الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنقد
في جحفل كالسّيل أو كالليل أو ... كالقطر صافح موج بحر مزبد
رد الظلام على الضّحى فاسترجع ... الإظلام من ليل العجاج الأربد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلةً في جلمدٍ
وكأن طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمدِ
ولأبي الفرج الغساني في وصف البدر
والبدر أوّل ما بدا متلثماً ... يبدي الضياء لنا بخد مسفر
فكأنما هو خوذةٌ من فضةٍ ... قد ركبت في هامة من عنبر
وله من قصيدة في وصف روضة
مداهن يحملن طلّ الندى ... فهاتيك تبرٌ وهذي عقيق
تنظم أوراقها درّهما ... وتنثر منها التي لا تطيق
يميل النسيم بأغصانها ... فبعض نشاوى وبعضٌ مفيق
ويوم ستارته غيمه ... وقد طرّزت رفيفها البروق
جعلتا البخور دخاناً له ... ومن شرر الراح فيه حريق
تظلّ به الشمس محجوبةً ... كأن اصطباحك فيه غبوق
على شجراتٍ رافعات الذيول ... لماء الجداول منها شهيق
ومن قصيدة للحسن بن علي بن وكيع في وصف روض
أسفر عن بهجته الروض الأغر ... وابتسم الدّوح لنا عن الزهر
أبدى لنا فصل الربيع منظراً ... بمثله تفتن الألباب البشر
وشياً ولكن حاكه صانعه ... لا لابتذال اللبس لكن للنّظر
عاينه طرف السماء فانثنى ... عشقاً له يبكي بأجفان المطر
فالأرض في زي عروسٍ فوقها ... من أدمع القطر نئارٌ من درر
(2/334)
***
زمان الفرد يا (فرعون) ولّى ... ودالت دولة المتجبِّرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض ... على حكم الرَّعية نازلينا
وتذهب النحل خفا ... فاً وتجيء موقرة
حوالب الشمع من ال ... خمائل المنورة
جوالب المآذي من ... زهر الرياض النيرة
مشدودة جيوبها ... عل الجني مزررة
وكل خرطوم أدا ... ة العسل المقطرة
وكل أنف قانئ ... فيه من الشهد بره
حتى إذا جاءت به ... جاست خلال الأدوره
وغيبته كالسّلا ... ف في الديان المحضرة
فهل رأيت النحل عن ... أمانة مقصره
ما اقترضت من بقلةٍ ... أو استعارت زهرة
أدت إلى الناس به ... سكرة بسكرة
وشيٌ طواه في الثرى صوانه ... حتى إذا ملّ من الطي انتشر
ومن قصيدة له في وصف الربيع
انظر إلى زهر الربيع وما جلت ... فيه عليك طرائف الأنوار
أبدت لنا الأمطار يه بدائعاً ... شهدت بحكمة منزل الأمطار
ما شئت للأزهار فيه صحرائه ... من درهم بهج ومن دينار
وجواهر لولا تغيّر حسنها ... جلّت عن الأثمان والأخطار
وله أيضاً في وصفه
ألست ترى وشيء الربيع المنمنما ... وما رصّع الربعي فيه ونظما
فقد حكت الأرض السماء بنورها ... فلم أدر في التشبيه أيهما السما
فخضرتها كالجو في حسن لونه ... وأنوارها تحكي لعينيك أنجما
فمن نرجس لما رأى حسن نقشه ... تداخله عجبٌ به فتبسّما
وأبدى على الورد الجنّي تطاولا ... فأظهر غيظ الورد في خده دما
وزهر شقيق نازع الورد فضله ... فزاد عليه الورد فضلاً وقدماً
وظلّ لفرط الحزن يلطم خدّه ... فأظهر فيه اللطم جمراً مضرماً
ومن سوسن لما رأى الصبغ كله ... على كل أنوار الريّاض تقسّما
تجلبب من زرق اليواقيت حلّة ... فأغرب في الملبوس منه وأحكما
وأنوار منثور تخالف شكلها ... فصار بها شكل الربيع متمما
جواهر لو قد طال فينا بقاؤه ... رأيت بها كل الملوك مختّما
وللقاضي محمد بن النعمان في وصف الهلال
انظر إلى حسن ذا الهلال وقد ... بدا لست مضين من عمره
(2/335)
وقد أطافت به كواكبه ... حسناً فبينته لمعتبره
مثل زنادٍ قد صيغ من ذهب ... يقدح ناراً وهنّ من شرره
ثم تولى يريد مغربه ... في شفق الشمس وهي في أثره
فخلته غائصاً ببحر دمٍ ... يقذف بالرائعات من درره
فلم أزل ليلتي أراجعه ... لحظي وأبكي للوقت من قصره
حتى تبدّى الصبّاح منتبهاً ... قبل انتباه المخمور من سكره
ومن قصيدة لسليمان بن حسان الصيبي في وصف شمعة
ومجدولةٍ مثل صدر القنا ... ة تعرّت وباطنها مكتسي
لها مقلة هي روحٌ لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا رنقت لنعاس عرا ... وقطت من الرأس لمن تنعس
وإن غازلتها الصبا حرّكت ... لسانها من الذهب الأملس
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياءٌ يجلّي دجي الحندس
فنحن من النور في أسعد ... وتلك في النار في أنحس
توقّدها نزهة للعيو ... ن ورؤيتها منية الأنفسي
تكيد الظَّلام كما كادها ... فتفنى وتفنيه في مجلس
فيا حامل العود حث الغنا ... ويا حامل الكأس لا تحبس
ويا صالح أنعم وعش سالماً ... علي الدهر في عزك الأقعس
ولأبي حسن العقيلي في وصف الصبح والبرق
الصبح ينشر فوق مسك الليل كافور الضياء
والبرق يذهب ما تفضضه الغيوم من السماء
(2/336)
فاشرب على ديباج نبتٍ قد أحاط بشرب ماء
فالعيش في زمن الربيع رقيق حاشية الرداء
وله أيضاً في وصف نارنجة
ونارنجة بين الرّياض نظرتها ... على غصنٍ رطبٍ كقامة أغيد
إذا ميلتها الريح مالت كأكرة ... بدت ذهباً في صولجان زمرد
ولابن أبي عمرو الطرازي في وصف نار
نار جرت في غابةٍ ... ترمي العلى بالشهب
كأنها جيش وغى ... فرسانه من ذهب
ولعلي بن لؤلؤ الكاتب في وصف الصبح والليل
ربّ صبح كطلعة الوصل جلى ... جنحَ ليلٍ كطلعة الهجران
زار في حُلّة البزاة فولّى اللي ... ل عنه في حلة الغربان
ولأبي العباس الكندي في وصف الندى على البحر
كأن الندى في البحر بحران مائع ... على مائعٍ هذا على ذاك مطبق
فهذا لجينٌ سابح مترقرق ... وذلك لجبن في السماء معلّق
إذا أبصرته الشمس بعد احتجابها ... به ساعةٌ أبصرته يتمزّق
وللسري بن أحمد الكندي في وصف الفجر من قصيدة
وركائب يخرجن من غلس الدجى ... مثل السهام مرقن منه مروقا
والفجر مصقول الرداء كأنه ... جلباب خودٍ أشربته خلوقا
(2/337)
وله من أخرى في وصف سحابة
وبكر إذا جنبتها الجنوب ... حسبت العشار تؤم العشارا
ترى البرق يبسم سراً بها ... إذا انتحب الرعد فيها جهارا
يعارضها في الهواء النّس ... يم فينثر في الأرض درّاً صغاراً
فطوراً يشقّ جيوب الحيا ... وطوراً يسخّ الدموع الغزارا
وله من أخرى
غيوم تمسّك أفق السما ... ء وبرقٌ يكتبه بالذهب
وخضراء ينثر فيها الندى ... فريد ندى ماله من ثقب
فأوراقها مثل نظم الحلى ... وأنهارها مثل بيض القضب
حللت بها مع ندامى سلوا ... عن الجد واشتهروا باللعب
وأغنتهم عن بديع السما ... ع بدائع ما ضمنته الكتب
وأحسن شيءٍ ربيع الحيا ... أضيف إليه ربيع الأدب
ولأبي بكر الخالدي في وصف الجو وإدبار الليل وإقبال الفجر
والجوّ يسحب من عليل هوائه ... ثوباً يجود بطله المترقرق
حتى رأينا الليل قوسّ ظهره ... هرماً وأثر فيه شيب المفرق
وكأن ضوء الفجر في باقي الدجى ... سيفٌ حلاه من اللجين المحرق
ولسعيد بن هاشم الخالدي في وصف المطر والصبح والليل والبرق
أما ترى الطلّ كيف يلمع في ... عيون نورٍ تدعو إلى الطربِ
في كل عينٍ للطل لؤلؤة ... كدمعة في جفون منتحبٍ
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد همّ منه بالهرب
والجو في حلة ممسّكة ... قد كتبته البروق بالذّهب
(2/338)
وللمهلبي الوزير في وصف الربيع
الورد بين مضمّخ ومضرجٍ ... والزهر بين مكللٍ ومتوج
والثلج تهبط كالنثار فقم بنا ... نلتذ بابنة كرمة لم تمزج
طلع البّهار ولاح نور شقائقٍ ... وبدت سطور الورد تلو بنفسجٍ
فكأن يومك في غلالة فضةٍ ... والنبت من ذهب على فيروزج
وللقاضي التنوخي أبي القاسم علي في وصف طول الليل والفجر
وليلة مشتاق كأن نجومها ... قد اغتصبت عين الكرى وهي نوّم
كأن عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كان سواد الليل والفجر ضاحكٌ ... يلوح ويخفى أسودٌ يبتسم
وله أيضاً في وصف وحشة الليل والنجوم والسماء
ربّ ليلٍ قطعته كصدودٍ ... وفراق ما كان فيه وداع
موحشٌ كالثقيل تقذى به العي ... ن وتأبى حديثه الأسماع
وكانّ النجوم بين دجاه ... سننٌ لاح بينهن ابتداع
وكأن السماء خيمة وشي ... وكأن الجوزاء فيها شراع
وله أيضاً في وصف رياض
ورياضٍ حاكت لهنّ الثريا ... حللاً كان غزلها للرعود
نثر الغيث درّ دمع عليها ... فتحلّت بمثل درّ العقود
أقحوان معانقٌ لشقيق ... كثغور تعض ورد الخدود
وعيونٌ من نرجس تتراءى ... كعيون موصولة التسهيد
وكأن الشقيق حين تبدّى ... ظلمة الصدع في خدود الغيد
وكأن الندى عليها دموعٌ ... في جفون مفجوعةٍ بفقيد
(2/339)
وكتب محمد بن عبد الله السلامي إلى صديق له يصف التاريخ
أتنشط للصبوح أبا علي ... على حكم المنى ورضى الصديق
بنهر للرياح عليه درعٌ ... تذهب بالغروب وبالشروق
إذا اصفرّت عليه الشمس صبّت ... على أمواجه ماء الخلوق
وجمرٌ شبّ في الأغصان حتى ... أضاع الماء في وهج الحريق
فدهم الخيل في ميدان تبرٍ ... يصاغ لها كراتٌ من عقيقِ
وكتب إليه في وصف نهر حوله أشجار الجلّنار
ونهر تمرح الأمواج فيه ... مراح الخيل في رهج الغبار
إذا اصفرت عليه الشمس خلنا ... نمير الماء يمزج بالعُقارِ
كأن الماء ارضٌ من لجين ... مغشاةٌ صفائح من نضار
وأشجار محملّة كؤوساً ... تضاحك في احمرارٍ واخضرارِ
وله من قصيدة في وصف الرياض والبرق
نسب الرياض إلى الغمام شريف ... ومحلها عند النسيم لطيف
فاشرب وثقّل وزن جامك إنه ... يومٌ على قلب الزمان خفيف
أو ما ترى طور البروق توسّطت ... أفقاً كان المزنّ فيه شفوف
واليوم من خجل الشقيق مضرجٌ ... خجلٌ ومن مرض النسيم ضعيف
والأرض طرسٌ والرياض سطوره ... والزّهر شكلٌ بينها وحروف
ولأحمد صفي الدين بن صالح بن أبي الرجال يصف بها روضة صنعاء
روضةٌ قد صبا لها السعد شوقاً ... وصفا ليلها وطاب المقيل
(2/340)
جوها سجسجٌ وفيها نسيم ... كل غصن إلى لقاه يميل
صح سكانها جميعاً من الدّا ... ء وجسم النسيم فيها عليل
إيه يا ماء نهرها العذاب صلصل ... حبّذا يا زلال منك الصليل
إيه يا ورقها المرنّة غنى ... فحياة النفوس منك الهديل
روض صنعاء فقت طبعاً ووصفاً ... فكثير الثناء فيك قليل
نهر دافقٌ وجو فتيق ... زهر فائقٌ وظلٌ ظليل
لست أنسى انتعاش شحرور غصن ... طرباً والقضيب منه يميل
وعلى رأس دوحةٍ خاطب الور ... ق ودمع الغصون طلاً يسيل
ولسان الرعود يهتف بالسح ... ب فكان الخفيف منها الثقيل
وفم السحب باسمٌ عن بروق ... مستطير شعاعها مستطيل
ولابن سكرة الهاشمي في وصف روضة
أما ترى الروضة قد نوّرت ... وظاهر الروضة قد أعشبا
كأنما الأرض سماءٌ لنا ... نقطف منها كوكبا كوكبا
ومن زهرية لابن راجح الحلي
نثرت عقوداً سمائها إلا نداء ... بيد النسيم فللثرى إثراء
وبدت تباشير الربيع كأنما ... نشرت مطارف وشيه صنعاءُ
والأرض قد زهيت بحلي نباتها ... والجو حلة سحبه دكناء
والروض في نشوات سكرته وقد ... طافت عليه الديمة الوطفاء
وثنى الحيا عطف الغدير فصفّقت ... أطرافه وتغنّت الورقاء
فكأن أعطاف الغصون منابرٌ ... والورق في أوراقها خطباء
(2/341)
ومن زهرية لبدر الدين الذهبي
ترنّح عطف البان في الحلل الخضر ... وغنّى بألحان على عوده القمري
وراقت أزاهير الحدائق بالضحى ... نواظر أحداق بنوارها النضر
وأشرق خد الورد يبدي نضاره ... وأشرق جيد الغصن في لؤلؤ القطر
وبات سقيط الطل في كل روضةٍ ... ينبه في أرجائها ناعس الزهر
وما ذهبت شمس لأصيل عشيةً ... إلى الغرب حتى أذهبت فضة النهر
وغنّت قيان الطير في كل أيكة ... وقد راق كحل الطل في مقل الغدر
أقامت لها دوح الأراك أرائكا ... وأرخت لها أوراق أستارها الخضر
وأمسى أصيل اليوم ملقى من الضنى ... على فرش الأزهار في آخر العمر
بكته حماما الأراك وشقّقت ... عليه الصبا أثواب روضتها النضر
فكم من نحيب للحمائم بالضّحى ... عليه وللأنواء من دمعة تجري
ولعلي بن أحمد الجوهري من قصيدة في وصف الغيث
زرّ الصباح علينا شملة السحب ... ومدّت الريح منها واهي الطنب
صكّ النسيم فراخ الغيث فانزعجت ... ينفضن أجنحة من عنبر الزغب
ولأبي معمر بن أبي سعيد الإسماعيلي من قصيدة في وصف الثلج
فرحنا وقد بات السماء مع الثرى ... وغاب أديم الأرض عنا فما يرى
كأن غيوم الجو صوّاغ فضة ... تواصو برد الحلي عمداً إلى الورى
ولأبي العلاء السروي في وصف روض
مررنا على الروض الذي قد تبسّمت ... ذراه وأوداج السحائب تسفك
(2/342)
فلم نر شيئاً كان أحسن منظراً ... من الروض يجري دمعه وهو يضحك
وله أيضاً في وصفه من قصيدة
أما ترى قضب الأشجار قد لبست ... أنوارها تتثنى بين جلاّس
منظومة كسموط الدرّ لابسةً ... حسناً يبيح دم العنقود للحاسي
وغرّدت خطباء الطير ساجعة ... على منابر من ورد ومن آسٍ
ولأبي الفياض سعد بن أحمد الطبري من قصيدة في وصف رياض
أصبيحة النيروز خير صبيحة ... حيّت بها الأنواء والأنوار
فبكل شعب روضة معطار ... تفتر عنها ديمة مدرار
ماست بها الأفنان في أسحارها ... نشوى فماست تحتها الأشجار
وتبرّجت أزهارها وتبلّجت ... فكأنما أزهارها أبصار
ولأبي قاسم الدينوري في وصف جواد
ومطهّم طرف العنان معوّدٍ ... خوض المهالك كلّ يوم براز
وإذا توغّل في ذرى متمنّع ... صعب بعيد العهد بالمجتاز
تركت سنابكه بصمّ صخوره ... أثراً يلوح كنقش صدر البازي
وله في وصف سفرجل وتفاح ورمان وأذربون
بعثت إليك ضحى المهرجا ... ن بمعشوقة العرف والمنظرِ
(2/343)
معطرةٍ صانها في الحجا ... ل مطارف من سندس أخضر
وبيضاء رائقة غضّة ... منقطة الوجه بالعصفر
وحق عقيق ملاه الهجي ... ر من الجوهر الرائق الأحمر
وأقداح تبرٍ حشت قعرها ... يد الشمس بالمسك والعنبر
فكن ذا قبول لها إنها ... هدايا مقلٍّ إلى مكثر
وعش ما تشاء كما تشتهي ... بعزٍّ يدوم إلى المحشر
وله في النارنج
أما ترى شجر النارنج طالعة ... نجومها في غصون لدنة ميل
كأنها بين أوراق تحفُّ بها ... زهر المصابيح في خضر القناديل
ولأبي الفضل الميكالي في وصف الشقائق
تصوغ لنا كف الربيع حدائقاً ... كعقد عقيق بين سمط لآلي
وفيهن أنوار الشقائق قد حكت ... خدود عذارى نقطت بغوالي
وله في اقتران الزهرة والهلال
أما ترى الزهرة قد لاحت لنا ... تحت هلالٍ لونه يحكي اللهب
ككرة من فضّة مجلوةٍ ... أوفى عليها صولجان من ذهب
وله في الفجر
أهلاً بفجر قد نضا ثوب الدجى ... كالسيف جرد من سواد قراب
وقال في وصف الثلج الساقط على غصون الشجر
نثر السحاب على الغصون ذرارة ... أهدت لها نوراً يروق ونوراً
شابت ذوائبها فعدن كأنها ... أجفان عين تحمل الكافورا
وقال في الجليد
رب جنين من جنى نمير ... مهتّك الأستار والضمير
(2/344)
سللته من رحم الغدير ... كأنه صحائف البلّورِ
أو أكرٌ تجسّمت من نور ... أو قطع من خالص الكافور
لو بقيت سلكاً على الدّهور ... لعطلت قلائد النّحور
وأخجلت جواهر البخور ... وسميت ضرائر الثغور
يا حسنه في زمن الحدور ... إذ فيضه مثل حشا المهجور
يهدي إلى الأكباد والصدور ... روحاً تحاكي نفثة المصدور
ولأبي طاهر بن الهاشمي في وصف روضة
وروضة زارها الندى فغدت ... لها من الزهر أنجمٌ زهر
تنشر فيها أيدي الربيع لنا ... ثوباً من الوشي حاكه القطر
كأنما شقّ من شقائقها ... على رباها مطارف خضر
ثم تبدّت كأنها حدقٌ ... أجفانها من دمائها حمر
ولأبي نصر سهل بن المرزبان في وصف البدر
كم ليلة أحييتها ومؤانسي ... طرف الحديث وطيب حث الأكؤس
شبهت بدر سمائها لما دنت ... منه الثريا في قميص سندسي
ملكاً مهيباً قاعداً في روضةٍ ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس
وللحسن بن أحمد اليروجردي في حوض لبعض الرؤساء
حوض يجود بجوهر متسلسل ... ساد الجواهر كلها بنفاستهِ
لا زال عذباً جارياً ببقاء من ... هو مثله في طبعه وسلآسته
ووصف ابن أنيس سيف عمرو بن معدي كرب فقال
أخضر المتين بين حدّيه نورٌ ... من فرند تحار فيه العيون
(2/345)
أوقدت فيه للصّواعق نارٌ ... ثم ساطت به الزعاف المنون
فإذا ما سللته بهر الشم ... س ضياءً فلم تكد تسبين
فكأن الفرند والرونق الجا ... ري في صفحتيه ماءٌ معين
وكأن المنون نيطت إليه ... فهو من كل جانبيه منون
ما يبالي من انتضاه لحربٍ ... أشمالٌ سطت به أم يمين
وقال ابن عبد ربه في وصف الرمح والسيف
بكل ردينيّ كأنّ سنانه ... شهابٌ بدا في ظلمة الليل ساطعُ
تقاصرت الآجال في طول متنه ... وعادت به الآمالُ وهي فجائعُ
وساءت ظنون الحرب في حسن ظنه ... فهنَّ لحبّات القلوب قوارعُ
وذي شطبٍ تقضي المنايا لحكمهِ ... وليس لما تقضي المنيّةُ دافعٌ
وقال أيضاً في وصف الحرب
ومعتركِ تهزّ به المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكورٍ
لوامعُ يبصر الأعمى سناها ... ويعمى دونها طرفُ البصير
يحوّم حولها عقبانٌ موت ... تخطفّت القلوب من الصدور
ومن قوله في وصف الحرب وأبطالها
سيوفٌ يقيلُ الموتُ تحت ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الطلى شربٌ
إذا اصطفّت الراياتُ حمراً متونها ... ذوائبها تهفو فيهفو لها القلبُ
ولم تنظق الأبطالُ إلا بفعلها ... فألسنها عجمٌ وأفعالها عربُ
إذا ما التقوا في مازقٍ وتعانقوا ... فلقياهم طعنٌ وتعنيفهم ضربُ
(2/346)
ولابن قلاقس في وصف السحاب والبرق والغيث
سرى وجبين بالطّلّ يرشح ... وثوب الغوادي بالبروق موشّحُ
وفي طيّ أبراد النسيم خميلةٌ ... بأعطافها نورُ المنى يتفتح
يضاحك في مثنى المعاطف عارضٌ ... مدامعةُ في وجنة الرّوض تسفحُ
وتورى به كفُّ الصَّبا زندبارقٍ ... شرارته في فحمة الليل تقدحُ
ومن قصيدة لأبي القاسم عبد الصمد بن بابك في الصاحب يصف له فيها إضرام النار في بعض غياض طريقه
وليلةٍ بت أشكو الهمّ أوّلها ... وعدت آخرها أستنجد الطّربا
في غيضةٍ من غياض الحزن دانيةٍ ... مد الظلام على أوراقها طنبا
حتى إذا النار طاشت في ذوائبها ... عاد الزمرّد من عيدانها ذهبا
مرقت منها وثغر الصبّح مبتسمٌ ... إلى أغرّ يرى المذخور ما وهبا
يا أعزر الناس أنواء ومحتلبا ... وأشرف الناس أعراقاً ومنتسبا
أصبحتُ ذا ثقة بالوفر منك وإنْ ... قال العواذل ظنٌّ ربّما كذبا
فحسن ظنّي بك استوفى مدى أملي ... وحسن رأيكَ لي لم يبقِ لي أربا
ومن قصيدة لأبي سعيد الرستمي يصف بها داراً بناها الصاحب بن عباد
وسامية الأعلامِ تلحظُ دونها ... سنا النجم في آفاقها متضائلاً
نسخت بها إيوان كسرى بن هرمُز ... فأصبحَ في أرض المدائن عاطلاً
فلو لحظت جنات تدمُر حسنها ... درتْ كيف تبنى بعدهنّ المجادلا
تناطح قرن الشّمس من شرفاتها ... صفوف ظباءٍ فوقهنّ مواثلا
ولو أصبحت داراً لك الأرض كلّها ... لضاقت بمن ينتاب دارك آملاً
وأغنى الورى عن منزل من بنت له ... معاليه فوق الشعريين منازلا
ولا غرو أن يستحدث الليثَ بالثرى ... عريناً وأن يستطرقَ البحر ساحلا
ولم تعتمدْ داراً سوى حومةِ الوغى ... ولا خدماً إلا القنا والقنابلا
(2/347)
والله ما أرضى لك الدهرَ خادماً ... ولا البدرَ منتاباً ولا البحر نائلاً
ولا الفلك الدوار داراً ولا الورى ... عبيداً ولا زهر النجومِ قبائلاً
فإنَّ الذي يبينهِ مثلكَ خالدٌ ... وسائرُ مابيني الأنامُ إلى بلى
ولخليل مطران بك في وصف روض
أيها الروضُ كنْ لقلبي سلاماً ... وملاذاً من الشقاءِ الملازمْ
زهرٌ ذابلٌ كأني أراهُ ... ثملاً من أنفاسهِ في الكمائمْ
وغديرٌ صافٍ أقام سياجاً ... حولهُ باسقٌ من الدَّوح قائم
تتناغى بيضٌ من الطير فيهِ ... سابحاتٌ وتحتها النجم عائم
كيفما سرن فالطريق عقودٌ ... نظمت من محاجرِ ومباسم
حبذا البدرُ مؤنساً يتجلى ... كحبيبٍ بعدَ التغيبِ قادمُ
حبذا رسمهُ البرايا كأبهى ... ماترى العينُ في صحيفةِ راسمٍ
حبذا الماءُ والمصابيحُ فيهِ ... كبنانٍ يزينها بخواتمْ
جنةٌ بانتِ المكارهُ عنها ... وهي بكرٌ من الأذى والمحارمْ
إنما أهلهل طيورٌ حسانٌ ... إن دعاها الصباحُ قامت تنادمْ
وضياءٌ يموجُ في الماءِ حتى ... لنراهُ كأنهُ متلاطم
ومروجٌ مدبحاتٌ كوشي ... أتقنتْ صنعه حسان المعاصمْ
وغصون تهزها نسمات ... كمهود تزهن روائم
وقال البحتري واصفاً صناعة الكتابة والإنشاء
تفننتَ في الكتابة حتى ... عطل الناس فن عبد الحميد
في نظام من البلاغة ماش ... ك امرؤ أنه نظام فريد
(2/348)
وبديع كأنه الزهر الضا ... حك في رونق الربيع الجديد
مشرق في جوانب السمع مايخ ... لقه عوده على المستفيد
ماأعيرت منه بطون القراطي ... س وما حملت ظهور البريد
حجج تخرس الألد بأل ... فاظ فرادى كالجوهر المعدود
ومعان لو فصلتها القوافي ... هجنت شعر جرول ولبيد
حزن مستعمل الكلام اختياراً ... وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدرك ... ن به غاية المراد البعيد
كالعذارى غدون في الحلل البي ... ض إذا رحن في الخطوط السود
وقال ابن حمد يس الصقلي يصف داراً بناها المنصور
أعمرْ بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معموراً
قصرٌ لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيراً
واشتق من معنى الجنان نسيمة ... فيكاد يحدث بالعظام نشوراً
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقاً وسديراً
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم اثنيت بناظري محسوراً
فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملاك فيه كبيراً
لو أنه بالإيوان قوبل حسنة ... ماكان شيئاً عنده مذكوراً
أعيت مصانعة على الفرس الألى ... لرفعوا البناء وأحكموا التدبير
ومضت على الروم الدهور ومابنوا ... لملوكهم شبهاً له ونظير
أذكرتنا الفردوس حين رأيتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصوراً
ومحصب بالدر تحسب أريتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصورا
ومحصب بالدر تحسب تربة ... مسكاً تضوع نشره وعبيراً
ووصف أعرابي تزوج امرأتين ماوقع له منهما فقال
تزوجتُ اثنتين لفرط جهلي ... بما يشقى به زوج اثنتين
فقلت أصير بينهما خروفاً ... أنعم بين أكرم نعجتين
فصرت كنعجة تضحي وتمسي ... تداول بين أخبث ذئبتين
رضا هذي يهيج سخط هذي ... فما أعري من إحدى السخطتين
وألقى في المعيشة كل ضر ... كذاك الضر بين الضرتين
لهذي ليلة ولتلك أخرى ... عتاب دائم في الليلتين
فإن أحببت أن تبقى كريماً ... من الخيرات مملوء اليدين
فعش عزباً فإن لم تستطعه ... فضرباً في عراض الجحفلين
وقال أبو تمام حبيب بون أوس الطائي في وصف الربيع
با صاحبي تقصيا نظريكما ... تريا وجوزه الأرض كيف تصور
تريا نهاراً مشمساً قد زانه ... زهر الربا فكأنما هو مقصر
دنيا معاشٌ للورى حتى إذا ... حل اتلربيع فإنما تهي منظر
(2/349)
أضحت تصوغ بطونها لظهورها ... نوراً تكاد له القلوب تنور
من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين لديك تحذر
وقال أبو عبادة البحتري يصف قصر المعتز بالله
لما كملتَ رويةً وعزيمةً ... أعملتَ رأيك في ابتناء الكامل
وغدوت من بين الملوك موفقاً ... منه لابمن حلة ومنازل
ذعر الحمام وقد ترنم فوقه ... من منظر خطر المزلة هائل
رفعت لمخترق الرياح سموكه ... وزهت عجائب حسنه المتحايل
وكأن حيطانَ الزجاج بجوه ... لجج يمجن على جنوب سواحل
وكأن تفويتَ الرخام إذا التقى ... تأليفه بالمنظر المتقابل
حبك المغمام رصفن بين منمر ... ومسير ومقارب ومشاكلٍ
لبست من الذهب الصقيل سقوفه ... نوراً يضيء على الظلام الحافل
فترى العيون يجلن في ذي رونق ... متلهب العالي أنيق السافل
وكأنما نشرت على بستانه ... سيراء وشي اليمنة المتواصل
أغنته دجلة إذ تلاحق فيضها ... عن صوب منسحب الرباب الهاطل
وتنفست فيه الصبا فتعطفت ... أشجاره من حول وحواملي
وقال المتنبي في وصف جواد
ويومٍ كلونِ المدنفين كمتنه ... أراقب فيه الشمس أيان تغرب
وعيني إلى أذني أغر كأنه ... من الليل باق بين عينيه كوكب
له فضلة من جسمه في إهابه ... تجيء على صدر رحيب وتذهب
شققت به الظلماء أدنى عنانه ... فيطغى وأرخيه مراراً فيلعب
وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب
(2/350)
وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ ... وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها ... وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وقال صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750هـ? في وصف الربيع
ورد الربيعُ فمرحبا بورودهِ ... وبنور بهجته ونور وروده
وبحسن منظره وطيب نسيمه ... وأنيق مبسمه ووشى بروده
فصل إذا افتخر الزمان فإنه ... إنسان مقلته وبيت قصيده
يغني المزاج عن العلاج نسيمة ... باللطف عند هبوبه وركوده
ياحبذا أزهاره وثماره ... ونبات ناجمة وحب حصيده
والغصن قد كسي الغلائل بعدما ... أخذت يدا كانون في تجريده
نال الصبا بعد المشيب وقد جرى ... ماء الشبيبة في منابت عوده
والو رد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف يبه سراة جنوده
ونظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده
وانظر إلى المنثور في منظومة ... متنوعاً بفضوله وعقوده
وقال أيضاً في وصف حديقة
وأطلق الطير فيها سجع منطقه ... مابين مختلف منه ومتفق
والظل يسرق الدوح خطوته ... وللمياه دبيب غير مسترق
وقد بدا الورد مفتراً مباسمه ... والنرجس الفض فيها شاخص الحدق
والسحب تبكي وثغر البرق مبتسم ... والطير تسجع من تيه ومن أنق
فالطير في طرب والسحب في حرب ... والماء في هرب والغصن في قلق
وقال أحمد شوقي بك في وصف الطبيعة
تلك الطبيعة قف بنا ياساري ... حتى أريك بديع صنع الباري
(2/351)
الأرض حولك والسماء اهتزتا ... لروائع الآيات والآثار
ولقد تمر على الغدير تخاله ... والنبت مرآة زهت بإطار
حلو التسلسل موجه وخريره ... كأنامل مرت على أوتار
ينساب في مخضلة مبتلة ... منسوجة من سندس ونضار
وترى السماء ضحى وفي جنح الدجى ... منشقة عن أنهر وبحار
في كل ناحية سلكت ومذهب ... جبلان من صخر وماء جار
وقال محمد حافظ بك إبراهيم يصف المنيل
نظرت للنيل فاهتزت جوانبه ... وفاض بالخير في صهل ووديان
يجري على قدر في كل منحدر ... لم يجف أرضاً ولم يعمد لطغيان
كأنه ورجال الري تحرسه ... مملك سار في جند وأعوان
قد كان يشكو ضياعاً مذ جرى طلقاً ... حتى أقمت له خزان أسوان
وقال أيضاً عن لسان حال اللغة العربية واصفاً لها
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي ... وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني ... عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي ... رجالاً وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية ... وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة ... وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدركامن ... فهل سألوا الغوص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلي وتبلى محاسني ... ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني للزمان فإنني ... أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة ... وكمك عز أقوام بعز لغات
(2/352)
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا ... فيا ليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب ... ينادي بوأدي في ربيع حياني
ولو تزجون الطير يوماً علمتمُ ... بما تحته من عثرة وشتات
سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً ... يعز عليها أن تلين قناتي
حفظن ودادي غي البلى وحفظته ... لهن بقلب دائم الحسرات
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق ... حياءً بتلك الأعظم النخرات
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً ... من القبر يدنيني بغير أناة
وأسمع للكتاب في مصر ضجة ... فأعلم أن الصائحين نعاتي
أيهجرني قومي عفا الله عنهم ... إلى لغة لم تتصل برواتي
سرت لوثة الأعجام فيها كما سرى ... لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة ... مشكلة الألوان مختلفات
إلى معشر الكتاب والجمع حافل ... بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
فإما حياة تبعث الميت في البلى ... وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لاقيامة بعده ... ممات لنعمري لم يقس بممات
وقال شاعر العراق معرف الرصافي واصفاً قطار البخار
وقاطرة ترمي الفضا بدخانها ... وتملا صدر الأرض في سيرهم رعبا
تمشت بنا ليلاً تجر وراءها ... قطاراً كصف الدوح تسحبه سحباً
فطوراً كعصف الريح شديدة ... وطوراً رخاءً كالنسيم إذا هبا
تساوى لديها السهل والصعب في السرى ... فما استسهلت سهلاً ولا استصعبت صعباً
تدك متون الحزن دكا وإنها ... لتنهب سهل الأرض في سيرها نهبا
يمر بها العالي فتعلو تسلياً ... ويعترض الوادي فتجتازه وثبا
طوت بالمسير الأرض حتى كأنها ... تسابق قرص الشمس أن تدرك الغربا
هو العلم يعلو بالحياة سعادة ... ويجعلها كالعلم محمودة العقبى
(2/353)
وقال ابن حمد يس الأندلسي في وصف
ومصفح الأبواب تبراً نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيراً
وإذا نظرت إلى غرائب شقفه ... أبصرت روضاً في السماء نضيراً
وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويراً
وكأنما الشمس فيه ليقةٌ ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازورد فيه نخزم ... بالخط في ورق السماء سطوراً
وقال المرحوم محمود باشا سامي البارودي يصف حرب سكان جزيرة اقريطش "كريد" حين خرجوا عن الطاعة سنة 1282هـ? ويتشوق إلى مصر
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان ... وهفا السرى بأعنة الفرسان
والليل منشور الذوائب ضارب ... فوق المتالع والربى بجران
لاتستبين العين في ظلمائه ... إلا اشتغال أسنة المران
تسري به مابين لجة فتنةٍ ... تسمو غواربها على الطوفان
في كل مربأة وكل ثنية ... تهدار سامرة وعزف قيان
نستن عادية ويصهل أجرد ... وتصيح أجراس ويهتف عان
قومٌ أبى الشيطان إلا خسرهم ... فتسللوا من طاعة السلطان
ملؤا الفضاء فما يبين لناظر ... غير التماع البيض والخرصان
فالبدر أكدر والسماء مريضة ... والبحر أشكل والرماح دوان
والخيل واقفة على أرسانها ... لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا ... يتكلمون بألسن النيران
حتى إذا ماالصبح أسفر وارتمت ... عيناي بين ربى وبين مجان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوها ... داعنة والماء أحمر قان
فتوجست فرط الركاب ولم تكن ... لتهاب فامتنعت على الأرسان
فزعت فرجعت الحنين وإنما ... تحنانها شجن من الأشجان
ذكرت م وىاردها بمصر وأين من ماء بمصر منازل الرمان ...
والنفس لاهية وإن هي صادفت ... خلفاً بأول صاحب ومكان
فسقي السماك محلة ومقامة ... في مصر كل مرنة مرنان
حتى تعود الأرض بعد ذبولها ... شتى النماء كثيرة الألوان
بلدٌ خلعت بها عذار شبيبي ... وطرحت في يمنى الغرام عناني
فصعيدها أحوى النبات وسرحها ... ألمى الظلال وزهرها متداني
فارقتها لما هو كائن ... والمرء طوع تقلب الأزمان
حمل الزمان على مالم أجنه ... إن الأماثل عرضة الحدثان
نقموا علي وقد فتكت شجاعتي ... إن الشجاعة حلية الفتيان
فليهنأ الدهر النغيور برحلتي ... عن مصر ولتهدأ صروف زماني
فلئن رجعت وسوف أرجع واثقاً ... بالله أعلمت الزمان مكاني
صادقت بعض القوم حتى خانني ... وحفظت منه مغيبه فرماني
زعم النصيحة بعد أن بلغت به ... غشا وجازى الحق بالبهتان
فليجر بعد كما أراد بنفسه ... إن الشقي مطية الشيطان
وكذا اللئيم إذا أصاب كرامة ... عادى الصديق ومال بالأخوان
كل امرئ يجري على أعرافه ... والطبع ليس يحول في الغنسان
فعلام يلتمس العدو مساءتي ... من بعد ماعرف الخلائق شأني
أنا لاأدل وإنما يزع الفتى ... فقد الرجاء وقلة النإخوان
فليعلمن أخو الجهالة قصره ... عني وإن سبقت به قدمان
فلربما رجح الخسيس من الحصى ... بالدر عند تراجح الميزان
شرف خصصت به وأخطأ حاسدي ... مسعاته فهذي به وقلاني
وقال السيد عبد الله النديم المتوفى سنة 1314هـ? يصف قطاراً بخارياً
نظر الحكيم صفاته فتحيرا ... شكلاً كطود بالبخار مسيرا
دوما يحن إلى ديار أصوله ... بحديد قلب باللهيب تسعرا
ويظل يبكي والدموع تزيده ... وجداً فيجري في الفضاء تستراً
(2/354)
تلقاكه حال السير أفعى تلتوي ... أو فارس الهيجا أثار العثيرا
أو أكرة أرسلتها ترمي بها ... غرضاً فجلت أن ترى حال السرى
أو سبع غاب قد أحس بصائد ... في غابة فعدا عليه وزمجراً
فكأنه المديرون جاء غريمه ... فانسل منه وغاب عن تلك القرى
أو أكنه شهب هوت من أفقها ... أو قبة المنطاد تنبذ بالعرا
لاعجب للنيران إذ يمشي بها ... فمن اللظى تجري الورى كي تحشرا
وقال أحمد بك شوقي يصف الجسر الواصل بين ضفتي البسفور
أمير المؤمنين رأيت جسراً ... أمر على الصراط ولا عليه
له خشب يجوع السوس فيه ... وتمضي الفار لاتأوي إليه
ولا يتكلف المنشار فيه ... سوى مر الفطيم بساعديه
ويبلى فعل من يمشي عليه ... وقبل النعل يدمي أخمصيه
وكم قد جاهد الحيوان فيه ... وخلف في الهزيمة حافريه
وأسمج منه في عيني جباة ... تراهم وسطه وبجانبيه
إذا لاقيت واحدهم تصدى ... كعفريت يشير براحتيه
ويمشي (الصدر) فيه كل يوم ... بموكبه السني وحارسيه
ولكن لا يمر عليه إلا ... كما مرت يداه بعارضيه
ومن عجب هو الجسر المعلى ... على (البسفور) يجمع شاطئيه
يفيد حكومة السلطان مالا ... ويعطيها الغنى من معدنيه
يجود العالمون عليه هذا ... بعشرته وذاك بعشرتيه
وغاية أمره أنا سمعنا ... لسان الحال ينشدنا لديه
(أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ماقل ممتنعاً عليه)
(وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه)
(2/355)
بركة عليها أشجار من ذهب وفضة وعلى حافلتها أسود قاذفة بالمياه
(2/357)
وضراغم سكنت عرين رآسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا
أسدٌ كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدث هناك مثير
وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها ... ناراً وألسنها اللواحس نوراً
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديراً
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديراً
* * *
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسحوراً
شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيراً
قد سرجت أغصانها فكأنما ... قبضت بهن من الفضاء طيوراً
وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تفرد بالمياه صغيراً
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجروراً
وتريد في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤاً منثوراً
* * *
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغوراً
(2/358)
وقال حفني بك ناصيف المتوفى سنة 1919م يصف حريق عابدين
وافى يقبل راحتيك العام ... وحنت إليك رؤوسها الأيام
والدهر أقسم لايجيء بغير ما ... ترضى وكم يرت له أقسام
فاقبل معاذير الزمان فطالما ... قبلت معاذير المنيب كرام
واغفر جنايته على القصر الذي ... لم تحو مصر نظيره والشام
شبت به النيران فارتاعت لها ... مهج الأنام وهالها استعظام
لولا الدخان أحاط حول لهيبها ... ماشك فرد أنهما أعلام
أمرٌ به نفذ القضاء وليس في ... أحكامه نقضٌ ولا إبرام
بل حكمة شاء الإله بيانها ... لعبادة ليذيع الاستسلام
حتى يروا أن الملوك وإن علوا ... قدراً تسير عليهم الأحكام
فإذا اقتدى بهم الرعية أحسنوا ... صبراً وخفت عنهم الآلام
عين السماء لعابدين تطلعت ... حسداً عليك وللعيون سهام
وتشوق القصر الكريم لأهله ... والشوق في قلب المحب ضرام
لم يستطع صبراً على طول النوى ... والصبر في شرع الغرام حرام
فتصعدات زفراته وتأججت ... جمراته والصب كيف يلام
لولا الدموع من المطافئ ماانقضى ... منه الهيام ولم يبل أوام
خرقت طباق الجو إلا أنها ... برد قصارى آمرها وسلام
(2/367)
هذا: وكم نعمة في نقمة ... طويت فلم تفطن لها الأفهام
وقال يصف ابتهاج الأمة بالأمير
طاروا سروراً من شهود أميرهم ... فكأنهم حول القطار حمام
يتسابقون إلى اجتلاء سموه ... وبهم زفير نحوه وهيام
لو لم تكن نار القطار لجره ... وجد يجيش بصدرهم وغرام
في كل رستاق وكل مدينة ... شوقاً إليك تجمع وزحام
من كل فج ينسلون فأترعت ... بهم الوهاد وماجت الآكام
والنور أمسى أبحراً غرق الدجى ... فيها ومات بلجها الأظلام
فكأن وجه الأرض وجه أبلج ... بين الكواكب والغمام لثام
والناس من كل الجوانب هتف ... عش ياعزيز يحوطك الإعظام
وقال حافظ بك إبراهيم يصف خزان أسوان ويمدح الحضرة الخديوية
أخزان مصر أنت أم مصر ... أجل وأسمى في المكانة والقدر
أعدت لنا مجد القرون التي مضت ... وجددت من عهد الفراعنة الغر
وهيهات ماأهرام مصر وإن سمت ... بأرفع رأساً من حضيضك لو تدري
وليس سنان بن المشلل خالداً ... بانبه من "عباس"عصرك في الذكر
وماقطرت السحب كالدر تنهمي ... بألطف وقعاً من عقيقك إذ يجري
وماأنت خزان المياه وطميها ... وإبليزها بل خازن الدر والتبر
تدفقت بالخيرات من كل جانب ... وجمعت أقطار المنافع في قطر
فقل للغوادي وال روائح تنجلي ... وفي مصر فلتسمح على قفر
إذا ماجرت أمواهها دون حاجة ... وفاضت جرت منك المياه على قدر
ضربت على آثار مصر ولم يكن ... ليطمسها لولا جلالك من إثر
ألا فلتسد مصر على كل بقعة ... به وليطاول قطرها مسقط القطر
بناءٌ من الدهر استعار بقاءه ... وأقسم ألا يسترد من الدهر
الباب الخامس
في الاستعطاف والمعاتبات والاعتذارات قال النابغة الذبياني
يادار مية بالعلياء فالسند ... أفوت وطال عليها سالف الأبد
مناظرة السفينة والوابور للمرحوم السيد عبد الله النديم المتوفى سنة 1314هـ"
شمرت "السفينة" عن الذراع وسحبت طرفها ونشرت الشراع واعتدلت ومالت وابتدأت وقالت:
حمداً لمن أسبغ على عباده جزيل الإنعام وسخر لهم من فضله السفن والأنعام وجعلهما مطيتين لحمل الأرزاق والأثقال وحافظين للذخائر عند السفر والانتقال وامتن بهما على عباده وهو عليم بما يصنعون فقال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) [المؤمنون: 22] وصلاةً وسلاماً على من أسفرت أسفاره عن عظيم أخلاقه فانفتح بتوجهاته الشريفة باب السياحة بعد إغلاقه وآله وأصحابه الذين تحملوا في الغزوات مشاق البرد والحر واقتحموا في نضر دينه عقبات البحر والبر "وبعد" فإن المخترعات في الدنيا كثيرة وقد صارت سهلة بعد أن كانت خطيرة ولكن من المعلوم لكل عاقل عارف بأحوال الأوائل ناقل أن شكلي أول غريب ابتدع وأحسن عظيم اختراع ما تقدمني سوى الحيوان والكواكب وضروريات الزرع وبعض آلات المعاطب وكان البحر قبلي ظلمة ما طلع له فجر وانشرح لها صدر بل غرضاً ما أصابه سهم ومعنى ما ترقى لهم وهم حتى أمر الله نبيه نوحاً بصنعي وعلمه تركيب ضلوعي عند جمعي فبذل في جهده وباشر عملي وحده وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال: (إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) [هود: 38] فقال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ) [هود: 37] فاستمر حتى أتم عمله وحقق رجاءه وأمله وأنزلني البحر عروساً وأطاب بي نفوساً فتلقاني البحر على رأسه وجريت بين روحه وأنفاسه وصار كل غريب حاضر لدي وكلما تلاطم البحر ضربته بيدي لا ترهبني منه الأمواج ولا تردني عنه الأبراج أحمل الذخائر والأرزاق وأجمع الأحباب والعشاق ومع ذلك فإن أصلي معدن الثمر ونزهة الأرقاء عند السمر فمن له أب كأبي ومن قبلي صنعه نبي فمجدي شامخ ومجد غيري متهدم والفضل كل الفضل للمتقدم.
فالتهبت أحشاء (الوابور) بفحم الحجر وصعدت أنفاسه مشوبة بشرر وزمجر وكفر وصاح وصفر وجرى حتى خرج عن "الشريط" وقال السكوت على هذا من التفريط ثم كر بعجله وجال وابتدأ رداً عليه فقال:
الحمد لله خالق كل شيء موجود الذي يشرفني بالذكر قبل الوجود حيث امتن على عباده بخلق عليها يحملون ثم قال: (وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [النحل: 8] ويستأنس لي بقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ) [يس: 42] ولا يغفل عن ذكري إلا الجاهلون والصلاة والسلام على من تكلم بالمغيبات من غير شك ولا التباس المنزل عليه (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ) [الحديد: 25] وأصحابه الذين اتخذوا من معدني دروعاً وتيجاناً وقاتلوا بها حتى أظهروا ديناً وأرضوا ديّاناً "وبعد" فالوقوف عند حد النفس إنصاف والخروج عنه قبيح الأوصاف: الفخر لا يكون إلا عن كبر أو غباوة وهو أول داع للحرب والعداوة فكم أثار حرباً وأضرم ناراً وكم هدم قصراً وأباد داراً ولكن شر أهر ذا ناب وكوة فتحت بها أبواب فإني ما كنت أظن أن السفينة الحقيرة المسكينة تخرج من الأجراف وهي ترفع في وجهي المجداف ولكن قد يلقى الإنسان ضد أمله والمرء مجزي بعمله ومن سل سيف البغي قتل به وأهم أمريك الذي أنت به فانتبه فقابل أعداءك بأرداء الحجارة وإياك أعني فاسمعي بإجارة فإنك وإن كنت أول عمل للخلق وصناعة نبي بوحي الحق إلا أنك حمالة الحطب قريبة العطب إن هبت عليك نسمات هلك من فيك ومات وإن كتبت لك سلامة فلا حباً ولا كرامة وإن كسر ضلعك فار علا فيك الماء وفار: بم تفتخرين وأنت مكتفة بالحبال وخدمتك ينادون بالوبال إن سلكت طرق الأمن ارتجفت القلوب وإن ساعدتك الصبا أهلكتك الجنوب تغرقين إن زاد عليك "طرد" وتهلكين إن نزل عليك "شرد" فإن أبيت السير سحبوك على وجهك وإن كلوا تركوك وباتوا على قلبك ما أقبح أصوات الأوباش حين يصعدون لسحب القماش وما أفظع تلك الضجة إذا "شحطت" وسط اللجة كم عقت محباً عن حبيبه وأحرمت تاجراً من نصيبه وكم جعلوك مطية للفساد وآلة لهلاك العباد فإن كنت ذكرت في الكتاب صراحة فقد ذكرت ضمناً وإن ظهرت قبلي لفظاً فقد كنت معنى ما تأخر لتاجر عندي سبب ولا حرم من صاحبني بلوغ أرب طريقك معوج وطريقي مستقيم لا يملني صحيح ولا يسأمني سقيم فسحبت السفينة "المداري" وقالت له "باري باري" كم تعرض وتصرح "وأصفح وأصلح" ولكن مهلاً يا أبا لهب فقد خرجت عن الأدب ولابد ما "أرسي" على برّك وأحرقك بلهيب جمرك حصرت بين "عجل وقضيب" ووقفت في جحيم ولهيب وتغذّيت "بالخشب والفحم" وتفكهت "بالزيت والشحم" وتولعت "بالمشاقة والكهنه" وتحليت "بالهباب والدهنة" وتمكن الغيظ فيك وانحبس حتى صار فيك "نفس" وجئت تقول إني حمالة الحطب وأنت حمال النار واللهب وإني قريبة العطب وأنت أبو البلايا والكرب إن جريت فضحت عرضك وإن وقفت تأكل بعضك وإن صدمك شيء هلكت ووقفت وما سلكت وإن كسر "ذراعك" وقعت وقليل إن طلعت وإن دخن أنفك تعمى صورتك وإن ظمئت يوماً طقت "ما سورتك" تجري في الخلاء والقفار وتقول النار ولا العار ما أوسخ رجالك وأضيق مجالك يا مفرق الأحباب ومفزع الركاب غريقي أرجى من غريقك وبحري أنجا من طريقك كم هرست من إنسان وطحنت من حيوان وخلفت راكباً وتركته حيران وكم جعل رجالك الناس مسخرة إذا لم يجدوا معهم "تذكرة" وكم أضعت على تاجر فلوسه إذا فقدت منه "بوليسة" أعلى غير "الشريط" تجري فضلاً عن لجي وبحري أدخل نفسك في "مخزن الوفر" (وفضك من النفخ والصفر) تفتخر على أغصان الطعوم "وأنت حديد يا مشوم" ولئن سرت على "عجل" فقلوب أهلك في وجل أما علمت أن العجلة من الشيطان وأن الباغي جزاؤه النيران شغلت بالأكل والتمشي ففاتك الرفق والتأني.
وبالجملة فإني سابقة هذا الميدان ولا ينتطح في ذلك عنزان.
فتحرك الوابور تحرك ناقد وتنهّد تنهد حاقد وقطع (قطره) وأبا (شحناً) وقال أسمع جعجعة ولا أرى طحناً أبعوض تطن في أذن فيل وصورة تعد في التماثيل ولكني أبيت مخاطبتك وعفت وكرهت وجهك المدهون "بالزفت" فإن حالك حال الحيران وصباحك صباح "القطران" وكيف أفاخر امرأة عقلها في "مؤخرتها" وهلاكها في تمزيق مئزرها تقاد بحبل طويل وتنقاد لأدنى "عويل" يديرها (شاغول) وفكرها مشغول تتبع هواها في السير ولها جناح كالطير أمية فيها (قارية) ويد عاجزة لها (باريه) ثالثة العيزين في ذل (الوتد) (وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مّسَدٍ) [المسد: 4 5] .
عصاي أركزها لصلاتي. وأعدها لعداتي. وأسوق بها دابتي. وأقوى بها على سفري. واعتمد عليها في مشيتي يتسع خطوي. وأثب بها على النهر، وتؤمنني العثر. وألقي عليها كسائي. فيقيني الحر. ويجنبني القر. وتدني إلي ما بعد عني. وهي محمل سفرتي. وعلاقة أدواتي. أفزع بها الأبواب وألقي بها عقور الكلاب. وتنوب عن الرمح الطعان. وعن السيف عند منازلة الأقران. ورثتها عن أبي وسأورثها ابني من بعدي وأهش بها على غنمي. ولي فيها مآرب أخرى.
الطاووس حيث قال:
سبحان من من خلقه الطاووس ... طير على أشكاله رئيس
تشرق في دارته شموس ... في الرأس منه شجر مغروس
كانه بنفسج يميس ... أو هو زهر حرم يبيس
287 قال بعضهم في وصف الفستق:
كأنما الفستق المملوح حين بدا ... مشققاً في لطيفات الطيافير
واللب ما بين قشرته به يلوح لنا ... كألسن الطير ما بين المناقير
288 وقيل في الفستق أيضاً:
تفكرت في معنى الثمار فلم احد ... لها ثمراً يبدو بحسن مجرد
سوى الفستق الرطب الجني فإنه ... زها بمعان زينت بتجرد
غلاله مرجان على جسم فضة ... وأحشاء ياقوت وقلب زبرجد
في الورد:
الورد أحسن ما رأت عيني وأذ ... كى ما سقى ماء السحاب الجامد
خضعت نواوير الرياض لحسنه ... فتذللت تنقاد وهي شوارد
وإذا تبدى الغض في أغصانه ... يزهو فذا ميت وهذا حاسد
وإذا أتى وفد الربيع مبشراً ... بطلوع وفدته فنعم الوافد
ليس المبشر كالمبشر باسمه ... خبر عليه من النبوة شاهد
وإذا تعرى الورد من أوراقه ... بقيت عوارفه فهن خوالد
االشام:
عنيت بشرق الأرض قدما وغربها ... أجوب إلى آفاقها وأسرها
فلم أر مثل الشام دار إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها
مصحة أبدان ونزهة أعين ... ولهو لنفس دائم لي سرورها
مقدسة جاد الربيع بلادها ... ففي كل ارضٍ روضة وغديرها
301 أحسن ما قيل في وصف الشطرنج قول ابن المعتز:
يا عائب الشطرنج من جهله ... وليس في الشطرنج من باس
في فهمها علم وفي لعبها ... شغل عن الغيبة للناس
لابن الأثير في وصف الخيل
(قلت في وصف فرس أدهم) : وطالما امتطيت صهوة مطهم نهد. فغنيت عن نشوة الكميت من ذات نهد. يسابق الريح فيغبر في وجهها دون شق غباره. وإذا ظهر عليها رجعت حسرى في مضماره. نسب إلى الأعوج وهو مستقيم في الكر والفر. وقد حنقت عليه عين الشمس إذ لا يمكنها أن ترسم ظله على الأرض إذا مر. ليلي الإرهاب لطم جبينه الصباح ببهائه. فعدا عليه وخاض يقتص منه في أحشائه. كما قال ابن نباتة السعدي:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه
وقد أغتدي عليه والطير في وكناتها فلا يفوتني الأجدل. وإذا أطلقته لصيد الوحش رأيتني على منجرد قيد الأوابد هيكل.
(وقلت في وصف فرس هجين) : فرس له من العربية حسب ومن الكردية نسب. فهو من بينهما مستنتج. لا ينتسب إلى خبيب ولا إلى أعوج. ومن صفاته أنه رحب اللبان. عريض البطان. سلس العنان. ينثني على قدر الطعان. وعلى قدر الكرة والصولجان. قد استوت حالته قادما ومتأخرا. فإذا أقبل خلته مرتفعا. وإذا أدبر خلته منحدرا. كأنه في حسنه دمية محراب. وفي خلقه ذروة هضاب. وهو في سباقه ولحاقه مخلق بخلق المضمار. وبدم السراب والصوار فهو منسوب إلى ذوات القوادم. وإن كان محسوبا في ذوات القوائم. كأنما ثنى لجامه على سالفة عقاب. وشد حزامه على بارقة سحاب (الوشي المرقوم لابن الأثير)
قال علي بن محمد الأيادي يصف أسطول القائم فأجاد ما أراد
إعجب لأسطول الإمام محمد ... ولحسنه وزمانه المستغرب
لبست به الأمواج أحسن منظر ... يبدو لعين الناظر المستعجب
من كل مشرقة على ما قابلت ... إشراف صدر الأجدل المتنصب
دهماء قد لبست ثياب تصنع ... تسبي العقول على ثياب ترهب
من كل أبيض في الهواء منشر ... منها وأسحم في الخليج مغيب
كمراءة في البر يقطع سيرها ... في البحر أنفاس الرياح الشذب
محفوفة بمجادف مصفوفة ... في الجانبين دوين صلب صلب
كقوادم النسر المرفرف عريت ... من كاسيات رياشه المتهدب
وتحثها أيدي الرجال إذا ونت ... بمصعد منه بعيد مصوب
خرقاء تذهب إن يد لم تهدها ... في كل أوب للرياح ومذهب
جوفاء تحمل كوكبا في جوفها ... يوم الرهان وتستقل بمركب
ولها جناح يستعار بطيرها ... طوع الرياح وراحة المتطرب
يعلو بها حدب العباب مطارة ... في كل لج زاخر مغلولب
تنصاع من كثب كما نفر القطا ... طورا وتجتمع اجتماع الربرب
ولواحق مثل الأهلة جنح ... لحق المطالب فائتات المهرب
يذهبن فيما بينهن لطافة ... ويجئن فعل الطائر المتغلب
وعلى كواكبها أسود خلافة ... تختال في عدد السلاح المرهب
فكأنما البحر استعار بزيهم ... ثوب الجمال من الربيع المذهب
ولصفي الدين الحلي في صفة الشمع
جلت الظلماء باللهب ... إذ بدت في الليل كالشهب
فانجلت في تاجها فجلت ... ظلم الأحزان والكرب
سفرت كالشمس ضاحكة ... من تواري الشمس في الحجب
ما رأينا قبل منظهرا ضاحكا في زي منتحب
كيف لا تحلو ضرائبها ... وبها ضرب من الضرب
خلتها والليل معتكر ... ونجوم الأفق لم تغب
قضبا من فضة غرست ... فوق كثبان من الذهب
أو يواقيتا منضدة ... بين أيدينا على قضب
أو رماحا في العدى طعنت ... فغدت محمرة العذب
أو سهاما نصلها ذهب ... لسوى الظلماء لم تصب
أو أعالي حمر ألوية ... نشرت في جحفل لجب
أو شواظا للقرى رفعت ... تتراءى في ذرى كثب
أو لظى نار الحباحب قد ... لمعت للعين عن لبب
أو عيون الأسد موصدة ... في ذرى غاب من القصب
أو شفيق الروض منتظما ... فوق مجدول من القصب
أو ذرى نيلوفر رفعت ... فوق قضبان من الغرب
ابن حمديس الصقلي يصف دارا بناها المنصور بن أعلى ببجاية
أعمر بقصر الملك ناديك الذي ... أضحى بمجدك بيته معمورا
قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا
واشتق من معنى الجنان نسيمه ... فيكاد يحدث بالعظام نشورا
نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا
أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا
فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا
لو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئا عنده مذكورا
أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء وأحكموا التدبيرا
ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شهبا له ونظيرا
أذكرتنا الفردوس حين أريتنا ... غرفا رفعت بناءها وقصورا
ومحصب بالدر تحسب تربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا
تستخلف الأبصار منه إذا أتى ... صبحا على غسق الظلام منيرا
ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضة ترمي فروعها المياه. ثم تفنن وذكر أسودا على حافاتها قاذفة بالمياه أيضا فقال:
وضراغم سكنت عرين رئاسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لو وجدت هناك مثيرا
وتذكرت فتكاتها فكأنما ... أقعت على أدبارها لتثورا
وتخالها والشمس تجلو لونها ... نارا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه ... درعا فقدر سردها تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناي بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية نزعت إلى ... سحر يؤثر في النهى تأثيرا
قد صوبحت أغصانها فكأنما قبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما تأبى لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل واقعة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس تعد من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجروها
وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلوءا منثورا
ضحكت محاسنه إليك كأنما ... جعلت لها زهر النجوم ثغورا
ومصفح الأبواب تبرا نظروا ... بالنقش فوق شكوله تنظيرا
وإذا نظرت إلى غرائب سقفه ... أبصرت روضا في السماء نضيرا
وضعت به صناعها أقلامها ... فأرتك كل طريدة تصويرا
وكأنما للشمس فيه ليقةٌ ... مشقوا بها التزويق والتشجيرا
وكأنما اللازرد فيه مخرم ... بالخط في ورق المساء سطورا
وصف إبليس لنفسه
قال شيخ العفاريت الطغاة المصاليت: إني من قديم الزمان. وبعيد الحدثان. أضللت كثيراً من الناس. بالمكر والخداع والوسواس. وكان من جنس بني آدم كذا وكذا ألف عالم خدامي ومعي. وجندي وتبعي. منهم رؤوس الزهاد. وعلماء العباد. وعلى محبتي مضوا. وبإتباع أوامري قضوا. فأنا فتنة العالم. وأعدى أعداء بني آدم. الشيطان الرجيم. وإبليس الذميم. اسم ذاتي ووصف صفاتي. أنا رأس العفاريت المتمردين. ومحل غضب رب العالمين. خلقت من مارج من نار. وطبعت على إلقاء البوار والدمار. رجوم النجوم إنما أعدت لأجلي. وعتاة الغواة لا تصل رؤوسها إلى مواطئ رجلي. الشياطين تستمد من زواخر مكري. والزنديق يقتبس من ضمائر فكري. لم تمر قضية من الزمان الغابر إلا ولي شركة فيها. ولا حدثت محنة لنبي ولا ولي إلا وأنا متعاطيها. جدي إبليس. نهض لجدي التعيس. وإلى نحو آدم هوى. فعصى ربه فغوى. وأنا قضيت بالتسويل. حتى قتل قاين هابيل. أنا سولت لأولاد يعقوب وحاولت في قضية أيوب. وأنا كنت العون. لهامان وفرعون. وجرأت على قتل الأنبياء والأولياء وتوصلت بتزيين الوسواس. لقاتلي الذين يأمرون بالقسط من الناس. ودعوت إلى عبادة العجل قوم موسى. وساعدت في التفريق والإضلال بين أمة عيسى. وكم أغويت من بلدان. بما زخرت من أوثان. وقد بلغني عن جمع من مسترقي السمع وطن على أذني ووعاه خاطري. ووقر في ذهني.
وأنا أشارف التخوم. وأسارق النجوم. واسابق الوجوم. بي تكثر البدع بين الجماعات والجمع. ويظهر من الفتن ما بطن. ويغلب من التتار. وأهل البوار والخسار. أنواع الشرور والجدال. إلى حين يظهر الدجال وتستمر إلي هذه الأمور. إلى يوم البعث والنشور. وبالجملة والتفصيل أنا شيخ التكفير والتضليل. وتلك صنعتي من الابتداء. وحرفتي إلى الانتهاء. أسهم مرامي المشؤومة نافذة في المشارق والمغارب. وسيوف مناشري المسمومة قاطعة في الأعاجم والأعارب. كم لي في الأطراف والآفاق والأكناف من قاض ونائب. ومانع من الخير وصاحب. وكم لي من جابي. منوط بتفريق قلوبهم وجمع سويدائها إلى بابي. وكم لي في الزوايا من خبايا. وفي أصحاب الروايات من درايات. وفقيه في النادي. فاق الحاضر والبادي. يعلم لي في الشيطنة أولادي. وفي البيلسة حفدتي وأجنادي. وبالجملة غالب الطوائف. وأرباب الوظائف. على باب خدمتي واقف. وعلى طاعة مراسيمي ليلاً ونهاراً عاكف. مناي مناهم. ورضاي رضاهم. وإن خالف بعض سري نجواهم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم (ابن عربشاه) .
وصف بعض البلغاء رجلاً فقال: إن بسيط الكف. رحب الصدر. موطأ الأكناف. سهل الخلق. كريم الطباع. غيث مغوث. وبحر زخور. وضحوك السن. بشير الوجه. بادي القبول.
غير عبوس. يستقبلك بطلاقة. ويحييك ببشر. ويستدبرك بكرم غيث وجميل بشر. تبهجك طلاقته. ويرضيك بشره. ضحاك على مائدته عبد لضيفائه. غير ملاحظ لأكيله. بطين من العقل. خميص من الجهل. راجح الحلم. ثاقب الرأي. طيب الخلق. محصن الضريبة. معط غير سأال. كاس من كل مكرمة. عار من كل ملامة. إن سئل بذل. وإن قال فعل (للقيرواني) .
زهرية صفي الدين الحلي
ورد الربيع فمرحباً بوروده ... وبنور بهجته ونور وروده
وبحسن منظره وطيب نسيمه ... وأنيق ملبسه ووشي بروده
فصل إذا افتخر الزمان فإنه ... إنسان مقلته وبيت قصيده
يغني المزاج عن العلاج نسيمه ... باللطف عند هبوبه وركوده
يا حبذا أزهاره وثماره ... ونبات ناجمه وحب حصيده
وتجاوب الأطيار في أشجاره ... كبنات معبد في مواجب عوده
والغصن قد كسي الغلائل بعدما ... أخذت يدا كانون في تجريده
نال الصبا بعد المشيب وقد جرى ... ماء الشبيبة في منابت عوده
والورد في أعلى الغصون كأنه ... ملك تحف به سراة جنوده
وانظر لنرجسه الجني كأنه ... طرف تنبه بعد طول هجوده
وأعجب لآذريونه وبهاره ... كالتبر يزهو باختلاف نقوده
وانظر إلى المنظوم من منثوره ... متنوعاً بفصوله وعقوده
أو ما ترى الغيم الرقيق وما بدا ... للعين من أشكاله وطروده
والسحب تعقد في السماء مآتماً ... والأرض في عرس الزمان وعيده
والغيم يحكي الماء في جريانه ... والماء يحكي الغيم في تجعيده
فابكر إلى روض الصراة وظلها ... فالعيش بين بسيطه ومديده
قال أبو الحسن بن نزار في مدينة وادي آش:
وادي الأشات يهيج وجدي كلما ... أذكرت ما أفضت بك النعماء
لله ظلك والهجير مسلط ... قد بردت لفحاته الأنداء
والشمس ترغب أن تفوز بلحظة ... منه فتطرف طرفها الأفياء
والنهر يبسم بالحباب كأنه ... سلخ نضته حية رقطاء
فلذاك تحذره الغصون فميلها ... أبداً على جنباته إيماء
قال مجير الدين بن تميم:
مذ قيل للأغصان إن الورد قد ... وافى إلى الأزهار وهو أمير
بسمت ثغور الأقحوان مسرة ... لقدومه وتلون المنثور
قال الصابئ في شمعة:
وليلة من محاق الشهر مدجنة ... لا النجم يهدي السرى فيها ولا القمر
كلفت نفسي بها الإدلاج ممتطياً ... عزماً هو الصارم الصمصامة الذكر
إلى حبيب له في النفس منزلة ... ما حلها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفة ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصن من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتة صفراء تستعر
تأتيك ليلاً كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طوتها دونها الجدر
قال أبو العلاء المعري في الشمعة أيضاً:
وصفراء لون التبر مثلي جليدة ... على نوب الأيام والعيشة الضنك
تريك ابتساماً دائماً وتجلداً ... وصبراً على ما نابها وهي في الهلك
ولو نطقت يوماً لقالت أظنكم ... تخالون أني من حذار الردى أبكي
فلا تحسبوا دمعي لوجد وجدته ... فقد تدمع الأحداق من كثرة الضحك
وقال بعض الشعراء يصف بغداد بعد أن حاصرها طاهر بن الحسين وخرب بناءها:
بكيت دماً على بغداد لما ... فقدت نضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرور ... ومن سعة تبدلنا بضيق
أصابتنا من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق
وقوم أحرقوا بالنار قسراً ... ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي وإصباحا ... وباكية لفقدان الشقيق
تفر من الحريق إلى التهاب ... ووالدها يفر إلى الحريق
حيارى هكذا ومفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشفيق من الشفيق
ومغترب قرب الدار ملقى ... بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعاً ... فما يدرون من أي الفريق
فما ولد يقيم على أبيه ... وقد فر الصديق من الصديق
ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرفيق
فقال ابن الجزري في حمامة:
وما نازحات ساجعات بشجوها ... ترنح أغصان النقا وترنم
تنوح بلا إلف وتملي غرامها ... على ورق الأشجار والطل يرقم
وتغرب في ألحانها وفنونها ... فتعرب عن أشجانها وهي تعجم
وتنظر فرخيها قد اختطفتهما ... كواسر أطيار على الأفق حوم
ترامت بها أيدي النوى عن وكونها ... فلا عيشها يصفو ولا يتصرم
بأكثر مني لوعة وصبابة ... سوى أنها تبدي الغرام وأكتم
لقصيدة الشيخ عبد الغني النابلسي في وصف الشام:
إن سامك الخطب المهول فأقلقا ... فانزل بأرض الشام واسكن جلقا
تجد المرام بها وكل مناك بل ... وترى بها عزاً وتفصح منطقا
بلد سمت بين البلاد محاسناً ... ونمت بهاء واستزادت رونقا
زاد السرور بها لكل معرج ... لاسيما إن كان من أهل التقى
إن تعشقوا وطناً فذي أولى لكم ... دون البلاد بأن تحب وتعشقا
خير الأناس أناسها يرعون أن ... واع الوداد ويحفظون الموثقا
هي جنة للطائعين معدة ... يتمتعون ولا يرون بها شقا
طابت هواء للنفوس وماؤها ... عذب زلال سائغ لمن استقى
جلت محاسنها عن التعداد فلن ... أت بما يختار منه وينتقى
يا حسن واديها وطيب شميمه ... قد فاح عرف الزهر فيه وعبقا
وتراسلت أطياره بين الربى ... سحراً فهيجت الفؤاد الشيقا
تنجكيف اتجهت يخر نحوك ماؤه ... وإليك يركع كل غصن أورقا
يا حبذا إشراق مرجتها التي ... أضحى غني الهم فيها مملقا
وتلاعبت فرسانها وتراكضت ... ما بينها تعلو الجياد السبقا
ضحكت أزاهرها على أغصانها ... فأتى النسيم يميلهن وصفقا
قد دندنت أنهارها في جريها ... لما شدا ذاك الحمام وشقشقا
والصالحية يا لها من منزل ... فيها قبور الصالحين أولي التقى
وبها القصور العاليات تزخرفت ... مثل النجوم زهت بكل من ارتقى
تسمو على أطراف جلق بهجة ... وطلاوة فيها السرور تحققا
سقيت دمشق الشام صوب غمامة ... أشفى على غيطانها فتدفقا
كم نزهة للعين فيها قد زهت ... وسرت على طرف الهموم فأطرقا
ما الجامع الأموي إلا نزهة ... فيها تراه بالعبادة مشرقا
(4/226
ن حجة الحموي يصف حماة ويتشوق إليها
يا صادقا الأنفاس يا أهل الذكا ... يا طاهر الأذيال كم لك من نبا
يا نسمة الخير الذي من طيبه ... نتنشق الأخبار عن تلك الربى
وإذا تنسمت الذا وتعطرت ... منك الذيول وطبت يا ريح الصبا
عرج على وادي حماة بسحرة ... متيمما منه صعيدا طيبا
وأحمل لنا في طي بردك نشره ... فبغير ذاك الطيب لن نتطيبا
وأسرع إلي وداو في مصر به ... قلبا على نار البعاد مقلبا
لله ذاك السفح والوادي الذي ... مازال روض الأنس فيه مخصبا
وانعم بمصر نسبة لكن أرى ... وادي حماة ولطفه لي أنسبا
ارض رضعت بها ثدي شبيبتي ... ومزجت لذاتي بكاسات الصبا
يا ساكني مغنى حماة وحقكم ... من بعدكم ما ذقت عيشا طيبا
ومهالك الحرمان تمنع عبدكم ... من أن ينال من التلاقي مطلبا
وإذا اشتهيت السير نحو دياركم ... قرأ النوى لي في الأواخر من سبا
وقد التفت إليك يا دهري بطو ... ل تعتبي ويحق لي أن أعتبا
قررت لي طول الشتات وظيفة ... وجعلت دمعي في الدود مرتبا
وأسرتني لكن بحق محمد ... يا دهر كن مخلصي متسببا
فمحمد ومدينة قد حلها لم ... ألق غيرهما لقلبي مطلبا
قال أبو بكر الأرجاني يصف الشمعة وقد أحسن فيها كل الإحسان واستغرق كل الصفات
نمت بأسرار ليل كان يخفيها ... وأطلعت قلبها للناس من فيها
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن ... ألا ترى فيه نارا من تراقيها
غريقة في دموع وهي تخرقها ... أنفاسها بدوام من تلظيها
تنفست نفس المهجور إذ ذكرت ... عهد الخليط فبات الوجد يذكيها
يخشى عليها الردى مهما ألم بها ... نسيم ريح إذا وافى يحييها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة ... تجني على الكف إن أهويت تجنيها
ورد تشاك به الأيدي إذا قطفت ... وما على غصنها شوك يوقيها
صفر غلائلها حمر عمائمها ... سود ذوائبها بيض لياليها
صفة نزهة على نهر سرقسطة
قال علي بن ظافر: ذكر صاحب قلائد العقيان ما هذا معناه: إن المستعين بالله أحمد بن أحمد بن المؤتمن بن هود الجذامي صاحب سرقسطة والثغور ركب نهر سرقسطة يوما لتفقد بعض معاقله. المنتظمة بجيد ساحله. وهو نهر رق ماؤه وراق. وأزرى على نيل مصر ودجلة والعراق. وقد اكتنفته البساتين من جانبيه وألقت ظلالها عليه. فما تطاد عين الشمس أن تنظر إليه. هذا على اتساع عرضه. وبعد سطح الماء من أرضه. وقد توسط زورقه زوارق حاشيته توسط البدر للهالة
وأحاكت به إحاطة الطفاوة للغزالة. وقد أعدوا من مكايد الصيد ما استخرج ذخائر الماء. وأخاف حتى حوت السماء. وأهلة الهالات طالعة من الموج في سحاب. وقانصة من بنات الماء كل طائرة كالشهاب. فلا ترى إلا صيودا كصيد الصوارم. وقدود اللهاذم. فقال الوزير أبو الفضل بن حسادي والطرب قد استهواه. وبديع ذلك المرأى استرق هواه:
لله يوم أنيق واضح الغرر ... مفضض مذهب الآصال والبكر
كأنما الدهر لما ساء أعتبنا ... فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر
نسير في زورق حف السفين به ... من جانبيه بمنظوم ومنتثر
مد الشراع به نشرا على ملك ... بذ الأوائل في أيامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى ... علياء مؤتمن في هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آية عجبا ... بحر تجمع حتى صار في نهر
تثار من قعره النينان مصعدة ... صيدا كما ظفر الغواص بالدرر
وصف ابن سليمان الحلبي غلبة على التتار
(قال) إن التتار استنجدوا بكل طائفة وأقدموا على البلاد الإسلامية بنفوس طامعة. وقلوب خائفة. وذلك بعد أن أقاموا مدة يشترون المخادعة بالموادعة. ويسرون المصارمة. في المسالمة. وحين تيسر مرادهم. وتكمل احتشادهم. استدرجناهم إلى مصارعهم.
بواستجريناهم ليقربوا في القتل من مضاجعهم. ويبعدوا في الهرب عن مواضعهم. وصدمناهم بقوة الله صدمة لم يكن لهم بها قبل. وحملنا عليهم حملة ألجأهم طوفانها إلى ذلك الجبل. وهل يعصم من أمر الله جبل. فحصرناهم في ذلك الفضاء المتسع. وضايقناهم كما قد رأى ومزقناهم كما قد سمع. وأنزلناهم على حكم السيف الذي نهل من دمائهم حتى روي وأكل من لحومهم حتى شبع. وتبعتهم جيوشنا المنصورة تتخطفهم رماحها. وتتلقفهم صفاحها. ويبددهم في الفلوات رعبها. ويفرقهم في القفار طعنها المتدارك وضربها. ويقتل من فات السيوف منهم العطش والجوع. ويخيل للحي منهم أن وطنه كالدنيا التي ليس للميت إليها رجوع. ولعله قد رأى من ذلك فوق ما وصف عيانا. وأنهم ما أقدموا إلا ونصرنا الله عليهم في مواطن كثيرة. وما ساقتهم الأطماع في وقت ما إلا إلى حتوفهم. ولا عاد منهم قط في وقعة إلا آحاد تخبر عن مصارع ألوفهم. ولقد أضاع الحزم من حيث لم يستدم نعم الله عليه بطاعتنا التي كان في مهاد أمنها ووهاد يمنها. وحماية عفوها. وبرد رأفتها التي كدرها بالمخالفة بعد صفوها. يصون رعاياه بالطاعة عن القتل والسار. ويحمي أهل ملته بالحذر عن الحركات التي ما نهضوا إليها إلا وجروا ذيول الخسار. ولقد عرض نفسه وأصحابه لسيوفنا التي كان من سطواتها في أمان. ووثق بما ضمن له التتار من
الموقوله من قصيدة في مدح أمير المؤمنين، المقتفي لأمر الله، يصف القر الشديد:
وإذا استمرَّ المَحْلُ يشفَعُ شرَّهُ ... خَصَرٌ يعضُّ له الحصى والجَنْدَلُ
واستخمد الشَّفّانُ كلَّ ضَرِيمةٍ ... وإذا تَلَظِّي كلِّ جمرٍ أفْكَلُ
ببعيدة الإصباح حالكةِ الدُّجى ... سَهِرَ النَّؤومُ بها ونام المُفْضِلُ
تثْنِي مَطارفَها الجوارحُ عندَها ... حتّى تُظِلَّ الرّاحَ فيها الأنْمُلُ
وأطارتِ الهَوْجاءُ كلَّ مُطَنَّبٍ ... فالرَّثُّ فانٍ والصَّحيحُ مُرَعْبَلُ
واستهذَمَ الجدبُ الغواربَ والذُّرا ... حيثُ البهازِرُ والصِّعابُ الُبَّزلُ
في أزْمَةٍ قُذُفٍ كأنّ أخيرَها ... من بؤسها للضّعف عنه أوّلُ
غبراءُ رَيعانِ الرَّبيعِ، لَقِيطُها ... في المَحْلِ لا مَرْعَىً ولا مُتَبَقَّلُ
فقَدِيرُ زادِ المُتْرَفِينَ على الطَّوى ... قِدٌّ تَناهَبُهُ الأكُفُّ، وحنظَلُ
آوى أميرُ المؤمنينَ مُحّمدٌ ... بدر الضّيوفِ، فكلُّ وعرٍ مُسْهِلُ
وقَرَى فأشهبُ كلِّ جَوْنٍ هاطلٌ ... هامٍ، وأغْبَرُ كلِّ روضٍ مُبْقِلُ
ومنها في وصف البرد والجدب والقر:
إذا أخمدَ النّيرانَ رَيْعانُ زعزعِ ... يُعيدُ ذكيَّ الجمرِ قَرّانَ شاتيا
وخَرَّ على الأحفاض كلُّ معمَّدٍ ... أطال الرَّواسي في الثّرى والأواخيا
وجعجعَ قُرُّ الليلِ من فَرْطٍ صِرّه ... شِدادَ الصّفايا والعِشارَ المَواليا
وزاولَ راعي الذَّوْدِ عهداً، فلم يُطقْ ... وفاءً، ولم يبرَحْ أميناً ووافيا
ومالت إلى الصّرمِ العزيبِ جوافلٌ ... يرَيْنَ اللِّقاحَ الجَمَّ للذُّعرِ قاصِيا
على حينِ غبراءُ المطالع أزمةٌ ... تَعيدُ غنيّ الحيّ خُمصانَ عافيا
تساوى بها نِينانُ لُجٍّ وكُنَّسٌ ... بوجرةَ يَرْأَمْنَ الظِّباءَ الجوازيا
فأضحت وكثبان الصَّريمِ وعالجٍ ... من المحل قد شاكَهْنَ نِهْياً وواديا
قَرَى شرفُ الدين الغِنى، وأبت له ... مَعاذِرُهُ أن يحتبسنَ الطّواهيا
ومنها في وصف القلم:
ومضطمر الجنبين يَخْطِر مائساً ... على لاحبٍ من طِرْسه وقوِاء
يذيب على الأطراس كلّ بليغة ... تذوب عليها أنفس العلماء
ومنها في صفة الحية:
وما مُطرِقٌ بالرّملِ يُخفي اهتزازُهُ ... رُواءً كعقدِ الخَيزرانة خافيا
يُلَعِّنُ مرهوباً، كأنَّ اعتصابَهُ ... حَبابُ مَخِيضٍ لاطَمَ الوَطْبَ رَاغيا
يؤّلنُ عُصلا لا بُنُهنَّ هنيةً ... ضعافاً، ولا أطرافهنَّ نوابيا
تَجَنَّبُهُ الرُّفْشُ القواتنُ خيفة ... ويَطويهٍ معتلُّ النّسيمِ تفاديا
إذا اعتسّ شَرّابُ الهمومِ لقوته ... تَوَدَّعَ خُمصاناً وأصبح طاويا
بأنفذَ من أقلامه في عدوّه ... إذا رقَشَتْ فوقَ الطُّرُوسِ الدّواهيا
ومنها في صفة الموتى:
في معشرٍ أغضوا على جورِ الرَّدى ... بالرُّغم منهم أيَّما إِغضاءِ
رقدوا على غير الكرى، وتوسّدوا ... بعدَ الرِّحالِ نَمارِقَ الدَّهناءِ
وتضّمخوا دفُعَ َالصَّديدِ، وطالما ... رثِموا بكلّ لَطِيمةٍ ذَفْراءِ
قد شوَّهَ الحسنَ الِبلى بوجوههم ... وأسالَ كلّ كَحيلةٍ نجلاءِ
النّومُ بَعدَك للجفون محرّمٌ ... إّلا الغِشاشَ وعاِلطَ الإِغفاءِ
ولقد شفى نفسي، وهوّنَ وَجدَها ... حِلفُ العُلى وبقيّةُ الكرماءِ
مَنْ كلّما نظرت إليه عيوننا ... عدّتك في الباقين والأحياءِ
ومنها في صفة السيل:
وما مقبلٌ من قُنّة الطَّودِ زاخرٌ ... له صَخَباتُ الأسدِ عَنَّ مَصالُها
تَظَلُّ به عُصْمُ اليَفاعِ غريقةً ... ويتبَعُها ضَبُّ الفَلا وغَزالُها
إذا مرّ بالوَعْساءِ وهو مزمجرٌ ... تَدَهْدى له كُثبانُها ورِمالُها
ترى شجرَ الغُلاّن فيه كأنّها ... سفائنُ يَمٍّ أسلمتها رجالُها
كأنّ بياضاً راغياً في عُبابه ... لغُامُ المَطايا أثقلتها رِحالُها
أفادته غِبَّ المَحْلِ وَطْفاءُ جَوْنةٌ ... أقامتْ نُعاماها وغابَ شَمالُها
سرتْ لبني الآمالِ من بعد هَجعةٍ ... إلى الصّبحَ سَحّاً وَدْقُها وانهمالُها
بأغزرَ من يُمناهُ جوداً إذا همى ... على مُعْتَفِيها رِفْدُها ونَوالُها
يصف الفرس:
يَطوي على طُول الطَّوَى في مَهْمَةٍ ... بُرْداً تَهالَكَ طُولُه في عَرْضهِ
بالسُّهْبِ أو بالشُّهْب يُنفقُ عُمرَهُ ... ما بينَ مُنْقِضِهِ إلى مُنْقَضِّهِ
طِرْفٌ يُغِضُّ بسيره طَرْفَ الفَلا ... ينضو قَميصَ المجدِ منْ لم يُنْضِهِ
ينأى عن اللؤماءِ بي من مطمع ... يقضي بأَسْوّدِه على مُبْيَضِّهِ
فعوارفُ الكُرَماءِ ختمُ عطائِها ... أجللتُ نفسي عن تَعاطي فَضِّهِ
مُذِقت مَذاقتُهم فلو كشَّفْتُهم ... صَرَّحْتُ شائبَ وْدِّهم عن مَحْضهِ
مُذْ عَلَّنِي عِدَّ السُّؤالِ أَعَلَّنِي ... وَأعافَ عافيهِ بنَهْلَة بَرْضِهِ
مَنْ لي بعزمٍ عَزَّ مطلبُ شَأْوهِ ... من سابحٍ غَرَضُ العلى في غَرْضهِ
وقوله من قصيدة في صفة الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضرباً من قوادمه الإبطا
ومهما أطابت نفسه قام صارخاً ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأنّ أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كفّ مارية القرطا
وقال في صفة الثلج:
لله ندمان صدق بات مصطلياً ... ناراً من القدَح الملآن تستعر
والأرض فِضّيّة الآفاق تحسبها ... شمطاء حاسرة قد مسّها الكِبَر
بكل نجد ووهد قد أظلّ به ... روض تحلّى بنور ما له ثمر
وللأقاحي ثغور فيه باسمة ... لها من الثلج ريق بارد خَصِر
كأنّ في الجوّ أشجاراً منوّرةً ... هبّ النسيم عليها فهي تنتثر
صفة الأعلام:
ومُطِلّةٍ في الخافِقَيْنِ خوافِقٍ ... كقلوب أعداء ذوات وجيب
من كلّ منشور على أفُق الوغى ... مسطوره كالمُهْرَقِ المكتوب
جاءت تُتَرِّبُهُ العِتاق بركضها ... والريح تنفُضه من التتريب
صُوَر خُلِقن على الموات فخُيِّلت ... فيه الحياة بسَوْرَة ووثوب
وفغَرْن أفواهاً رِحاباً عُطِّلَتْ ... أشداقها من ألْسُنٍ ونُيوبِ
من كل جسم يحتشي من ريحه ... روحاً يحرّك جسمه بهبوب
وقال من قصيدة يصف فيها الكبل:
تعطف في ساقي تعطف أرقم ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم
وإني من كان الرجال لسيبه ... ومن سيفه في جنة وجهنم
وقال في وصف مصلوب. قال ابن بشرون وأظنه لغيره:
وسنان لا قرّة الظلماء توقظه ... ولا الهجيرة في البيداء تؤذيه
أغفى فيا ليت شعري هل يلم به ... إذا دجا الليل طيف كان يأتيه
خط السنان كتاباً بين أضلعه ... فمال يقرأه سراً ويخفيه
كأنّه مصقع من فوق منبره ... يبدي الخشوع لرب كان باريه
أراد عُلُوّ مرتبة وقدر ... فأصبح فوق جِذع وهو عال
ومَدّ على صليب الجذع منه ... يميناً لا تطول الى الشمال
ونكّس رأسه لعتاب قلب ... دعاه الى الغواية والضلال
قال في مصلوب:
ورَأت يداه عظيم ما جنتا ... ففررن ذي شرقاً وذي غربا
وأمال نحو الصدر منه فماً ... ليلوم في آرائه القلبا
أورد له في وصف المرية:
قالوا المريّة صفها ... فقلت جبْلٌ وشيحُ
قالوا أفيها معاش ... فقلت إن هب ريح
وله في المعنى:
قالوا المرية عدن ... فقلت إذ ذاك إيه
كأنّها طست تبر ... ويبصق الدم فيه
في وصف القلم:
وأصفر مصقول الأديم أجلته ... فريعت متون البيض والذبل السمر
إذا استنطقت يمناك منه مُفَوّهاً ... أجاب بما تثنى به نُوَبُ الدهر
وإن خضبت أعلاه مجة حبره ... قضى بالحبور الجم عن ذلك الحبر
إليك أبا بكر بعثت عقيلة ... وما أن لها إلا قبولك من مهر
ولست كمن يبغي نوال ممدح ... ولو نولتني الشِّعْرَيَيْنِ يد الشعر
ودونكها غراء أما نسيمها ... فكالروض يندى أو كعنبرة السحر
بقيت مكين العزّ مقتبل العلا ... فسيح المدى سامي المراتب والذكر
الفي وصف البرق:
وممّا شجا نفسي تألق بارق ... يقدّ جلابيب الدجنّة إذ يسري
مليح إذا ما اهتاج قلت صفيحة ... من الهند أو رجم من الأنجم الزهر
ينوء به مستمطر ذو هيادب ... كما نهضت بدن الحجيج الى النّحر
الى كم أطيع القلب في طلب الصبا ... وأجهد نفسي في هوى البيض والسمر
سأثني عنان الشعر عن سبل الهوى ... الى مدحة القاضي الأجل أبي بكر
فتى أنهض الإسلام في سبل الهدى ... وصير طيّ المَعْلُواتِ الى النشر
وشيّد أركان الديانة فاغتدت ... تزاحم أشباح النعائم والنسر
حفيظ على ذات الإلاه ودينه ... مليء بما يرضيه في السر والجهر
يكشّف إظلام الخطوب بهديه ... كما صدعت جنح الدجى غرة الفجر
ويخدم أنحاء المعالي برأيه ... فيجمع بين النفع فيهنّ والضر
تحدث عن آثاره فتية السرى ... كما حدثوا في المحل عن سبل القطر
به نظمت للمجد أفراد عقده ... وتوجت الأيام كالغادة البكر
فناهيك من عقد تحلى به العلى ... وناهيك من تاج على مفرق الدهر
ألست الذي فرّجت كل عماية ... كما انفرجت سحم الغمام عن البدر
وإنّك من قوم لهم تعقد الحُبا ... وتعقد آباط المحبسة الضمر
لهم عنفوان الماء في كلّ منهل ... وإن نظرت خزر القبائل عن شزر
أسود الشرى والمرقلون الى الردى ... بحور الندى والجابرون من الفقر
وقال من أخرى في وصف ضيافة:
سمت السوام به الحمام كأنّها ... أخذت لشأن من ذوي الشنآن
وتبعتها ذات الجناح كأنّما ... فعلت جناحاً قبل في الطيران
حتى غدا حمل السماء وثورها ... حذرين مما حلّ بالحملان
نار بأرجاء المرية سقطها ... مزر ببيت النار في أرجان
بوقال من أخرى في وصف ضيافة:
سمت السوام به الحمام كأنّها ... أخذت لشأن من ذوي الشنآن
وتبعتها ذات الجناح كأنّما ... فعلت جناحاً قبل في الطيران
حتى غدا حمل السماء وثورها ... حذرين مما حلّ بالحملان
نار بأرجاء المرية سقطها ... مزر ببيت النار في أرجان
ومنها في وصف الترك وما سُبق إلى هذا المعنى:
وفتيةٍ من كُماة الترك ما تركت ... للرعد كبّاتهم صَوْتاً ولا صِيتا
قومٌ إذا قُوبلوا كانوا ملائكة ... حُسناً وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
مُدّت إلى النهب أيديهم وأعينهم ... فزادهم قلق الأحداق تثبيتا
بدار قارون لو مرّوا على عجلٍ ... لبات من فاقةٍ لا يملك القوتا
بالحرص فَوَّتني دهري فوائده ... وكلما زدت حرصاً زاد تفويتا
حبلُ المنى مثل حبل الشمس، متصلاً ... يُرى، وإن كان عند اللمس مبتوتا
فلا تقل ليت صرف الدهر ساعدني ... فإنّ في لَيْتَ أَوْماً يقطع اللِيتا
وشاوِرِ السيف فيما أنت مُزْمعُه ... فالله نبّت منه العز تنبيتا
واحرّ قلباه من قوم سواسية ... لما دَعَوْني سُكَيْتاً ظِلْتُ سِكّيتا
والجهل لو كان عوداً يجتني ثمراً ... للعندليب لأمسى فوقه حوتا
دنيا اللئيم يدٌ في كفها بَرَصٌ ... وكل من لمسته صار ممقوتا
كُفْرٌ رجاؤك مَنْ لا فهمَ يَصْحَبُه ... كان الغبيّ لمن يرجوه طاغوتا
ما سامعٌ بيتَ شعرٍ ليس يفهمه ... إلا كطارق بَيْتٍ ما حوى بيتا
لا تفخرنّ بما جاد الزمان به ... ما كلّ من جاب مَرْتاً كان خِرّيتا
كم من بكور إلى إحراز مَنْقَبَةْ ... جَعَلْتَه لعُطاسِ الفجر تسميتا
بعزمة لو غدا كيوان حاسدها ... لبات في الفلك العلوي مكبوتا
يا خاطراً موته بالأمس أخرسني ... أُنْطِقْتَ بالحاجب الكافي وأُحييتا
أغناك عن كل مِنطيق، ولا عجب ... وُرُودُك البحرَ ينسيك الهراميتا
سلمان، سُلِّم، من عَزّت مطالبه ... بُعداً فخاف من الأعداء تبكيتا
مَنْ زيّن الوزراء الشُّمَّ مجتبياً ... وشرّف الرؤساء الغرّ منعوتا
في العلم والجسم لا تخفى زيادته ... فهل أعادت لنا الأيامُ طالوتا
أقلامه الشَمَع المرغوب فيه ضُحىً ... ما صافحتْ نارُه زَنْداً وكبريتا
أما ترى أن قطّ الرأس أصلحها ... فزاد جِرْمُ سناها بعد ما ليتا
وحسبها من ضياء نسجُها حُلَلاً ... من منطق لم يكن بالهُجْر مسحوتا
عبارة كزَليخا بهجةً، لقيت ... خطَّا كيوسف إذ قالت له هِيتا
كن يا أبا الفتح مفتاح النجاح لنا ... وصارماً في خطوب الدهر إصليتا
يا مَنْ هو البحر جوداً والأَضا نسباً ... جُدْلي بما شئت قد أدركت ما شيتا
وله من قصيدة في مدح الصاحب مكرم بكرمان وقد قصد التجنيس في أوله:
وُرود ركايا الدمع يكفي الركائبا ... وشَمُّ تراب الربع يَشْفي الترائبا
إذا شِمتَ من برق العقيق عقيقةً ... فلا تنتجع دون الجفون سحائبا
منازل أُنسٍ من رَبائب مازنٍ ... ألثَّ رَبابُ المزن فيهنّ ساكبا
ومرّتْ عليها البيضً والسود برهةً ... فَبّدَّلْنَها بالبيض أسودَ ناعبا
تفرّد واجتاب السواد فخلتُه ... من الزُّهد فيما يجمع الشمل، راهبا
حملنا من الأيام ما لا نُطيقه ... كما حمل العظمُ الكسيرُ العصائبا
وليلٍ رجونا أن يَدِبَّ عِذارُه ... فما اختط حتى صار بالفجر شائبا
فلا تحمَدِ الأيام فيما تفيده ... فما كان منها كاسياً كان سالبا
وله من أخرى في وصف القلم:
في كفّه من اليرا ... ع ذابلٌ مزعزِعُ
روعُ الزّمان أبداً ... من وقعه مروّعُ
إذا انبرى لحادثٍ ... فهْوَ سنانٌ مشْرَعُ
ليْنُ المجسِّ قاتلٌ ... والصِّلُّ ليْنٌ يلسعُ
أخرسُ إلا أنّه ... في إصبعَيْهِ مصقَعُ
فكم لسانٍ ناطقٍ ... أفصحُ منه إصبَعُ
يعلمُ الورْقاءَ في ال ... أغصان كيف تسجَعُ
وقال من أبياتٍ في وصف كتاب:
حَيِّ كتاباً فَضَضْتُ خاتِمَه ... عن مثل وَشْي الرّياض أَو أَملحْ
يا كرّم الله وجه كاتبه ... عرّض لي بالجَفاء أَو صَرَّح
شحّ بأَلفاظه وخاطِرُه ... بالدرّ من كلّ خاطرٍ أسمح
حتى أَتاني كتابُه فشفا ... كلَّ فؤادٍ بِبَيْنِه مُقْرَح
النّوله في وصف الذّكاء:
وعنديَ شوقٌ دائمٌ وصبابةٌ ... ومن أنا ذا حتّى أقولَ له عندي
الى رجلٍ لو أنّ بعضَ ذكائِه ... على كلّ مولودٍ تكلّم في المهدِ
ولولا نداه خِفْتُ نارَ ذكائه ... عليه ولكنّ النّدى مانعُ الوَقْدِ
وَجومنها في وصف فرس:
ومُقْرَبٍ لو أَعرتَه اللَّمْحَ بالعي ... ن كبا في غُباره اللَّمْحُ
على الدُّجى منه مَسحةٌ وعلى ... مَتْن الضيا من يمينه مَسْح
أَغرّ، صافي الأَديم أَدهم لا ... يخجل إلّا من لونه الجُنِح
كأَنما قُدَّ جسمه من دُجا ال ... ليل ومنوجهه بدا الصُّبح
قصّر عن شأوه الجِياد كما ... قصّر عن مَكْرُماتك المَدْحُ
وقوله أيضاً في وصف غلام ينظر في مرآة:
روحي الفداءُ لساجي الطرف ساحرِه ... تَحار في وصفه الألبابُ والفِكَرُ
يُرَنِّحُ التّيهُ قدّاً منه مُعتَدِلاً ... كالغُصنِ ما شانه طولٌ ولا قِصَرُ
بدا لنا فازدهانا حسْنُ صورته ... حتى امترَيْنا لها في أنه بشَرُ
وقابلَتْ وجهَهُ مِرآتُه فبدَتْ ... كأنَّها هالةٌ في وسْطِها قمر
وله من قصيدة يصف إبريق المدام:
ترى الإِبريقَ يحملُه أَخوهُ ... كِلا الظَّبْيَيْن يَلْثِمُهُ ارتِشافا
يَظَلُّ كمُطرِقٍ في القوم يبكي ... دماً أَو ناكسٍ يشكو الرُّعافا
وقال يصف الرمانة:
ومُحْمَرَّةٍ من بنات الغصو ... ن يمنعها ثِقْلُها أَن تميدا
مُنَكَّسة التّاجِ في دَسْتها ... تفوق الخُدودَ وتحكي النُّهودا
تُفَضُّ فَتَفْتَرُّ عن مَبْسِمٍ ... كأَنَّ به من عَقيقٍ عُقودا
كأَنّ المقابل من حَبِّها ... ثُغورٌ تُقَبِّل فيها خُدودا
وله يصف الوباء والإفرنج بالشام:
ولقد حلَلتُ من الشآم ببُقعةٍ ... أَعْذِرْ بساكن ربعها المسكينِ
وُبْئَتْ وجاورَها العدوُّ فأَهلُها ... شهداءُ بين الطّعن والطاعون
ومنها في صفة القلم:
يُجيل غداةَ الوغى مُرهَفاً ... شديدَ الجِلادِ خفيّ الكُلومِ
نحيفاً يردّ بإسهابِه ... وصولَتِه كلّ خطْبٍ جسيمِ
فما يتميّز عبدُ الحمي ... دِ حين يراهُ من ابنِ الخطيم
ومنها في صفة القلم:
لا يبلغُ الشرفَ اليراعُ وإنما ... خَيْرُ الرِّياسة ما أتى برئاسِ
بمُهنّدٍ في جسمه من جَوْهَرٍ ... ما في الفتى من جوهرٍ حسّاس
وأَصمَّ رَعّاف وليس بذي دمٍ ... فتراه يَرْعَفُ من دماء الناس
أَظْمَى، كَصِلِّ الرمل، يُؤمَنُ مَتْنُه ... والحَتفُ راسٍ في شَباةِ الراس
كلاّ مَنارُ العلم أرفعُ والعُلى ... مقرونةٌ منه إلى أمراس
فُرسانُه فوق الدُّسوتِ وما همُ ... كمُلازمي سَرَواتِها الأحْلاسِ
إن طاعنوا فبألسُنٍ، أو ناضلوا ... أغنى قياسهمُ عن الأقواس
أفراسُهم قَصَبٌ، لها قصبُ المدى ... فضلاً إذا مَزَعَتْ مع الفرّاس
رُقْشٌ يذوبُ لُعابُها، أفواهُها ... لا ذاتُ أنيابٍ ولا أضراس
مَبئرِيّةٌ فإذا تبارَتْ قَطَّرَتْ ... عَرَقَاً من الأنقاسِ في الأطراس
تجري إذا هي بالشباب تلفّعت ... ونقوم إن بلغت إلى الأحلاس
أكياس مالهمُ القلوب، وهكذا ... خُلقُ السَّراةِ وشيمة الأكياس
وبحارهُمْ كُتب العلوم فكلما ... قرأوا أصابوا الدُّرَّ في قرطاس
وهي الحُلِيّ لهم ولكن ربّما ... فُقِدَتْ فأعطتهم من الوسواس
ومنها في صفة الأباريق:
جُليت علينا في مراكز محكَم ... بغَلائلٍ مُلْسِ المُتون رِقاقِ
وكأنّ أفواه الزُّجاج، وقد بدا ... منها المُدامُ، مدامعُ العشّاقِ
فكأنَّها بين الحضور حمائمٌ ... حُمرُ الصُّدور لوامع الأَطواقِ
قلت: اسْقِني منها بكأسٍ قَرْقَفاً ... صهباءَ لاحقةَ الشّعاع، دِهاقِ
وخُذِ الَّذي نعطيك غيرَ مُماكسٍ ... يا عمُّ من ذهب ومن أَعْلاقِ
فأبى عَليَّ، وقال: كلاّ، والّذي ... أهوى عبادَه مع الخَلاّقِ
لا شَمَّ مَفْرِقَ رأسِهما ذو مَعْطِسٍ ... إلا بكَثرةِ رغبةٍ وصَداقِ
تَلمنها في صفة الجيش:
بجيشٍ يضيعُ الليلُ فيه إذا سَرَى ... وتُخْفي نجومَ الجوِّ منه القساطلُ
إِذا ما خَبَتْ فيه المشاعلُ عاضَها ... من ايدي الجيادِ المُنْعَلاتِ مشاعل
وتَطَّرِدُ الراياتُ فيه كأنّها ... أَفاعٍ إلى أوكارهنَّ جوافل
فما لاحَ ضوءُ الصبحِ حتى تحكَّمَتْ ... لهم في أعاديهمْ قناً ومناصل
كأنّ مُثارَ النقعِ وَبِيضهُمْ ... بُرُوقٌ تَلاَلاَ فيه، والدم وابلُ
ومنها في صفة السيف:
ومهَّندٍ متمّوجٍ متضرِّمٍ ... من صفحتيه بغمدهِ فَجْرَانِ
عَضْبٌ ترقرقَ ماؤه في نارهِ ... فَعَجبْتُ كيف تَأَلَّفَ الضِّدَّانِ
يَنْدَى ويَدْمَى تارةً فكأنما ... لَمَسَتْ مضاربَهُ يَدَا رِضْوَانِ
اومنها يصف داره:
ويوم ابتدرنا الإذنَ نُرْعَدُ هيبةً ... وقد غصَّ بالرفد الرواقُ المحجَّبُ
وصلنا وسلَّمنا على البدرِ جادَهُ ... سماءٌ لها من ذائبِ التِّبْرِ هَيْدَبُ
وقد نَمْنَم الكفُّ الصَّنَاعُ بأُفْقِها ... رياضاً كأنَّ الجوَّ منهنَّ مُعْشِبُ
ومصقولةِ الأرجاءِ ملثومةِ الثرى ... إلى جنة الفردوسِ تُعْزَى وتنسَبُ
نخالُ بأُولى نظرةٍ أنَّ دُرَّها ... يُنَثَّرُ أو عِقْيانها يَتَصَوَّبُ
ومنها في وصف الديك:
وقام لنا ينعي الدجى وشقيقه ... يدير لنا من بين أجفانه سقطا
إذا صاح أصغى سمعه لندائه ... وبادر ضربا من قوادمه الأبطا
ومهما اطمأنت نفسه قام صارخا ... على خيزران نيط من ظفره خرطا
كأن أنوشروان أعلاه تاجه ... وناطت عليه كف مارية القرطا
له في وصف الغرق:
ينضج جسمي على الفراش لما ... بالقلب من لوعة ومن حُرق
لعارض يستهلّ واكفه ... عليّ واش بالوابل الغدِق
مثل غريق نجا بمهجته ... وكابد الموجَ خشيةَ الغرق
الهاء وقوله يصف منزلاً في قصر:
منزلٌ ودّتِ المنازلُ في أعْ ... لى ذُراها لو أنّها إيّاه
فأجِلْ فيه لحظَ عينيكَ تُبصرْ ... أيّ حسنٍ دون القصور حواه
سال في سقفِه النُضار ولكن ... جمدتْ في قراره الأمواه
وله يصف قبح منزله وضيقه:
ليَ بَيْتٌ كأَنَّهُ بيتُ شِعْرٍ ... لابن حجَّاجَ من قصيدٍ سخيفٍ
ضايقتني بناتُ ورْدان حتى ... أنا فيه كفارةٍ في كنيف
أين للعنكبوتِ بَيْتٌ ضعيفٌ ... مثله وهو مثلُ عقلي الضعيف
وإذا هبَّ فيه ريحُ السراويلِ ... فَسَلِّمْ على اللِّحَى والأنوف
بُقْعَةٌ صَدَّ مطلعُ الشمس عنها ... فأنا مُذْ سَكَنْتُهَا في الكسو
وهْو لو كان بين حجِّي وَنُسْكِي ... صدَّ في بغضهِ عن التَّطْوِيف
أنت وسَّعْتَ بيتَ مالي فَوَسِّعْ ... منزلي فهو منزلٌ للضيوف
وَأَجِرْني من الضنا واجْرِني منك ... على حسن خُلْقِكَ المأْلُوفِ
تعليقات